ابن رشد القرطبي

ترجمة المؤلف منقولة من الديباج

 

هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد (الشهير بالحفيد) من أهل قرطبة وقاضي الجماعة بها، يكنى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري.

وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريؤل، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام. ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكى أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة. حكي عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي وحبيب. وله تآليف جليلة الفائدة، منها كتاب "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" في الفقه (هو هذا الكتاب الذي أبان عن مقدار معرفة الرجل بالشريعة، فإنه ذكر فيه أقوال فقهاء الأمة من الصحابة فمن بعدهم، مع بيان مستند كل من الكتاب والسنة، والقياس مع الترجيح، وبيان الصحيح، فخاض في بحر عجاج ملتطم الأمواج، واهتدى فيه للسلوك، ونظم جواهره في صحائف تلك السلوك، فرحمه الله رحمة واسعة) ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل وجهه، فأفاد وأمتع به، ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه في العربيه الذي وسمه بالضروري، وغير ذلك تنيف على ستين تأليفا، وحمدت سيرته في القضاء بقرطبة، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، ولم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس. وحدث وسمع منه أبو بكر بن جهور وأبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن بن سهل ابن مالك وغيرهم. وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة القاضي جده أبي الوليد بن رشد بشهر.

تقريظ:

وعند تمام طبعته الأولى قرظه حضرة الأديب الأستاذ الشيخ محمد أحمد عرفة بهذه الكلمة، فأحببنا إثباتها حرصا على محاسنها ونشرا لعلو مكانتها، وهي:

إلى الحكيم الراقد في جدته، الهانئ بمضجعه، تحفه مسحة من النور الإلهي، وعليه حارس من المهابة وسياج من الإجلال، أهدي غاديات من الدعوات واستمطر له وابلا من صيب الرحمات. لله أنت أيتها الروح الخالدة العائدة إلى محلها الأرفع، فقد هبطت علينا من عالمك العالي، وطلعت علينا طلوع القمر على خابط ليل ضل السبيل وخانه الدليل، طلعت والهدى، فكنت كالغيث أصاب أرضا قابلة فأنبتت الكلأ والعشب وأصاب منها الكثير أقمت فينا ما شاء الله لك أن تقومي، وخلفت لك آثارا جعلت لك مقعد صدق في كل نفس، ثم عدت سيرتك الأولى. بسم الله مجراك ومرساك وطلوعتك ومأواك وتأويبك ومسراك، أي جو حواك، وأي آمال وسعتك، وأي جسم تحمل ما ترومين.

وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام

بينا نراك بين يدي فيثاغورس وأرسطو قد حنت عليك الحكمة، وأرضعتك أفاويقها، وأعلتك درها، وأنهلتك خيرها، فلا يظن أنك تعلمين غيرها، إذا أنت وقد وضعتك الشريعة بين الحشا والفؤاد، وسهلت لك حنونها، ووردت منهلا عذبا زاخرا عبابه، وسائغا شرابه. وهذا كتابك قد خالط أجزاء النفس وهش إليه الحس، فهو الحق إلا أنه حكم قد ضمن الدر إلا أنه كلم.

أنزه في رياض العلم نفسي * وأغدو في مسارحها وأمسي

أمتع ناظري فيما حوته * وأقطف زهرة من كل غرس

وأحسن من كئوس الراح عندي * ومن خد الظبا خدود طرس

وقد ردت الرياض فشمت روضا * به قد غبت عن نفسي وحسي

كأن خلال أسطره بحارا * تدفق بالمعارف بعد رمسي

كتاب حاكه فكر (ابن رشد) * وأخرج آية في كل درس

ومزق من ظلام الشك ثوبا * كما طرد الدجنة ضوء شمس.

 

- تمت -