كتاب الشفاء

الإلهيات

الشيخ الرئيس

 ابن سينا

 

موقع الفلسفة الإسلامية

 

الفهرست

 

المقالة الأولى:

الفصل الأول: في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين أبنيته في العلوم.

الفصل الثاني: في تحصيل موضوع هذا العلم.

الفصل الثالث: في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه.

الفصل الرابع: في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم.

الفصل الخامس: فصل في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم.

الفصل السادس: في ابتداء القول في الواجب الوجود والممكن الوجود...  

الفصل السابع: فصل في أن واجب الوجود واحد.

الفصل الثامن: في بيان الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل.

 

المقالة الثانية:

الفصل الأول: في تعريف الجوهر وأقسامه بقول كلي.

الفصل الثاني: في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته. 

الفصل الثالث: في أن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة.

الفصل الرابع: في تقديم الصورة على المادة في مرتبة الوجود.  

 

المقالة الثالثة:

الفصل الأول: حال المقولات التسع في الإشارة إلى ما ينبغي أن يبحث عنه من حال المقولات التسع وفي عرضيتها.

الفصل الثاني: في الكلام في الواحد.

الفصل الثالث: في تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه الآن ماهية الواحد.

الفصل الرابع: في أن المقادير أعراض وأما الكميات المتصلة فهي مقادير المتصلات.

الفصل الخامس: في تحقيق ماهية العدد وتحديد أنواعه، وبيان أوائله.  

الفصل السادس: في تقابل الواحد والكثير.  

الفصل السابع: في أن الكيفيات أعراض.

الفصل الثامن: في العلم وأنه عرض.

الفصل التاسع: في الكيفيات التي في الكميات وإثباتها.

الفصل العاشر: في المضاف.

 

المقالة الرابعة:

الفصل الأول: في المتقدم والمتأخر وفي الحدوث.

الفصل الثاني: في القوة والفعل والقدرة والعجز وإثبات المادة لكل متكون.

الفصل الثالث: في التام والناقص وما فوق التمام، وفي الكل، وفي الجميع التام.

 

المقالة الخامسة:

الفصل الأول: في الأمور العامة وكيفية وجودها.

الفصل الثاني: في كيفية كون الكلية للطبائع الكلية وإتمام القول في ذلك، وفي الفرق بي الكل والجزء، والكلي والجزئي.

الفصل الثالث: في الفصل بين الجنس والمادة.

الفصل الرابع: دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس في كيفية دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس.

الفصل الخامس: في النوع وأما النوع فإنه الطبيعة المتحصلة في الوجود وفي العقل جميعاً.

الفصل السادس: في تعريف الفصل وتحقيقه.

الفصل السابع: في تعريف مناسبة الحد والمحدود.

الفصل الثامن: في الحد

الفصل التاسع: في مناسبة الحد وأجزائه

 

المقالة السادسة:

الفصل الأول: في أقسام العلل وأحوالها.

الفصل الثاني: في كل علة هي مع معلولها في حل ما يتشكك به على ما يذهب إليه أهل الحق من أن كل علة هي مع معلولها...  

الفصل الثالث: في مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها.

الفصل الرابع: في العلل الأخرى العنصرية والصورية والغائبة.

الفصل الخامس: في إثبات الغاية وحل شكوك قيلت في إبطالها...

 

المقالة السابعة:

الفصل الأول: في لواحق الوحدة من الهوية وأقسامها ولواحق الكثرة من الغيرية والخلاف وأصناف التقابل المعروفة.

الفصل الثاني: في مذاهب الحكماء الأقدمين...

الفصل الثالث: في إبطال القول بالتعليميات والمثل.

 

المقالة الثامنة: في معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته:

الفصل الأول: في تناهي العطل الفاعلية والقابلية.

الفصل الثاني: في شكوك تلزم ما قيل وحلها.

الفصل الثالث: في إبانة تناهي العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقا...

الفصل الرابع: في الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود.

الفصل الخامس: في  توحيد واجب الوجود كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج.

الفصل السادس: في إنه تام بل فوق التام وخير، ومفيد كل شيء بعده، وأنه حق، وأنه عقل محض...

الفصل السابع: في نسبة المعقولات إليه وفي إيضاح أن صفاته الإيجابية والسلبية لا توجب في ذاته كثرة...

 

المقالة التاسعة: في صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه:

الفصل الأول: في صفة فاعلية المبدأ الأول.

الفصل الثاني: في أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأ بعد عقل.

الفصل الثالث: في كيفية صدور الأفعال من المبادئ العالية.

الفصل الرابع: في ترتيب وجود العقل والنفوس السماوية والأجرام العلوية عن المبدأ الأول.

الفصل الخامس: في حال تكون الإسطقسات عن العلل الأوائل.

الفصل السادس: في العناية وبيان كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي.

الفصل السابع: في المعاد.

 

المقالة العاشرة:

الفصل الأول: في المبدأ والمعاد.

الفصل الثاني: في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى، والمعاد إليه.

الفصل الثالث: في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة.

الفصل الرابع: في عقد المدينة وعقد البيت وهو نكاح والسنن الكلية في ذلك.

الفصل الخامس: في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما، والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق.

 

 

 

الصفحة    : 1

المقالة الأولى

وفيها ثمانية فصول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلاته على النبي المصطفى محمد وآله الإكرمين أجمعين.

الفن الثالث عشر من كتاب الشفاء في الإلهيات.

المقالة الأولى وهي ثمانية فصول

الفصل الأول: 

في ابتداء طلب موضوع الفلسفة الأولى لتبيين أبنيته في العلوم.

وإذا قد وفقنا الله ولي الرحمة والتوفيق، فأوردنا ما وجب إيراده من معاني العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية، فبالحري أن نشرع في تعريف المعاني الحكمية، ونبتدئ مستعينين بالله فنقول: إن العلوم الفلسفية، كما قد أشير إليه في مواضع أخرى من الكتب، تنقسم إلى النظرية وإلى العملية، قد أشير إلى الفرق بينهما وذُكر أن النظرية هي التي نطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس بحصول العقل بالفعل، وذلك بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور ليست هي  هي بأنها من أعمالنا وأحوالنا، فتكون الغاية فيها حصول رأي واعتقاد ليس رأياً واعتقاداً في كيفية عمل أو كيفية مبدأ عمل من حيث هو مبدأ عمل. وأن العملية هي التي يتطلب فيها أولاً استكمال القوة النظرية بحصول العلم التصوّري والتصديقي بأمور هي هي بأنها أعمالنا، ليحصل منها ثانياً استكمال القوة العملية بالأخلاق. وذكر أن النظرية تنحصر في أقسام ثلاثة هي: الطبيعية، والتعليمية، والإلهية. وأن الطبيعية موضوعها الأجسام من جهة ما هي متحركة وساكنة، وبحثها عن العوارض التي تعرض لها بالذات من هذه الجهة. وأن التعليمية موضوعها إما ما هو كم مجرد عن المادة بالذات، وإما هو ذو كم. والمبحوث عنه فيها أحوال تعرض للكم بما هو كم. ولا يؤخذ في حدودها نوع مادة، ولا قوة حركة. وأن الإلهية تبحث عن الأمور المفارقة للمادة بالقوام والحد. وقد سمعت أيضاً أن الإلهي هو الذي يبحث في الأسباب الأولى للوجود الطبيعي والتعليمي وما يتعلق بهما، وعن مسبب الأسباب ومبدأ المبادئ وهو

الصفحة    : 2

الإله تعالى جده. فهذا هو قدر ما يكون قد وقفت عليه فيما سلف لك من الكتب. ولم يتبين لك من ذلك الموضوع للعلم افلهي ما هو بالحقيقة إلاّ إشارة جرت في كتاب البرهان من المنطق إن تذكرتها. وذلك أن في سائر العلوم قد كان يكون لك شيء هو موضوع، وأشياء هي المطلوبة، ومبادئ مسلمة منها تؤلف البراهين. والآن، فلست تحقق حق التحقيق ما الموضوع لهذا العلم، وهل هو ذات العلة الأولى حتى يكون المراد معرفة صفاته وأفعاله أو معنى آخر. وأيضاً قد كنت تسمع أن ههنا فلسفة بالحقيقة، وفلسفة أولى، وأنها تفيد تصحيح مبادئ سائر العلوم، وأنها هي الحكمة بالحقيقة. وقد كنت تسمع تارة أن الحكمة هي أفضل علم بأفضل معلوم، وأخرى أن الحكمة هي المعرفة التي هي أصح معرفة واتقنها، وأخرى أنها العلم بالأسباب الأولى للكل. وكنت لا تعرف ما هذه الفلسفة الأولى، وما هذه الحكمة، وهل الحدود والصفات الثلاث لصناعة واحدة، أو لصناعات مختلفة كل واحدة منها تسمى حكمة. ونحن نبين لك الآن أن هذا العلم الذي نحن بسبيله هو الفلسفة الأولى، وأنه الحكمة المطلقة، وأن الصفات الثلاث التي رُسم بها الحكمة هي صفات صناعة واحدة، وهذه هي الصناعة. وقد علم أن لكل علم موضوعاً يخصه، فلنبحث الأن عن الموضوع لهذا العلم، ما هو؟ ولننظر هل الموضوع لهذا العلم هو إنية الله تعالى جده، أو ليس كذلك، بل هو شيء من مطالب هذا العلم؟ فنقول: أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو الموضوع، وذلك لأن موضوع كل علم هو أمر مسلّم الوجود في ذلك العلم، وإنما يبحث عن أحواله. وقد عُلم هذا في مواضع أخرى. ووجود الإله تعالى جده لا يجوز أن يكون مسلّماً في هذا العلم كالموضوع، بل هو مطلوب فيه. وذلك لإنه إن لم يكن كذلك لم يخل إما أن يكون مسلّماً في هذا العلم أو مطلوباً في علم آخر، وإما أن يكون مسلّماً في هذا العلم وغير مطلوب في علم آخر. وكلا الوجهين باطلان. وذلك لأنه لا يجوز أن يكون مطلوباً في علم آخر، لأن العلوم الأخرى إما خلقية أو سياسية، وإما طبيعية، ومارياضية، وإما منطقية. وليس في العلوم الحكمية علم خارج عن هذه القسمة، وليس ولا في شيء منها يُبحث عن إثبات الأله تعالى جده، ولا يجوز أن يكون ذلك، وأنت تعرف هذا بأدنى تأمل لأصول كررت عليك. ولا يجوز أيضاً أن يكون غير مطلوب في علم آخر لأنه يكون حينئذ غير مطلوب في علك البتّة. فيكون إما بيّناً بنفسه، وإما مأيوساً عن بيانه بالنظر، وليس بيّناً بنفسه ولا مأيوساً عن بيانه، فإن عليه دليلاً. ثم المأيوس عن بيانه كيف يصح تسليم وجوده؟ فبقي أن نبحث عنه إنما هو

 

الصفحة    : 3

في هذا العلم. ويكون البحث عنه على وجهين: أحدهما البحث عنه من جهة وجوده، والآخر من جهة صفاته. وإذا كان البحث عن وجوده في هذا العلم، لم يجز أن يكون موضوع هذا العلم، فإنه ليس على علم من العلوم إثبات موضوعه، وسنبين لك عن قريب أيضاً، أن البحث عن وجوده لا يجوز ان يكون إلاّ في هذا العلم، إذ قد تبين لك من حال هذا العلم أنه بحث عن المفارقات للمادة أصلاً. وقد لاح لك في الطبيعيات أن الإله غير جسم، ولا قوة جسم، بل هو واحد بريئ عن المادة، وعن مخالطة الحركة من كل جهة. فيجب أن يكون البحث عنه لهذا العلم. والذي لاح لك من ذلك في الطبيعيات كان غريباً عن الطبيعيات، ومستعملاً فيها، منه ما ليس منها، إلاّ أنه أريد بذلك أن يُعجَّل للإنسان وقوف على إنية المبدأ الأول فتتمكن منه الرغبة في اقتباس العلوم، والإنسياق إلى المقام الذي هناك ليتوصل إلى معرفته بالحقيقة. ولما لك يكن بد من أن يكون لهذا العلم موضوع وتبين لك أن الذي يُظن أنه هو موضوعه ليس بموضوعه، فلننظر: هل موضوعه الأسباب القصوى للموجودات كلها أربعتها إلاّ واحداً منها الذي لم يكن القول به. فإن هذا أيضاً قد يظنه قوم. لكن النظر في الأسباب كلها أيضاً لا يخلو إما أن ينظر فيها بما هي موجودات أو بما هي أسباب مطلقة، أو بما هي كل واحد من الأربعة على النحو الذي نحصه. أعني أن يكون النظر فيها من جهة أن هذا فاعل، وذلك قابل، وذلك شيء آخر؛ أو من جهة ما هي الجملة التي تجمع منها. فنقول: لا يجوز أن يكون النظر فيها بما هي أسباب مطلقة، حتى يكون الغرض من هذا العلم هو النظر في الأمور التي تعرض للأسباب بما هي أسباب مطلقة. ويظهر هذا من وجوه: أحدهما، من جهة أن هذا العلم يبحث عن معان ليست هي من الأعراض الخاصة بالأسباب بما هي أسباب، مثل الكلي والجزئي، والقوة والفعل، والإمكان والوجوب وغير ذلك. ثم من البين الواضح أن هذه الأمور في أنفسها بحيث يجب أن يبحث عنها، ثم ليست من الأعراض الخاصة بالأمور الطبيعية والأمور التعليمية. ولا هي أيضاً واقعة في الأعراض الخاصة بالعلوم العملية. فيبقى أن يكون البحث عنها للعلم الباقي من الأقسام وهو هذا العلم. وايضاً فأن العلم بالأسباب المطلقة حاصل بعد العلم بإثبات الأسباب للأمور ذوات الأسباب. فإنا ما لم نثبت وجود الأسباب للمسبّبات من الأمور بإثبات أن لوجودها تعلقاً بما يتقدمها في الوجود، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق، وأن ههنا سبباً ما. وأما الحس فلا يؤدي إلاّ إلى الموافاة. وليس إذا توافى

الصفحة    : 4

شيئان، وجب أن يكون أحدهما سبباً للآخر. والإقناع الذي يقع للنفس لكثرة ما يورده الحس والتجربة فغير متأكد، على ما علمت، إلاّ بمعرفة أن الأمور التي هي موجودة في الأكثر هي طبيعية واختيارية. وهذا في الحقيقة مستند إلى إثبات العلل، والإقرار بوجود العلل والأسباب. وهذا ليس بيّناً أولياً بل هو مشهود، وقد علمت الفرق بينهما. وليس إذا كان قريباً من العقل، من البين بنفسه أن للحادثات مبدأ ما يجب أن يكون بيّناً بنفسه مثل كثير من الأمور الهندسية المبرهن عليها في كتاب أوقليدس. ثم البيان البرهاني لذلك ليس في العلوم الأخرى، فإذن يجب أن يكون في هذا العلم. فكيف يمكن أن يكون الموضوع للعلم المبحوث عن أحواله في المطالب مطلوب الوجود فيه؟ وإذا كان كذلك فبيّن أيضاً أنه ليس البحث عنها من جهة الوجود الذي يخص كل واحد منها، لأن ذلك مطلوب في هذا العلم. ولا أيضاً من جهة ما هي جملة ما وكل، لست أقول جملي وكلي. فإن النظر في أجزاء الجملة أقدم من النظر في الجملة، وإن لم يكن كذلك في الجزيئيات الكلي باعتبار قد علمته، فيجب أن يكون النظر في الأجزاء إما في هذا العلم فتكون هي أولى بأن تكون موضوعه، أو يكون في علم آخر، وليس علم آخر يتضمن الكلام في الأسباب القصوى غير هذا العلم. وأما إن كان النظر في الأسباب من جهة ما هي موجودة وما يلحقها من تلك الجهة فيجب إذن أن يكون الموضوع الأول هو الموجود بما هو موجود. فقد بان أيضاً بطلان هذا النظر، وهو أن هذا العلم موضوعه الأسباب القصوى، بل يجب أن يُعلم أن هذا كماله ومطلوبه.

الفصل الثاني:    (ب) (الصفحة    : 5 )

فصل في تحصيل موضوع هذا العلم

فيجب أن ندل على الموضوع الذي لهذا العلم لا محالة حتى يتبين لنا الغرض الذي هو في هذا العلم، فنقول: إن العلم الطبيعي قد كان موضوعه الجسم، ولم يكن من جهة ما هو موجود، ولا من جهة ما هو جوهر، ولا من جهة ما هو مؤلف من مبدئيه، أعني الهيولي والصورة، ولكن من جهة ما هو موضوع للحركة والسكون. والعلوم التي تحت العلم الطبيعي أبعد من ذلك. وكذلك الخلقيات. وأما العلم الرياضي فقد كان موضوعه إما مقداراً مجرداً في الذهن عن المادة، وإما مقداراً مأخوذاً في الذهن مع مادة، وإما عدداً مجرداً عن المادة، وإما عدداً في مادة. ولم يكن أيضاً ذلك البحث متجهاً إلى إثبات أنه مقدار مجرد أو في مادة أو عدد مجرد أو في مادة، بل كان من جهة الأحوال التي تعرض له بعد وضعه. كذلك والعلوم التي تحت الرياضيات أولى بان لا يكون نظرها إلاّ في العوارض التي يلحق أوضاعاً أخص من هذه الأوضاع. والعلم المنطقي، كما علمت، فقد كان موضوعه المعاني المعقولة الثانية التي تستند إلى المعاني المعقولة الأولى من جهة كيفية ما يتوصل بها من معلوم إلى مجهول، لا من جهة ما هي معقولة ولها الوجود العقلي الذي لا يتعلق بمادة أصلاً أو يتعلق بمادة غير جسمانية. ولم يكن غير هذه العلوم علوم أخرى. ثم البحث عن حال الجوهر بما هو موجود وجوهر، وعن الجسم بما هو جوهر، وعن المقدار والعدد بما هما موجودان، وكيف وجودهما، وعن الأمور الصورية التي ليست في مادة أو هي مادة غير مادة الأجسام، وأنها كيف تكون وأي نحو من الوجود يخصها، فما يجب أن يجرد له البحث. وليس يجوز أن يكون من جملة العلم بالمحسوسات، ولا من جملة العلم بما وجوده في المحسوسات، لكن التوهم والتحديد يجرده من المحسوسات. فهو إذن من جملة العلم بما وجوده مباين. أما الجوهر فبيّن أن وجوده بما هو جوهر فقط غير متعلق بالمادة وإلا لما كان جوهر إلاّ محسوساً. وأما العدد فقد يقع على المحسوسات وغير المحسوسات، فهو بما هو عدد غير متعلق بالمحسوسات. وأما المقدار فلفظه أسم مشترك، فيه ما يقال له مقدار، ويعنى به البعد المقوم للجسم الطبيعي، ومنه ما يقال مقدار، ويعنى به كمية متصلة تقال على الخط والسطح والجسم المحدود. وقد عرفت الفرق بينهما.

الصفحة    : 6

وليس ولا واحد منهما مفارقاً للمادة، ولكن المقدار بالمعنى الأول وإن كان لا يفارق المادة فإنه أيضاً مبدأ لوجود الأجسام الطبيعية. فإذا كان مبدأ لوجودها لم يجز أن يكون متعلق القوام بها، بمعنى أنه يستفيد القوام من المحسوسات، بل المحسوسات تستفيد منه القوام. فهو إذا أيضاً متقدم بالذات على المحسوسات. وليس الشكل كذلك، فإن الشكل عارض لازم للمادة بعد تجوهرها جسماً متناهياً موجوداً وحملها سطحاً متناهياً. فإن الحدود تجب للمقدار من جهة استكمال المادة به وتلزمه من بعد. فإذا كان كذلك لم يكن الشكل موجوداً إلاّ في المادة ولا علة أولية لخروج المادة إلى الفعل. وأما المقدار بالمعنى الآخر فإن فيه نظراً من جهة وجوده، ونظراً من جهة عوارضه. فأما النظر في أن وجود أيّ أنحاء الوجود هو، ومن أي أقسام الموجود، فليس هو بحثاً أيضاً عن معنى متعلق بالمادة. فأما موضوع المنطق من جهة ذاته فظاهر أنه خارج عن المحسوسات. فبين أن هذه كلها تقع في العلم الذي يتعاطى ما لا يتعلق قوامه بالمحسوسات، ولا يجوز أن يوضع لها موضوع مشترك تكون هي كلها حالاته وعوارضه إلاّ الموجود. فإن بعضها جواهر، وبعضها كميات، وبعضها مقولات أخرى؛ وليس يمكن أن يعمهما معنى محقق إلاّ حقيقة معنى الوجود. وكذلك قد يوجد أيضاً أمور يجب أن تتحدد وتتحقق في النفس، وهي مشتركة في العلوم. وليس ولا واحد من العلوم يتولّى الكلام فيها مثل الواحد بما هو واحد، والكثير بما هو كثير، والموافق والمخالف، والضد وغير ذلك، فبعضها يستعملها استعمالاً فقط، وبعضها إنما يأخذ حدودها، ولا يتكلم في نحو وجودها. وليست عوارض خاصة لشيء من موضوعات هذه العلوم الجزئية. وليست من الأمور التي يكون وجودها إلاّ وجود الصفات للذوات ولا أيضاً هي من الصفات التي تكون لكل شيء. فيكون كل واحد منها مشتركاً لكل شيء ولا يجوز ان يختص أيضاً بمقولة ولا يمكن أن يكون من عوارض شيء إلاّ الموجود بما هو موجود. فظاهر لك من هذه الجملة أن الموجود بما هو موجود أمر مشترك لجميع هذه، وأنه يجب أن يجعل الموضوع لهذه الصناعة لما قلنا. ولأنه غني عن تعليم ماهيته وعن إثباته، حتى يحتاج إلى أن يتكفل علم غير هذا العلن بإيضاح الحال فيه لإستحالة أن يكون إثبات الموضوع وتحقيق ماهيته في العلم الذي هو موضوعه بل تسليم إنيته وماهيته فقط. فالموضوع الأول لهذا العلم هو الموجود بما هو موجود؛ ومطالبُه الأمور التي تلحقه بما هو موجود من غير شرط. وبعض هذه الأمور هي له كالأنواع: كالجوهر والكم والكيف؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في أن ينقسم

الصفحة    : 7

إليها، إلى إنقسام قبلها، حاجة الجوهر إلى انقسامات، حتى يلزمه الإنقسام إلى الإنسان وغير الإنسان. وبعض هذه كالعوارض الخاصة، مثل الواحد والكثير، والقوة والفعل، والكلي والجزئي، والممكن والواجب؛ فإنه ليس يحتاج الموجود في قبول هذه الأعراض والاستعداد لها إلى أن يتخصص طبيعياً أو تعليمياً أو خلقياً أو غير ذلك. ولقائل أن يقول، إنه إذا جعل الموجود هو الموضوع لهذا العلم لم يجز أن يكون إثبات مبادئ الموجودات فيه، لأن البحث في كل علم هو عن لواحق موضوعه لا عن مبادئه. فالجواب عن هذا أن النظر في المبادئ أيضاً هو بحث عن عوارض هذا الموضوع، لأن الموجود كونه مبدأ غير مقوم له ولا ممتنع فيه؛ بل هو بالقياس إلى طبيعة الموجود أمر عارض له، ومن العوارض الخاصة به. لأنه ليس شيء أعم من الموجود، فيلحق غيره لحوقاً أولياً. ولا أيضاً يحتاج الموجود إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً أو شيئاً آخر حتى يعرض له أن يكون مبدأ. ثم المبدأ ليس المبدأ للموجود كله، ولو كان المبدأ للموجود كله لكان مبدأ لنفسه؛ بل الموجود كله لا مبدأ له، إنما المبدأ للموجود المعلول. فالمبدأ هو مبدأ لبعض الموجود. فلا يكون هذا العلم يبحث عن مبادئ الموجود مطلقاً، بل إنما يبحث عن مبادئ بعض ما فيه كسائر العلوم الجزئية؛ فإنها وإن كانت لا تبرهن على وجود مبادئها المشتركة، إذ لها مبادئ يشترك فيها جميع ما ينحوه كل واحد منها، فإنها تبرهن على وجود ما هو مبدأ لما بعدها من الأمور التي فيها. ويلزم هذا العلم أن ينقسم ضرورة إلى أجزاء منها: ما يبحث عن الأسباب القصوى، فإنها الأسباب لكل موجود معلول من جهة وجوده، ويبحث عن السبب الأول الذي يفيض عنه كل موجود معلول بما هو موجود معلول لا بل ما هو. وجود متحرك فقط أو متكمّم فقط. ومنها ما يبحث عن العوارض للموجود. ومنها مايبحث عن مبادئ العلوم الجزئية. ولأن مبادئ كل علم أخص هي مسائل العلم في الأعلى، مثل مبادئ الطب في الطبيعي، والمساحة في الهندسة، فيعرض إذن في هذا العلم أن يتضح فيه مبادئ العلوم الجزئية التي تبحث عن أحوال الجزئيات الموجودة. فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود، والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك. وما قبل ذلك التخصيص كالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله.فتكون إذن مسائل هذا العلم في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبدئ العلوم الجزئية.

الصفحة    : 8

فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة وهو الفلسفة الأولى، لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة. وهو أيضاً الحكمة التي هي أفضل علم بافضل معلوم؛ فإنها أفضل علم أي اليقين، بأفضل المعلوم أي الله تعالى وبالأسباب من بعده. وهو أيضاً معرفة الأسباب القصوى للكل. وهو أيضاً المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.إذ الموجود بما هو موجود ومبادئه وعوارضه ليس شيء منها، كما اتضح، إلاّ متقدم الوجود على المادة وغير متعلق الوجود بوجودها. وإن البحث في هذا العلم عما لا يتقدم المادة، فإنما يُبحث فيه عن معنى. ذلك المعنى غير محتاج الوجود إلى المادة، بل الأمور المبحوث عنها فيه هي أقسام أربعة: فبعضها بريئة عن المادة وعلائق المادة أصلاً. وبعضها يخالط المادة، ولكن مخالطة السبب المقوم المتقدم وليست المادة بمقوم له. وبعضها قد يوجد في المادة وقد توجد لا في المادة مثل العلية والوحدة، فيكون الذي لها بالشركة بما هي هي أن لا تكون مفتقرة التحقق إلى وجود المادة، وتشترك هذه الجملة أيضاً في أنها غير مادية الوجود أي غير مستفادة الوجود من المادة. وبعضها أمور مادية، كالحركة والسكون، ولكن ليس المبحوث عنه في هذا العلم حالها في المادة، بل نحو الوجود الذي لها. فإذا أخذ هذا القسم مع الأقسام الأخرى اشتركت في في أن نحو البحث عنها هو من جهة معنى غير قائم الوجود بالمادة. وكما أن العلوم الرياضية قد كان يوضع فيها ما هو متحدد بالمادة، لكن نحو النظر والبحث عنه كان من جهة معنى غير متحدد بالمادة، وكان لا يخرجه تعلق ما يبحث عنه بالمادة عن أن يكون البحث رياضياً، كذلك الحال ههنا. فقد ظهر ولاح أن الغرض في هذا العلم أي شيء هو. وهذا العلم يشارك الجدل والسفسطة من وجه، ويخالفهما من وجه، ويخالف كل واحد منهما من وجه. أما مشاركتهما فلأن ما يبحث عنه في هذا العلم لا يتكلم فيه صاحب علم جزئي، ويتكلم فيه الحدلي والسوفسطائي. وأما المخالفة فلأن الفيلسوف الأول من حيث هو فيلسوف أول لا يتكلم في مسائل العلوم الجزئية وذانك يتكلمان. وأما مخالفته للجدل خاصة فبالقوة، لأن الكلام الجدلي يفيد الظن لا اليقين كما علمت في صناعة المنطق. وأما مخالفة السوفسطائية فبالإرادة، وذلك لأن هذا يريد الحق نفسه، وذلك يريد أن يظن به انه حكيم يقول الحق وإن لم يكن حكيماً.

الفصل الثالث:  (ج)

الصفحة    : 9  

فصل في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه

وأما منفعة هذا العلم، فيجب أن تكون قد وقفت في العلوم التي قبل هذا على أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو، وأن النافع هو السبب الموصل بذاته إلى الخير، والمنفعة هي المعنى الذي يوصل به الشر إلى الخير. وإذ قد تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك في منفعة واحدة وهي: تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه إذا فُتش في رؤوس الكتب عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجهاً إلى هذا المعنى، بل إلى معونة بعضها في بعض، حتى تكون منفعة علم ما هي معنى يتوصل منه إلى تحقيق علم آخر غيره. وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد يقال قولاً مطلقاً، وقد يقال قولاً متخصصاً. فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصلاً إلى تحقيق علم آخر كيف كان، وأما المتخصص فأن يكون النافع موصلاً إلى ما هو أجلّ منه، وهو الغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس. فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان لهذا العلم منفعة. وإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المتخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع في علم غيره، بل سائر العلوم تنتفع به. لكن إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام: قسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى أجل منه؛ وقسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى مساوٍ له؛ وقسم يكون الموصل منه موصلاً إلى معنى دونه، وهو أن يفيد في كمال دون ذاته. وهذا إذا طلب له أسم خاص كان الأولى به الإفاضة، والإفادة، والعناية، والرياسة، أو شيء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة في هذا الباب عثرت عليه. والمنفعة المتخصصة قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التي تحصل من الأشرف في الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم، والمخدوم أيضاً ينفع الخادم، أعني المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجه الخاص نوعاً آخر، فمنفعة هذا العلم الذي بيّنا وحهها هي إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية، والتحقق لماهية الأمور المشترك فيها، وإن لم تكن مبادئ. فهذا إذن منفعة الرئيس للمرؤوس، والمخدوم للخادم، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشيء الذي هو المقصود معرفته في هذا العلم إلى الأشياء المقصود معرفتها في تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك، فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك.

الصفحة    : 10

وأما مرتبة هذا العلم فهي أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية. أما الطبيعية، فلأن كثيراً من الأمور المسلّمة في هذا مما تبين في علم الطبيعي مثل: الكون، والفساد، والتغير، والمكان، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول، وغير ذلك. وأما الرياضية، فلأن الغرض الأقصى في هذا العلم هو تدبير الباري تعالى، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها، ومعرفة النظام في ترتيب الأفلاك، ليس يمكن أن يتوصل إلاّ بعلم الهيئة، وعلم الهيئة لا يتوصل إليه إلاّ بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة فهي نوافع غير ضرورية في هذا العلم. إلاّ أن لسائل أن يسأل فيقول: إنه إذا كانت المبادئ في علم الطبيعة والتعاليم إنما تبرهَن في هذا العلم وكانت مسائل العلمين تُبرهن بالمبادئ، وكانت مسائل ذينك العلمين تصير مبادئ لهذا العلم، كان ذلك بياناً دورياً ويصير آخر الأمر بياناً للشيء من نفسه، والذي يجب أن يقال في حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح في كتاب البرهان. وإنما نورد منه مقدار الكفاية في هذا الموضوع فنقول: إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند في براهينها إليه بفعل أو بقوة، بل ربما كان المبدأ مأخوذاً في براهين بعض هذه المسائل، ثم قد يجوز أن تكون في العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفاً البتة؛ بل إنما تستعمل المقدمات التي لا برهان عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم بالحقيقة إذا كان يفيد أخذه اليقين المكتسب من العلة، وأما إذا كان ليس يفيد العلة، فإنما يقال له مبدأ العلم على نحوٍ آخر. وبالحري أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ، من جهة أن الحس بما هو حس يفيد الوجود فقط. فقد ارتفع إذن الشك، فإن المبدأ الطبيعي يجوز أن يكون بيّناً بنفسه، ويجوز أن يكون بيانه في الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به فيما بعد، ولكن أنما تتبين به مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة في العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له في انتاجه من ذلك المبدأ، بل له مقدمة أخرى. وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعي أو الرياضي أفادنا برهان "أن" وإن لم يفدنا فيه برهان "اللم" ثم يفيدنا هذا العلم فيه برهان "لِمَ" خصوصاً في العلل الغائية البعيدة. فقد اتضح إنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التي في العلوم الطبيعية ليس في بيانه من مبادئ تتبين في هذا العلم، بل من مبادئه بيّنة بنفسها؛ وإما أن يكون بيانه من مبادئ هي مسائل في هذا العلم، لكن ليس تعود فتصير مبادئ لتلك المسائل لعينها بل لمسائل أخرى؛ وإما أن تكون تلك

الصفحة    : 11

المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على وجود ما يراد أن نبين في هذا العلم لمّيته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه لم يكن بيان دور البتة، حتى يكون بياناً يرجع إلى أخذ الشيء في بيان نفسه. ويجب أن تعلم أن في نفس الأمر طريقاً إلى أن يكون الغرض من هذا العلم تحصيل مبدأ إلاّ بعد علم آخر. فإنه سيتضح لك فيما بعد إشارة إلى أن لنا سبيلاً إلى إثبات المبدأ الأول لا من طريق الإستدلال من الأمور المحسوسة، بل من طريق مقدمات كلية عقلية توجب للوجود مبدأ واجب الوجود وتمنع أن يكون متغيراً أو متكثرأ في جهة، وتوجب أن يكون هو مبدأ للكل، وأن يكون الكل يجب عنه على ترتيب الكل. لكن لعجز أنفسنا لا نقوى على سلوك ذلك الطريق البرهاني الذي هو سلوك عن المبادئ إلى الثواني، وعن العلة إلى المعلول، إلاّ في بعض جمل مراتب الموجودات منها دون تفصيل. فإذن من حق هذا العلم في نفسه أن يكون مقدماً على العلوم كلها، إلاّ أنه من جهتنا يتأخر عن العلوم كلها، فقد تكلمنا على مرتبة هذا العلم من جملة العلوم. وأما أسم هذا العلم فهو أنه: "ما بعد الطبيعة". ويعني بالطبيعة لا القوة التي هي مبدأ حركة وسكون، بل جملة الشيء الحادث عن المادة الجسمانية وتلك القوة والأعراض. فقد قيل أنه قد يقال: الطبيعة، للجرم الطبيعي الذي له طبيعة. والجرم الطبيعي هو الجرم المحسوس بما له من الخواص والأعراض. ومعنى "ما بعد الطبيعة" بعدية بالقياس إلينا. فإن أول ما نشاهد الوجود، ونتعرف عن أحواله نشاهد هذا الوجود الطبيعي. وأما الذي يستحق أن يسمى به هذا العلم إذا اعتبر بذاته، فهو أن يقال له علم "ما قبل الطبيعة"، لأن الأمور المبحوث عنها في هذا العلم، هي بالذات والعموم، قبل الطبيعة. ولكنه لقائل أن يقول: إن الأمور الرياضية المحضة التي ينظر فيها في الحساب والهندسة، هي أيضاً "قبل الطبيعة"، وخصوصاً العدد فإنه لا تعلق لوجوده بالطبيعة البتة، لأنه قد يوجد لا في الطبيعة، فيجب أن يكون علم الحساب والهندسة علم "ما قبل الطبيعة". فالذي يجب أن يقال في هذا التشكيك هو أنه: أما الهندسة فما كان النظر فيه منها إنما هو في الخطوط والسطوح والمجسمات. فمعلوم أن موضوعه غير مفارق للطبيعة في القوام، فالأعراض اللازمة له أولى بذلك. وما كان موضوعه المقدار المطلق فيؤخذ فيه المقدار المطلق على أنه مستعد لأية نسبة اتفقت، وليس ذلك للمقدار بما هو مبدأ للطبيعيات وصورة؛ بل بما هو مقدار وعرض. وقد عرف في شرحنا للمنطقيات والطبيعيات الفرق بين المقدار الذي هو يعد الهيولي مطلقاً، وبين المقدار الذي هو كم،

الصفحة    : 12

وأن أسم المقدار يقع عليهما بالإشتراك. وإذا كان ذلك فليس موضوع الهندسة بالحقيقة هوالمقدار المعلوم المقوم للجسم الطبيعي، بل المقدار المقول على الخط والسطح والجسم. وهذا هو المستعد للنسب المختلفة. وأما العدد فالشبهة فيه آكد، ويشبه في ظاهر النظر أن يكون علم العدد هو علم "ما بعد الطبيعة". إلاّ أن يكون علم "ما بعد الطبيعة" إنما يعنى به شيء آخر، وهو علم "ما هو مباين" من كل الوجوه للطبيعة، فيكون قد سُمّي هذا العلم بأشرف ما فيه. كما يُسمى هذا العلم بالعلم الإلهي أيضاً، لأن المعرفة بالله تعالى هي غاية هذا العلم. وكثيراً ما تسمى الأشياء من جهة المعنى الأشرف، والجزء الأشرف، والجزء الذي هو كالغاية. فيكون كأن هذا العلم هو العلم الذي كماله، وأشرف اجزاءه، ومقصوده الأول، هو معرفة ما يفارق الطبيعة من كل وجه. وحينئذ إذا كانت التسمية موضوعاً بإزاء هذا المعنى لا يكون لعلم العدد مشاركة له في معنى هذا الإسم، فهذا هذا. ولكن البيان المحقق لكون علم الحساب خارجاً عن علم "ما بعد الطبيعة" هو أنه سيظهر لك أن موضوعه ليس هو العدد كل كل وجه، فإن العدد قد يوجد في الأمور المفارقة، وقد يوجد في الأمور الطبيعية، وقد يعرض له وضع في الوهم مجرداً عن كل شيء وهو عارض له. وإن كان لا يمكن أن يكون العدد موجوداً، إلاّ عارضاً لشيء في الوجود.فما كان من العدد وجوده في الأمور المفارقة، امتنع أن يكون موضوعاً لأية نسبة اتفقت من الزيادة والنقصان، بل إنما يثبت على ما هو عليه فقط، بل إنما يجب أن يوضع بحيث يكون قابلاً لأي زيادة اتفقت، ولأي نسبة اتفقت إذا كان في هيولي الأجسام التي هي بالقوة كل نحو من المعدودات، أو كان في الوهم؛ وفي الحالين جميعاً هو غير مفارق للطبيعة، فإذن علم الحساب من حيث ينظر في العدد إنما ينظر فيه وقد حصل له الإعتبار الذي إنما يكون له عند كونه في الطبيعة، ويشبه أن يكون أول نظره فيه هو في الوهم، ويكون إنما هو في الوهم بهذه الصفة، لأنه وهم له مأخوذ من أحوال طبيعية لها أن تجتمع وتفترق وتتحدد وتنقسم. فالحساب ليس نظراً في ذات العدد، ولا نظراً في عوارض العدد من حيث هو عدد مطلقاً؛ بل هو في عوارضه من حيث هو يصير بحال تقبل ما أشير إليه، وهو حينئذ مادي أو وهمي إنساني يستند إلى المادة. وأما النظر في ذات العدد، وفيما يعرض له من حيث لا يتعلق بالمادة ولا يستند إليها، فهو لهذا العلم.

الفصل الرابع:   (د)

الصفحة    : 13

فصل في جملة ما يتكلم فيه في هذا العلم

فينبغي لنا في هذه الصناعة أن نعرف حال نسبة الشيء والموجودات إلى المقولات؛ وحال العدم؛ وحال الوجوب، أي الوجود الضروري وشرائطه؛ وحال الإمكان وحقيقته، وهو بعينه النظر في القوة والفعل؛ وأن ننظر في حال الذي بالذات والذي بالعرض؛ وفي الحق والباطل؛ وفي حال الجوهر، وكم أقسام هو، لأنه ليس يحتاج الموجود في ان يكون جوهراً موجوداً إلى أن يصير طبيعياً أو تعليمياً، فإن ههنا جواهر خارجة عنهما، فيجب أن نعرف حال الجوهر الذي هو كالهيولي، وأنه كيف هو، وهل هو مفارق أو غير مفارق، ومتفق النوع أو مختلف، وما نسبته إلى الصورة، أن الجوهر الصوري كيف هو، وهل هو أيضاً مفارق أو ليس بمفارق، وما حال المركب، وكيف حال كل واحد منهما عند الحدود، وكيف مناسبة ما بين الحدود والمحدودات. ولأن مقابل الجوهر بنوع ما هو العرض، فينبغي أن نتعرف في هذا العلم طبيعة العرض، وأصنافه، وكيفية الحدود التي تحد بها الأعراض، ونتعرف حال مقولة مقولة من الأعراض، وما أمكن فيه أن يظن أنه جوهر وليس بجوهر، فنبين عرضيته، ونعرف مراتب الجواهر كلها بعضها عن بعض في الوجود بحسب التقدم والتأخر، ونعرف كذلك حال الأعراض. ويليق بهذا الموضوع أن نتعرف حال الكلي والجزئي؛ والكل والجزء؛ وكيف وجود الطبائع الكلية، وهل لهاوجود في الأعيان الجزئية؛ وكيف وجودها في النفس، وهل لها وجود مفارق للأعيان والنفس. وهناك نتعرف حال الجنس والنوع، وما يجري مجراهما، ولأن الموجود لا يحتاج في كونه علة أو معلولاً إلى أن يكون طبيعياً أو تعليمياً أو غير ذلك. فبالحري أن نتبع ذلك الكلام في العلل، وأجناسها، وأحوالها، وأنها كيف ينبغي أن تكون الحال بينها وبين المعلولات، وفي تعريف الفرقان بين المبدأ الفاعلي، وبين غيره. وأن نتكلم في الفعل والإنفعال. وفي تعريف الفرقان بين الصورة والغاية، واثبات كل واحد منهما، وأنهما في كل طبقة يذهب إلى علةٍ أولى. ونبين الكلام في المبدأ والإبتداء، ثم الكلام في التقدم والتأخر والحدوث، وأصناف ذلك، وأنواعه، وخصوصية كل نوع منه، وما يكون متقدماً في الطبيعة ومتقدماً عند العقل، وتحقيق الأشياء المتقدمة عند العقل، ووجه مخاطبة من انكرها، فما كان فيه من هذه الأشياء رأي مشهور مخالف للحق نقضناه. فهذه وما يجري مجراها لواحق الوجود بما هو وجود، ولأن الواحد مساوق للوجود فيلزمنا أن ننظر

الصفحة    : 14

أيضاً في الواحد، وإذا نظرنا في الواحد وجب أن ننظر في الكثير، ونعرف التقابل بينهما. وهناك يجب أن ننظر في العدد، وما نسبته إلى الموجودات، وما نسبة الكم المتصل، الذي يقابله بوجه ما، إلى الموجودات، ونعد الآراء الباطلة كلها فيه، ونعرف أنه ليس شيء من ذلك مفارقاً ولا مبدأ للموجودات، ونثبت العوارض التي تعرض للأعداد، والكميات المتصلة، مثل الأشكال وغيرها، ومن توابع الواحد: الشبيه، والمساوي، والموافق، والمجانس، والمشاكل، والمماثل، والهو هو. فيجب أن نتكلم في كل واحد من هذه ومقابلاتها، وأنها مناسبة للكثرة مثل الغير الشبيه، وغير المساوي، وغير المجانس، وغير المشاكل، والغير بالجملة، والخلاف، والتقابل، وأصنافها، والتضاد بالحقيقة، وماهيته. ثم بعد ذلك ننتقل إلى مبادئ الموجودات فنثبت المبدأ الأول وأنه واحد حق في غاية الجلالة، ونعرف أنه من كم وجه "واحد"، ومن كم وجه "حق"، وأنه كيف يعلم كل شيء، وكيف هو قادر على كل شيء، وما معنى أنه يعلم وأنه يقدر، وأنه جواد، وأنه سلام أي خير محض، معشوق لذاته، وهو اللذيذ الحق، وعنده الجمال الحق، ونَفسخ ما قيل وظُن فيه من الآراء المضادة للحق، ثم نبين كيف نسبته إلى الموجودات عنه، وما أول الأشياء التي توجد عنه. ثم كيف تترتب عنه الموجودات مبتدئة من الجواهر الملكية العقلية، ثم الجواهر الملكية النفسانية، ثم الجواهر الفلكية السماوية، ثم هذه العناصر، ثم المكونات عنها. ثم الإنسان وكيف تعود إليه هذه الأشياء، وكيف هو مبدأ لها فاعلي، وكيف هو مبدأ لها كمالي، وماذا تكون حال النفس الإنسانية إذا انقطعت العلاقة بينها وبين الطبيعة، وأي مرتبة تكون مرتبة وجودها. وندل فيما بين ذلك على جلالة قدر النبوة، ووجوب طاعتها، وأنها واجبة من عند الله، وعلى الأخلاق والأعمال التي تحتاج إليها النفوس الإنسانية مع الحكمة في أن يكون لها السعادة الأخروية. ونعرف أصناف السعادات. فإذا بلغنا هذا المبلغ ختمنا كتابنا هذا، والله المستعان به على ذلك.

 

الفصل الخامس:   (ه)

الصفحة    : 15

فصل في الدلالة على الموجود والشيء وأقسامها

الأوَل، بما يكون فيه تنبيه على الغرض   

 فنقول: إن الموجود، والشيء، والضروري، معانيها ترتسم في النفس ارتساماً أولياً، ليس ذلك الارتسام مما يُحتاج إلى أن يُجلب بإشياء أعرف منها. فأنه كما أن في باب التصديق مبادئ أولية، يقع التصديق لها لذاتها، ويكون التصديق بغيرها، بسببها، وإذا لم يخطر بالبال أو لم يفهم اللفظ الدال عليها، لم يمكن التوصل إلى معرفة ما يعرف بها، وإن لم يكن التعريف الذي يحاول أخطارها بالبال أو تفهيم ما يدل به عليها من الألفاظ محاولاً لإفادة علم ليس في الغريزة؛ بل منبها على تفهيم ما يريده القائل ويذهب إليه. وربما كان ذلك بأشياء هي في نفسها أخفى من المراد تعريفه، لكنها لعلة ما وعبارة ما صارت أعرف. كذلك في التصورات أشياء هي مبادئ للتصور، وهي متصورة لذواتها، وإذا أريد أن يدل عليها لم يكن ذلك بالحقيقة تعريفاً لمجهول؛ بل تنبيها وأخطاراً بالبال، بإسمٍ أو بعلامة، ربما كانت في نفسها أخفى منه، لكنها لعلة ما وحال ما تكون أظهر دلالة. فإذا استعملت تلك العلامة تنبهت النفس على إخطار ذلك المعنى بالبال، من حيث أنه هو المراد لا غيره، من غير أن تكون العلامة بالحقيقة معلمة إياه، ولو كان كل تصور يحتاج إلى أن يسبقه تصور قبله لذهب الأمر في ذلك إلى غير النهاية، أو لَدارَ. وأولى الأشياء بأن تكون متصورة لأنفسها الأشياء العامة للأمور كلها، كالموجود، والشيء الواحد وغيره. ولهذا ليس يمكن أن يبيّن شيء منها ببيان لا دور فيه البتة، أو بيان شيء أعرف منها. ولذلك من حاول أن يقوم فيها شيئاً وقع في إضطراب، كمن يقول: إن من الحقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً؛ وهذا إن كان ولا بد من أقسام الموجود، والموجود أعرف من الفاعل والمنفعل. وجمهور الناس يتصورون حقيقة الموجود ولا يعرفون البتة أه يجب ان يكون فاعلاً أو منفعلاً، وأنا إلى هذه الغاية لم يتضح لي ذلك إلاّ بقياس لا غير، فكيف يكون حال من يروم أن يعرف حال الشيء الظاهر بصفة له، تحتاج إلى بيان حتى يثبت وجودها له؟ وكذلك قول من قال: إن الشيء هو الذي يصح عنه الخبر، فإن "يصح" أخفى من "الشيء" و "الخبر" أخفى من "الشيء"، فكيف يكون هذا تعريفاً للشيء؟ وإنما تعرف الصحة ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كل واحد منهما أنه "شيء" أو أنه "أمر" أو أنه "ما" أو أنه "الذي"، وجميع ذلك كالمرادفات لأسم الشيء، فكيف يصح أن يعرف الشيء تعريفاً حقيقياً بما لم يعرف إلاّ به؟ نعم ربما كان في ذلك أو أمثاله تنبيه ما. وأما بالحقيقة فإنك إذا قلت إن الشيء هو ما يصح عنه

 

الصفحة    : 16

الخبر، تكون كأنك قلت: إن الشيء هو الشيء الذي يصح الخبر عنه، لأن معنى "ما" و"الذي" و"الشيء" معنى واحد، فتكون قد أخذت الشيء في حد الشيء. على أننا لا ننكر أن يقع بهذا أو ما يشبهه، مع فساد مأخذه، تنبيه بوجه ما على الشيء، ونقول: إن معنى الوجود ومعنى الشيء متصوران في الأنفس، وهما معنيان. فالموجود والمثبت والمحصل أسماء مترادفة على معنى واحد، ولا نشك في أن معناها قد حصل في نفس من يقرأ هذا الكتاب. والشيء وما يقوم مقامه قد يدل به على معنى آخر في اللغات كلها، فإن لكل أمر حقيقة هو بها ما هو، فالمثلث حقيقة أنه مثلث، وللبياض حقيقة أنه بياض، وذلك هو الذي ربما سميناه الوجود الخاص، ولم نرد به معنى الوجود الإثباتي. فإن لفظ الوجود يدل به أيضاً على معاني كثيرة، منها الحقيقة التي عليها الشيء، فكأنه ما عليه يكون الوجود الخاص للشيء. ونرجع فنقول: أنه من البين أن لكل شيء حقيقة خاصة هي ماهيته، ومعلوم أن حقيقة كل شيء الخاصة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات، وذلك لأنك إذا قلت: حقيقة كذا موجودة إما في الأعيان، أو في الأنفس، أو مطلقاً يعمها جميعاً، كان لهذا معنى محصل مفهوم. ولوقلت: إن حقيقة كذا، حقيقة كذا، أو أن حقيقة كذا حقيقة، لكان حشواً من الكلام غير مفيد. ولو قلت: إن حقيقة كذا شيء، لكان أيضاً قولاً غير مفيد ما يجهل؛ واقل إفادة منه أن تقول: إن الحقيقة شيء، إلاّ أن يعنى بالشيء، الموجود، كأنك قلت: إن حقيقة كذا حقيقة موجودة. وأما إذا قلت: حقيقة أ شيء ما، و حقيقة ب شيء آخر، فإنما صح هذا وأفاد. لأنك تضمر في نفسك أنه شيء آخر مخصوص مخالف لذلك الشيء الآخر، كما لو قلنا: إن حقيقة أ وحقيقة ب حقيقة أخرى. ولولا هذا الإضمار وهذا الإقتران جميعاً لم يفد، فالشيءئ يراد به هذا المعنى. ولا يفارق لزوم معنى الوجود إياه البتة، بل معنى الوجود يلزمه دائماً، لأنه إما موجوداً في الأعيان، أو موجوداً في الوهم والعقل، فإن لم يكن كذا لم يكن شيئاً. وأن ما يقال: إن الشيء هو الذي يخبر عنه، حق؛ ثم الذي قال، مع هذا، إن الشيء قد يكون معدوماً على الإطلاق، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان، جاز أن يكون كذلك، فيجوز أن يكون الشيء ثابتاً في الذهن معدوماً في الأشياء الخارجة. وإن عنى غير ذلك كان باطلاً، ولم يكن عنه خبر البتة، ولا كان معلوماً إلاّ على أنه متصور في النفس فقط. فأما أن يكون متصوراً في النفس صورة تشير إلى شيء خارج فكلاّ.

 

الصفحة    : 17

أما الخبر، فلأن الخبر يكون دائماً عن شيء متحقق في الذهن. والمعدوم المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب، وإذا أخبر عنه بالسلب أيضاً فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن. لأن قولنا: "هو"، يتضمن إشارة، والإشارة إلى المعدوم - الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن - محال. فكيف يوجب على المعدوم شيء؟ ومعنى قولنا: إن المعدوم "كذا"، معناه أن وصف "كذا" حاصل للمعدوم، ولافرق بين الحاصل والموجود. فنكون كأنا قلنا: إن هذا الوصف موجود للمعدوم. بل نقول: إنه لا يخلو أن ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إما أن يكون موجوداً وحاصلاً للمعدوم أو لا يكون موجوداً حاصلاً له؛ فإن كان موجوداً وحاصلاً للمعدوم، فلا يخلو إما أن يكون في نفسه موجوداً أو معدوماً، فإن كان موجوداً فيكون للمعدوم صفة موجودة، وإذا كانت الصفة موجودة، فالموصوف بها موجود لا محالة، فالمعدوم موجود، وهذا محال؛ وإن كانت الصفة معدومة، فكيف يكون المعدوم في نفسه موجوداً لشيء؟ فإم ما لا يكون موجوداً في نفسه، يستحيل ان يكون موجوداً للشيء. نعم قد يكون الشيء موجوداً في نفسه ولا يكون موجوداً لشيء آخر، فأما إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم فهي نفي الصفة عن المعدوم، فإنه إن لم يكن هذا هو النفي للصفة عن المعدوم، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم، كان مقابل هذا، فكان وجود الصفة له؛ وهذا كله باطل. وإنما نقول: إن لنا علماً بالمعدوم، فلأن المعنى إذا تحصل في النفس فقط ولم يشر فيه إلى خارج، كان المعلوم نفس ما في النفس فقط، والتصديق الواقع بين المتصور من جزئيه هو أنه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج، وأما في هذا الوقت فلا نسبة له، فلا معلوم غيره. وعند القوم الذين يرون هذا الرأي، أن في جملة ما يخبر عنه ويعلم أموراً لا شيئية لها في العدم، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع غلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا تستحق فضل الإشتغال بها. وإنما وقع اولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأن الإخبار إنما يكون عن معان لها وجود في النفس، وإن كانت معدومة في الأعيان، ويكون معنى الإخبار عنها ان لها نسبة ما إلى الأعيان. مثلاً إن قلت: إن القيامة "تكون" فهمت القيامة وفَهمت تكون، وحملت تكون التي في النفس، على القيامة التي في النفس، بأن هذا المعنى إنما يصح في معنى آخر معقول أيضاً، وهو معقول في وقت مستقبل، أن يوصف بمعنى ثالث معقول، وهو معقول الوجود. وعلى هذا القياس الأمر في الماضي. فبين أن المخبر عنه لا بد من أن يكون موجوداً وجوداً ما في النفس. والإخبار في الحقيقة هو عن الموجود في النفس، وبالعرض عن

الصفحة    : 18

الموجود في الخارج. وقد فهمت الآن أن الشيء بماذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل، وأنهما مع ذلك متلازمان. وعلى أنه قد بلغني أن قوماً يقولون: أن الحاصل يكون حاصلاً، وليس بموجود، وقد تكون صفة الشيء ليس شيئاً لا موجوداً ولا معدوماً، وأن "الذي" و"ما" يدلان على غير ما يدل عليه الشيء. فهؤلاء ليسوا من جملة المميّزين. وإذا أخذا بالتمييز بين هذه الألفاظ من حيث مفهوماتها إنكشفوا. فنقول الآن: إنه وإن لم يكن الموجود، كما علمت، جنساً، ولا مقولاً بالتساوي على ما تحته، فإنه معنى متفق فيه على التقديم والتأخير. وأول ما يكون، يكون للماهية التي هي الجوهر ثم يكون لما بعده. وإذ هو معنى واحد على النحو الذي أومأنا إليه فتلحقه عوارض تخصه، كما قد بيّنا من قبل. فلذلك يكون له علم واحد يتكفل به. كما أن لجميع ما هو صحي علماً واحداً. وقد يعسر علينا أن نعرف حال الواجب والممكن والممتنع بالتعريف المحقق أيضاً، بل بوجه العلامة. وجميع ما قيل في تعريف هذه مما بلغك عن الأولين قد يكاد يقتضي دوراً. وذلك لأنهم، على ما مر لك في فنون المنطق، إذا أرادوا أن يحدوا الممكن، أخذوا في حده إما الضروري وإما المحال ولا وجه غير ذلك. وإذا أرادوا أن يحدوا الضروري، أخذوا في حده إما الممكن وإما المحال. وإذا أرادوا أن يحدوا المحال أخذوا في حده إما الضروري وإما الممكن. مثلاً إذا حدوا الممكن قالوا مرة، إنه غير ضروري أو إنه المعدوم، في الحال الذي ليس وجوده، في أي وقت فرض من المستقبل، بمجال. ثم إذا احتاجوا إلى أن يحدوا الضروري قالوا: إما أنه الذي لا يمكن أن يفرض معدوماً، أو إنه الذي إذا فرض بخلاف ما هو عليه كان محالاً. فقد أخذوا الممكن تارة في حده، والمحال أخرى. وأما الممكن فقد كانوا أخذوا، قبل، في حده إما الضروري وإما المحال. ثم المحال، إذا ارادوا أن يحدوه، أخذوا في حده إما الضروري بأن يقولوا: إن المحال هو ضروري العدم؛ وإما الممكن بأن يقولوا: إنه الذي لا يمكن أن يوجد؛ أو لفظاً آخر يذهب مذهب هذين. وكذلك ما يقال من أن الممتنع هو الذي لا يمكن أن يكون، أو هو الذي لا يجب أن يكون. والواجب هو الذي هو ممتنع ومحال أن لا يكون، أو ليس بممكن أن لا يكون. والممكن هوالذي ليس يمتنع أن يكون أو لا يكون، أو الذي ليس بواجب أن يكون أو لا يكون. وهذا كله كما تراه دور ظاهر. وأما الكشف الحال في ذلك فقد مرّ لك في أنولوطيقا. على أن أولى هذه الثلاثة في ان يتصور أولاً، هو الواجب. وذلك لأن الواجب يدل على تأكد الوجود،

الصفحة    : 19

والوجود أعرف من العدم، لأن الوجود يعرف بذاته، والعدم يعرف، بوجه ما من الوجوه، بالوجود. ومن تفهمنا هذه الأشياء يتضح لك بطلان قول من يقول: إن المعدوم يعاد لأنه أول شيء مخبر عنه بالوجود. وذلك أن المعدوم إذا أعيد يجب أن يكون بينه وبين ما هو مثله، لو وجد بدله، فرق. فإن كان مثله إنما ليس هو لأنه ليس الذي كان عدم، وفي حال العدم كان هذا غير ذلك، فقد صار المعدوم موجوداً على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفاً. وعلى أن المعدوم إذا أعيد احتيج أن تعاد جميع الخواص التي كان بها هو ما هو. ومن خواصه وقته، وإذا أعيد وقته كان المعدوم غير معاد، لأن المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان. فإن كان المعدوم تجوز إعادته وإعادة جملة المعلومات التي كانت معه، والوقت إما شيء له حقيقة وجود قد عدم، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض، على ما عرف من مذاهبهم، جاز أن يعود الوقت والأحوال، فلا يكون وقت ووقت، فلا يكون يعود. على أن العقل يدفع هذا دفعاً لا يحتاج فيه إلى بيان، وكل ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم.

 

الفصل السادس:   (و)

الصفحة    : 20

فصل في ابتداء القول في الواجب الوجود والممكن الوجود، وأن الواجب الوجود لا علة له، وأن الممكن الوجود معلول، وأن الواجب الوجود   غير مكافئ لغيره في الوجود، ولا متعلق بغيره فيه

 ونعود إلى ما كنا فيه فنقول: إن لكل واحد من الواجب الوجود، والممكن الوجود، خواص. فنقول: إن الأمور التي تدخل في الوجود تحتمل في العقل الإنقسام إلى قسمين، فيكون منها ما إذا اعتبر بذاته لم يجب وجوده، وظاهر أنه لا يمتنع أيضاً وجوده، وإلاّ لم يدخل في الوجود، وهذا الشيء هو في حيّز الإمكان، ويكون منها ما إذا اعتبر بذاته وجب وجوده. فنقول: إن الواجب الوجود بذاته لا علة له، وإن الممكن الوجود بذاته له علة، وإن الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وإن الواجب الوجود لا يمكن أن يكون وجوده مكافئاً لوجود آخر، فيكمون كل واحد منهما مساوياً للآخر في وجوب الوجود ويتلازمان. وأن الواجب الوجود لا يجوز ان يجتمع وجوده عن كثرة البتة. وأن الواجب الوجود لا يجوز أن تكون الحقيقة التي له مشتركاً فيها بوجه من الوجوه، حتى يلزم تصحيحنا ذلك أن يكون واجب الوجود غير مضاف، ولا متغير، ولا متكثر، ولا مشارك في وجوده الذي يخصه. أما الواجب الوجود لا علة له، فظاهر. لأنه إن كان لواجب الوجود علة في وجوده، كان وجوده بها. وكل ما وجوده بشيء، فإذا اعتبر بذاته دون غيره لم يجب له وجود، وكل ما إذا اعتبر بذاته دون غيره، ولم يجب له وجود، فليس واجب الوجود بذاته. فبين أنه إن كان لواجب الوجود بذاته علة لم يكن واجب الوجود بذاته، فقد ظهر أن الواجب الوجود لا علة له. وظهر من ذلك أنه لا يجوز أن يكون شيء واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بغيره، لأنه إن كان يجب وجوده بغيره، فلا يجوز أن يوجد دون غيره، وكلما لا يجوز أن يوجد دون غيره، فيستحيل وجوده واجباً بذاته. ولو وجب بذاته، لحصل. ولا تأثير لإيجاب الغير في وجوده الذي يؤثر غيره في وجوده فلا يكون واجباً وجوده في ذاته. وأيضاً أن كل ما هو ممكن الوجود باعتبار ذاته، فوجوده وعدمه كلاهما بعلة، لأنه غذا وجد فقد حصل له الوجود متميزاً من العدم، وإذا عدم حصل له العدم متميزاً من الوجود. فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من الأمرين يحصل له عن غيره أو لا عن غيره، فإن كان عن غيره فالغير هو العلة؛ وإن كان لا يحصل عن غيره، ومن البين أن كل ما لم يوجد ثم وجد فقد تخصص بأمر جائز غيره. وكذلك في العدم، وذلك لأن هذا التخصيص إما تكفي فيه ماهية الأمر أو لا تكفي فيه ماهيته، فإن كانت

الصفحة    : 21

ماهيته تكفي لأي الأمرين كان، حتى يكون حاصلاً، فيكون ذلك الأمر واجب الماهية لذاته، وقد فرض غير واجب، هذا خلف. وإن كان لا يكفي فيه وجود ماهيته، بل أمر يضاف إليه وجود ذاته، فيكون وجوده لوجود شيء آخر غير ذاته لا بد منه فهو علته، فله علة. وبالجملة فإنما يصير أحد الأمرين واجباً له، لا لذاته، بل لعلة. أما المعنى الوجودي فبعلّة، هي علة وجودية. وأما المعنى العدمي فبعلة، هي عدم العلة للمعنى الوجودي، وعلى ما علمت. فنقول: إنه يجب أن يصير واجباً بالعلة، وبالقياس إليها. فإنه إن لم يكن واجباً، كان عند وجود العلة وبالقياس إليها ممكناً أيضاً، فكان يجوز أن يوجد وأن لا يوجد غير متخصص باحد الأمرين، وهذا محتاج من رأس إلى وجود شيء ثالث يتعين له به الوجود من العدم، أو العدم عن الوجود عند وجود العلة، فيكون ذلك علة أخرى، ويتمادى الكلام إلى غير النهاية. وإذا تمادى إلى غير النهاية لم يكن، مع ذلك، قد تخصص له وجوده، وهذا محال. لا لأنه ذاهب إلى غير النهاية في العلل فقط، فإن هذا في هذا الموضع بعد مشكوك في إحالته، بل لأنه لم يوجد بعد مل يتخصص به وقد فرض موجوداً. فقد صح أن كل ما هو ممكن الوجود لا يوجد ما لم يجب بالقياس إلى علته. ونقول: ولا يجوز أن يكون واجب الوجود مكافئاً لواجب وجود آخر، حتى يكون هذا موجوداً مع ذلك، وذلك موجوداً مع هذا، وليس أحدهما علة للاخر، بل هما متكافئان في أمر لزوم الوجود. لأنه لا يخلو إذا اعتبر ذات أحدهما بذاته دون الآخر، إما ان يكون واجباً بذاته أو لا يكون واجباً بذاته، فإن كان واجباً بذاته فلا يخلو إما أن يكون له وجوب أيضاً باعتباره مع الثاني، فيكون الشيء واجب الوجوب بذاته، وواجب الوجود لأجل غيره، وهذا محال، كما قد مضى. وإما أن لا يكون له وجوب بالآخر، فلا يجب أن يتبع وجوده وجود الآخر، ويلزمه أن لا يكون لوجوده علاقة بالآخر، حتى يكون إنما يوجد إذا وجد الآخر هذا. وأما إن لم يكن واجباً بذاته، فيجب أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود، وباعتبار الآخر واجب الوجود. فلا يخلو حينئذ إما أن يكون الآخر كذلك أو لا يكون، فإن كان الآخر كذلك فلا يخلو حينئذ إما أن يكون وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك في حد إمكان الوجود، أو في حد وجوب الوجود. فإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك هو في حد وجوب الوجود، وليس من نفسه، أو من ثالث سابق، كما قلناه في وجه سلف، بل من الذي يكون منه، كان وجوب وجود شرطاً فيه وجوب وجود ما يحصل بعد وجوب وجوده، بعدية بالذات فلا يحصل له وجوب وجود البتة. وإن كان وجوب الوجود لهذا من ذلك، وذلك في حد الإمكان، فيكون وجوب وجود هذا بالذات ذلك هو في حد الإمكان،

الصفحة    : 22

ويكون ذات ذلك في حد الإمكان مفيداً لهذا وجوب الوجود، وليس له حد الإمكان مستفاداً من هذا، بل الوجوب. فتكون العلة لهذا إمكان وجود ذلك، وإمكان وجود ذلك ليس علته هذا، فيكونان غير متكافئين، أعني ما هو علته بالذات ومعلول بالذات. ثم يعرض شيء آخر وهو، إنه إذا كان إمكان وجود ذلك هو علة إيجاب وجود هذا، لم يتعلق وجود هذا بوجوبه؛ بل بإمكانه. فوجب أن يجوز وجوبه مع عدمه وقد فرضا متكافئين، هذا خلف، فإذن ليس يمكن أن يكونا متكافئي الوجود، في حال ما، لا يتعلقان بعلة خارجة، بل يجب أن يكون أحدهما هو الأول بالذات، أو يكون هناك سبب خارج آخر يوجبهما جميعاًبإيجاب العلاقة التي بينهما أو يوجب العلاقة بإيجابهما. والمضافان ليس أحدهما واجباً بالآخر، بل مع الآخر، والموجب لهما العلة التي جمعتهما، وأيضاً المادتان والموضوعان أو الموصوفان بهما. وليس يكفي وجود المادتين أو الموضوعين لهما وحدهما،بل وجود ثالث يجمع بينهما. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون وجود كل واحد من الأمرين وحقيقته هو أن يكون مع الآخر، فوجوده بذاته يكون غير واجب، فيصير ممكناً، فيصير معلولاً، ويكون كما قلنا ليس علته مكافئة في الوجود، فتكون إذن علته أمر آخر، فلا يكون هو والآخر علة للعلاقة التي بينهما، بل ذلك الآخر. وأما أن لا يكون، فتكون المعية طارئة على وجوده الخاص لاحقة له. وأيضاً فإن الوجود الذي يخصه لا يكون عن مكافئيه من حيث هو مكافيه؛ بل عن علة متقدمة إن كان معلولاً. فحينئذ إما أن يكون وجوده ذلك عن صاحبه، لا من حيث يكافيه، بل من حيث وجود صاحبه الذي يخصه، فلا يكونان متكافئين، بل علة ومعلولاً. ويكون صاحبه أيضاً علة للعلاقة الوهمية بينهما كالأب والابن. وإما أن يكونا متكافئين من جملة ما يكون الأمران ليس أحدهما علة للآخر، وتكون العلاقة لازمة لوجودهما، فتكون العلة الأولى للعلاقة هي أمر خارج موجد لذاتيهما على ما علمت، والعلاقة عرضية، فيكون لا تكافؤ هناك إلاّ بالعرض المباين أو اللازم. وهذا غير ما نحن فيه، ويكون للذي بالعرض علة لا محالة، فيكونان من حيث التكافؤ معلولين.

الفصل السابع:   (ز)

الصفحة    : 23

فصل في أن واجب الوجود واحد

ونقول ايضاً: إن واجب الوجود يجب أن يكون ذاتاً واحدة، وإلاّ فليكن كثرة ويكون كل واحد منها واجب الوجود، فلا يخلو إما أن يكون كل واحد منها في المعنى الذي هو حقيقته، لا يخالف الآخر البتة أو يخالفه. فإن كان لا يخالف الآخر في المعنى الذي لذاته بالذات، ويخالفه بأنه ليس هو، وهذا خلاف لا محالة، فيخالفه في غير المعنى. وذلك لأن المعنى الذي هو فيهما غير مختلف، وقد قارنه شيء به صار هذا أو في هذا، أو قارنه نفسه أنه هذا أو في هذا، ولم يقارنه هذا المقارن في الآخر، بل ما به صار ذاك ذاك، أو نفس أن ذاك ذاك، وهذا تخصيص ما قارن ذلك المعنى، وبينهما به مباينة. فإذن كل واحد منها يباين الآخر به، وليس يخالفه في نفس المعنى، فيخالفه في غير المعنى. والأشياء التي هي غير المعنى وتقارن المعنى هي الأعراض واللواحق الغير الذاتية. وهذه اللواحق فإما أن تعرض لوجود الشيء بما هو ذلك الوجود فيجب أن يتفق الكل فيه وقد فرض أنها مختلفة فيه، وهذا خلف. وإما أن تعرض له عن أسباب خارجة لا عن نفس ماهيته، فيكون لولا تلك العلة لم يختلف، فيكون لولا تلك العلة لكانت الذوات واحدة أو لم تكن، فيكون أولاً تلك العلة ليس هذا بانفراده واجب الوجود، وذلك بانفراد، واجب الوجود لا من حيث الوجود، بل من حيث الأعراض، فيكون وجوب وجود كل واحد منهما الخاص به، المنفرد له، مستفاداً من غيره. وقد قيل إن كل ما هو واجب الوجود بغيره فليس واجب الوجود بذاته، بل هو في حد ذاته ممكن الوجود، فتكون كل واحدة من هذه، مع أنها واجبة الوجود بذاتها، ممكنة الوجود في حد ذاتها وهذا محال. ولنفرض الآن أنه يخالفه في معنى أصلي، بعد ما يوافقه في المعنى، فلا يخلو ذلك المعنى إما أن يكون شرطاً في وجوب الوجود، أو لا يكون. فإن كان شرطاً في وجوب الوجود، فظاهر أنه يجب أن يتفق فيه كل ما هو واجب الوجود، وإن لم يكن شرطاً في وجوب الوجود، فوجوب الوجود متقرر دونه وجوب وجود، وهو داخل عليه، عارض، مضاف إليه، بعد ما تم ذلك وجوب وجود، وقد منعنا هذا وبيّنا فساده. فإذن لا يجوز أن يخالفه في المعنى. بل يجب أن نزيد لهذا بياناً من وجه آخر وهو: أن انقسام معنى وجوب الوجود في الكثرة لا يخلو من وجهين: إما أن يكون على سبيل انقسامه بالفصول وإما على سبيل انقسامه بالعوارض. ثم من المعلوم أن الفصول لا تدخل في حد ما يقام مقام الجنس. فهي لا تفيد الجنس حقيقته، وإنما تفيده القوام بالفعل، وذلك كالناطق، فإن الناطق لا يفيد الحيوان معنى الحيوانية، بل يفيده القوام بالفعل ذاتاً موجودة خاصة.

الصفحة    : 24

فيجب ايضاً أن تكون فصول وجوب الوجود، إن صحت، بحيث لا تفيد وجوب الوجود حقيقة وجوب الوجود، بل يفيده الوجود بالفعل. وهذا محال من وجهين: أحدهما، أنه ليس حقيقة وجوب الوجود إلاّ نفس تأكد الوجود، لا كحقيقة الحيوانية التي هي معنى غير تأكد الوجود، والوجود لازم لها، أو داخل عليها، كما علمت. فإذن إفادة الوجود لوجوب الوجود، هي إفادة شرط من حقيقته ضرورة، وقد منع جواز هذا ما بين الجنس والفصل. والوجه الثاني، أنه يلزم أن تكون حقيقة وجوب الوجود متعلقة في أن تحصل بالفعل الموجب له، فيكون المعنى الذي به يكون الشيء واجب الوجود يجب وجوده بغيره، وإنما كلامنا في وجوب الوجود بالذات، فيكون الشيء الواجب الوجود بذاته واجب الوجود بغيره، وقد أبطلنا هذا. فقد ظهر أن انقسام وجوب الوجود إلى تلك الأمور، لا يكون انقسام المعنى الجنسي إلى فصول. فتبيّن أن المعنى الذي يقتضي وجوب الوجود لا يجوز أن يكون معنى جنسياً ينقسم بفصول وأعراض، فبقي أن يكون معنى نوعياً. فنقول: ولا يجوز أن تكون نوعيته محمولة على كثيرين، لأن أشخاص النوع الواحد، كما بينا، إذا لم تختلف في المعنى الذاتي، وجب أن تكون إنما تختلف بالعوارض، وقد منعنا إمكان هذا في وجوب الوجود، وقد يمكن أن نبين هذا بنوع من الإختصار، ويكون الغرض راجعاً إلى ما أردناه. فنقول: إن وجوب الوجود إذا كان صفة للشيء وموجوداً له، فإما أن يكون واجباً في هذه الصفة، أي في وجوب الوجود، أن تكون عين تلك الصفة موجودة لهذا الموصوف، فيمتنع الواحد منها أن يوجد وجوداً لا يكون صفة له، فيمتنع أن يوجد لغيره، فيجب أن يوجد له وحده؛ وإما أن يكون وجودها له ممكناً غير واجب. فيجوز أن يكون هذا الشيء غير واجب الوجود بذاته وهو واجب الوجود بذاته، هذا خلف. فوجوب الوجود لا يكون إلاّ لواحد فقط. فإن قال قائل: إن وجوده لهذا لا يمنع وجوده صفة للآخر فكونه صفة للآخر لا يبطل وجوب كونه صفة له. فنقول: كلامنا في تعيين وجوب الوجود صفة له، من حيث هو له، من حيث لا يلتفت فيه إلى الآخر، فذلك ليس صفة للآخر بعينه؛ بل مثلها الواجب فيها ما يجب في تلك بعينها. وبعبارة أخرى نقول: إن كون الواحد منها واجب الوجود، وكونه هو بعينه، إما أن يكون واحداً، فيكون كل ما هو واجب الوجود فهو بعينه وليس غيره. وإن كان كونه واجب الوجود، غير كونه هو بعينه، فمقارنة واجب الوجود لأنه هو بعينه، إما أن يكون أمراً لذاته، أو لعلةٍ وسبب موجب غيره. فإن كان لذاته،

الصفحة    : 25

ولأنه واجب الوجود، فيكون كل ما هو واجب الوجود هذا بعينه. وإن كان لعلة وسبب موجب غيره، فلكونه هذا بعينه سبب، فلخصوصية وجوده المنفرد سبب، فهو معلول. فإذن واجب الوجود واحد بالكلية ليس كأنواع تحت جنس، وواحد بالعدد ليس كأشخاص تحت نوع، بل معنى شرح أسمه له فقط، ووجوه غير مشترك فيه. وسنزيد هذا إيضاحاً في موضع آخر. فهذه الخواص التي يختص بها واجب الوجود. وأما الممكن الوجود، فقد تبين من ذلك خاصيته وهو أنه يحتاج ضرورة إلى شيء آخر يجعله بالفعل موجوداً. وكل ما هو ممكن الوجود فهو دائماً، باعتبار ذاته، ممكن الوجود، لكنه ربما عرض أن يجب وجوده بغيره، وذلك إما أن يعرض له دائماً، وإما أن يكون وجوب وجوده عن غيره ليس دائماً، بل في وقت دون وقت. فهذا يجب أن يكون له مادة تتقدم وجوده بالزمان، كما سنوضحه. والذي يجب وجوده بغيره دائماً، فهو أيضاً غير بسيط الحقيقة، لأن الذي له باعتبار ذاته، غير الذي له من غيره، وهو حاصل الهوية منهما جميعاً في الوجود، فلذلك لا شيء غير واجب الوجود تعرّى عن ملا بسة ما بالقوة والإمكان باعتبار نفسه، وهو الفرد، وغيره زوج تركيبي.

 الفصل الثامن:   (ح)

 

الصفحة    : 26

فصل في بيان الحق والصدق والذب عن أول الأقاويل، في المقدمات الحقة   أما الحق فيفهم منه الوجود في العيان مطلقاً، ويفهم منه الوجود الدائم ويفهم منه حال القول أو العقد الذي يدل على حال الشيء في الخارج إذا كان مطابقاً له، فنقول: هذا قول حق، وهذا إعتقاد حق. فيكون الواجب الوجود هو الحق بذاته دائماً، والممكن الوجود حق بغيره، باطل في نفسه. فكل ما سوى الواجب الوجود الواحد باطل في نفسه. وأما الحق من قبل المطابقة فهو كالصادق، إلاّ أنه صادق فيما أحسب باعتبار نسبته إلى الأمر، وحق باعتبار نسبة الأمر إليه. وأحق الأقاويل أن يكون حقاً ما كان قد صدقه دائماً، وأحق ذلك ما كان صدقه أولياً ليس لعلة. وأول كل الأقاويل الصادقة الذي يتنهي إليه كل شيء في التحليل، حتى أنه يكون مقبولاً بالقوة أو بالفعل في كل شيء يُبين أو يتبين به، مكا بيناه في كتاب البرهان، هو أنه: لا واسطة بين الإيجاب والسلب. وهذه الخاصة ليست من عوارض شيء إلاّ من عوارض الموجود بما هو موجود، لعمومه في كل موجود. والسوفسطائي إذا أنكر هذا، فليس ينكره إلاّ بلسانه معانداً. أو يكون قد عرض له شبهة في أشياء فسد عليه عنده فيها طرفا النقيض لغلط جرى عليه مثلاً، لأنه لا يكون حصل له حال التناقض وشرائطه. ثم إن تبكيت السوفسطائي، وتنبيه المتحير أبداً، إنما هو في كل حال على الفيلسوف، ويكون لا محالة بضرب من المحاورة. ولا شك أن تلك المحاورة تكون ضرباً من القياس الذي يلزم مقتضاه، إلاّ أنه لا يكون في نفسه قياساً يلزم مقتضاه، ولكن يكون قياساً بالقياس. وذلك لأن القياس الذي يلزم مقتضاه على وجهين: قياس في نفسه، وهو الذي تكون مقدماته صادقة في أنفسها، وأعرف عند العقلاء من النتيجة، ويكون تأليفه تاليفاً منتجاً، وقياس كذلك بالقياس، وهو أن تكون حال المقدمات كذلك عند المحاور حتى يسلم الشيء وإن لم يكن صدقاً، وإن كان صدقاً لم يكن أعرف من النتيجة التي يسلمها، فيؤلف عليه بتأليف صخيح مطلق أو عنده. وبالجملة فقد كان القياس ما إذا سلمت مقدماته لزم منه شيء، فيكون ذلك قياساً من حيث كذا. ولكنه ليس يلزم أن يكون كل قياس قياساً يلزم مقتضاه، لأن مقتضاه يلزم إذا سلم، فإذا لم يسلم كان قياساً. لأنه قد أورد فيه ما إذا وضع وسلم لزمه، ولكن لما لم يسلم بعد لم يلزم مقتضاه، فيكون القياس قياساً، أعم من كونه قياساً يلزم مقتضاه.

 

الصفحة    : 27

وكونه قياساً يلزم مقتضاه، هو أيضاً على قسمين، على ما علمت، فالقياس الذي يلزم مقتضاه بحسب الأمر في نفسه، هو الذي مقدماته مسلمة في أنفسها، وأقدم من النتيجة. وأما الذي هو بالقياس، فالذي قد سلم المخاطب مقدماته، فتلزمه النتيجة. ومن العجائب أن السوفسطائي الذي غرضه المماراة يضظر إلى أحد الأمرين: إما إلى السكوت والإعراض، وإما إلى الإعتراف لا محالة بأشياء، والإعتراف بأنها تنتج عليه. وأما المتحير فعلاجه حل شبهة، وذلك لأن المتحير لا محالة إنما وقع فيما وقع فيه إما لما يراه من تخالف الأفاضل الأكثرين، ويشاهده من كون رأي كل واحد منهم مقابلاً لرأي الآخر الذي يجده قرنا له، لايقصر عنه، فلا يجب عنده أن يكون أحد القولين أولى بالتصديق من الآخر؛ وإما لأنه سمع من المذكورين المشهورين المشهود لهم بالفضيلة أقاويل لم يقلها عقله بالبديهة، كقول من قال: إن الشيء لا يمكنك أن تراه مرتين، بل ولا مرة واحدة، وإن لا وجود لشيء في نفسه، بل بالإضافة. فإذا كان قائل مثل هذا القول مشهوراً بالحكمة لم يكن بعيداً أن يتحير الشادي لقوله. وإما لأنه قد اجتمع عنده قياسات متقابلة النتائج ليس يقدر على أن يختار واحد منها ويزيف الآخر. فالفيلسوف يتدارك ما عرض لأمثال هؤلاء من وجهين: أحدهما حل ما وقع فيه من الشك؛ والثاني التنبيه التام على أنه لا يمكن أن يكون بين النقيضين واسطة. أما حل ما وقع فيه فمن ذلك أن يعترفه أن الناس ناس لا ملائكة. ومع ذلك فليس يجب أن يكونوا متكافئين في الإصابة، ولا يجب إذا كان واحد أكثر صواباً في شيء من آخر، أن لا يكون الآخر أكثر صواباً منه في شيء آخر. وأن يعرف أن أكثر المتفلسفين يتعلم المنطق وليس يستعمله، بل يعود آخر الأمر فيه إلى القريحة فيركبها ركوب الراكض من غير كف عنان أوجذب خطام. وأن من الفضلاء من يرمز أيضاً برموز، ويقول ألفاظاً ظاهرة مستشنعة أو خطأ وله فيها غرض خفي، بل أكثر الحكماء، بل الأنبياء الذين لا يؤتون من جهة غلطاً أو سهواً هذه وتيرتهم. فهذا يزيل شغل قلبه من جهة ما استنكر من العلماء. ثم يعرفه فيقول: إنك إذا تكلمت فلا يخلو إما أن تقصد بلفظك نحو شيء من الأشياء بعينه، أو لا تقصد، فإن قال إذا تكلمت لم أفهم شيئاً، فقد خرج هذا من جملة المسترشدين المتحيرين، وناقض الحال في نفسه، وليس الكلام معه هذا الضرب من الكلام. وإن قال: إذا تكلمت فهمت باللفظ كل شيء فقد خرج عن الإسترشاد. فإن قال: إذا تكلمت فهمت به شيئاً بعينه، أو أشياء كثيرة محدودة. فعلى كل حال فقد جعل للفظ دلالة على أشياء بعينها لا يدخل في تلك

الصفحة    : 28

الدلالة غيرها. فإن كانت تلك الكثرة تتفق في معنى واحد فقد دل أيضاً على معنى واحد، وإن لم يكن كذلك فالإسم مشترك، ويمكن لا محالة أن يفرد لكل واحد من تلك الجملة إسماً؛ فهذا يسلمه من قام مقام المسترشدين المتحيرين. وإذا كان الإسن دليلاً على شيء واحد كالإنسان مثلاً فالا إنسان، أعني ما هو مباين للإنسان لا يدل عليه ذلك الإسم بوجه من الوجوه. فالذي يدل عليه إسم الإنسان لا يكون الذي يدل عليه إسم اللا إنسان، فإن كان الإنسان يدل على اللا إنسان، فيكون لا محالة الإنسان، والحجر، والزورق، والفيل شيئاً واحداً؛ بل يدل على الأبيض، والأسود، والثقيل، والخفيف، وجميع ما هو خارج مما دل عليه إسم الإنسان. وكذلك حال المفهوم من الألفاظ هذه، فيلزم من هذا أن يكون كل شيء وأن يكون ولا شيء من الأشياء نفسه، وأن لايكون للكلام مفهوم. ثم لا يخلو إما أن يكون هذا حكم كل لفظ، وحكم كل مدلول عليه باللفظ، أو يكون بعض هذه الأشياء بهذه الصفة، وبعضها بخلافها. فإن كان هذا في كل شيء فقد عرض أن لا خطاب ولا كلام، بل لا شبهة ولا حجة أيضاً. وإن كان في بعض الأشياء قد تتميز الموجبة عن السالبة، وفي بعضها لا تتميز، فحيث تتميز يكون لا محالة ما يدل عليه الإنسان غير ما يدل عليه باللا إنسان؛ وحيث لا يتميز كالأبيض واللا أبيض يكون مدلولهما واحد، فيكون كل شيء هو لا أبيض فهو أبيض، وكل شيء هو أبيض فهو لا أبيض، فالإنسان إذا كان له مفهوم متميز فإن كان الأبيض فهو أيضاً لا أبيض الذي هو والأبيض واحد، واللا إنسان كذلك؛ فيعرض مرة أخرى أن يكون الإنسان واللا إنسان غير متميزين. فهذا ومثاله قد يزيح علة المتحير المسترشد في أن يعرف أن الإيجاب والسلب لا يجتمعان، ولا يصدقان معاً. وكذلك أيضاً قد تبين له أنهما لا يرتفعان ولا يكذبان معاً، فإنه إذا كذبا معاً في شيء، كان ذلك الشيء ليس بإنسان مثلاً، وليس أيضاً بلا إنسان. فيكون قد اجتمع الشيء الذي هو اللا إنسان وسالبه الذي هو لا لا إنسان، وقد نبه على بطلانه. فهذه الأشياء وما يشبهها مما لا يحتاج أن نطول فيه، وبحل الشبه المتقابلة من قياسات المتحير يمكننا أن نهديه. وأما المتعنت فينبغي أن يكلف شروع النار، إذ النار واللاّ نار واحد؛ وأن يؤلم ضرباً، إذا الوجع واللا وجع واحد؛ وأن يمنع الطعام والشراب، إذ الأكل والشرب وتركهما واحد. فهذا المبدأ الذي ذببنا عنه من يكذبه،هو أول مبادئ البراهين، وعلى الفيلسوف الأول أن يذب عنه. ومبادئ البراهين تنتفع في البراهين. والبراهين تنتفع في معرفة الأغراض الذاتية لموضوعاتها. لكن معرفة جوهر الموضوعات الذي كان فيما سلف يعرف بالحد فقط، فما يلزم الفيلسوف ههنا أن يحصله،

 

الصفحة    : 29

فيكون لهذا العلم الواحد أن يتكلم في الأمرين جميعاً. لكن قد يتشكك على هذا أنه إن تكلم فيها، على سبيل التحديد والتصور، فهو ذاك الذي يتكلم فيه صاحب العلم الجزئي، وإن تكلم فيها في التصديق صار الكلام فيها برهانياً. فنقول: إن هذه التي كانت موضوعات في علوم أخرى تصير عوارض في هذا العلم، لأنها أحوال تعرض للموجود، وأقسام له، فيكون ما لا يبرهن عليه في علم آخر، يبرهن عليه ههنا. وأيضاً إذا لم يلتفت إلى علم آخر وقسم موضوع هذا العلم نفسه إلى جوهر وعوارض تكون خاصة له، فيكون ذلك الجوهر الذي هو موضوع لعلم ما أو الجوهر مطلقاً، ليس موضوع هذا العلم، بل قسماً من موضوعه، فيكون ذلك بنحو ما عارضاً لطبيعة موضوعه، الذي هو موجود، إن صار ذلك الجوهر دون شيء آخر لطبيعة الموجود أن تقارنه أو يكون هو. فإن الموجود طبيعة يصح حملها على كل شيء، كان ذلك الجوهر أو غيره، فإنه ليس لأنه موجود هو جوهر، أو جوهر ما، وموضوع ما، على ما فهمت، قبل هذا، فيما سلف. ومع هذا كله فليس البحث عن مبادئ التصور والحد حداً ولا تصوراً، ولا البحث عن مبادئ البرهان برهاناً، حتى يصير البحثان المتخالفان بحدثاً واحداً.

الصفحة    : 30

المقالة الثانية

وفيها أربعة فصول

الفصل الأول:   (أ)

فصل في تعريف الجوهر وأقسامه بقول كلي

فنقول: إن الوجود للشيء قد يكون بالذات مثل وجود الإنسان إنساناً، وقد يكون بالعرض مثل وجود زيد أبيض. والأمور التي بالعرض لا تحد. فلنترك الآن ذلك ولنشتغل بالموجود، والوجود الذي بالذات. فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر، وذلك لأن الموجود قسمين: أحدهما، الموجود في شيء آخر، ذلك الشيء الآخر متحصل القوام والنوع في نفسه، وجوداً لا كوجود جزء منه، من غير أن تتضح مفارقته لذلك الشيء، وهو الموجود في موضوع؛ والثاني، الموجود من غير أن يكون في شيء من الأشياء بهذه الصفة، فلا يكون في موضوع البتة، وهو الجوهر. وإن كان ما أشير إليه في القسم الأول موجوداً في موضوع، فلذلك الموضوع لا يخلو أيضاً من أحد هذين الوصفين؛ فإن كان الموضوع جوهراً فقوام العرض في الجوهر، وإن لم يكن جوهراً كان أيضاً في موضوع ورجع البحث إلى الإبتداء، واستحال ذهاب ذلك إلى غير النهاية، كما سنبين في مثل هذا المعنى خاصة. فيكون لا محالة آخره فيما ليس في موضوع، فيكون في جوهره، فيكون الجوهر مقوم العرض موجوداً، وغير متقوم بالعرض، فيكون الجوهر هو المقدم في الوجود. وأما أنه هل يكون عرض في عرض، فليس بمستنكر، فإن السرعة في الحركة، والإستقامة في الخط، والشكل المسطح في البسيط، وأيضاً فإن الأعراض تنسب إلى الوحدة والكثرة، وهذه، كما سنبين لك، كلها أعراض. والعرض وإن كان في عرض فهماً جميعاً معاً في موضوع، والموضوع بالحقيقة هو الذي يقيمها جميعاً، وهو قائم بنفسه. ثم قد يجوز كثير ممن يدعي المعرفة أن يكون شيء من الأشياء جوهراً وعرضاً معا بالقياس إلى شيئين، فيقول: إن الحرارة عرض في غير جسم النار، لكنها في جملة النار ليست بعرض لأنها موجودة فيه كجزء، وأيضاً ليس يجوز رفعها عن النار، والنار تبقى، فإذن وجودها في النار ليس وجود العرض فيها، فإذ لم يكن وجودها فيها وجود العرض، فوجودها فيها وجود الجوهر. وهذا غلط كبير، وقد أشبعنا

الصفحة    : 31

القول فيه في أوائل المنطق، وإن لم يكن ذلك موضعه، فإنهم إنما غلطوا فيه هناك. فنقول: قد علم، فيما سلف، أن بين المحل والموضوع فرقاً، وأن الموضوع يعنى به ما صار بنفسه ونوعه قاماً، ثم صار سبباً لأن يقوم به شيء فيه ليس كجزء منه. وأن المحل كل شيء يحله شيء فيصير بذلك الشيء بحال ما، فلا يبعد أن يكون شيء موجوداً في محل ويكون ذلك المحل لم يصر بنفسه نوعاً قائماً كاملاً بالفعل، بل إنما تحصل قوامه من ذلك الذي حله وحده، أو مع شيء آخر، أو أشياء أخرى اجتمعت، فصيرت ذلك الشيء موجوداً بالفعل، أو صيرته نوعاً بعينه. وهذا الذي يحل هذا المحل يكون لا محالة موجوداً لا في الموضوع. وذلك لأنه ليس يصلح أن يقال: إنه في شيء، إلاّ في الجملة، أو في المحل، وهو في الجملة كجزء، وكان الموضوع ما يكون فيه الشيء، وليس كجزءمنه، وهو في المحل ليس كشيء حصل في شيء، ذلك الشيء قائم بالفعل نوعاً، ثم يقيم الحال فيه؛ بل هذا المحل جعلناه إنما يقوم بالفعل بتقويم ما حله، وجعلنا إنما يتم له به نوعيته إذا كانت نوعيته إنما تحصل أو تصير له نوعية باجتماع أشياء جملتها يكون ذلك النوع. فبين أن بعض ما في المحل ليس في الموضوع. وأما إثبات هذا الشيء الذي هو في محل دون موضوع، فذلك علينا إلى قريب. وإذا أثبتناه، فهو الشيء الذي يخصه في مثل هذا الموضوع بإسم الصورة، وإن كنا قد نقول لغيره أيضاً صورة باشتراك الأسم. وإذا كان الموجود لا في الموضوع هو المسمى جوهراً، فالصورة أيضاً جوهر. فأما المحل الذي لا يكون في محل آخر فلا يكون في موضوع لا محالة، لأن كل موجود في موضوع فهو موجود في محل ولا ينعكس. فالمحل الحقيقي أيضاً جوهر، وهذا المجتمع أيضاً جوهر. وقد عرفت من الخواص التي لواجب الوجود أن واجب الوجود لا يكون إلاّ واحداً، وأن ذا الأجزاء أو المكافئ لوجوده لا يكون واجب الوجود، فمن هذا يعرف أن هذا مركب، وهذه الأجزاء كلها في أنفسها، ممكنة الوجود، وأن لها لا محالة سبباً يوجب وجودها. فنقول أولاً: إن كل جوهر فإما أن يكون جسماً، وإما أن يكون غير جسم، فإن كان غير جسم فإما أن يكون جزء جسم، وإما أن لا يكون جزء جسم، بل يكون مفارقاً للأجسام بالجملة. فإن كل جزء جسم فإما أن يكون صورته، وإما أن يكون مادته. وإن كان مفارقاً ليس جزء جسم فإما أن تكون له علاقة تصرف ما في الأجسام بالتحريك ويسمى نفساً، أو يكون متبرئاً عن المواد من كل جهة ويسمى عقلاً. ونحن نتكلم في إثبات كل واحد من هذه الأقسام.

الفصل الثاني: (ب)  

الصفحة    : 32

فصل في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته. 

أما البيان أن الجسم جوهر واحد متصل وليس مؤلفاً من أجزاء لا تتجزأ، فقد فرغنا منه، وأما تحقيقه وتعريفه فقد جرت العادة بأن يقال: إن الجسم جوهر طويل عريض عميق، فيجب أن ينظر في كيفية ذلك. لكن كل واحد من ألفاظ الطول والعرض والعمق يفهم منه أشياء مختلفة. فتارة يقال: طول للخط كيفما كان، وتارة يقال طول لأعظم الخطين المحيطين بالسطح مقداراً، وتارة يقال طول لأعظم الأبعاد المختلفة الممتدة المتقاطعة كيف كانت خطاً أو غير خط، وتارة يقال طول للبعد المفروض بين الرأس ومقابله من القدم أو الذنب من الحيوان. واما العرض فيقال للسطح نفسه، ويقال لأنقص البعدين مقداراً، ويقال للبعد الواصل بين اليمين واليسار. والعمق أيضاً قد يقال لمثل البعد الواصل بين سطحين، وقد يقال له مأخوذاً ابتداء من فوق، حتى إن ابتدأ من أسفل سمي سمكاً. فهذه هي الوجوه المشورة في هذا. وليس يجب أن يكون في كل جسم خط بالفعل، فإن الكرة ليس فيها خط بالفعل البتة ولا يتعين فيها المحور ما لم تتحرك؛ وليس من شرط الكرة في أن تصير جسماً أن تكون متحركة حتى يظهر فيها محوراً أو خط آخر. فإنها تتحقق جسماً بما يحقق الجسمية، ثم يعرض لها أو يلزمها الحركة. وأيضاً الجسم ليس يجب أن يكون فيه من حيث هو جسم سطح، فإنه إنما يجب فيه من حيث يكون متناهياً، وليس يحتاج في تحققه جسماً ومعرفتنا إياه جسماً إلى أن يكون متناهياً، بل التناهي عارض لازم له، ولذلك لا يحتاج إلى تصوره جسم حين يتصور الجسم. ومن تصور جسماً غير متناه فلم يتصور جسماً لا جسماً، ولا يتصور عدم المتناهي إلاّ المتصور جسماً. لكنه أخطأ كمن قال: إن الجسم آلة، فقد أخطأ في التصديق ولم يخطئ في تصور بسيطة وهما الموضوع والمحمول. ثم إن كان لا بد للجسم في تحققه جسماً أن تكون له سطوح، فقد يكون جسم محيط به سطح واحد وهو الكرة. وليس أيضاً من شرط الجسم في أن يكون جسماً أن تكون له أبعاد متفاضلة، فإن المكعب أيضاً جسم مع أنه محاط بحدود ستة، ومع ذلك ليس فيه أبعاد متفاضلة حتى يكون له طول وعرض وعمق بأحد المعاني. ولا أيضاً يتعلق كونه جسماً بأن يكون موضوعاً تحت السماء، حتى تعرض له الجهات لأجل جهات العالم، ويكون له طول وعرض وعمق بمعنى آخر، وإن كان لا بد من أن يكون إما سماء وإما في

الصفحة    : 33

سماء. فبين من هذا أنه ليس يجب أن يكون في الجسم ثلاثة أبعاد بالفعل على الوجوه المفهومة من البعاد الثلاثة حتى يكون جسماً بالفعل. فإذا كان الأمر على هذا، فكيف يمكننا أن نضطر أنفسنا إلى فرض أبعاد ثلاثة بالفعل، موجودة في الجسم، حتى يكون جسماً، بل معنى هذا الرسم للجسم أن الجسم هو الجوهر الذي يمكنك أن تفرض فيه بعداً كيف شئت ابتداء، فيكون ذلك المبتدأ هو الطول، ثم يمكنك أن تفرض أيضاً بعداً آخر مقاطعاً لذلك البعد على قوائم، فيكون ذلك البعد الثاني هو العرض، ويمكنك أن تفرض فيه بعداً ثالثاً مقاطعاً لهذين البعدين على قوائم تتلاقى الثلاثة على موضع واحد، ولا يمكنك أن تفرض بعداً عمودياً بهذه الصفة غير هذه الثلاثة. وكون الجسم بهذه الصفة هو الذي يشار لأجله إلى الجسم بأنه طويل عريض عميق، كما يقال: إن الجسم هو المنقسم في جميع الأبعاد. وليس يعني أنه منقسم بالفعل مفروغ عنه، بل على أنه من شأنه أن يفرض فيه هذا القسم. فهكذا يجب أن يعرف الجسم، وهو أنه الجوهر الذي كذا صورته، وهو بها هو ما هو، ثم سائر الأبعاد المفروضة فيه بين نهاياته ونهاياته أيضاً وأشكاله وأوضاعه أمور ليست مقومة له، بل هي تابعة لجوهره. وربما لزم بعض الأجسام شيء منها أو كلها، وربما لم يلزم بعض الأجسام شيء منها أو بعضها. ولو أنك أخذت شمعة فشكّلتها بشكل افترض لها ابعاد بالفعل بين تلك النهايات معدودة مقدرة محدودة، ثم إذا غيرت ذلك الشكل لم يبق شيء منها بالفعل واحداً بالشخص بذلك الحد وبذلك القدر، بل حدثت أبعاد أخرى مخالفة لتلك بالعدد، فهذه الأبعاد هي التي من باب الكم. فإن اتفق أن كان جسماً، كالفلك مثلاً، تلزمه أبعاد واحدة، فليس ذلك له بما هو جسم، بل لطبيعة أخرى حافظة لكمالاته الثانية. فالجسمية بالحقيقة صورة الإتصال القابل لما قلناه من فرض الأبعاد الثلاثة. وهذا المعنى غير المقدار وغير الجسمية التعليمية. فإن هذا الجسم من حيث له هذه الصورة لا يخالف جسماً آخر بأنه أكبر أو أصغر، ولا يناسبه بأنه مساوٍ أو معدود به وعاد له أو مشارك أو مباين، وإنما ذلك له من حيث هو مقدّر ومن حيث جزء منه يعده. وهذا الإعتبار له غير اعتبار الجسمية التي ذكرنا. وهذه الأشياء قد شرحناها لك بوجه أبسط في موضع آخر يحتاج أن تستعين به.

الصفحة    : 34

ولهذا ما يكون الجسم الواحد يتخلخل ويتكاثف بالتسخين والتبريد، فيختلف مقدار جسميته. وجسميته التي ذكرناها لا تختلف ولا تتغير، فالجسم الطبيعي جوهر بهذه الصفة. وأما قولنا: الجسم التعليمي. فإما أن يقصد به صورة هذا من حيث هو محدد، مقدّر، مأخوذ في النفس، ليس في الوجود، أو يقصد به مقدار ما ذو اتصال أيضاً بهذه الصفة من حيث له اتصال محدود مقدر كان في نقش أو في مادة. فالجسم التعليمي كأنه عارض في ذاته لهذا الجسم الذي بيناه، والسطح نهايته، والخط نهاية نهايته. وسنوضح القول فيما بعد فيها، وننظر في أن الإتصال كيف يكون لها وكيف يكون للجسم الطبيعي. فنقول أولاً: إن منطباع الأجسام أن تنقسم ولا يكفي في إثبات ذلك المشاهدات؛ فإن لقائل أن يقول: إن الأجسام المشاهدة ليس شيء منها هو جسم واحد صرفاً، بل هي مؤلفة من أجسام، وإن الأجسام الوحدانية غير محسوسة، وأنها لا يمكن أن تنقسم بوجه من الوجوه. وقد تكلمنا على إبطال هذا بالبيانات الطبيعية، وخصوصاً على أسهل المذاهب نقضاً، وهو مذهب من خالف بينها بالأشكال. فإن قال قائل: إن طبائعها و أشكالها متشاكلة. فحينئذ يجب أن يبطل مذهبه ورأيه بما أقول. فنقول: إن جعل أصغر الأجسام لا قسمة فيه لا بالقوة ولا بالفعل حتى كان كالنقطة جملة، فإن ذلك الجسم يكون لا محالة حكمه حكم النقطة في امتناع تأليف الجسم المحسوس عنه، وإن لم يكن كذلك، بل كان في ذاته بحيث يمكن أن يفرد منه قسم عن قسم. لكنه ليس يطيع الفصل المفرق بين القسمين اللذين يمكن فرضهما فيه توهماً. فنقول: لا يخلو إما أن يكون حال ما بين القسم والقسم مخالفة لحال ما بين الجزء والجزء في أن الجزئين لا يلتحمان وأن القسمين لا يفترقان، أمراً لطبيعة الشيء وجوهره، أو من سبب من خارج الطبيعة والجوهر. فإن كان سبباً من خارج عن الطبيعة والجوهر فإما أن يكون سبباً يتقوم به الطبيعة والجوهر بالفعل كالصورة للمادة والمحل للعرض، أو سبباً لا يتقوم به. فإن كان سبباً لا يتقوم به فجائز من حيث الطبيعة والجوهر أن يكون بينهما إلتئام عن افتراق وافتراق عن إلتئام، فتكون هذه الطبيعة الجسمية باعتبار نفسها قابلة للإنقسام و إنا لا تنقسم بسبب من خارج. وهذا القدر يكفينا فيما نحن بسبيله. وأما إن كان ذلك السبب يقوم به كل واحد من الأجزاء إما تقوماً داخلاً في طبيعته وماهيته، أو تقوماً في وجوده بالفعل غير داخل في ماهيته مختلفاً فيه فيعرض أول ذلك أن هذه الأجسام مختلفة الجواهر.

الصفحة    : 35

وهؤلاء لا يقولون به. وثانياً أن طبيعة الجسمية التي لها لا يكون مستحيلاً عليها ذلك وإنما يستحيل ذلك عليها من حيث صورة تنوعها، ونحن لا نمنع ذلك، ويجوز أن يقارن الجسمية شيء يجعل ذلك الجسم قائماً نوعاً لا يقبل القسمة ولا الإتصال بغيره؛ وهذا قولنا في الفلك. والذي يحتاج إليه ههنا هو أن تكون طبيعة الجسمية لا تمنع ذلك بما هي طبيعة الجسمية. فنقول أولاً: قد تحققنا أن الجسمية من حيث هي جسمية ليست غير قابلة للإنقسام، ففي كلطباع الجسمية أن تقبل الإنقسام. فيظهر من هذا أن صورة الجسم والأبعاد قائمة في شيء. وذلك أن هذه الأبعاد هي الإتصالات أنفسها أو شيء يعرض للإتصال، على ما سنحققها، وليست أشياء يعرض لها الإتصال. فإن لفظ الأبعاد إسم لنفس الكميات المتصل لا للأشياء التي تعرض لها الإتصال. والشيء الذي هو الإتصال نفسه أو المتصل بذاته فمستحيل أن يبقى هو بعينه، وقد يظل الإتصال. فكل إتصال بُعد إذا انفصل بطل ذلك البعد وحصل بعدان آخران. وكذلك إذا حصل إتصال، أعني الإتصال بالمعنى الذي هو فصل لا عروض، وقد بينا هذا في موضع آخر. فقد حدث بعد آخر وبطل كل واحد مما كان بخاصيته. ففي الأجسام إذن شيء موضوع للإتصال والإنفصال، ولما يعرض للإتصال من المقادير المحدودة. وأيضاً فإن الجسم من حيث هو جسم له صورة الجسمية، فهو شيء بالفعل؛ ومن حيث هو مستعد أي استعداد شئت فهو بالقوة؛ ولا يكون الشيء من حيث هو بالقوة شيئاً هو من حيث هو بالفعل شيئاً آخر، فتكون القوة للجسم لا من حيث له الفعل. فصورة الجسم تقارن شيئاً آخر غير له في أنه صورة، فيكون الجسم جوهراً مركباً من شيء عنه له القوة، ومن شيء عنه له الفعل. فالذي له به الفعل هو صورته، والذي عنه بالقوة هو مادته، وهو الهيولي. ولسائل أن يسأل ويقول: فالهيولي أيضاً مركبة، وذلك لأنها في نفسها هيولي وجوهر بالفعل، وهي مستعدة أيضاً. فنقول: إن جوهر الهيولي وكونها بالفعل هيولي ليس شيئاً آخر إلاّ أنه جوهر مستعد لكذا، والجوهرية التي لها تجعلها بالفعل شيئاً من الأشياء، بل تُعدها لأن تكون بالفعل شيئاً بالصورة. وليس معنى جوهريتها إلاّ أنها أمر ليس في موضوع. فالإثبات ههنا هو أنه أمر، وأما أنه ليس في موضوع فهو سلب، "وأنه أمر" ليس يلزم منه أن يكون شيئاً معيناً بالفعل لأن هذا عام، ولا يصير الشيء بالفعل شيئاً بالأمر العام ما لم يكون له فصل يخصه وفصله أنه مستعد لكل شيء، فصورته التي تظن له هي أنه مستعد قابل.

الصفحة    : 36

فإذن ليس ههنا حقيقة للهيولي تكون بها بالفعل، وحقيقة أخرى بالقوة؛ إلاّ أن يطرأ عليه حقيقة من خارج، فيصير بذلك الفعل وتكون، في نفسها واعتبار وجود ذاتها، بالقوة. وهذخ الحقيقة هي الصورة. ونسبة الهيولي إلى هذين المعنيين أشبه بنسبة البسيط إلى ما هو جنس وفصل من نسبة المركب إلى ما هو هيولي وصورة. فقد بان من هذا أن صورة الجسمية من حيث هي صورة الجسمية محتاجة إلى مادة، ولأن طبيعة الصورة الجسمية في نفسها من حيث هي صورة جسمية لا تختلف. فإنها طبيعية واحدة بسيطة، ليس يجوز أن تتنوع بفصول تدخل عليها بما هي جسمية، فإن دخلتها فصول تكون أموراً تنضاف إليها من خارج، وتكون أيضاً إحدى الصور المقارنة للمادة، ولا يكون حكمها معها حكم الفصول الحقيقية. وبيان هذا هو أن الجسمية إذا خالفت جسمية الأخرى فيكون لأجل أن هذه حارة وتلك باردة، أو هذه لها طبيعة فلكية وتلك لها طبيعة أرضية. وليس هذا كالمقدار الذي ليس هو في نفسه شيئاً محصلاً ما لم يتنوع بأن يكون خطاً أو سطحاً أو جسماً، وكالعدد الذي هو ليس شيئاً محصلاً ما لم يتنوع أثنين أو ثلاثة أو أربعة. ثم إذا تحصل لا يكون تحصيله بأن ينضاف إليه شيء من خارج، وتكون الطبيعة الجنسية كالمقدارية أو العددية دونها طبيعة قائمة مشار إليها تنضاف إليها طبيعة أخرى فتتنوع بها؛ بل تكون طبيعة الإثنينية نفسها هي العددية التي تحمل على الإثنينية وتختص بها، والطولية نفسها هي المقدارية التي تحمل عليها وتختص بها. وأما ههنا فلا يكون كذلك، بل الجسمية إذا أضيف إليها صورة أخرى لا تكون تلك الصورة التي تظن فصلاً والجسمية باجتماعها جسمية، بل تكون الجسمية أحدهما متحصلة في نفسها متحققة. فإنا نعني ههنا بالجسمية التي كالصورة لا التي كالجنس، وقد عرفت الفرق بينهما في كتاب البرهان، وسيأتيك ههنا إيضاح وبيان لذلك. على أنك قد تحققت فيما تبين لك الفرق بينهما، ما كان كالمقدار يجوز أن تكون أنواعه تختلف بأمور لها في ذاتها؛ والمقدار المطلق لا يكون له في ذاته شيء منها، وذلك لأن المقدار المطلق لا تتحصل له ذات متقررة إلاّ أن تكون خطاً أو سطحاً، فإذا تحصل خطاً أو سطحاً جاز أن يكون للخط لذاته، مخالفة للسطح بفصل هو محصل لطبيعة المقدارية، خطاً أو سطحاً. وأما الجسمية التي نتكلم فيها فهي في نفسها طبيعة محصلة، ليس تحصل نوعيتها بشيء ينضم إليها، حتى لو توهمنا أنه لم ينضم إلى الجسمية معنى، بل كانت جسمية لم يكون متحصلاً في أنفسنا إلاّ مادة

الصفحة    : 37

وإتصال فقط. وكذا إذا أثبتنا مع الإتصال شيئاً آخر فليس لأن الإتصال نفسه لا يتحصل لنا إلاّ بإضافته إليه وقرنه به، بل بحجج أخرى تبين أن الإتصال لا يوجد بالفعل وحده. فليس أن لا يوجد الشيء بالفعل موجوداً هو أن لا تتحصل طبيعته، فإن البياض والسواد كل شيء منهما متحصل الطبيعة معنى متخصصاً، أتم تخصيصه الذي هو في ذاته؛ ثم لا يجوز أن يوجد بالفعل إلاّ في مادة. وأما المقدار مطلقاً فيستحيل أن يتحصل طبيعة مشاراً إليها إلاّ أن يتحصل بالضرورة خطاً أو سطحاً، حتى يصير جائزاً أن يوجد، لا أن المقدار يجوز أن يوجد مقداراً، ثم يتبعه أن يكون خطاً أو سطحاً على سبيل أن ذلك شيء لا يوجد الأمر دونه بالفعل. وإن كان متحصل الذات، فإن هذا ليس كذلك، بل الجسمية تتصور أنها وجدت بالأسباب التي لها أن توجد بها وفيها وهي جسمية فقط بلا زيادة، والمقدار لا يتصور أنه وجد بالأسباب التي له أن يوجد بها وفيها وهو مقدار فقط بلا زيادة. فذلك المقدار لذاته يحتاج إلى فصول حتى يوجد شيئاً متحصلاً، وتلك الفصول ذاتيات له لا تحوجه إلى أن يصير لحصولها غير المقدار. فيجوز أن يكون مقداراً يخالف مقداراً في أمر له بالذات. وأما صورة الجسمية من حيث هي جسمية فهي طبيعة واحدة بسيطة محصلة لا اختلاف فيها، ولا تخالف مجرد صورة جسمية لمجرد صورة جسمية بفصل داخل في الجسمية، وما يلحقها إنما يلحقها على أنها شيء خارج عن طبيعتها. فلا يجوز إذن أن تكون جسمية محتاجة إلى مادة، وجسمية غير محتاجة إلى مادة. واللواحق الخارجية لا تغنيها عن الحاجة إلى المادة بوجه من الوجوه، لأن الحاجة إلى المادة إنما تكون للجسمية ولكل ذي مادة لأجل ذاته، وللجسمية من حيث هي جسمية لا من حيث هي جسمية مع لاحق. فقد بان أن الأجسام مؤلفة من مادة وصورة.

الفصل الثالث (ج)

الصفحة    : 38

فصل في أن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة.

ونقول الآن إن هذه المادة الجسمانية يستحيل أن توجد بالفعل متعرية عن الصورة. ومما يوضح ذلك بسرعة أنا بينا أن كل وجود يوجد فيه شيء بالفعل محصل قائم، وأيضاً استعداد لقبول شيء آخر، فذلك الوجود مركب من مادة وصورة، والمادة الأخيرة غير مركبة من مادة وصورة. وأيضاً إنها فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو إما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ، أو لا يكون، فإن كان لها وضع وحيز وكان يمكن أن تنقسم فهي لا محالة ذات مقدار وقد فرض لا مقدار لها، وإن لم يمكن أن تنقسم ولها وضع فهي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي إليها خط، ولا يجوز أن تكون مفردة الذات منحازة، على ما علمت في مواضع. وأنا إن كان هذا الجوهر لا ضع له ولا إليه إشارة، بل هو كالجواهر المعقولة، لم يخل إما أن يحل فيه البُعد المحصل بأسره دفعة، أو يتحرك هو إلى كمال مقداره تحركاً على الإتصال. فإن حل فيه المقدار دفعة وحصل لا محالة مع تقدره في حيز مخصوص فيكون قد صادفه المقدار مختصاً بحيز، وإلاّ لم يكن حيز أولى به من حيز، فقد صادفه المقدار حيث انضاف إليه، فيكون لا محالة قد صادفه وهو في الحيز الذي هو فيه، فيكون ذلك الجوهر متحيزاً، إلاّ أنه عساه أة لا يكون محسوساً، وقد قد فرض غير متحيز البتة، هذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة من قبول المقدار، لأن المقدار إن وافاه وليس هو في حيز كان المقدار يقترن به لا في حيز، ولم يكن يوافيه في حيز مخصوص من الأحياز المختلفة المحتملة له، فيكون حينئذ لا حيز له، وهذا محال؛ أو يكون في كل حيز يمكن أن يكون له لا يخصصه ببعضه، وهذا أيضاً محال. وهذا يظهر ظهوراً أكثر في توهمنا الهيولي مدرة ما قد تجردت ثم حصل حصل فيها صورة تلك المدرة، فلا يجوز أن تحصل فيها وليست في حيز، ولا يجوز أن تكون تلك المدرة تحصل في كل حيز هو بالقوة حيز طبيعي للمدرة، فإن المدرية لا تجعلها شاغلة لكل حيز لنوعها، ولا تجعلها أولى بجهة من حيزها دون جهة، ولا يجوز أن توجد إلاّ في جهة مخصوصة من جملة كلية الحيز، ولا يجوز أن تتحصل في جهة مخصوصة، ولا مخصص له بها من الأحوال. إذ ليس إلاّ اقتران صورة بمادة، وذلك مشترك الإحتمال للحصول في أي جهة كانت من الجهات الطبيعية لأجزاء الأرض. وقد علمت أن مثل هذا الحصول في جهة من الحيز إنما يكون فيما يكون بسبب وقوعه بالقرب منه بقسر قاسر خصص ذلك القرب باتجاهه إلى ذلك المكان بعينه بالحركة المستقيمة أو حدوثه في الإبتداء هناك. وبذلك القرب

الصفحة    : 39

أو وقوعه فيه بنقل ناقل لذلك تخصص، وقد أشبع لك الكلام في هذا. فالهيولي التي للمدرة لا تختص بعد التجريد، لم ليس صورة للمدرية بجهة إلاّ أن يكون لها مناسبة مع تلك الجهة لتلك المناسبة لا ليس لكونها هيولي أولاً؛ ولا لنفس إكتسابها بالصورة ثانياً تخصصت بها؛ وتلك المناسبة وضع ما. وكذلك إن كان قبوله المقدار بكمله لا دفعة، بل هو على انبساط، وعلى أن كل ما من شأنه أن ينبسط، فله جهات، وكل ما له جهات فهو ذو وضع فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وحيز، وقيل لا وضع له ولا حيز، وهذا خلف. والذي أوجب هذا كله فَرضُنا أنه يفارق الصورة الجسمية، فيمتنع أن يوجد بالفعل إلاّ متقوماً بالصورة الجسمية، وكيف تكون ذاتٌ لا حيز لها في القوة ولا في الفعل تقبل الكم؟ فتبين أن المادة لا تبقى مفارقة. وأيضاً فإنها لا تخلو إما أن يكون وجودها وجود قابل، فيكون دائماً قابلاً لشيء لا يعرى عن قبوله لها، وإما أن يكون لها وجود خاص متقوم، ثم يلحق به أن يقبل بوجودها الخاص المتقوم غير ذي كم وغير ذي حيز، فيكون المقدار الجسماني هو الذي عرض له وصير ذاته بحيث له بالقوة أجزاء بعد ما آن لذاته أن تقوّم جوهراً في نفسه غير ذي حيز ولا كمية ولا قبول قسمة. فإن كان قبوله الخاص الذي يتقوم به لا يبقى عند التكثر أصلاً، فيكون ما هو متقوم بأنه لا حيز له، ولا ينقسم بالوهم، والعرض يعرض له أن يبطل عنه ما يتقوم به الفعل لورود عارض عليه، وإن كانت تلك الوحدانية لا لما تقوّم به الهيولي؛ بل لأمر آخر. ويكون ما فرضناه وجوداً خاصاً به يتقوم، فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل، وصورة أخرى عارضة بها تكون تكون غير واحدة بالقوة والفعل. فيكون بين الأمرين شيء مشترك، هو قابل للأمرين، من شأنه أن يصير مرة وليس في قوته أن ينقسم ومرة أخرى وفي قوته أن ينقسم أعني القوة القريبة التي لا واسطة لها. فلنفرض الآن هذا الجوهر وقد صار بالفعل اثنين، وكل واحد منهما بالعدد غير الآخر، وحكمه أنه يفارق الصورة الجسمانية، فليفارق كل واحد منهما الصورة الجسمانية، فيبقى كل واحد منهما جوهراً واحداً بالقوة والفعل. ولنفرضه بعينه أنه لم ينقسم إلاّ أنه أزيل عنه الصورة الجسمانية حتى يبقى جوهراً واحداً بالقوة والفعل، فلا يخلو إما أن يكون بعينه هذا الذي يبقى جوهراً وهو غير جسم، هو بعينه مثل الذي هو كجزئه الذي بقي كذلك مجرداً أو يخالفه؛ فإم خالفه فلا يخلو إما أن يكون لأن هذا بقي وذلك

الصفحة    : 40

عُدم، أو بالعكس، أو يكون كلاهما قد بقيا - ولكن تختص بهذا كيفية أو صورة لا توجد إلاّ لذلك - أو يختلفان بالتفاوت بعد الإتفاق في المقدار أو الكيفية أو غير ذلك. فإن بقي أحدهما وعُدم الآخر، والطبيعة واحدة، متشابهة، وإنما أعدَم أحدهما رَفعُ الصورة الجسمانية فيجب أن يعدم الآخر ذلك بعينه. وإن اختص بهذا كيفية، والطبيعة واحدة ولم تحدث حالة إلاّ مفارقة للصورة الجسمانية، ولم يحدث مع هذه حالة إلاّ ما يلزم هذه الحالة، فيجب أن يكون حال الآخر كذلك. فإن قيل: إن الأولين وهما اثنان متحدان فيصيران واحداً؛ فنقول: ومحال أن يتحد جوهران، لأنهما إن اتحدا وكل منهما موجود فهما اثنان لا واحد، وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعاً باالإتحاد وحدث شيء ثالث منهما فهما غير متحدين بل فاسدين، وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة، وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة. وأما إن إختلفا بالتفاوت في المقدار أو غير ذلك، فيجب أن يكونا وليس لهما صورة جسمانية ولهما صورة مقدارية، وهذا خلف. وأما إن لا يختلفا بوجه من الوجوه، فيكون حينئذ حكم الشيء لو لم ينفصل عنه ما هو غيره، هو حكمه بعينه وقد انفصل عنه غيره، وحكمه مع غيره وحكمه وحده ومن كل جهة حكماً واحداً، هذا خلف. أعني أن يكون حكم بعض الموضوع وحكم كله واحداً من كل جهة، أعني أن يكون لو كان الشيء لن ينقص بأن يؤخذ منه شيء كما إذا أخذ منه شيء، وحكمه ولم يضف إليه شيء حكمه وقد أضيف إليه شيء. وبالجملة كل شيء يجوز في وقت من الأوقات أن يصير اثنين، ففي طباع ذاته استعداد للإنقسام لا يجوز أن يفارقه، وربما يمتنع عنه بعارض غير استعداد الذات، وذلك الاستعداد محال إلاّ بمقارنة المقدار للذات. فبقي أن المادة لا تتعرى عن الصورة الجسمية. ولأن هذا الجوهر إنما صار كمّاً بمقدار حله،فليس بكم ذاته، فليس يجب أن تختص ذاته بقبول قطر بعينه دون قطر وقدر دون قدر، وإن كانت الصورة الجسمية واحدة ونسبة ما هو غير مجتزئ ولا مكمّم في ذاته، بل إنما يتجزأ ويتكمم بغيره إلى أي مقدار يجوز وجوده نسبة واحدة، وإلاّ فله مقدار في ذاته يطابق ما يساويه دون ما يفضل عليه. فبين من هذا أنه يمكن أن تصغر المادة بالتكاثف وتكبر بالتخلخل، وهذا محسوس بل يجب أن يكون

الصفحة    : 41

تعين المقدار عليها بسبب يقتضي في الوجود ذلك المقدار. وذلك لسبب لايخلو إما أن يكون أحد الصور والأعراض التي تكون في المادة، أو سبباً من خارج. فإن كان سبباً من خارج فإما أن يفيد ذلك المقدار المقدر بتوسط أمر آخر أو بسبب استعداد خاص. فيكون حكم هذا وحكم القسم الأول واحداً يرجع إلى أن الأجسام لإختلاف أحوالها تختلف مقاديرها. وإما أن لا تكون الإفادة بسبب ذلك وبتوسطه، فتكون الأجسام متساوية الإستحقاق للكم ومتساوية الأحجام، وهذا كاذب. ومع ذلك أيضاً فليس يجب أن يصدر عن ذلك السبب حجم بعينه دون حجم إلاّ لأمر، وأعني بذلك الأمر شرطاً ينضاف إلى المادة به تستحق المقدار المعين لا لنفس كونها مادة ولا أيضاً لكونها مادة لها مصور بالكمية، بل يكون للمادة شيء لأجله تستحق أن يصورها المصور بذلك الحجم والكمية. ويجوز أن تختلف بالنوع مطلقاً، ويجوز أن تختلف بالأشد والأضعف ليس بالنوع مطلقاً، وإن كان الأشد والأضعف قد يقارب الإختلاف في النوع، لكن بين الإختلاف بالنوع مطلقاً وبين الإختلاف بالأشد والأضعف مخالفة معلومة عند المعتبرين فقد علم ان الهيولي قد تتهيأ بعينها لمقادير مختلفة وهذا أيضاً مبدأ للطبيعيات. وأيضاً فإن كل جسم يختص لا محالة بحيز من الأحياز، و ليس له الحيز الخاص به بما هو جسم، وإلاّ لكان كل جسم كذلك، فهو إذن لا محالة مختص به لصورة ما في ذاته، وهذا بين. فإنه إما أن يكون غير قابل للتشكيلات والتفصيلات فيكون بصورة ما صار كذلك لأنه بما هو جسم قابل له، وإما أن يكون قابلاً لها بسهولة أو بعسر. وكيف ما كان، فهو على إحدى الصور المذكورة في الطبيعيات. فإذن المادة الجسمية لا توجد مفارقة للصورة. فالمادة إذن إنما تتقوم بالفعل بالصورة، فإذن المادة إذا جردت في التوهم، فقد فعل بها ما لا يثبت معه في الوجود.

الفصل الرابع:   (د)

الصفحة    : 42

فصل في تقديم الصورة على المادة في مرتبة الوجود.

فقد صح أن المادة الجسمانية إنما تقوم بالفعل عند وجود الصورة، وأيضاً فإن الصورة المادية ليست توجد مفارقة للمادة. فلا يخلو إما أن تكون بينهما علاقة المضاف فلا تعقل ماهية كل واحد منهما إلاّ مقولة بالقياس إلى الآخر. وليس كذلك، فإنا نعقل كثيرأ من الصورة الجسمانية، ونحتاج إلى تكلف شديد حتى نثبت أن لها مادة، وكذلك هذه المادة نعقلها الجوهر المستعد، ولا نعلم من ذلك أن ما تستعد له يجب أن يكون فيه منه شيء بالفعل إلاّ يبحث وينظر. نعم هي من حيث هي مستعدة مضافة إلى مستعد له وبينهما علاقة الإضافة، لكن كلامنا في مقايسة ما بين ذاتيهما دون ما يعرض لهما من إضافة أو يلزمهما، وقد عرفت كيف هذا. وأيضاً فإن كلامنا في الحال بين المادة وبين الصورة من حيث هي موجودة. والإستعداد لا يوجب علاقة مع شيء هو موجود لا محالة، وإن كان يجوز ذلك فلا يخلو إما أن تكون العلاقة بينهما علاقة ما بين العلة والمعلول، وإما أن تكون العلاقة بينهما علاقة أمرين متكافئي الوجود ليس أحدهما علة ولا معلولاً للآخر، ولكن لا يوجد أحدهما إلاّ والآخر يوجد. وكل شيئين ليس أحدهما علة للآخر ولا معلولاً له ثم بينهما هذه العلاقة فلا يجوز أن يكون رفع أحدهما علة لرفع علة الآخر من حيث هو ذات، بل يكون أمراً معه، أعني يكون رفعاً لا يخلو عن أن يكون مع رفع، لا رفعاً موجب رفع، إن كان ولا بد. وقد عرفت الفرق بين الوجهين، فقد عرفت أن الشيء الذي رفعه علتة لرفع شيء آخر فهو علته، فقد بان هذا لك قبل في مواضع على التفصيل وسيزداد إيضاحاً في خلل ما نفهمه. وأما الآن فقد علمت، ههنا، أنه فرق بين أن يقال في الشيء: إن رفعه علة لرفع شيء؛ وبين أن يقال: لا بد من أن يكون مع رفعه رفع شيء. فإن كان ليس رفع أحد هذين الشيئين المذكورين علة لرفع الآخر، بل لا بد من أن يكون مع رفعه إرتفاع الآخر، فلا يخلو إما أن يكون رفع المرفوع منهما يوجب رفع شيء ثالث غيرهما، أو يجب عن رفع شيء ثالث، حتى أنه لولا رفع عَرض لذلك الثالث لم يمكن رفع هذا، أو لا يكون شيء من ذلك. فإن لم يمكن، بل كان ليس يرتفع هذا إلاّ مع ذلك، وذلك إلاّ مع هذا من غير سبب ثالث غير طبيعتهما، فطبيعة كل واحد منهما متعلقة في الوجود، بالفعل، بالآخر. فإما أن يكون ذلك لماهيتهما فتكون مضافة، وقد بان أنها ليست مضافة؛ وإما أن يكون في وجودهما. وبين أن مثل هذا لا يكون واجب الوجود فيكون في ماهيته ممكن الوجود، لكنه يصير بغيره واجب الوجود

الصفحة    : 43

فلا يجوز البتة أن يصير واجب الوجود بذلك الآخر؛ فقد بينا هذا. فيجب أن يصير واجب الوجود هو وصاحبه معه في آخر الأمر، إذا ارتقينا إلى العلل بشيء ثالث، ويكون ذلك الشيء الثالث، من حيث هو علة بالفعل لوجوب أحدهما، لا يصح رفع أحدهما إلاّ برفع كونه علة بالفعل. فيكون هذان إنما يرتفعان برفع سبب ثالث، وقد قلنا ليس كذلك، هذا خلف. فقد بطل هذا، وبقي الحق أحد القسمين الآخرين. فإن كان رفعهما بسبب رفع شيء ثالث حتى يكونا هما معلولاه، فلننظر كيف يمكن أن تكون ذات كل واحد منهما تتعلق بمقارنة ذات الآخر. فإنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما يجب وجوده من العلة بواسطة صاحبه، فيكون كل واحد منهما هو العلة القريبة لوجوب وجود صاحبه، وهذا محال، فقد بان أن هذا مستحيل فيما سلف من أقاويلنا؛ وإما أن يكون أحدهما بعينه أقرب إلى هذا الثالث، فيصير هو العلة الواسطة، والثاني هو المعلول، ويكون الحق هو القسم الذي قلنا: إن العلاقة بينهما علاقة يكون بها أحدهما علة الآخر والآخر معلولاً. فأما إن كان رفع أحدهما يوجب رفع ثالث يجب عن رفعه رفع الثاني منهما، فقد صار أحدهما علة العلة، وعلة العلة علة. والأمر يتقرر في آخره على أن يكون أحدهما معلولاً والآخر علة. فلننظر الآن أيهما ينبغي أن تكون العلة منهما. فأما المادة فلا يجوز أن تكون هي العلة لوجود الصورة، أما أولاً: فلأن المادة إنما هي مادة، لأن لها قوة القبول والاستعداد، والمستعد بما هو مستعد لا يكون سبباً لوجود ما هو مستعد له، ولو كان سبباً لوجب أن يوجد ذلك دائماً له من غير استعداد. وأما ثانياً: فإنه من المستحيل أن تكون ذات الشيء سبباً لشيء بالفعل وهو بعد بالقوة؛ بل يجب أن تكون ذاته قد صارت بالفعل، ثم صار سبباً لشيء آخر، سواء كان هذا التقدم بالزمان أو بالذات، أعني ولو لم يكن البتة موجوداً إلاّ وهو سبب للثاني، وإلاّ أن يقوم به الثاني بالذات، ولذلك يكون متقدماً بالذات. وسواء كان ما هو سبب له يقارن ذاته أو يكون مفارقاً ذاته، فإنه يجوز أن يكون بعض أسباب وجود الشيء إنما يكون عنه وجود شيء يكون مقارناً لذاته، وبعض أسباب وجود الشيء إنما يكون عنه وجود شيء مباين لذاته، فإن العقل ليس ينقبض عن تجويز هذا. ثم البحث يوجب وجود القسمين جميعاً، فإن كانت المادة سبباً للصورة فيجب أن تكون لها ذات بالفعل أقدم من الصورة، وقد منعنا هذا منعاً ليس بناؤه على أن ذاته لا يمكن أن يوجد إلاّ ملتزماً لمقارنة الصورة؛ بل على أن ذاته يستحيل وجودها أن يكون بالفعل إلاّ بالصورة؛ وبين الأمرين فرق. وأما ثالثاً فإنه إذا كانت المادة هي العلة القريبة للصورة، والمادة لا اختلاف لها في ذاتها، وما يلزم عن

الصفحة    : 44

الشيء الذي لا اختلاف فيه لا اختلاف فيه البتة، فكان يجب أن تكون الصورة المادية لا اختلاف فيها. فإن كان اختلافها لأمور تختلف من أحوال للمادة، فتكون تلك الأمور هي الصور الأولى في المادة، ويعود الكلام بأصله جذعاً. فإن كان علة وجود هذه الصور المختلفة المادة وشيء آخر مع المادة ليس في المادة، حتى لا تكون المادة وحدها هي العلة القريبة، بل المادة وشيء آخر فيكون ذلك الشيء الآخر والمادة إذا اجتمعا جميعاً حصل صورة ما معينة في المادة. وإن كان شيء غير ذلك الآخر واجتمع مع المادة حصلت صورة غير تلك الصورة المعينة، فتكون المادة في الحقيقة لها قبول الصورة. وأما خاصية كل صورة فإنما تكون عن تلك العلل. وإنما تكون كل صورة هي هي بخاصيتها فتكون علة وجود كل صورة بخاصيتها هي الشيء الخارج، ولا يكون للمادة في تلك الخاصية صنع، وإنما كانت تلك الصورة موجودة وجودها بتلك الخاصية، فيكون لا صنع للمادة في خصوصية وجود كل صورة، إلاّ أنها لا بد منها في أن توجد لصورة فيها، وهذه خاصية العلة القابلية، فيبقى لها القبول فقط. فقد بطل أن تكون المادة علة للصورة بوجه من الوجوه. وقد بقي أن تكون الصورة وحدها هي التي بها يجب وجود المادة. فلننظر هل يمكن أن تكون الصورة وحدها هي التي بها يجب وجود المادة. فنقول: أما الصورة التي لا تفارقها مادتها فذلك جائز فيها، وأما الصورة التي تفارق المادة، وتبقى المادة موجودة بصورة أخرى، فلا يجوز ذلك فيها. وذلك لأن هذه الصورة، لو كانت وحدها لذاتها علة، لكانت المادة تعدم بعد عدمها، وتكون للصورة المستأنفة مادة أخرى توجد عنها، ولكانت تلك المادة حادثة، ولكان يحتاج لها إلى مادة أخرى. فيجب إذن أن تكون علة وجود المادة شيئاً مع الصورة، حتى تكون المادة إنما يفيض وجودها عن ذلك الشيء. لكن يستحيل أن يكمل فيضانه عنه بلا صورة البتة، بل إنما يتم الأمر بهما جميعاً. فيكون تعلق المادة في وجودها بذلك الشيء وبصورة كيف كانت تصدر عنه فيها، فلا تعدم بعدم الصورة، إذ الصورة لا تفارقها إلاّ لصورة أخرى تفعل مع العلة - التي عنها مبدأ وجود المادة - ما كانت تفعله الصورة الأولى. فيما أن هذا الثاني يشارك الأول في أنه صورة، يشاركه في أنه يعاونه على إقامة هذه المادة، وبما يخالفه يجعل المادة بالفعل جوهراً غير الجوهر الذي كان يفعله الأول. فكثير من الأمور الموجودة إنما تتم بوجود شيئين، فإن الإضاءة والإنارة إنما تحصل بسبب مضيء، ومن كيفية لا بعينها تجعل الجسم منير قابلاً لأن ينفذ فيه الشعاع ولا ينعكس ثم تكون تلك الكيفية تقيم الشعاع على خاصية غير الخاصية التي تقيمه كيفية أخرى من الألوان.

الصفحة    : 45

ويجب أن لا تناقش فيما لَفَظنا به من نفوذ الشعاع و انعكاسه، بعد أنك بالغرض بصير. ولا يبعد - إذا تأملت - أن تجد لهذا أمثلة أشد موافقة ولا يضرك أن لا تجد أيضاً مثالاً، فإنه ليس يجب أن يكون لكل شيء مثال. ولقائل أن يقول: إنه إن كان تعلق المادة بذلك الشيء وبصورة فيكون مجموعهما كالعلة له، وإذا أبطلت الصورة بطل هذا المجموع الذي هو العلة، فوجب أن يبطل المعلول. فنقول: إنه ليس تعلق المادة بذلك الشيء وبالصورة، من حيث الصورة صورة معينة بالنوع، بل من حيث هي صورة. وهذا المجموع ليس يبطل البتة، فإنه يكون دائماً موجوداً ذلك الشيء، والصورة من حيث هي صورة، فيكون لو لم يكن ذلك الشيء لم تكن المادة؛ ولو لم تكن الصورة من حيث هي صورة لم تكن المادة. ولو أبطلت الصورة الأولى لا بسبب تعقب الثاني لكان يكون ذلك الشيء المفارق وحده، ولا يكون الشيء الذي هو الصورة من حيث هو صورة. فكان يستحيل أن يفيض من ذلك الشيء وجود المادة، إذ هو وحده بلا شريك أو شريطة. ولقائل أن يقول: إن مجموع ذلك: العلة والصورة ليس واحداً بالعدد، بل واحد بمعنى عام، والواحد بالمعنى العام لا يكون علة للواحد بالعدد، ولمثل طبيعة المادة فإنها واحدة بالعدد. فنقول: إنا لا نمنع أن يكون الواحد بالمعنى العام المستحفظ وحده عمومه بواحد العدد علة الواحد بالعدد؛ وههنا كذلك، فإن الواحد بالنوع - مستحفظ بواحد العدد - هو المفارق. فيكون ذلك الشيء يوجب المادة، ولا يتم إيجابها إلاّ بأحد أمور تقارنه، أيها كانت. وأما هذا الشيء فستعلمه بعد. فالصور إما صور لا تفارقها المادة، وإما صور تفارقها المادة ولا تخلو المادة عن مثلها. فالصور التي تفارق المادة إلى عاقب، فإن معقبها فيها يستبقيها بتعقيب تلك الصورة، فتكون الصورة من وجه واسطة بين المادة المستبقاة وبين مستبقيها، والواسطة في التقويم، فإنه أولاً يتقوم ذاته، ثم يقوم به غيره أولية بالذات، وهي العلة القريبة من المستبقى في البقاء. فإن كانت تقوم بالعلة المبقية للمادة بواسطتها، فالقوام لها من الأوائل أولاً، ثم للمادة؛ وإن كانت قائمة لا بتلك العلة، بل بنفسها، ثم تقام المادة بها فذلك أظهر فيها. وأما الصور التي لا تفارقها المادة فلا يجوز أن تجعل معلولة للمادة حتى تكون المادة تقتضيها وتوجبها بنفسها، فتكون موجبة لوجود ما تستكمل به، فتكون من حيث تستكمل به قابلة، ومن حيث توجبه موجدة، فتكون توجب وجود شيء في نفسها تتصور به. لكن الشيء من حيث هو قابل، غيره من حيث

الصفحة    : 46

هو موجب. فتكون المادة ذات أمرين: بأحدهما تستعد، وبالآخر يوجد عنها شيء. فيكون المستعد منهما هو جوهر المادة، وذلك الآخر أمراً زائداً على كونه مادة تقارنه وتوجب فيه أثراً كالطبيعة للحركة في المادة، فيكون ذلك الشيء هو الصورة الأولى، ويعود الكلام جذعاً. فإذن الصورة أقدم من الهيولي، ولا يجوز أن يقال إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة دائماً، وإنما تصير بالفعل بالمادة، لأن جوهر الصورة هو الفعل. وأما طبيعة ما بالقوة فإن محلها المادة، فتكون المادة هي التي يصلح فيها أن يقال لها أنها في نفسها بالقوة تكون موجودة، وأنها بالفعل بالصورة، والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولي فليست تتقوم بالهيولي، بل بالعلة المفيدة إياها الهيولي وكيف تتقوم الصورة بالهيولي وقد بينا أنها علتها؟ والعلة لا تتقوم بالمعلول، ولا شيئان اثنان يتقوم أحدهما بالآخر بأن كل واحد منهما يفيد الآخر وجوده. فقد بان استحالة هذا، وتبين لك الفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه. فالصورة لا توجد إلاّ في الهيولي، لا أن علة وجودها الهيولي، أو كونها في الهيولي. كما أن العلة لا توجد إلاّ مع المعلول، لا أن وجود العلة هو المعلول أو كونه مع المعلول؛ كما أن العلة إذا كانت علة بالفعل لزم عنها المعلول وأن تكون معها، كذلك الصورة إذا كانت صورة موجودة يلزم عنها أن تقوّم شيئاً؛ ذلك الشيء مقارن لذاتها. فكأن ما يقوّم شيئاً بالفعل، ويفيده الوجود، منه ما يفيده وهو مباين، ومنه ما يفيده وهو ملاق وإن لم يكن جزء منه مثل الجوهر للأعراض التي يلحقها أو يلزمها، والمزاجات. وبين بهذا أن كل صورة توجد في مادة مجسمة، فبعلة ما توجد؛ أما الحادثة فذلك ظاهر فيها، وأما الملازمة للمادة فلأن الهيولي الجسمانية إنما خصصت بها لعلة. وسنبين هذا أظهر في مواضع أخرى.

الصفحة    : 47

المقالة الثالثة

وفيها عشر فصول

الفصل الأول:   (أ)

فصل حال المقولات التسع في الإشارة إلى ما ينبغي أن يبحث عنه من حال المقولات التسع وفي عرضيتها.

فنقول: قد بينا ماهية الجوهر، وبينا أنها مقولة عن المفارق، وعلى الجسم، وعلى المادة، والصورة. فأما الجسم فإثباته مستغنى عنه، وأما المادة والصورة فقد أثبتناهما، وأما المفارق فقد أثبتناه بالقوة القريبة من الفعل، ونحن مثبتوه من بعد. وعلى أنك إن تذكرت ما قلناه في النفس، صحَّ لك وجود جوهر مفارق غير جسم، فبالحري أن تنتقل الآن إلى تحقيق الأعراض وإثباتها. فنقول: أما المقولات العشرة فقد تفهمت ماهياتها في افتتاح المنطق. ثم لا يشك في أن المضاف من جملتها - من حيث هو مضاف - أمر عارض لشيء ضرورةً. وكذلك النسب التي هي في "أين" و"متى" وفي "الوضع" وفي "الفعل" و"الإنفعال" فإنها أحوال عارضة لأشياء هي فيها، كالموجود في الموضوع. اللهم إلاّ أن يقول قائل: إن الفعل ليس كذلك، فإن وجود الفعل ليس في الفاعل، بل في المفعول. فإن قال ذلك، وسلم له، فليس يضر فيما ترومه من أن الفعل موجود في شيء وجوده في الموضوع، وإن كان ليس في الفاعل. فبقي من المقولات ما يقع فيه اشكال، وأنه هل هو عرض أو ليس بعرض، مقولتان: مقولة الكم، ومقولة الكيف. أما مقولة الكم، فكثير من الناس رأى أن يجعل الخط والسطح والمقدار الجسماني من الجوهر، وأن لا يقتصر على ذلك، بل يجعل هذه الأشياء مبادئ الجواهر. وبعضهم رأى ذلك في الكميات المنفصلة، أي الأعداد، وجعلها مبادىء الجواهر. وأما الكيف فقد رأى آخرون من الطبيعيين أنها ليست محمولة البتة، بل اللون جوهر بنفسه، والطعم جوهر آخر، والرائحة جوهر آخر، وأن من هذه قوام الجواهر المحسوسة، وأكثر أصحاب الكمون ذاهبون إلى هذا.

الصفحة    : 48

فأما شكوك أصحاب القول بجوهرية الكيف، فالأحرى بها أن تورد في العلم الطبيعي، وكأنا قد فعلنا ذلك. وأما أصحاب القول بجوهرية الكم، فمن ذهب إلى أن المتصلات هي جواهر ومبادئ للجواهر فقد قال: إن هذه هي الأبعاد المقومة للجوهر الجسماني، وما هو مقوم للشيء فهو أقدم، وما أقدم من الجواهر فهو أولى بالجوهرية، وجعل النقطة أولى الثلاثة بالجوهرية. وأما أصحاب العدد، فإنهم جعلوا هذه مبادئ الجواهر، إلاّ أنهم جعلوها مؤلفة من الوحدات حتى صارت الوحدات مبادئ للمبادئ، ثم قالوا: إن الوحدة طبيعة غير متعلقة في ذاتها بشيء من الأشياء، وذلك لأن الوحدة تكون في كل شيء، وتكون الوحدة في ذلك الشيء غير ماهية ذلك الشيء، فإن الوحدة في الماء غير الماء، وفي الناس غير الناس، ثم هي بما هي وحدة مستغنية عن أن تكون شيئاً من الأشياء، وكل شيء فإنما يصير هو ما هو بأن يكون واحداً متعيناً، فتكون الوحدة مبدأ للخط وللسطح ولكل شيء، فإن السطح لا يكون سطحاً إلاّ بوحدة اتصالها الخاص، وكذلك الخط والنقطة أيضاً وحدة صار لها وضع. فالوحدة علة كل شيء. وأول ما يكون ويحدث عن الوحدة العدد. فالعدد هو علة متوسطة بين الوحدة وبين كل شيء، فالنقطة وحدة وضعية، والخط اثنوية وضعية، والسطح ثلاثية وضعية، والجسم رباعية وضعية؛ ثم تدرجوا إلى أن جعلوا كل شيء حادثاً عن العدد. فيجب علينا أولاً أن نبين: أن المقادير والأعداد أعراض، ثم نشتغل بعد ذلك بحل الشكوك التي لهؤلاء. وقبل ذلك يجب أن نعرف حقيقة أنواع الكمية، والأولى بنا أن نعرف طبيعة الوحدة، فإنه يحق علينا أن نعرف طبيعة الواحد في هذا الموضوع بشيئين: أحدهما، أن الواحد شديد المناسبة للموجود الذي هو موضوع هذا العلم؛ والثاني، أن الواحد مبدأ ما بوجه ما للكمية. أما كونه مبدأ للعدد، فأمر قريب من المتأمل. وأما للمتصل فلأن الإتصال وحدة ما، وكأنه علة صورية للمتصل، ولأن المقدار كونه مقداراً هو أنه بحيث يقدر، وكونه بحيث يقدر هو كونه بحيث يعد، وكونه بحيث يعد كونه بحيث أن له واحداً.

الفصل الثاني   (ب)

الصفحة    : 49

فصل في الكلام في الواحد فنقول: إن الواحد يقال بالتشكيك على معان تتفق في أنها لا قسمة فيها بالفعل من حيث كل واحد هو هو، لكن هذا المعنى يوجد فيها بتقدم وتأخر، وذلك بعد الواحد بالعرض. والواحد بالعرض هو أن يقال في شيء يقارن شيئاً آخر، أنه هو الآخر، وأنهما واحد. وذلك إما موضوع ومحمول عرضي، كقولنا: إن زيداً وابن عبد الله واحد، وإن زيداً والطبيب واحد؛ وإما محمولان موضوع، كقولنا: الطبيب هو وابن عبد الله واحد، إذ عرض أن كان شيء واحد طبيباً وابن عبد الله؛ أو موضوعان في محمول واحد عرضي، كقولنا: الثلج والجص واحد، أي في البياض، إذ قد عرض أن حمل عليهما عرض واحد. لكن الواحد الذي بالذات، منه واحد بالجنس، ومنه واحد بالنوع وهو الواحد بالفصل، ومنه واحد بالمناسبة، ومنه واحد بالموضوع، ومنه واحد بالعدد. والواحد بالعدد قد يكون بالإتصال، وقد يكون بالتماس، وقد يكون لأجل نوعه، وقد يكون لأجل ذاته. والواحد بالجنس قد يكون بالجنس القريب، وقد يكون بالجنس البعيد. والواحد بالنوع كذلك قد يكون بنوع قريب لا يتجزأ إلى أنواع، وقد يكون بنوع بعيد فيوافق أحد قسمي الباب الأول، وإن كان هناك اختلاف في الإعتبار. وإذا كان واحد بالنوع فهو لا محالة واحد بالفصل، ومعلوم أن الواحد بالجنس كثير بالنوع، وأن الواحد بالنوع قد يجوز أن يكون كثيراً بالعدد، وقد يجوز أن لا يكون إذا كانت طبيعة النوع كلها في شخص واحد، فيكون من جهة نوعاً ومن جهة لا يكون نوعاً، إذ هو من جهة كلي ومن جهة ليس بكلي. وتأمل في هذا الوضع الذي نتكلم فيه على الكلي، أو تذكر مواضع سلفت لك. وأما الواحد بالإتصال فهو الذي يكون واحداً بالفعل من جهة، وفيه كثرة أيضاً من جهة. أما الحقيقي فهو الذي تكون فيه الكثرة بالقوة فقط، وهو إما في الخطوط: فالذي لا زاوية له، وفي السطوح أيضاً: البسيط المسطح، وفي المجسمات: الجسم الذي يحيط به سطح ليس فيه انفراج على زاوية؛ ويليه ما يكون فيه كثرة بالفعل إلاّ أن أطرافها تلتقي عد حد مشترك مثل جملة الخطين المحيطين بالزاوية، ويليه أن تكون الأطراف متماسة تماساً يشبه المتصل في تلازم حركة بعضها لبعض فتكون وحدتها كأنها تابعة لوحدة الحركة لأن هناك التحاماً، وذلك كالأعضاء المؤلفة من أعضاء، وأولى ذلك ما كان التحامه طبيعياً لا صناعياً.

الصفحة    : 50

والوحدة بالجملة في هذه أضعف، وتخرج عن الوحدة الإتصالية إلى الوحدة الاجتماعية. فالوحدة الإتصالية أولى من الاجتماعية بمعنى الوحدة، وذلك أن الوحدة الإتصالية لا كثرة فيها بالفعل، والوحدة الاجتماعية فيها كثرة بالفعل. فهناك كثرة غشيتها وحدة لا تزيل عنها الكثرية. والوحدة بالإتصال إما معتبرة مع المقدار فقط وإما أن تكون مع طبيعة أخرى مثل أن تكون ماء أو هواء. ويعرض للواحد بالإتصال أن يكون واحداً في الموضوع، فإن الموضوع المتصل بالحقيقة جسم بسيط متفق الطبع، وقد علمت هذا في الطبيعيات. فيكون موضوع وحدة الإتصال واحداً أيضاً في الطبيعة من حيث أن طبيعته لا تنقسم إلى صور مختلفة؛ بل نقول: إن الواحد بالعدد لا شك أنه غير منقسم بالعدد من حيث هو واحد، بل ولا غيره مما هو واحد منقسم من حيث هو واحد، لكنه يجب أن ينظر فيه من حيث الطبيعة التي عرض لها الوحدة، فيكون الواحد بالعدد منه ما ليس من طبيعته التي عرض لها الوحدة أن يتكثر مثل: الإنسان الواحد، ومنه ما من طبيعته ذلك كالماء الواحد والخط الواحد فإنه قد يصير الماء مياهاً والخط خطوطاً. والذي ليس من طبيعته ذلك فإما أن يكون قد يتكثر من وجه آخر، وإما أن لا يكون. مثال الأول: الواحد بالعدد من الناس، فإنه لا يتكثر من حيث طبيعته، أي من حيث هو إنسان إذا قسم، لكنه قد يتكثر من جهة أخرى إذا قسم إلى نفس وبدن، فيكون له نفس وبدن وليس واحد منهما بإنسان. وأما الذي لا يكون فهو على قسمين: إما أن يكون موجوداً له - مع أنه شيء ليس بمنقسم - طبيعة أخرى، وإما أن لا يكون. فإن كان موجوداً له مع ذلك طبيعة أخرى فإما أن تكون تلك الطبيعة هي الوضع وما يناسب الوضع، فتكون نقطة والنقطة لا منقسمة من حيث هي نقطة ولا من جهة أخرى، وهناك طبيعة غير الوحدة المذكورة؛ وإما أن لا يكون الوضع وما يناسبه، فيكون مثل العقل والنفس، فإن العقل له وجود غير الذي يفهم من أنه لا ينقسم، وليس ذلك الوجود بوضع، وليس ينقسم في طبيعته ولا في جهة أخرى. وأما الذي لا يكون هناك طبيعة أخرى فكنفس الوحدة التي هي مبدأ العدد، أعني التي إذا أضيف إليها غيرها صار مجموعهما عدداً. فمن هذه الأصناف من الوحدة ما لا ينقسم مفهومه في الذهن، فضلاً عن قسمة مادية أو مكانية أو زمانية. ولنعد القسم الذي يتكثر أيضاً من حيث الطبيعة الواحدة بالوحدة ومن حيث الاتصال، فمن ذلك أن يكون تكثره في الطبيعة التي هي لذاتها معدة لكثرة عن الوحدة، وهذا هو المقدار؛ ومن ذلك أن يكون تكثره في طبيعة إنما لها الوحدة المعدة للتكثر بسبب غير نفسها، وذلك هو الجسم البسيط مثل الماء. فإن هذا الماء واحد بالعدد وهو ماء وفي قوته أن يصير مياهاً كثيرة بالعدد لا لأجل المائية، بل لمقارنة السبب

الصفحة    : 51

الذي هو المقدار. فتكون تلك المياه الكثيرة بالعدد واحدة بالنوع وواحدة أيضاً بالموضوع، لأن من طبع موضوعها أن تتحد بالفعل واحداً بالعدد. ولا كذلك أشخاص الناس، فإنها ليس من شأن عدة موضوعات منها أن يتحد موضوع إنسان واحد نعم كل واحد منهما واحد بموضوعه الواحد، ولكن ليس المجتمع من الكثرة واحداً بالموضوع، وليس حاله حال كل قطعة من الماء، فإنها واحدة في نفسها بموضوعها. والجملة يقال إنها واحدة في الموضوع، إذ من شأن موضوعاتها أن تتحد موضوعاً واحداً بالإتصال، فيكون جملتها حينئذ ماء واحداً. لكن كل واحد من هذين القسمين إما أن يكون حاصلاً فيه جميع ما يمكن أن يكون له أو لا يكون، فإن كان فهو تام وواحد بالتمام، وإن لم يكن فهو كثير، ومن عادة الناس أن يجعلوا الكثير غير الواحد. وهذه الوحدة التمامية إما أن تكون بالفرض والوهم والوضع كدرهم تام ودينار تام، وإما أن تكون بالحقيقة. وذلك إما بالصناعة كالبيت التام، فإن البيت الناقص لا يقال له بيت واحد. وإما بالطبيعة كشخص إنسان واحد تام الأعضاء. ولأن الخط المستقيم قد يقبل زيادة في استقامته ليس موجودة له، فليس بواحد من جهة التمام. وأما المستدير فإذ ليس يقبلها، بل حصلت له بالطبع الإحاطة بالمركز من كل جهة، فهو تام وواحد بالتمام، ويشبه أن يكون أيضاً كل شخص من الناس واحداً من هذه الجهة، فيكون بعض الأشياء يلزمه التمام كالأشخاص والخط المستدير، وبعضها لا يلزمه التمام كالماء والخط المستقيم. وأما الواحد بالمساواة فهو بمناسبة ما، مثل أن حال السفن عند الربان وحال المدينة عند الملك واحدة، فإن هاتين حالتان متفقتان، وليس وحدتهما بالعرض، بل وحدة ما يتحد بهما بالعرض، أعني وحدة السفينة والمدينة بهما هي وحدة بالعرض. وأما وحدة الحالتين فليست الوحدة التي جعلناها وحدة بالعرض. فتقول من رأس: إنه إذا كانت الوحدة إما أن تقال على أشياء كثيرة بالعدد، أو تقال على شيء واحد بالعدد، وقد بينا أنا حصرنا أقسام الواحد بالعدد. فلنمل إلى الحيثية الأخرى، فنقول: وأما الأشياء الكثيرة بالعدد فإنما يقال لها من جهة أخرى واحدة لإتفاق بينها في معنى. فإما أن يكون اتفاقها في نسبة أو محمول غير النسبة، وأما في موضوع. والمحمول إما جنس، وإما نوع، وإما فصل، وإما عرض، فيكون سهلاً عليك من هذا الموضوع أن

الصفحة    : 52

تعرف أنا حققنا أقسام الواحد، وأنت تعرف مما قد عرفت أيها أولى بالوحدة واسبق استحقاقاً لها، فتعرف أن الواحد بالجنس أولى بالوحدة من الواحد بالمناسبة، وأن الواحد بالنوع أولى من الواحد بالجنس، والواحد بالعدد أولى من الواحد بالنوع، والبسيط الذي لا ينقسم بوجه أولى من المركب، والتام من الذي ينقسم أولى من الناقص. والواحد قد يطابق الموجود في أن الواحد قد يقال على كل واحد من المقولات كالموجود، لكن مفهومهما - على ما علمت - مختلف، ويتفقان في أنه لا يدل واحد منهما على جوهر بشيء من الأشياء، وقد علمت ذلك.

الفصل الثالث   (ج)

فصل في تحقيق الواحد والكثير وإبانة أن العدد عرض والذي يصعب علينا تحقيقه الآن ماهية الواحد.

وذلك أنا إذا قلنا: إن الواحد هو الذي لا يتكثر ضرورة، فأخذنا في بيان الواحد الكثرة. وأما الكثرة فمن الضروري أن تُحد بالواحد، لأن الواحد مبدأ الكثرة، ومنه وجودها وماهيتها، ثم أي حد حددنا به الكثرة استعملنا فيه الواحد بالضرورة. فمن ذلك ما تقول: إن الكثرة هي المجتمع من وحدات، فقد أخذنا الوحدة في حد الكثرة، ثم عملنا شيئاً آخر وهو أنا أخذنا المجتمع في حدها، والمجتمع يشبه أن يكون هو الكثرة نفسها. وإذا قلنا من الوحدات أو الواحدات أو الآحاد فقد أوردنا بدل لفظ الجمع هذا اللفظ، ولا يفهم معناه ولا يعرف إلاّ بالكثرة. وإذا قلنا: إن الكثرة هي التي تعد بالواحد، فنكون قد أخذنا في حد الكثرة الوحدة، ونكون أيضاً قد أخذنا في حدها العد والتقدير، وذلك إنما يفهم بالكثرة أيضاً. فما أعسر علينا أن نقول في هذا الباب شيئاً يعتد به، لكنه يشبه أن تكون الكثرة أيضاً أعرف عند تخيلنا، والوحدة أعرف عند عقولنا، ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي نتصورها بدياً، لكن الكثرة نتخيلها أولاً، والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها عقلي، بل إن كان ولا بد فخيالي. ثم يكون تعريفنا الكثرة بالوحدة تعريفاً عقلياً، وهنالك تؤخذ الوحدة متصورة بذاتها ومن أوائل التصور، ويكون تعريفنا الوحدة بالكثرة تنبيهاً يستعمل فيه المذهب الخيالي لنومئ إلى معقول عندنا لا نتصوره حاضراً في الذهن.

الصفحة    : 53

فإذا قالوا: إن الوحدة هي الشيء الذي ليس فيه كثرة دلّوا على ان المراد بهذه اللفظة الشيء المعقول عندنا بديهياً الذي يقابل هذا الآخر أو ليس هو فينبه عليه بسلب هذا عنه. والعجب ممن يحد العدد فيقول: إن العدد كثرة مؤلفة من وحدات أو من آحاد، والكثرة نفس العدد، ليس كالجنس للعدد، وحقيقة الكثرة أنها مؤلفة من وحدات. فقولهم: إن الكثرة مؤلفة من وحدات، كقولهم: إن الكثرة كثرة. فإن الكثرة ليست إلاّ إسماً للمؤلف من الوحدات. فإن قال قائل: إن الكثرة قد تؤلف من أشياء غير الوحدات مثل الناس، والدواب. فنقول: إنه كما أن هذه الأشياء ليست وحدات، بل أشياء موضوعة للوحدات، كذلك أيضاً ليست هي بكثرة، بل أشياء موضوعة للكثرة، وكما أن تلك الأشياء هي وحدات لا وحدات، فكذلك هي كثيرة لا كثرة. والذين يحسبون أنهم إذا قالوا: إن العدد كمية منفصلة ذات ترتيب، فقد تخلصوا من هذا، فما تخلصوا. فإن الكمية يحوج تصورها للنفس إلى أن تعرف بالجزء والقسمة أو المساواة. أما الجزء والقسمة فإنما يمكن تصورها بالكمية، وأما المساواة فإن الكمية أعرف منها عند العقل الصريح لأن المساواة من الأعراض الخاصة بالكمية التي يجب أن توجد في حدها الكمية. فيقال: إن المساواة هي اتحاد في الكمية والترتيب الذي أخذ في حد العدد أيضاً، وهو مما لا يفهم إلاّ بعد فهم العدد. فيجب أن يعلم أن هذه كلها تنبيهات مثل التنبيهات بالأمثلة والأسماء المترادفة، وأن هذه المعاني متصورة كلها أو بعضها لذواتها، وإنما يدل عليها بهذه الأشياء لينبه عليها وتميز فقط. فنقول الآن: إن الوحدة إما أن تقال على الأعراض، وإما أن تقال على الجواهر. فإذا قيلت على الأعراض فلا تكون جوهراً، ولا شك في ذلك، وإذا قيلت على الجواهر فليست تقال عليها كفصل ولا جنس البتة، إذ لا دخول لها في تحقيق ماهية جوهر من الجواهر، بل هو أمر لازم للجوهر، كما قد علمت. فلا يكون إذن قولها عليها قول الجنس والفصل، بل قول "عرضي". فيكون الواحد جوهراً، والوحدة هي المعنى الذي هو العرض، فإن العرض الذي هو أحد الخمسة - وإن كان كونه عرضاً بذلك المعنى - قد يجوز عليه أن يكون جوهراً، وإنما يجوز ذلك إذا أخذ مركباً، كالأبيض. وأما طبيعة المعنى البسيط منه فهي لا محالة عرض بالمعنى الآخر، إذ هو موجود في الجوهر وليس كجزء منه ولا يصح قوامه مفارقاً له. فلننظر الآن في الوحدة الموجودة في كل جوهر التي ليست بجزء منه مقومة له، هل يصح قوامها مفارقة للجوهر؟

الصفحة    : 54

فنقول: إن هذا مستحيل، وذلك لأنها إن قامت وحدة مجردة لم يخل إما أن تكون مجرد أن لا تنقسم وليس هناك طبيعة هي المحمول عليها أن لا تنقسم، وأن تكون هناك طبيعة أخرى. والقسم الأول محال، فإنه لا أقل من أن يكون هناك وجود، ذلك الوجود لا ينقسم، فإن كان ذلك الوجود لا محالة معنى غير الوحدة وأنه لا ينقسم، فأما أن يكون ذلك الوجود جوهراً أو يكون عرضاً، فإن كان عرضاً فالوحدة في عرض لا محالة ثم في الجوهر، وإن كان جوهراً - والوحدة لا تفارقه - فهي موجودة فيه وجود ما في الموضوع، وإن كانت مفارقة، تكون الوحدة - إذا فارقت ذلك الجوهر - يكون لها جوهر آخر تصير إليه وتقارنه إذا فرض وجودها مقارنة لجوهرية، ويكون ذلك الجوهر - لو لم تصر إليه هذه الوحدة - لم تكن له وحدة، وهذا محال. أو تكون له وحدة كانت ووحدة لحقت، فتكون له وحدتان لا وحدة، فيكون جوهران لا جوهر واحد، لأن ذلك الجوهر واحدان، وهذا محال. وأيضاً فإن كانت كل وحدة في جوهر آخر، فأحد الجوهرين لم تنتقل إليه الوحدة وعاد الكلام جذعاً فيما انتقل إليه الوحدة وصار أيضاً جوهرين، وإن كانت كل وحدة في الجوهرين جميعاً فتكون الوحدة اثنوية، هذا خلف. فقد بان أن الوحدة ليس من شأنها أن تفارق الجوهر الذي هي فيه. ونبتدئ فنقول: إنه إن كانت الوحدة ليس مجرد أنها لا تنقسم، بل كانت وجوداً لا ينقسم حتى يكون الوجود داخلاً في الوحدة لا موضوعاً لها، فإذا فرضنا أنه قد فارقت هذه الوحدة الجوهر إن كانت يمكن أن توجد بذاتها كانت وجوداً لا ينقسم مجرداً ولم تكن وجوداً لا ينقسم فقط، بل تكون الوحدة وجوداً جوهرياً لا ينقسم إذا قام ذلك الوجود لا في موضوع. فلا تكون للأعراض وحدة بوجه من الوجوه. وإن كان للأعراض وحدة تكون وحدتها غير وحدة الجوهر؛ وتكون الوحدة تقال عليها باشتراك الإسم. فيكون أيضاً من الأعداد ما تأليفه من وحدة الأعراض، ومن الأعداد ما تأليفه من وحدة الجواهر فلننظر هل يشتركان في معنى الوجود الذي لا ينقسم أو لا يشتركان؟ فإن لم يشتركا فتكون الوحدة في أحديهما وجوداً منقسماً وفي الآخر ليس كذلك. ولسنا نعني بوحدة الأعراض أو الجواهر ذلك، حتى نعني في أحديهما بالوحدة شيئاً غير أنه وجود غير منقسم. وإن اشتركا في ذلك المعنى، فذلك المعنى هو الوجود الغير منقسم الذي إياه نعني بالوحدة؛ وذلك المعنى أعم من المعنى الذي ذكرناه قبيل الآن، فإن ذلك كان يلزمه مع كونه وجوداً لا ينقسم، أن يكون وجوداً جوهرياً، إذ قد كان يمكن فرضه مجرداً، وذلك المعنى لا محالة إن كان جوهراً لم يعرض للعرض، وليس يلزم أن نقول إنه إن كان عرضاً لم يعرض للجوهر، فإن الجوهر يعرض له العرض ويقوم به العرض، والعرض لا يعرض له الجوهر حتى يكون

الصفحة    : 55

قائماً فيه. فإذن الوحدة الجامعة أعم من ذلك المعنى وكلامنا فيها، ومن حيث هي وجود لا ينقسم فقط بلا زيادة أخرى وذلك لا يفارق موضوعاته وإلاّ صار ذلك المعنى الأخص. فإنه من المحال أن تكون الوحدة وجوداً غير منقسم في الأعراض والجواهر ويجوز مع ذلك أن تفارق، فيكون جوهرا عرض لعرض، أو أن تكون الوحدة مختلفة في الجواهر والأعراض. فبين أن الوحدة حقيقتها معنى عرضي ومن جملة اللوازم للأشياء. وليس لقائل أن يقول: إن هذه الوحدة إنما لا تفارق على سبيل ما لا تفارق المعاني العامة قائمة دون فصولها، كما لا تفارق الإنسانية الحيوانية. وامتناع هذه المفارقة لا يوجب العرضية، بل إنما يوجب العرضية امتناع مفارقة يكون للمعنى المّحصل الموجود المشخّص. فنقول: ليس الأمر كذلك، فإن نسبة ما فرضناه أعم إلى ما فرضناه أخص ليس نسبة المنقسم إليه بفصل مقوم. فقد بينا أن الوحدة غير داخلة في حد جوهر أو عرض، بل نسبة لازم عام. وإذا أشرنا إلى بسيط واحد منه كان متميز الذات عن التخصيص الذي يقارنه، لا كاللونية التي في البياض، فإذا صح أنه غير مفارق صح أن المحمول الذي هو معنى لازم عام مشتق الإسم من إسم معنى بسيط هو معنى الوحدة، وذلك البسيط عرض. وإذا كانت الوحدة عرضاً، فالعدد المؤلف من الوحدة عرض.

الفصل الرابع   (د)

الصفحة    : 56

فصل في أن المقادير أعراض وأما الكميات المتصلة فهي مقادير المتصلات، أما الجسم الذي هو الكم فهو مقدار المتصل الذي هو الجسم بمعنى الصورة، على ما عرفته في عدة مواضع، وأما الجسم بالمعنى الآخر الداخل في مقولة الجوهر فقد فرغنا منه. وهذا المقدار فقد بان أنه في مادة، وأنه يزيد وينقص والجوهر باق، فهو عرض لا محالة، ولكنه من الأعراض التي تتعلق بالمادة وبشيء من المادة، لأن هذا المقدار لا يفارق المادة إلاّ بالتوهم، ولا يفارق الصورة التي للمادة، لأنه مقدار الشيء المتصل الذي يقبل أبعاد كذا، وهذا لا يمكن أن يكون بلا هذا الشيء المتصل كما أن الزمان لا يكون إلاّ بالمتصل الذي هو المسافة وهذا المقدار هو كون المتصل بحيث يمسح بكذا كذا مرة، أو لا ينتهي المسح إن توهم غير متناه توهماً. وهذا مخالف لكون الشيء بحيث يقبل فرض الأبعاد المذكورة، فإن ذلك لا يختلف فيه جسم وجسم. وأما أنه يمسح بكذا كذا مرة، أنه لا يغني مسحه بكذا البتة، فقد يختلف فيه جسم وجسم. فهذا المعنى هو كمية الجسم، وذلك صورته. وهذه الكمية لا تفارق تلك الصورة في الوهم البتة، لكن هي والصورة تفارقان المادة في الوهم. وأما السطح والخط فبالحري أن يكون له اعتبار أنه نهاية، واعتبار له مقدار؛ وأيضاً للسطح اعتبار أنه يقبل فرض بعدين فيه على صفة الأبعاد المذكورة، أعني بُعدين فقط يتقاطعان على زاوية قائمة؛ وأيضاً أنه يقدر ويمسح، ويكون أعظم وأصغر؛ وأنه يفرض فيه أيضاً أبعاد بحسب اختلاف الأشكال. فلنتأمل هذه الأحوال فيه فنقول: أما قبوله بفرض بعدين فإنما ذلك له لأنه نهاية الجسم الذي هو قابل لفرض الأبعاد الثلاثة، فإن كون الشيء نهاية لقابل الثلاثة من حيث هو نهاية لمثل ذلك لا أنه نهاية مطلقاً، ومقتضاه أن يكون قابلاً لفرض بعدين، وليس هو بهذه الجهة مقدار، بل هو بهذه الجهة مضاف. وإن كان مضافاً لا يكون إلاّ مقداراً، وقد عرفت الفرق بين المضاف مطلقاً وبين المضاف الذي هو المقولة التي لا تجوز، على ما بينا أن يكون مقداراً أو كيفاً. وأما أنه مقدار فهو بالجهة الأخرى التي بها يمكن أن يخالف غيره من السطوح في القدر والمساحة ولا يمكن أن يخالفها بالمعنى الأول بوجه؛ لكنه من الجهتين جميعاً عرض، فإنه من حيث هو نهاية عارض للمتناهي، لأنه موجود فيه كجزء منه ولا يقوم دونه، وقد قلنا إنه ليس من شرط الموجود في شيء أن يطابق ذاته، وأما أين قلنا هذا ففي الطبيعيات، فليتأمل هناك إن عرضت من هذه الجهة شبهة.

 

الصفحة    : 57

وأيضاً من حيث هو مقدار هو عرض، ولو كان كون السطح بحيث يفرض فيه بعدان أمراً له في نفسه لم تكن نسبة المقدارية في السطح إلاّ ذلك الأمر نسبة المقدارية إلى الصورة الجسمية، بل تكون نسبة ذلك المعنى إلى المقدارية في السطح نسبة فصل إلى جنس، والنسبة الأخرى نسبة عارض إلى صورة. وأنت تعلم هذا بتأمل الأصول. وأعلم أن السطح لعرضيته ما يحدث ويبطل في الجسم بالإتصال والإنفصال واختلاف الأشكال والتقاطيع، وقد يكون سطح الجسم مسطحاً، فيبطل من حيث هو مسطح، فيحدث مستدير. وقد علمت فيما سلف من الأقاويل أن السطح الواحد بالحقيقة لا يكون موضوعاً للكرية والتسطيح في الوجود، ولذلك ليس كما أن الجسم الواحد يكون موضوعاً لاختلاف أبعاد بالفعل تترادف عليه فكذلك السطح إذا أزيل عن شكله حتى تبطل أبعاده فلا يمكن ذلك إلاّ بقطعه. وفي القطع إبطال صورة السطح الواحدة التي بالفعل؛ وقد علمت هذا من أقوال أخرى، وعلمت أن هذا لا يلزم في الهيولي حتى تكون الهيولي للإتصال غيرها للإنفصال، وقد علمت أنه إذا ألّفَت سطوح وَوُصلَ بعضها ببعض تأليفاً يبطل الحدود المشتركة كان الكائن سطحاً آخر بالعدد، ولو أعيد إلى تأليفه الأول لم يكن ذلك السطح الأول بالعدد بل آخر مثله بالعدد، وذلك لأن المعدوم لا يعاد. وإذا قد عرفت صورة الحال في السطح فقد عرفت في الخط فاجعله قياساً عليه. فقد تبين لك أن هذه أعراض لا تفارق المادة وجوداً، وعرفت أيضاً أنها لا تفارق الصورة التي هي في طباعها مادية توهماً أيضاً. فقد بقي أن تعلم كيف ينبغي أن يفهم قولنا: إن السطح يفارق الجسم توهماً، وإن الخط يفارق السطح توهماً. فنقول: إن هذه المفارقة تفهم في هذا الموضوع على وجهين: أحدهما أن نفرض في الوهم سطح ولا جسم، وخط ولا سطح، والآخر أن يلتفت إلى السطح ولا يلتفت إلى الجسم أصلاً أنه معه أو ليس معه. وأنت تعرف أن الفرق بين الأمرين ظاهر، فإنه فرق بين أن ينظر إلى الشيء وحده وإن كان معتقداً أنه مع غيره لا يفارقه، وبين أن ينظر إليه وحده مع شرط مفارقته ما هو معه، محكوماً عليه بأنه كما التفت إليه وحده حتى يكون هو في وهمك قائم وحده. فهو مع ذلك يفرق بينه وبين الشيء الآخر محكوماً بأن ذلك الشيء ليس معه. فمن ظن أن السطح والخط والنقطة قد يمكن أن يتوهم سطحاً وخطاً ونقطة مع فرض أن لا جسم مع السطح ولا مع الخط ولا مع النقطة فقد ظن باطلاً، وذلك لأنه لا يمكن أن يفرض السطح في الوهم

 

الصفحة    : 58

مفرداً ليس نهاية لشيء إلاّ أن يتوهم مع وضع خاص ويتوهم له جهتان توصلان الصائر إليه إيصالاً يلقى جانبين غيرين، كما علمت. فيكون حينئذ ما توهم سطحاً غير سطح. فإن السطح هو نفس الحد لا ذو حدين، وإن توهم السطح نفس النهاية التي تلي جهة واحدة فقط من حيث هو كذلك أو نفس الجهة، الحد - على ان لا انفصال له من جهة أخرى - كان ما هو نهايته متوهماً معه بوجه ما، وكذلك الحال في الخط والنقطة. والذي يقال أن النقطة ترسم بحركتها الخط فإنه أمر يقال للتخيل، ولا إمكان وجود له، لا لأن النقطة لا يمكن أن تفرض لها مماسة متنقلة، فإنا قد بينا أن ذلك ممكن فيها بوجه، لكن المماسة لما كانت لا تثبت وكان لا يبقى الشيء بعد المماسة إلاّ كما كان قبل المماسة، فلا تكون هناك نقطة بقيت مبدأ خط بعد المماسة ولا يبقى امتداد بينها وبين أجزاء المماسة، لأن تلك النقطة إنما صارت نقطة واحدة على ما علمت في الطبيعيات بالمماسة لا غير، فإذا بطلت المماسة بالحركة فكيف تبقى هي نقطة؟ وكذلك كيف يبقى ما هي مبدأ له رسماً ثابتاً؟ بل إنما ذلك في الوهم والتخيل فقط. وأيضاً فإن حركتها تكون لا محالة، وهناك شيء موجود تكون الحركة عليه أو فيه، وذلك الشيء قابل لأن يتحرك فيه فهو جسم أو سطح أو بُعد هو خط، فتكون هذه الأشياء موجودة قبل حركة النقطة، فلا تكون حركة النقطة علة لأن توجد هي. فأما وجود المقدار الجسماني فظاهر، وأما وجود السطح فلوجوب تناهي المقدار الجسماني، وأما وجود الخط فبسبب جواز قطع السطوح وافتراض الحدود لها. وأما الزاوية فقد ظن بها أنها كمية متصلة غير السطح والجسم، فينبغي أن ينظر في أمرها، فنقول: إن المقدار جسماً كان أو سطحاً فقد يعرض له أن يكون محاطاً بين نهايات تلتقي عند نقطة واحدة، فيكون من حيث هو بين هذه النهايات شيئاً ذا زاوية من غير أن ينظر إلى حال نهاياته من جهة فكأنه مقدار أكثر من بعد ينتهي عند نقطة، فإن شئت سميت نفس هذا المقدار من حيث هو كذلك زاوية، وإن شئت سميت الكيفية التي له من حيث هو هكذا زاوية؛ فيكون الأول كالمربع والثاني كالتربيع. فإن أو قعت الإسم على المعنى الأول قلت: زاوية مساوية وناقصة وزائدة لنفسها، لأن جوهرها مقدار، وإن أوقعت على المعنى الثاني قلت لها بسبب المقدار الذي هي فيه كما للتربيع، ولأن هذا الذي هو الزاوية بالمعنى الأول يمكن أن يفرض فيه إما أبعاد ثلاثة أو بعدان، فهو مقدار جسم أو سطح. والذي يظنه من يقول: إنه إنما يكون سطحاً إذا تحرك الخط الفاعل إياه في الوهم بكلتي نقطتيه حتى أحدثه، حتى كان قد يحرك الطول عرضاً بالحقيقة فحدث عرض بعد الطول فكان طول وعرض؛ بل لم

 

الصفحة    : 59

يتحرك الخط المحدث للزاوية لا في الطول وحده كما هو ولا العرض حتى يحدث سطح، وإنما تحرك بأحد رأسيه فحدثت الزاوية. فجعل الزاوية جنساً رابعاً من المقادير. والسبب في هذا جهله بمعنى قولنا: إن للشيء ثلاثة أبعاد أو بعدين حتى يكون مجسماً أو مسطحاً. فإذا عرفت ذلك عرفت أن هذا الذي قاله لا يلزم، ولا ينبغي أن يكون للعاقل إليه إصغاء، وإنما هو شروع من ذلك الإنسان قيماً لا يعنيه. وهذا الغافل الحيران قد يذهب إلى أن السطح بالحقيقة هو المربع أو المستطيل لا غير. وليس كلامه مما يفهم فضل شغل به. فقد عرفت وجود الأقدار وأنها أعراض وأنها ليست مبادئ للأجسام، إذ الغلط في ذلك إنما عرض لما عرفت. وأما الزمان فقد كان تحقق لك عرضيته وتعلقه بالحركة فيما سلف، فبقي أن تعلم أنه لا مقدار خارجاً عن هذه المقادير، فنقول: إن الكم المتصل لا يخلو إما أن يكون قاراً حاصل الوجود بجميع أجزائه، أو لا يكون، فإن لم يكن، بل كان متجدد الوجود شيئاً بعد شيء فهو الزمان. وإن كان قاراً وهو المقدار، فإما أن يكون أتم المقادير وهو الذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة، إذ ليس يمكن أن يفرض فيه فوق ذلك، وهذا هو المقدار المجسم، وإما أن يفرض فيه بعدان فقط، وإما أن يكون ذا بعد واحد فقط إذ كان متصل فله بُعد ما بالفعل أو بالقوة، ولما كان لا أكثر من ثلاثة ولا أقل من واحد فالمقادير ثلاثة والكميات المتصلة لذاتها أربعة. وقد يقال لأشياء أخر أنها كميات متصلة وليست كذلك. أما المكان فهو السطح، وأما الثقل والخفة فإنها توجب بحركاتها مقادير في الأزمنة والأمكنة، وليس لها في نفسها أن تجزأ بجزء يعدها، وأن تقابل بالمساواة والمفاوتة بأن يفرض لها حد ينطبق على حد ما يجانسه، حتى ينطبق ما يليه منه على ما يليه مما يجانسه، فينطبق عليه الحد الآخر فيساوي أو يختلف فلا يساوي، بل يفاوت، فإنا نعني بالمساواة والمفاوتة المعترفتين للمقدار هذا المعنى، وأما التجزئة التي تعرض للخفة والثقل بأن يكون ثقل نصف ثقل فإن ذلك لأنه يتحرك في الزمان نصف المسافة، أو في المسافة ضعف الزمان، أو تحرك الأعظم إلى أسفل في آلة حركة يلزم معها أن يتحرك الأصغر إلى العلو أو أمر مما يجري هذا المجرى. فهو كالحرارة التي تكون ضعف الحرارة لأجل أنها تفعل في الضعف أو لأنها في ضعف الجسم الحار المتشابه في الحرارة. وكذلك حال الصغير والكبير والكثير والقليل فإن هذه أعراض أيضاً تلحق بالكميات من باب المضاف، وأنت قد حصلت الكلام في جميع هذه في موضع آخر.

الصفحة    : 60

فالكمية بالجملة حدها هي أنها التي يمكن أن يوجد فيها شيء منها يصح أن يكون واحداً عادّاً، وبكون ذلك لذاته سواء كانت الصحة وجودية أو فرضية.

الفصل الخامس   (ه)

فصل في تحقيق ماهية العدد وتحديد أنواعه، وبيان أوائله.  

وبالحري أن نحقق ههنا طبيعة الأعداد، وخاصياتها، وكيف يجب أن يتصور حالها ووجودها، فقد انتقلنا عنها إلى الكميات المتصلة مستعجلين، لأن غرضنا كان يوجب ذلك. فنقول: إن العدد له وجود في الأشياء، ووجود في النفس. وليس قول من قال: إن العدد لا وجود له إلاّ في النفس بشيء يعتد به، أما إن قال: إن العدد لا وجود له مجرداً عن المعدودات التي في الأعيان إلاّ في النفس، فهو حق. فإنا قد بينا أن الواحد لا يتجرد عن الأعيان قائماً بنفسه إلاّ في الذهن؛ فكذلك ما يترتب وجوده على وجود الواحد. وأما أن يكون في الموجودات أعداد فذلك أمر لا شك فيه إذا كان في الموجودات وحدات فوق واحدة، وكل واحد من الأعداد فإنه نوع بنفسه، هو واحد في نفسه من حيث هو ذلك النوع، وله من حيث هو ذلك النوع خواص. والشيء الذي لا حقيقة له محال أن تكون له خاصية الأولية أو التركيبية أو التمامية أو الزايدية أو الناقصية أو المربعية أو المكعبية أو الصمم وسائر الأشكال التي لها. فإذن لكل واحد من الأعداد حقيقة تخصه وصورة يتصور منها في النفس، وتلك الحقيقة وحدته التي بها هو ما هو. وليس العدد كثرة لا تجتمع في وحدة حتى يقال: أنه مجموع آحاد. فإنه من حيث هو مجموع هو واحد يحتمل خواص ليس لغيره. وليس بعجيب أن يكون الشيء واحداً من حيث له صورة ما كالعشرية مثلاً أو الثلاثية وله كثرة، فمن حيث العشرية ما هو بالخواص التي للعشرة، وأما لكثرته فليس له فيها إلاّ الخواص التي للكثرة المقابلة للوحدة، ولذلك فإن العشرة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين لكل واحدة منها خواص العشرية. وليس يجب أن يقال: إن العشرة ليس هي إلاّ تسعة وواحد، أو خمسة وخمسة، أو واحد وواحد وواحد كذلك إلى أن تنتهي إلى العشرة. فإن قولك: العشرة تسعة وواحد، قول حملت فيه التسعة على العشرة وعطفت عليه الواحد، فتكون كأنك قلت: إن العشرة أسود وحلو، فيجب أن تصدق عليه الصفتان المعطوفة إحداهما على الأخرى، فتكون العشرة تسعة وأيضاً واحداً. فإن لم ترد بالعطف تعريفاً، بل

الصفحة    : 61

عنيت ما يقال: إن الإنسان حيوان وناطق، أي حيوان ذلك الحيوان الذي هو ناطق. تكون كأنك قلت: إن العشرة تسعة، تلك التسعة التي هي واحد، وهذا أيضاً مستحيل. وإن عنيت أن العشرة تسعة مع واحد، وكان مرادك أن العشرة هي التسعة التي تكون مع واحد، حتى إن كانت التسعة وحدها لم تكن عشرة، فإذا كانت مع الواحد كانت تلك التسعة عشرة، فقد أخطأت أيضاً. فإن التسعة إذا كانت وحدها أو مع أي شيء كان معها فإنها تكون تسعة ولا تكون عشرة البتة. فإن لم تجعل "مع" صفة للتسعة، بل الموصوف لها، فتكون كأنك قلت: إن العشرة تسعة، ومع كونها تسعة هي أيضاً واحد، فذلك أيضاً خطأ، بل هذا كله مجاز من اللفظ مغلط، بل العشرة مجموع التسعة والواحد إذا أخذا جميعاً فصار منهما شيء غيرهما. وحد كل واحد من الأعداد - إن أردت التحقيق - هو أن يقال: إنه عدد من اجتماع واحد وواحد وواحد، وتذكر الآحاد كلها. وذلك لأنه لا يخلو إما أن يحد بالعدد من غير أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه، بل بخاصية من خواصه، فذلك يكون رسم ذلك العدد لا وحده من جوهره، وإما أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه. فإن أشير إلى تركيبه من عددين دون الآخر مثلاً أن تجعل العشرةمن تركيب خمسة وخمسة لم يكن ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة، وليس تعلق هويته بأحدهما أولى من الآخر. وهو بما هو عشرة ماهية واحدة، ومحال أن تكون ماهية واحدة، وما يدل على ماهية من حيث هي واحدة حدود مختلفة. فإذا كان كذلك فحده ليس بهذا ولا بذاك، بل بما قلنا. ويكون - إذا كان ذلك كذلك - وقد كان له التركيب من خمسة وخمسة، ومن ستة وأربعة، ومن ثلاثة وسبعة، لازماً لذلك وتابعاً، فتكون هذه رسوماً له.على أن تحديدك بالخمسة يحوج إلى تحديد الخمسة فينحل ذلك كله إلى الآحاد وحينئذ يكون مفهوم قولك: إن العشرة من خمسة وخمسة، هو مفهوم قولك: من ثلاثة وسبعة، وثمانية واثنين، أعني إذا كنت تلحظ تلك الآحاد. فأما إذا لحظت صورة الخمسة والخمسة، والثلاثة والسبعة، كان كل اعتبار غير الآخر. وليس للذات الواحدة حقائق مختلفة المفهومات، بل إنما تتكثر لوازمها وعوارضها، ولهذا ما قال الفيلسوف المقدم: لا تحسبن أن الستة ثلاثة وثلاثة، بل هو ستة مرة واحدة. ولكن اعتبار العدد من حيث آحاده مما يصعب على التخيل وعلى العبارة فيصار إلى الرسوم. ومن الواجب، ومما يجب أن يبحث عنه من حال العدد حال الاثنوة. فقد قال بعضهم: إن الاثنوة ليست من العدد، وذلك لأن الاثنوة هي الزوج الأول، والوحدة هي الفرد الأول، وكما أن الوحدة التي هي الفرد الأول ليس بعدد، فكذلك الاثنوة التي هي الزوج الأول ليس بعدد. وقال: ولأن العدد كثرة مركبة من

الصفحة    : 62

الآحاد، والآحاد أقلها ثلاثة، ولأن الاثنوة لا تخلو إن كانت عدداً إما أن تكون مركبة أو لا تكون، فإن كانت مركبة فنعدها غير الواحد، وإن كانت عدداً أولاً فلا يخلو لها نصف. وأما أصحاب الحقيقة فلا يشتغلون بامثال هذه الأشياء بوجه من الوجوه، فإنه لم تكن الوحدة غير عدد لأجل أنها فرد أو زوج، بل لأنها لا انفصال فيها إلى وحدات. ولا إذا قالوا: مركبة من وحدات، يعنون بها ما يعنيه النحويون من لفظ الجمع وأن أقله ثلاثة بعد الإختلاف فيه، بل يعنون بذلك أكثر وأزيد من واحد. وقد جرت عادتهم بذلك، ولا يبالون أن لا يوجد زوج ليس بعدد، وإن وجد فرد ليس بعدد؛ فما فرض عليهم أن يدأبوا في طلب زوج ليس بعدد. وليسوا يشترطون في العدد الأول أن يكون لا نصف له مطلقاً، بل لا نصف له عدداً من حيث هو أول، وإنما يعنون بالأول أنه غير مركب من عدد. وإنما يعني بالعدد ما فيه من انفصال ويوجد فيه واحد، فالاثنوة أول العدد، وهو الغاية في القلة في العدد. وأما الكثرة في العدد فلا تنتهي إلى حد، وقلة الاثنوة ليست مما تقال بذاتها، بل بالقياس إلى العدد. وليس إذا لم تكن الاثنوة أكثر من شيء يجب من ذلك أن لا تكون قلتها بالقياس إلى غيرها، فليس يجب أن يكون ما يعرض له إضافة إلى شيء يلزم أن تكون له إضافة أخرى إلى شيء آخر يقارن تلك الإضافة، فإنه ليس يجب إذا كان شيء من الأشياء تعرض له إضافتان إضافة قلة وإضافة كثرة معاً - حتى يكون كما أنه قليل بالقياس إلى شيء فهو كثير بالقياس إلى شيء آخر - فيلزم من ذلك أن تكون كل قلة تعرض لشيء يعرض له معها الكثرة، كما أنه ليس إذا كان شيء هو مالكاً ومملوكاً يجب أن لا يكون شيء مالكاً وحده، أو شيء هو جنس ونوع يلزم أن لا يكون شيء هو جنس وحده، فإنه ليس إنما صار القليل قليلاً لأجل أن له شيئاً هو أيضاً عنده كثير، بل لأجل الشيء الذي ذلك الشيء بالقياس إليه كثير. فالاثنوة هي القلة الأقلة، أما قلة فبالقياس إلى كل عدد لأنها تنقص عن كل عدد، وأما الأقلة فلأنها ليست بكثير عند عدد، وإذا لم تقس الاثنوة إلى شيء آخر ولا تكون قليلة. والكثرة يفهمون منها معنيان: أحدهما أن يكون الشيء فيه من الآحاد فوق واحد، وهذا ليس بالقياس إلى شيء آخر البتة، والآخر أن يكون الشيء فيه ما في شيء آخر وزيادة، وهذا هو الذي بالقياس. وكذلك العظم والطول والعرض، فالكثرة مطلقة تقابل الوحدة مقابلة الشيء مع مبدئه الذي يكيله، والكثرة الأخرى تقابل القلة مقابلة المضاف، ولا تضاد بين الوحدة والكثرة بوجه من الوجوه، وكيف والوحدة

الصفحة    : 63

تقوم الكثرة، ويجب أن نحقق القول في هذا.

الفصل السادس   (و)

فصل في تقابل الواحد والكثير.

وبالحري أن نتأمل كيف تجري المقابلة بين الكثير والواحد، فقد كان التقابل عندنا على أصناف أربعة، وقد تحقق ذلك. وسنحقق بعد أيضاً أن صورة التقابل توجب أن تكون أصنافه على هذه الجملة، وكان من ذلك تقابل التضاد. وليس يمكن أن يكون التقابل بين الوحدة والكثرة على هذه الجملة، وذلك أن الوحدة مقوّمة للكثرة ولا شيء من الأضداد يقوم ضده، بل يبطله وينفيه. لكن لقائل أن يقول: إن الوحدة والكثرة هذا شأنهما، فإنه ليس يجب أن يقال: إن الضد يبطل الضد كيف كان، بل إن قال: إن الضد يبطل الضد بأن يحل في موضوعه، فالوحدة أيضاً من شأنها أن تبطل الكثرة بأن تحل الموضوع الذي للكثرة، على ما جوزت أن يكون الموضوع تعرض له الوحدة والكثرة. فنقول في جواب هذا الإنسان: أن الكثرة كما أنها إنما تحصل بالوحدة فكذلك الكثرة إنما تبطل ببطلان وحداتها، ولا تبطل الكثرة البتة لذاتها بطلاناً أولياً، بل يعرض لوحداتها أولاً أن تبطل، ثم يعرض لها أن تبطل معها لبطلان وحداتها. فتكون الوحدة إذا أبطلت الكثرة فليس بالقصد الأول تبطلها، بل إنما تبطل أولاً الوحدات التي للكثرة عن حالها بالفعل إلى أن تصير بالقوة، فيلزم أن لا تكون الكثرة. فإذن الوحدة إنما تبطل أولاً الوحدة على أنها ليست تبطل الوحدة كما تبطل الحرارة البرودة. فإن الوحدة لا تضاد الوحدة، بل على أن تلك الوحدات يعرض لها سبب مبطل بأن تحدث عنه هذه الوحدة وذلك ببطلان سطوح. فإن كان لأجل هذه المعاقبة التي على الموضوع يجب أن تكون الوحدة ضد الكثرة، فالأولى أن تكون الوحدة ضد الوحدة وعلى أن تكون الوحدة ليست تبطل الوحدة ابطال الحرارة للبرودة، لأن الوحدة الطارئة إذا أبطلت الوحدة الأولى أبطلتها عما ليس هو بعينه موضوع الوحدة الأخرى، بل الأحرى أن يظن أنه جزء موضوعه. وأما الكثرة فليست تبطل عن هذه الوحدة بطلاناً أولياً، بل ليس يكفي في شرط المتضادين أن يكون الموضوع واحد يتعاقبان فيه بل يجب أن تكون - مع هذا التعاقب - الطبائع متنافية متباعدة، ليس من شأن أحدهما أن يتقوم بالآخر للخلاف الذاتي فيهما وأن يكون تنافيهما أولياً.

الصفحة    : 64

وأيضاً فلقائل أن يقول: إنه ليس موضوع الواحد والكثير واحداً، فإن شرط المتضادين أن يكون للاثنين منهما بالعدد موضوع واحد، وليس لوحدة بعينها وكثرة بعينها موضوع واحد بالعدد، بل في موضوع واحد بالنوع. وكيف يكون موضوع الوحدة والكثرة واحد بالعدد؟ ثم لا يخفى عليك أن تعلم مما سلف لك حقيقة هذا وما فيه وعليه وله، فقد ظهر وبان أن التقابل الذي بين الواحد والكثير ليس بتقابل التضاد. فلننظر هل التقابل بينهما تقابل الصورة والعدم؟ فنقول: أنه يلزم أول ذلك أن يكون العدم منهما عدم شيء من شأنه أن يكون للموضوع أو لنوعه أو لجنسه، على ما قد مضى لك من أمر العدم. ولك أن تتمحل وجهاً تجعل به الوحدة عدم الكثرة فيما من شأنه بنوعه أن يتكثر، وأن تتمحل وجهاً آخر تجعل به الكثر عدم للوحدة في أشياء في طبيعتها أن تتوحد. لكن الحق لا يجوز أن يكون شيئان كل واحد منهما عدم وملكة بالقياس إلى الآخر، بل الملكة منهما هو المعقول بنفسه الثابت بذاته، وأما العدم فهو أن لا يكون ذلك الشيء الذي هو المعقول بنفسه الثابت بذاته فيما من شأنه أن يكون، فيكون إنما يعقل ويحد بالملكة. وأما القدماء فقوم جعلوا هذا التقابل من العدم والملكة، وجعلوها هي المضادة الأولى، ورتبوا تحت الملكة والصورة: الخير والفرد والواحد والنهاية و اليمين والنور والساكن والمستقيم والمربع والعلم والذكر؛ وفي حيز العدم مقابلات هذه كالشر والزوج والكثرة واللانهاية واليسار والظلمة والمتحرك والمنحني والمستطيل والظن والأنثى. وأما نحن فقد يصعب علينا أن نجعل الملكة هي الوحدة ونجعل الكثرة هي العدم. أما أولاً، فإنا هو ذا نحد الوحدة بعدم الإنقسام أو عدم الجزء بالفعل، ونأخذ الإنقسام والتجزئة في حد الكثرة، وقد ذكرنا ما في هذا. وأما ثانياً، فإن الوحدة موجودة في الكثرة مقومة لها، وكيف تكون ماهية الملكة موجودة في العدم حتى يكون العدم يتألف من ملكات تجتمع؟ وكذلك إن كانت الملكة هي الكثرة فكيف يكون تركيب الملكة من أعدامها؟ فليس يجوز أن تجعل المقابلة بينهما مقابلة العدم والملكة. وإذ لا يجوز هذا فليس يجوز أن يقال: إن المقابلة بينهما هي مقابلة التناقض، لأن ما كان من ذلك في الألفاظ فهو خارج عن موافقة هذا الإعتبار، وما كان منه في الأمور العامة فهو من جنس تقابل العدم والملكة، بل هو جنس هذا التقابل. فإن بإزاء الموجبة الثبوت، وبإزاء السالبة العدم، ويعرض في ذلك من المحال ما يعرض فيما قلنا. فلننظر أنه: هل التقابل بينهما تقابل المضاف؟ فنقول: ليس يمكن أن يقال: إن بين الوحدة والكثرة في ذاتيهما تقابل المضاف، وذلك لأن الكثرة ليس

الصفحة    : 65

إنما تعقل ماهيتها بالقياس إلى الوحدة حتى تكون إنما هي كثرة لأجل أن هناك وحدة، وإن كان إنما هي كثرة بسبب الوحدة. وقد علمت في كتب المنطق الفرق بين ما لا يكون إلاّ بشيء وبين ما لا تقال ماهيته إلاّ بالقياس إلى شيء. بل إنما تحتاج الكثرة إلى أن يفهم لها أنها من الوحدة، لأنها معلولة للوحدة في ذاتها، ومعنى أنها معلولة غير معنى أنها كثيرة، والإضافة لها إنما هي من حيث هي معلولة، والمعلولية لازمة للكثرة لا نفس الكثرة. ثم لو كانت من المضاف لكان كما تقال ماهيتها بالقياس إلى الوحدة لكان يقال ماهية الوحدة من حيث هي وحدة بالقياس إلى الكثرة على شرط انعكاس المضافين، ولكانا متكافئين في الوجود من حيث هذه وحدة وتلك كثرة، وليس الأمر كذلك. فإذا قد بان لك جميع هذا، فبالحري أن تجزم أن لا تقابل بينهما في ذاتيهما ولكن يلحقهما تقابل وهو: أن الوحدة من حيث هي مكيال تقابل الكثرة من حيث هي مكيل، وليس كون الشيء وحدة، وكونه مكيالاً، شيئاً واحداً بل بينهما فرق. والوحدة يعرض لها أن تكون مكيالاً، كما أنها يعرض لها أن تكون علة. ثم الأشياء يعرض لها - بسبب الوحدة التي توجد لها - أن تكون مكاييل، ولكن واحد كل شيء ومكياله هو من جنسه. فالواحد في الأطوال طول، وفي العروض عرض، وفي المجسمات مجسم، وفي الأزمنة زمان، وفي الحركات حركة، وفي الأوزان وزن، وفي الألفاظ لفظ، وفي الحروف حرف. وقد يجتهد أن يجعل الواحد في كل شيء أضغر مما يمكن ليكون التفاوت فيه أقل ما يكون، فبعض الأشياء يكون واحده مفترضاً بالطبع مثل: جوزة وبطيخة، وبعضها يفرض فيه واحد بالوضع. فما زاد على ذلك الواحد أخذ أكثر من الواحد، وما نقص منه لم يؤخذ واحداً، بل يكون الواحد هذا المفروض بتمامه، ويجعل هذا الواحد أيضاً من أظهر الأشياء في ذلك الجنس فالواحد مثلاً في الأطوال: شبر، وفي العروض مثلاً: شبر في شبر، وفي المجسمات: شبر في شبر في شبر، وفي الحركات: حركة مقدرة معلومة، ولا توجد حركة بهذه الصفة عامة للجميع إلاّ الحركات المتقدرة بالطبيعة، وخصوصاً التي لا تختلف، بل تمتد متفقة حتى تبقى واحدة في كل تقدير، وخصوصاً التي هي أقل مقدار حركة. فالأقل مقدار حركة هو الأقل زماناً، وهذا هو الحركة الفلكية السريعة جداً المضبوط قدرها، لأن الدور لا يزاد عليه، ولا ينقص المعلوم صغر مقدارها بسرعة العود ليس مما ينتظر تجدده إلى حين، بل في كل يوم وليلة نتم دورة قريبة إلى الموجود والتجديد وإلى التجزئة أيضاً بحركات الساعات. فتكون حركة ساعة واحدة مثلاً هي مكيال الحركات، وكذلك زمانها مكيال الأزمنة، وقد يفرض في الحركات حركة واحدة بحسب المسافات، إلاّ أن ذلك غير مستعمل وغير واقع موقع الفرض الأول.

الصفحة    : 66

وأما في الأثقال فنفرض أيضاً ثقل درهم ودينار واحد أيضاً. وفي أبعاد الموسيقى إرخاء النغمة التي هي ربع طنيني أو ما يجري مجراها من الأبعاد الصغار ومن الأصوات الحرف المصوت المقصور، أو الحرف الساكن، أو مقطع مقصور. وليس يجب أن يكون كل واحد من هذه الأوضاع واقعاً بالضرورة، بل يقع بالفرض. ويمكن أن يفرض الواحد من كل باب ما هو أنقص وأزيد مما فرض، ومع هذا فليس يجب إذا كان في هذه الأشياء واحد منه مفروض أن يكال به جميع ما هو من ذلك الجنس، فإنه يجوز أن يكون الآخر مبايناً لكل ما كيل به أولاً. فههنا خط مباين لخط، وسطح مباين لسطح، وجسم مباين لجسم. وإذا كان الخط والسطح والجسم تُباين جسماً وسطحاً وخطاً، فكذلك الحركة قد تُباين الحركة. وإذا كان كذلك فالزمان والثقل أيضاً يباين الزمان والثقل أيضاً، ويجوز أن يكون لهذا الذي يباين ذلك مباين غير ذلك، وقد علمت جميع هذا في صناعة التعاليم. وإذا كان كذلك فستكون إذن الوحدات التي تفرض لكل جنس من هذه كثيرة وتكاد أن لا تتناهى. وإذا كان هناك واحد يصلح لكيل شيء فستكون أشياء تكاد لا تناهى لأن تكال به، ولما كان المكيال يعرف به المكيل، عد العلم والحس كالمكاييل للأشياء، فإنها تعلم بهما. فقال بعضهم: إن الإنسان يكيل كل شيء، لأنه بالعلم والحس، وبهما يدرك كل شيء. وبالحري أن كون العلم والحس مكيلين بالمعلوم والمحسوس، وأن يكون ذلك أصلاً له، لكنه قد يقع أن يكال المكيال أيضاً بالمكيل، فهكذا يجب أن يتصور الحال في مقابلة الوحدة والكثرة. وقد يشكل من حال الأعظم والأصغر أنهما كيف يتقابلان وكيف يقابلان المساواة. فإن المساوي يقابل كل واحد منهما، فإنه لا يجوز أن يكون المساوي والأعظم إلاّ متخالفين، وكذلك المساوي والأصغر، أما الأعظم والأصغر فإنهما إن تقابلا فمن المضاف، فكان هذا أعظم بالقياس إلى ما هو أصغر، فليس المساوي مضايفاً لأحدهما، بل لما هو مساو له. ويظن أنه ليس يجب حيث كان أعظم وأصغر أن يكون بينهما مساو موجود. فإن هذا قد علمته في موضع آخر. فإذا كان الأمر على هذا، فبالحري أن يكون المساوي ليست مقابلته الأولى للأعظم و الأصغر، بل لغير المساوي، وهو عدمه، مما شأنه أن تكون فيه المساواة. وليس عدمه في النقطة والوحدة واللون والعقل بأشياء لا تقدير لها، بل في أشياء لها تقدير وكمية.

الصفحة    : 67

فالمساوي إنما يقابل عدمه وهو اللا مساواة، لكن اللا مساواة تلزم هذين أعني الأعظم والأصغر. كالجنس لست أعني أنه جنس، بل أعني أنه يلزم كل واحد منهما، فإن واحد منهما هو عظيم، والعظيمية معنى وجودي يلزمه هذا العدم، والآخر صغير، والصغيرية من تلك الحيثية كذلك.

الفصل السابع   (ز)

فصل في أن الكيفيات أعراض.

فنتكلم الآن في الكيفيات. أما الكيفيات المحسوسة والجسمانية فلا يقع شك في وجودها، وقد تكلمنا أيضاً في وجودها في مواضع أخر، ونقضنا مشاغبات من تمارى في ذلك. لكنه إنما يقع الشك في أمرها، أنها هل هي أعراض أو ليست بأعراض. فإن من الناس من يرى أن تلك جواهر تخالط الأجسام وتسري فيها، فاللون بذاته جوهر، والحرارة كذلك، وكل واحد من هذه الأخر، فهي عنده بهذه المنزلة. وليس يقنعه أن هذه الأشياء توجد تارة وتعدم تارة، والشيء المشار إليه قائم موجود. فإنهم يقولون: إنه ليس يعدم ذلك، بل يأخذ يفارق قليلاً قليلاً، مثل الماء الذي يبتل به ثوب، فإنه بعد ساعة لا يوجد هناك ماء، ويكون الثوب موجوداً بحاله، ولا يصير الماء بذلك عرضاً، بل الماء جوهراً له أن يفارق جوهراً آخر لاقاه فربما فارق مفارقة لا يحس فيها بالأجزاء المفارقة منه، لأنها فارقت وهي أصغر مما يدركه الحس مفارقة مفترقة؛ ويقول بعضهم: إنها قد تكمن. فبالحري أن نبين أن ما يقولونه باطل، فنقول: لا يخلو إن كانت هذه الجواهر إما أن تكون جواهر هي أجسام، أو تكون جواهر ليس بأجسام. فإن كانت هذه جواهر غير جسمانية فإما أن تكون بحيث يمكن أن تؤلف منها أجسام، وهذا محال، إذ ما يتجزأ في أبعاد جسمانية فليس بالممكن أن يؤلف منه جسم؛ وإما أن لا يمكن، إنما يكون وجوده بالمقارنة للأجسام والسريان فيها. فأول ذلك لأنه لا يجوز لهذه الجواهر وضع، وكل جوهر ذي وضع فإنه منقسم، وقد بين ذلك. وثانياً، أنه لا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الجواهر من شأنه أن يوجد مفارقاً للجسم الذي يكون فيه، أو لا يكون؛ فإن لم يكن يوجد مفارقاً، وكان وجوده في الأجسام على أنها موضوعات له، إذ ليست فيه كالأجزاء، ولا هي مفارقته، والجسم الموصوف بها مستكمل الجوهرية بنفسه، فليست إلاّ أعراضاً، وإنما لها اسم الجوهرية فقط. وإن كانت تفارق أجسامها فإما أن تكون مفارقة تنتقل بها من جسم إلى جسم من غير أن يصح لها قوام مجرد، أو تكون لها مفارقة قوام مجرد. فإن كانت إذا لم توجد في جسم وكانت فيه، فإنما يكون ذلك بأن ينتقل إلى الآخر، فيجب من

الصفحة    : 68

ذلك أن يكون كل جسم فسد بياضه فقد انتقل بياضه إلى جسم يماسه، أو بقي مجرداً إلى أن يحصل في جسم بعيد، وهو غير مقارن جسماً في مدة قطع المسافة، وليس الأمر كذلك. وأما الكمون فقد فرغنا منه وبينا استحالته، فإنه يجب من ذلك أن يكون كل جسم يسخن جسماً فإنه ينقل إليه حرارة من نفسه، فيبرد هذا الذي يسخّن. ثم هذا النوع من الانتقال لا تبطل عرضيته، إذ كثير من الناس جوز في الأعراض أنفسها هذا الانتقال، أعني: الانتقال في أجزاء الموضوع، والانتقال من موضوع إلى موضوع؛ وإنما كان لا يكون عرضاً لو صح قوامه لا في موضوع. أما القائم في الموضوع إذا نظر فيه أنه هل يصح له أن ينتقل إلى موضوع آخر من غير أن يجرد عنهما، فهذا الاعتبار ليس يصح إلاّ بعد القوام في الموضوع. ثم هذا لا يصح البتة، لأنه يخلو إما أن يكون الذي وجد في موضوع ما تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصي، أو لا تتعلق؛ فإن كان تتعلق ذاته الشخصية بذلك الموضوع الشخصي فمعلوم أنه لا يجوز أن يبقى شخصه إلاّ في ذلك الموضوع الشخصي، وإن كان إنما أوجده في ذلك الموضوع سبب من الأسباب وليس ذلك السبب مقوّماً له من حيث هو ذلك الشخص، فقد يمكن أن يزال عنه ذلك السبب وسائر الأسباب حتى لا يحتاج قوامه إلى ذلك الموضوع. وزوال ذلك السبب ليس يكون سبب احتياجه إلى موضوع آخر، لأن السبب في أن لا يحتاج شيء إلى موضوع آخر، هو عدم السبب في أن كان يحتاج، وهو في ذاته ليس يحتاج. فزوال ذلك السبب ليس هو نفس وجود السبب الآخر إلاّ أن يكون مستحيلاً زوال ذلك السبب إلاّ لوجود هذا السبب الآخر لا غير. فإذا عرضنا هذا السبب زال ذلك السبب، فيكون الشيء قد فارقته الحاجة إلى الموضوع الأول واحتاج إلى الموضوع الآخر لأمرين: أما الأول، فزوال السبب الأول؛ وأما الثاني، فوجود السبب الثاني. لكن جملة هذه الأسباب تكون أموراً خارجة عن طباعه ليس يحتاج إليها في تحقيق ذاته موجوداً ذلك اللون مثلاً، بل إنما يحتاج إليها في أن تتخصص بموضوع. فكونه لوناً، وكونه هذا اللون بعينه إن كان يغنيه عن الموضوع، فليس يحوجه إلى أن يجعله محتاجاً إلى الموضوع، فإن الغني بوجوده عن الموضوع لا يعرض له ما يحوجه إلى الموضوع إلاّ بانقلاب عينه. وإن كان لا يغنيه، بل يعلقه بموضوع فيكون ذلك الموضوع متعيناً له، لأنه يقتضي أمراً متعيناً بعينه. فإن المتعين لا يقتضي أي شيء اتفق مما لا نهاية له بالقوة مما ليس بعضه يخالف الآخر في حكمه. فإن قيل: فكيف يقتضي الواحد المعين؟ فيقال: يقتضي الذي تعلق به صحة وجوده أولاً فيتعين له بذلك. فهذا اللون من حيث هو هذا اللون إما غني عن

الصفحة    : 69

الموضوع، وإما مقتصر على موضوع واحد. وأما انقلاب العين فقد تلزمنا من ذكره عهدة يجب أن نخرج منها. فإن انقلاب العين يعنى به أن يعدم هذا ويوجد ذلك من غير أن يدخل من الأول شيء في الثاني، فإنه إن كان هكذا فيكون الأول قد عدم والآخر قد حصل، ولا يكون الأول هو الذي انتقل إلى الثاني. بل إنما نعني بالانقلاب أن الموصوف بالأول صار موصوفاً بالثاني، وذلك أنه يبقى من الأول شيء في الثاني، فيكون مركباً من مادة وشيء فيها. فإن كان هذا صفة اللونية مثلاً في مسألتنا فيكون في اللونية شيء يبطل وشيء يبقى، فيكون هذا الذي بطل هو الذي صار به الشيء لوناً، بل هو اللونية وهو الصورة المادية أو العرض وكلامنا فيها. ونرجع فنقول: وأما إن كان يجوز له أن يفارق هذه الجواهر ويقوم مثلاً بياضاً أو شيئاً آخر بذاته، فلا يخلو إما أن يكون حينئذ إليه إشارة ويكون البياض الذي من شأنه أن يدرك إلاّ أن يعجز عن إدراكه للقلة الفاحشة، ويكون على الجملة التي تعرف البياض عليها. فإن كان كذلك فيلزم أن يكون خلاء موجوداً حتى يكون فيه مشار إليه وليس في الأجسام، ويلزم أن يكون له وضع ما وتقدير ما، فيكون له في ذاته مقدار يكون إلاّ القليل منه محسوساً، فإنا لا نتخيل بياضاً لا وضع له ولا مقدار، فضلاً عن أن نراه. وإذا كان له مقدار ووضع وزيادة هي هيئة البياضية كان جسماً أبيض لا مجرد البياض، فإنا نعني بالبياض هذه الهيئة الزائدة على المقدار والحجم، وإن كان لا يبقى على الجملة التي كان يعرف البياض عليها، بل قد انتقل عن هذه الصورة وصار شيئاً آخر روحانياً. فيكون البياض مثلاً له موضوع يعرض له أن تكون فيه البياضية التي على النحو المعروف، ويعرض لع أن يصير مرة أخرى بصورة أخرى روحانية فيكون أولاً ما تعرفه بياضاً قد فسد وزالت صورته. وأما المفارق العقلي فقد أشرنا - فيما سلف - إلى أنه لا يجوز أن ينتقل مثل هذا الشيء مرة أخرى ذا وضع ومخالطاً للأجسام. وأما إن جاعل البياض شيئاً في نفسه ذا مقدار، فيكون له وجودان: وجود أنه بياض، ووجود أنه مقدار. فإن كان مقداره بالعدد غير مقدار الجسم الذي هو فيه بالعدد، فإذا كان في الأجسام وسارياً فيها فيكون قد دخل بُعدٌ في بُعد، وإن كان هو نفس الجسم منحازاً فيكون الأمر قد عاد إلى أن الشيء الذي هو البياض جسم وله بياضية. فتكون البياضية موجودة في ذلك الجسم إلاّ أنها لا تفارق، ولا يكون البياض مجموع ذلك الجسم والكيفية، بل شيء في ذلك الجسم. إذ حد البياض وماهيته ليس ماهية الطويل العريض العميق، بل تكون ماهية الطويل العريض العميق للحرارة أيضاً على هذا الرأي، فيكون

الصفحة    : 70

البياض مقارناً لهذا الشيء ناعتاً له. وهذا معنى قولنا: الصفة في الموصوف، وتكون مع ذلك لا تفارقه وليست جزءاً من ذلك الشيء الذي هو الطويل العريض، فيكون البياض والحرارة عرضاً إلاّ أنه لازم. فيبقى الكلام في أن من طبيعته أن يفارق أيضاً، فقد تبين أن الكيفيات التي هي المحسوسة أعراض، وهذا مبدأ للطبيعيات. وأما الاستعدادات فأمرها واضح، وأما التي تتعلق بالنفس وذوات الأنفس فقد تبين في الطبيعيات أنها أعراض تقوم في أجسام، وذلك حين تكلمنا في أحوال النفس.

الفصل الثامن   (ح)

فصل في العلم وأنه عرض.   

وأما العلم فإن فيه شبهة، وذلك لأن لقائل أن يقول: إن العلم هو المكتسب من صور الموجودات مجردة عن موادها، وهي صور جواهر وأعراض. فإن كانت صور الأعراض أعراضاً، فصور الجواهر كيف تكون أعراضاً؟ فإن الجوهر لذاته جوهر فماهية جوهر لا تكون في موضوع البتة وماهيته محفوظة سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو نسبت إلى الوجود الخارجي. فنقول: إن ماهية الجوهر جوهر بمعنى أنه الموجود في الأعيان لا في موضوع، وهذه الصفة موجود لماهية الجواهر المعقولة، فإنها ماهية شأنها أن تكون موجود في الأعيان لا في موضوع، أي أن هذه الماهية هي معقولة عن أمر وجوده في الأعيان أن يكون لا في موضوع. وأما وجوده في العقل بهذه الصفة فليس ذلك في حده من حيث هو جوهر، أي ليس حد الجوهر أنه في العقل لا في موضوع، بل حده أنه سواء كان في العقل أو لم يكن فإن وجوده في الأعيان ليس في موضوع. فإن قيل: فالعقل أيضاً من الأعيان، قيل: يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله وأحكامه. والحركة كذلك ماهيتها أنها كمال ما بالقوة، وليست في العقل حركة بهذه الصفة حتى يكون في العقل كمال ما بالقوة كم جهة كذا حتى تصير ماهيتها محركة للعقل، لأن معنى كون ماهيتها على هذه الصورة هو أنها ماهية تكون في الأعيان كمالاً لما بالقوة وإذا عقلت فإن هذه الماهية تكون أيضاً بهذه الصفة، فإنها في العقل ماهية تكون في الأعيان كمال ما بالقوة، فليس يختلف كونها في الأعيان وكونها في العقل، فإنه في كليهما على حكم واحد فإنه في كليهما ماهية توجد في الأعيان كمالاً لما

الصفحة    : 71

بالقوة. فلو كنا قلنا: إن الحركة ماهية تكون كمالاً لما بالقوة في الأبدان مثلاً لكل شيء توجد فيه، ثم وجدت في النفس لا كذلك، لكانت الحقيقة تختلف. وهذا كقول القائل: إن حجر المغناطيس حقيقته أنه حجر يجذب الحديد، فإذا وجد مقارناً لجسمية كف الإنسان ولم يجذبه، ووجد مقارناً لجسمية حديد ما فجذبه، فلم يجب أن يقال: إنه مختلف بالحقيقة في الكف وفي الحديد، بل هو في كل واحد منهما بصفة واحدة وهو: أنه حجر من شأنه أن يجذب الحديد، فإنه إذا كان في الكف أيضاً كان بهذه الصورة، وإذا كان عند الحديد أيضاً كان بتلك الصفة. فكذلك حال ماهيات الأشياء في العقل، والحركة في العقل أيضاً بهذه الصفة، وليس إذا كانت في العقل في موضوع بطل أن تكون في العقل ليست ماهية ما في الأعيان ليست في موضوع. فإن قيل، قد قلتم: إن الجوهر هو ما ماهيته لا تكون في موضوع أصلاً، وقد صيرتم ماهية المعلومات في موضوع. فنقول، قد قلنا: إنه لا يكون في موضوع في الأعيان أصلاً. فإن قيل: قد جعلتم ماهية الجوهر أنها تارة تكون عرضاً وتارة جوهراً، وقد منعتم هذا. فنقول: إنا منعنا أيضاً أن تكون ماهية شيء توجد في الأعيان مرة عرضاً ومرة جوهراً حتى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما وفيها لا تحتاج إلى موضوع البتة، فلم نمنع أن يكون معقول تلك الماهيات يصير عرضاً، أي تكون موجودة في النفس لا كجزء. ولقائل أن يقول: فماهية العقل الفعال والجواهر المفارقة أيضاً كذا يكون حالها، حتى يكون المعقول منها عرضاً، لكن المعقول منها لا يخالفها لأنها لذاتها معقولة. فنقول: ليس الأمر كذلك، فإن معنى قولنا: إنها لذاتها معقولة هو أنها تعقل ذاتها، وإن لم يعقلها غيرها، وأنها أيضاً مجردة عن المادة وعلائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولاه العقل. وأما إن قلنا: إن هذا المعقول منها يكون من كل وجه هي أو مثلها، أو قلنا: إنه ليس يحتاج في وجود المعقول منها إلاّ أن توجد ذاتها في النفس، فقد أحلنا. فإن ذاتها مفارقة، ولا تصير نفسها صورة لنفس إنسان، ولو صارت لكانت تلك النفس قد حصلت فيها صورة الكل وعلمت كل شيء بالفعل، ولكانت تصير كذلك لنفس واحدة، وتبقى النفوس الأخرى ليس لها الشيء الذي تعقله، إذ قد استبد بها نفس ما. والذي يقال: إن شيئاً واحداً بالعدد يكون صورة لمواد كثيرة لا بأن يؤثر فيها، بل بأن يكون هو بعينه منطبعاً في تلك المادة وفي أخرى وأخرى، فهو محال يعلم بأدنى تأمل. وقد أشرنا إلى الحال في ذلك

الصفحة    : 72

عند كلامنا في النفس، وسنخرج من بعد إلى خوض في إبانة ذلك. فإذن تلك الأشياء إنما تحصل في العقول البشرية معاني ماهياتها لا ذواتها، ويكون حكمها حكم سائر المعقولات من الجواهر إلاّ في شيء واحد هو أن تلك تحتاج إلى تفسيرات حتى يتجرد منها معنى يعقل، وهذا لا يحتاج إلى شيء غير أن يوجد المعنى كما هو فتنطبع به النفس. فهذا الذي قلناه إنما هو نقض حجة المحتج، وليس فيه إثبات ما تذهب إليه، فنقول: إن هذه المعقولات سنبين أمرها بعد، أن ما كان من الصور الطبيعية والتعليميات فليس يجوز أن يقوم مفارقاً بذاته، بل يجب أن يكون في عقل أو نفس. وما كان من أشياء مفارقة، فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا، ليس هو علمنا لها، بل يجب أن نتأثر عنها فيكون ما يتأثر عنها هو علمنا بها، وكذلك إن كانت صوراً مفارقة وتعليميات مفارقة فإنما يكون علمنا بها ما يحصل لنا منها، ولا تكون أنفسها توجد لنا متنقلة إلينا، فقد بينا بطلان هذا في مواضع. بل الموجود منها لنا هي الآثار المحاكية لها لا محالة وهي علمنا. وذلك يكون إما أن يحصل لنا في أبداننا أو نفوسنا. وقد بينا استحالة حصول ذلك في أبداننا، فيبقى أنها تحصل في نفوسنا. ولأنها آثار في النفس، لا ذوات تلك الأشياء، ولا أمثال لتلك الأشياء قائمة لا في مواد بدنية أو نفسانية، فيكون ما لا موضوع له يتكثر نوعه بلا سبب يتعلق به بوجه؛ فهي أعراض في النفس.

الفصل التاسع    (ط)

الصفحة    : 73

فصل في الكيفيات التي في الكميات وإثباتها.

هذا الفصل يليق بالطبيعيات، وقد بقي جنس واحد من الكيفيات يحتاج إلى إثبات وجوده وإلى التنبيه على كونه كيفية، وهذه هي الكيفيات التي في الكميات. أما التي في العدد كالزوجية والفردية غير ذلك، فقد علم وجود بعضها وأثبت وجود الباقي في صناعة الحساب. وأما أنها أعراض، فلأنها متعلقة بالعدد، وخواص له، والعدد من الكم، والكم عرض. وأما التي تعرض للمقادير فليس وجودها ببّين، فإن الدائرة والخط المنحني والكرة والاسطوانة والمخروط ليس شيء منها ببين الوجود، ولا يمكن للمهندس أن يبرهن على وجودها. لأن سائر الأشياء إنما تبين له بوضع وجود الدائرة، ولأن ذلك المثلث يصح وجوده إن صحت الدائرة، وكذلك المربع، وكذلك سائر الأشكال. وأما الكرة، فإنما يصح وجودها على طريقة المهندس إذا أراد دائرة في دائرة على نحو ما علمت والاسطوانة إذا حركت دائرة حركة يلزم فيها مركزها خطاً مستقيماً طرفه في مركزها في أول الوضع لزوماً على الاستقامة. والمخروط إذا حركت مثلثاً قائم الزاوية على أحد ضلعي القائمة حافظاً بطرف ذلك الضلع مركز الدائرة ودائراً بالضلع الثاني على محيط الدائرة. ثم الدائرة مما ينكر وجودها من يرى تأليف الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، فيجب أن يبين وجود الدائرة. وأما عرضيتها فتظهر لنا لتعلقها بالمقادير التي هي أعراض. فنقول: أما على مذهب من يركب المقادير من أجزاء لا تتجزأ فقد يمكن أن يثبت عليه أيضاً وجود الدائرة من أصوله، ثم ينقص بوجود الدائرة جزءه الذي لا يتجزأ. وذلك لأنه إذا فرضت دائرة على النحو المحسوس، وكانت على ما يقولون غير دائرة في الحقيقة، بل كان المحيط مضرساً. وكذلك إذا فرض فيها جزء على أنه المركز، وإن لم يكن ذلك الجزء مركزاً بالحقيقة، فقد يكون عندهم مركزاً في الحس، ويجعل المفروض مركزاً في الحس طرفاً خط، مؤلف من أجزاء لا تتجزأ، مستقيم، فإن ذلك صحيح الوجود مع فرض ما لا يتجزأ. فإن طوبق بطرفه الآخر جزء من الذي عند المحيط، ثم أزيل وضعه، وأخذ الجزء الذي يلي الجزء الذي من المحيط الذي اعتبرناه وطابقنا به الخط أولاً فطوبق به أس الخط المستقيم مطابقة مماسة أو موازاة إلى جهة المركز. فإن طابق المركز فذلك الغرض، وإن زاد أو نقص فيمكن أن يتم ذلك بالأجزاء حتى لا يكون هناك جزء يزيد، لأنه إن زاد أزيل، وإن نقص تمم وإن نقص بإزالته وزاد بالحاقه فهو منقسم لا محالة وقد فرض غير منقسم. فإذا جعل كذلك بجزء

الصفحة    : 74

جزء تمت الدائرة. ثم إن كان في سطحها تضريس أيضاً من أجزاء، فإن كانت موضوعة في فرج أدخلت تلك الأجزاء الفرج ليسد بها الخلل من السطح كلها، وإن كانت لا تدخل الفرج فالفرج أقل منها في القدر فهي إذن منقسمة إذ الذي يملأ الفرج أقل حجماً منها، وما هو كذلك، فهو نفسه منقسم وإن لم يمكن فصله. وإن لم تكن موضوعة في فرج أزيلت من وجه السطح من غير حاجة إليها. فإن قال قائل: إنه إذا طوبق بين الجزء المركزي وبين المحيطي مرة، فليس يمكن التطبيق لا بمماسة ولا بموازاة مع المركزي، والذي بلى ذلك الجزء من المحيط. فإنا نقول له: أرأيت لو أعدمت هذه الأجزاء كلها وبقي الذي في المركز والمحيط؟ أهل كان بينهما استقامة يمكن أن يطبق عليه هذا الخط؟ فإن لم يجوزوا ذلك فقد خرجوا عن البين بنفسه، وأوقعوا أنفسهم في شغل آخر وهو أنه يمكن أن تفرض مواضع مخصوصة فيها تتم هذه الاستقامة في الخلاء الذي لهم، حتى يكون بين جزئين في الخلاء استقامة، وبين جزئين آخرين لا يكون. وهذا شطط ممن يتكلفه ويجوز القول به، فلا ضير، فإنما يبيع عقله بثمن بخس. فإن البديهة أيضاً تشهد أن بين كل جزئين تتفق محاذاة لا محالة يملأها الملأ أقصر الملأ، أو أقصر بعد في الملأ. وإن قالوا: إن ذلك يكون، ولكن ما دامت هذه الأجزاء موجودة فلا يكون بينهما هذه المحاذاة، ولا يجوز أن يوازي طرفيها طرفاً مستقيم، فهذا أيضاً من ذلك. فتكون كأن تلك الأجزاء إن وجدت تغير حكم المحاذاة عن حكمه لو كانت معدومة، وجميع هذا مما لا يشكل على البديهة بطلانه ولا الوهم - الذي هو القانون في الأمور المحسوسة وما يتعلق بها، كما علمت - يتصوره. على أن الأجزاء التي لا تتجزأ لا تتألف منها بالحقيقة لا دائرة ولا غير دائرة، وإنما هذا على قانون القائلين به. وإذا صحت دائرة صحت الأشكال الهندسية فيبطل الجزء ويعلم ذلك من أن كل خط ينقسم بقسمين متساويين وأن قطرأ لا يشارك ضلعاً وما أشبه ذلك، فإن الخط الفرد الأجزاء لا ينقسم بقسمين متساويين، وكل خط مؤلف من أجزاء لا تتجزأ يشارك فيها كل خط، وهذا خلاف ما يبرهن عليه بعد وضع الدائرة، وكذلك أشياء أخرى غير هذا. وأما إثبات الدائرة على أصل المذهب الحق فيجب أن نتكلم فيه، وأما الاستقامة وجوب محاذاة بين طرفي خط إذا لزمه المتحرك لم يكن حايداً، وإن فارقه كان حايداً عادلاً، فذلك أمر لا يمكن دفعه. فنقول: قد تبين في الطبيعيات من وجه وجود الدائرة، وذلك لأنه تبين لنا أن جسماً بسيطاً، وتبين أن كل

الصفحة    : 75

جسم بسيط فله شكل طبيعي، وتبين أن شكله الطبيعي هو الذي لا يختلف البتة في أجزائه، ولا شيء من الأشكال الغير المستديرة كذلك. فقد صح وجود الكرة وقطعها بالمستقيم هو الدائرة فقد صح وجود الدائرة. وأيضاً يمكننا أن نصحح ذلك فنقول: من البين أنه إذا كان خط أو سطح على وضع ما فليس من المستحيل أن يفرض لسطح آخر أو خط آخر أن يكون وضعه بحيث يلاقيه من أحد طرفيه على زاوية. ومن البين أنه يمكننا أن ننقل هذا الجسم أو هذا الخط نقلاً كيف شئنا إلى أن يصير ملاقياً لذلك الآخر أو موضوعاً في موضعه، كأن يحاذيه بجميع امتداده ملاقياً له أو موضوعاً في موضعه أو موازياً. ويمكن لجسم واحد بعينه أن يوضع على وضع ثم يوضع على وضع آخر يقاطعه والكلام في الجسمين والجسم الواحد واحد. فإن كانت الاستقامة ولم تكن استدارة لم يمكن هذا البتة، لأنه إن كانت الحركة إلى الإنطباق على الاستقامة ذاهبة في الطول ثم راجعة أي الرجوعات كانت، أو ذاهبة في السمك راجعة كيف كانت، أو ذاهبة عرضاً من الجهتين أو كيف فرضت، فإنه إذا كان يحفظ النقطة التي تفرض على واسطة السطح أو الخط في تحركها خطاً مستقيماً، فإنه لا يلقى البتة ذلك الجسم، بل يقاطعه كيف كان. وأنت يمكنك أن تفرض كل واحد من هذه الأقسام بالفعل وتعتبره، بل يجب آخر الأمر أن تتفق حركته على صفة أذكرها. إما أن يكوت أحد الطرفين فيها من الخط أوالسطح أو الجسم لازماً موضعه، والآخر ينتقل، وذلك على الدور؛ أو كلاهما ينتقلان، ولكن على صفة أن يكون أحدهما أبطأ والآخر أسرع؛ فيكون الطرفان أو المتحرك وحده على كل حال يقع قوس دائرة. وإذا صح وجود قوس دائرة صح أن يضعف إلى التمام، وهذا على الأصول الصحيحة. وأما إن قال أحد بالتفكيك، فالطريقة الأولى تناقضه. وأيضاً لنفرض جسماً ثقيلاً ونجعل أحد طرفيه أثقل من الآخر، ونجعله قائماً على سطح مسطح مماساً له بطرفه الأخف حتى يقوم قائماً عليه بحيلة، وأنت تعلم أن قيامه إذا عدل ميله إلى الجهات مما يستمر، وأنه إذا أميل إلى جهة وزال الداعم حتى سقط فتحدث دائرة لا محالة أو منحنٍ. أما كيف تكون، فلنفرض نقطة في الرأس المماس للسطح، وهي أيضاً تلقى نقطة من السطح، فحينئذ لا يخلو إما أن تثبت النقطة في موضعها، فتكون كل نقطة نفرضها في رأس ذلك الجسم قد فعلت دائرة؛ وأما أن يكون - مع حركة هذا الطرف إلى أسفل - يتحرك الطرف الآخر إلى فوق، فيكون قد فعل كل واحد من الطرفين دائرة، ومركزها النقطة المتحددة بين الجزء الصاعد والجزء الهابط، وإما أن تتحرك النقطة منجزة على طول السطح، فيفعل الطرف الآخر قطعاً أو خطاً أو منحنياً، ولأن الميل إلى المركز

الصفحة    : 76

إنما هو على المحاذاة، فمحال أن تنجز النقطة على السطح. لأن تلك الحركة إما أن تكون بالقسر أو بالطبع، وليست بالطبع وليست بالقسر، لأن ذلك القسر لا يتصور إلاّ عن الأجزاء التي هي أثقل، وتلك ليست تدفعها إلى تلك الجهة، بل إن دفعتها على حفظ الإتصال دفعتها على خلاف حركتها ونقلتها ليمكن أن تنزل هي، كأن العالية منها إذ هي أثقل تطلب حركة أسرع، والمتوسطة أبطأ. وهناك إتصال يمنع ميلاً من أن ينعطف فيضطر العالي إلى أن يشيل السافل حتى ينحدر، فيكون حينئذ الجسم منقسماً إلى جزئين: جزء يميل إلى العلو قسراً، وجزء يميل إلى السفل طبعاً، وبينهما حد هو مركز للحركتين، وقد خرج منه خط مستقيم ما فيفعل الدائرة. فبين أنه إن لزم عن انحدار الجسم زوال فهو إلى فوق، وإن لم يزل عنه فموجود الدائرة أصح. فإذا ثبتت الدائرة ثبت المنحني، لأنه إذا ثبتت الدائرة ثبتت المثلثات والقائم الزاوية أيضاً، وثبت جواز دور أحد ضلعي القائمة على الزاوية فصح مخروط، فإن فصل مخروط بسطح محارف صح قطع، فصح منحن.

 الفصل العاشر   (ي)

الصفحة    : 77

فصل في المضاف

وأما القول في المضاف، وبيان أنه كيف يجب أن تتحقق ماهية المضاف والإضافة وحدهما، فالذي قدمناه في المنطق كاف لمن فهمه. وأما أنه إذا فرض للإضافة وجود كان عرضاً، فلذلك أمر لا شك فيه، إذ كان أمراً لا يعقل بذاته، إنما يعقل دائماً لشيء إلى شيء، فإنه لا إضافة إلاّ وهي عارضة. أول عروضها للجوهر مثل: الأب والابن، أو للكم فمنه ما هو مختلف في الطرفين، ومنه ما هو متفق بالمختلف مثل: الضعف والنصف، والمتفق مثل: المساوي والمساوي والموازي والموازي والموازي والمطابق والمطابق والمماس والمماس. ومن المختلف ما اختلافه محدود ومحقق كالنصف والضعف، ومنه ما هو غير محقق إلاّ أنه مبني على محقق كالكثير الأضعاف والكل والجزء، ومنه ما ليس بمحقق بوجه مثل الزائد والناقص والبعض والجملة. وكذلك إذا وقع مضاف في مضاف كالأزيد والأنقص فإن الأزيد إنما هو زائد بالقياس إلى زائد أيضاً مقيس إلى ناقص. ومن المضاف ما هو في الكيف فمنه متفق كالمشابهة، ومنه مختلف كالسريع والبطيء في الحركة، والثقيل والخفيف في الأوزان، والحاد والثقيل في الأصوات وكذلك قد تقع فيها كلها إضافة في إضافة، وفي الاين كالأعلى والأسفل، وفي المتى كالمتقدم والمتأخر، وعلى هذه الصفات، وتكاد تكون المضافات منحصرة في أقسام المعادلة، والتي بالزيادة والنقصان، والتي بالفعل والإنفعال ومصدرها من القوة، والتي بالمحاكاة. فإما التي بالزيادة فإما من الكم كما تعلم، وإما في القوة مثل الغالب والقاهر والمانع وغير ذلك. والتي بالفعل والإنفعال كالأب والابن والقاطع والمنقطع وما أشبه ذلك، والتي بالمحاكاة فكالعلم والمعلوم والحس والمحسوس، فإن بينهما محاكاة، فإن العلم يحاكي هيئة المعلوم، والحس يحاكي هيئة المحسوس، على أن هذا لا يضبط تقديره وتحديده. لكن المضافات قد تنحصر من جهة، فقد يكون المضافان شيئين لا يحتاجان إلى شيء آخر من الأشياء التي لها استقرار في المضاف حتى تعرض لأجله لهما إضافة، مثل المتيامن والمتياسر، فليس في المتيامن كيفية أو أمر من الأمور مستقر صار به مضافاً بالتيامن إلاّ نفس المتيامن. وربما احتيج إلى أن يكون في كل واحد من الأمرين شيء حتى يصير به منقاساً إلى الآخر، مثل العاشق والمعشوق. فإن العاشق هيئة أدراكية هي مبدأ الإضافة، وفي المعشوق هيئة مدركة هي التي جعلته معشوقاً لعاشقه.

الصفحة    : 78

وربما كان هذا الشيء في إحدى الجهتين دون الأخرى مثل العالم والمعلوم. فإن العالم قد حصل في ذاته كيفية هي العلم، صار بها مضافاً إلى الآخر. والمعلوم لم يحصل في ذاته شيء آخر، إنما صار مضافاً لأنه قد حصل في ذلك الآخر شيء هو العلم. والذي بقي لنا ههنا من أمر المضاف أن نعرف هل الإضافة معنى واحداً بالعدد وبالموضوع، موجود بين شيئين وله اعتباران كما ظنه بعض الناس، بل أكثرهم؟ أو لكل واحد من المضافين خاصية في إضافته؟ فنقول: إن كل واحد من المضافين فإن له معنى في نفسه بالقياس إلى الآخر، ليس هو المعنى الذي للآخر في نفسه بالقياس إليه. وهذا بيّن في الأمور المختلفة الإضافة كالأب فإن إضافته للأبوة - وهي وصف وجوده - في الأب وحده، ولكن إنما هو للأب بالقياس إلى شيء آخر في الأب، وليس كونه بالقياس إلى الآخر هو كونه في الآخر، فإن الأبوة ليست في الابن وإلاّ لكانت وصفاً له يشتق له منه الإسم، بل الأبوة في الأب. وكذلك أيضاً حال الابن بالقياس إلى الأب فليس ههنا شيء واحد البتة هو في كليهما، فليس ههنا إلاّ أبوة أو بنوة. وأما حالة موضوعة للأبوة والبنوة فلسنا نعرفها ولا لها إسم. فإن كان ذلك كون كل واحد منهما بحال بالقياس إلى الآخر، فهذا ككون كل واحد من الققنس والثلج أبيض، فإنه ليس يجب أن يكون شيئاً واحداً، وليس كونه بالقياس إلى الآخر يجعله واحداً، لأن ما لكل واحد بالقياس إلى الآخر فهو لذلك الواحد لا الآخر، لكنه بالقياس إلى الآخر. فإذا فهمت ذلك فيما مثلناه لك، فاعرف الحال في سائر المضافات التي لا اختلاف فيها. وإنما يقع أكثر الإشكال في هذا الموضع، فإنه لما كان لأحد الأخوين حالة بالقياس إلى الآخر، وكان للآخر أيضاً حالة بالقياس إلى الأول، وكانت الحالتان من نوع واحد حُسبتا شخص واحداً وليس كذلك. فإن الأول أخوة الثاني أي له وصف أنه أخو الثاني، ذلك الوصف له ولكن بالقياس إلى الثاني. وليس ذلك وصف الثاني بالعدد، بل بالنوع، كما لو كان الثاني أبيض والأول أبيض، بل الثاني أيضاً أنه أخو هذا الأول لأن له حالة في ذاته مقولة بالقياس إلى الأول. وكذلك المماسة في المتماسين، فإن كل واحد منهما مماس لصاحبه بأن له مماسته التي لا تكون إلاّ بالقياس إلى الآخر إن كان الآخر مثله. فلا تظنن البتة أن عرضاً واحداً بالعدد يكون في محلين حتى يحتاج أن تعتذر من ذلك في جعلك العرض إسماً مشكّكاً كما فعله ضعفاء التمييز. لكن الأشد اهتماماً من هذا، معرفتنا هل الإضافة في نفسها موجودة في الأعيان أو أمر إنما يتصور في العقل، ويكون ككثير من الأحوال التي تلزم الأشياء إذا عقلت بعد أن تحصل في العقل، فإن الأشياء إذا

الصفحة    : 79

عقلت تحدث لها في العقل أمور لم يكن لها من خارج، فتصير كلية وجزئية وذاتية وعرضية وتكون جنس وفصل وتكون محمول وموضوع وأشياء من هذا القبيل. فقوم ذهبوا إلى أن حقيقة الإضافات إنما تحدث أيضاً في النفس إذا عقلت الأشياء. وقوم قالوا: بل بالإضافة شيء موجود في الأعيان، واحتجوا وقالوا نحن نعلم أن هذا في الوجود أب ذلك، وأن ذلك في الوجود ابن هذا، عقل أو لم يعقل، ونحن نعلم أن النبات يطلب الغذاء، وأن الطلب مع إضافة ما، وليس للنبات عقل بوجه من الوجوه ولا إدراك؛ ونحن نعلم أن السماء في نفسها فوق الأرض، والأرض تحتها، أدركت أو لم تدرك، وليست الإضافة إلاّ أمثال هذه الأشياء التي أومأنا إليها وهي تكون للأشياء وإن لم تدرك. وقالت الفرقة الثانية: إنه لو كانت الإضافة موجودة في الأشياء لوجب من ذلك أن لا تنتهي الإضافات، فإنه كان يكون بين الأب والابن إضافة، وكانت تلك الإضافة موجودة لهما أو لأحدهما أو لكل واحد منهما. فمن حيث الأبوة للأب وهي عارضة له، والأب معروض لها، فهي مضافة، وكذلك البنوة. فههنا إذن علاقة للأبوة مع الأب والبنوة مع الابن خارجة عن العلاقة التي بين الأب والابن فيجب أن تكون للإضافة إضافة أخرى وأن تذهب إلى غير النهاية، وأن تكون أيضاً من الإضافات ما هي علاقة بين موجود ومعدوم؛ كما نحن متقدمون بالقياس إلى القرون التي تخلفنا وعالمون بالقيامة. والذي تنحل به الشبهة من الطرفين جميعاً أن نرجع إلى حد المضاف المطلق فنقول: إن المضاف هو الذي ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره، فكل شيء في الأعيان يكون بحيث ماهيته إنما تقال بالقياس إلى غيره فذلك الشيء من المضاف. لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة، فالمضاف في الأعيان موجود، فإن كان للمضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ماله من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره وغيره، إنما هو معقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى، وهذا المعنى ليس معقولاً بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه، بل هو مضاف لذاته على ما علمت. فليس هناك ذات وشيء هو الإضافة، بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهي من هذا الطريق الإضافات. وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع، فهو من حيث أنه في هذا الموضوع ماهيته معقولة بالقياس إلى هذا الموضوع، وله وجود آخر مثلاً وهو: وجود الأبوة، وذلك الوجود أيضاً مضاف. ولكن ليس ذلك هذا، فليكن هذا عارضاً من المضاف لزم المضاف، وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى. فالكون محمولاً مضاف لذاته، والكون أبوة صارت

الصفحة    : 80

مضافة لذاته. فإن نفس هذا الكون مضاف بذاته ليس يحتاج إلى إضافة أخرى يصير بها مضافاً، بل هو لذاته ماهية معقولة بالقياس إلى الموضوع، أي هو بحيث إذا عقلت ماهيته كانت محتاجة إلى أن يحضر في الذهن شيئاً آخر يعقل هذا بالقياس إليه. بل إذا أخذ هذا مضافاً في الأعيان فهو موجود مع شيء آخر لذاته لا لمعية أخرى تتبعه، بل نفسه نفس المع أو المعية المخصصة بنوع تلك الإضافة. فإذا عقل احتيج إلى أن يعقل مع احضار شيء آخر، كما كانت ماهية الأبوة من حيث هي أبوة، فذاتها مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى رابطة، وللعقل أن يخترع أمراً بينها كأنه معية خارجة منهما لا يضطر إليه نفس التصور، بل اعتبار آخر من الاعتبارات اللاحقة التي يفصلها العقل. فإن العقل قد يقرن أشياء بأشياء لأنواع من الاعتبارات لا للضرورة، فأما في نفسها فهي إضافة، لا بإضافة لأنها ماهية لذاتها تعقل بالقياس إلى الغير. وههنا إضافات كثيرة تلحق بعض الذوات لذاتها لا لإضافة أخرى عارضة، بل مثل ما يجري عليه الأمر من لحوق هذه الإضافة للإضافة الأبوية. وذلك مثل لحوق الإضافة لهيئة العلم فإنها لا تكون لاحقة بإضافة أخرى في نفس الأمور، بل تلحقها لذاتها، وإن كان العقل ربما أخترع هناك إضافة أخرى. وإذ قد عرفت هذا فقد عرفت أن المضاف في الوجود موجود بمعنى أن له هذا الحد، وهذا الحد لا يوجب أن يكون المضاف في الوجود إلاّ عرضاً إذا عقل كان بالصفة المذكورة، ولا يوجب أن يكون أمراً قائم الذات واحداً واصلاً بين الشيئين. وأما القول بالقياس فإنما يحدث في العقل، فيكون ذلك هو بالإضافة العقلية والإضافة الوجودية ما بيناه، وهو بحيث إذا عقل كان معقول الماهية بالقياس، وأما كونه في العقل فإن يكون عُقل بالقياس إلى غيره، فله في الوجود حكم، وفي العقل حكم، من حيث هو في العقل لا من حيث الإضافة. ويجوز في العقل إضافات مخترعة إنما يفعلها العقل بسبب الخاصية التي للعقل منها. فالمضاف إذن موجود في الأعيان وبان أن وجوده لا يوجب أن يكون هناك إضافة إلى إضافة بغير نهاية. وليس يلزم من هذا أن يكون كل ما يعقل مضافاً يكون له في الوجود إضافة. وأما المتقدم والمتأخر في الزمان، وأحدهما معدوم وما أشبه ذلك، فإن التقدم والتأخر متضايفان بين الوجود إذا عُقِل، وبين المعقول الذي ليس مأخوذاً عن الوجود الخاص؛ فاعلمه. فإن الشيء في نفسه ليس بمتقدم إلاّ بشيء موجود معه، وهذا النوع من المتقدم والمتأخر موجود

الصفحة    : 81

للطرفين معاً في الذهن، فإنه إذا أحضرت في الذهن صورة المتقدم وصورة المتأخر عقلت في النفس هذه المقايسة واقعة بين موجودين فيه، إذ كانت هذه المقايسة بين موجودين في العقل. وأما قبل ذلك فلا يكون الشيء في نفسه متقدماً، فكيف يتقدم على لا شيء موجود؟ فما كان من المضافات على هذه السبل فإنما تضايفها في العقل وحده، وليس في الوجود لها معنى قائم من حيث هذا التقدم والتاخر، بل هذا التقدم والتأخر بالحقيقة معنى من المعاني العقلية ومن المناسبات التي يفرضها العقل والاعتبارات التي تحصل للأشياء إذا قايس بينها العقل وأشار إليها. المقالة الرابعة

وفيها ثلاثة فصول.

 الفصل الأول   (أ)

فصل في المتقدم والمتأخر وفي الحدوث. 

لما تكلمنا عن الأمور التي تقع من الوجود والوحدة موقع الأنواع، فبالحري أن نتكلم في الأشياء التي تقع منهما موقع الخواص والعوارض اللازمة، ونبدأ أولاً بالتي تكون للوجود ومنها بالتقدم والتأخر. فنقول: إن التقدم والتأخر وإن كان مقولاً على وجوه كثيرة فإنها تكاد أن تجتمع على سبيل التشكيك في شيء، وهو أن يكون للمتقدم، من حيث هو متقدم، شيء ليس للمتأخر، ويكون لا شيء للمتأخر إلاّ وهو موجود للمتقدم. والمشهور عند الجمهور هو المتقدم في المكان والزمان. وكان التقدم والقبل في أشياء لها ترتيب، فما هو في المكان فهو الذي أقرب من ابتداء محدود، فيكون له أن يلي ذلك المبدأ حيث ليس يلي ما هو بعده، والذي بعده يلي ذلك المبدأ وقد وَليه هو. وفي الزمان كذلك أيضاً بالنسبة إلى الآن الحاضر أو أن يفرض مبدأ وإن كان مبدأ مختلفاً في الماضي والمستقبل ما تعلم. ثم نقل اسم القبل والبعد من ذلك إلى كل ما هو أقرب من مبدأ محدود. وقد يكون هذا التقدم المرتبي في أمور بالطبع، كما أن الجسم قبل الحيوان بالقياس إلى الجواهر ووضع الجوهر مبدأ، ثم إن جعل المبدأ الشخص اختلف، وكذلك الأقرب من المحرك الأول، كالصبي يكون قبل الرجل. وقد يكون في أمور لا من الطبع، بل إما بصناعة كنغم الموسيقى، فإنك إن أخذت من الحدة كان المتقدم غير الذي يكون إذا أخذت من الثقل؛ وإما ببحث واتفاق كيف كان.

الصفحة    : 82

ثم نقل إلى أشياء أخرى فجعل الفائق والفاضل والسابق أيضاً ولو في غير الفضل متقدماً، فجعل نفس المعنى كالمبدأ المحدود. فما كان له منه ما ليس للآخر، وأما الاخر فليس له إلاّ ما لذلك الأول فإنه جعل متقدماً. فإن السابق في باب ما له ما ليس للثاني، وما للثاني منه فهو للسابق وزيادة. ومن هذا القبيل ما جعلوا المخدوم والرئيس قبل، فإن الإختيار يقع للرئيس وليس للمرؤوس، وإنما يقع للمرؤوس حين وقع للرئيس فيتحرك باختيار الرئيس. ثم نقلوا ذلك إلى ما يكون هذا الاعتبار له بالقياس إلى الوجود، فجعلوا الشيء الذي يكون له الوجود أولاً وإن لم يكن للثاني والثاني لا يكون له إلاّ وقد كان للأول وجوداً متقدماً على الآخر مثل: الواحد، فإنه ليس من شرط الوجود للواحد أن تكون الكثرة موجودة، ومن شرط الوجود للكثرة أن يكون الواحد موجوداً. وليس في هذا أن الواحد يفيد الوجود للكثرة أو لا يفيد، بل إنه يحتاج إليه حتى يفاد للكثرة وجود بالتركيب منه. ثم نقل بعد ذلك إلى حصول الوجود من جهة أخرى، فإنه إذا كان شيئان وليس وجود أحدهما من الآخر، بل وجوده له من نفسه أو من شيء ثالث، لكن وجود الثاني من هذا الأول، فله من الأول وجوب الوجود الذي ليس له لذاته من ذاته، بل له من ذاته الإمكان على تجويز من أن يكون ذلك الأول مهما وجد لزم وجوده أن يكون علة لوجوب وجود هذا الثاني، فإن الأول يكون متقدماً بالوجود لهذا الثاني. ولذلك لا يستنكر العقل البتة أن نقول: لما حرك زيد يده تحرك المفتاح، أو نقول: حرك زيد يده ثم تحرك المفتاح. ويستنكر أن نقول: لما تحرك المفتاح حرك زيد يده، وإن كان يقول: لما تحرك المفتاح علمنا أنه قد حرك زيد يده. فالعقل مع وجود الحركتين معاً في الزمان يفرض لأحدهما تقدماً والآخر تأخراً إذ كانت الحركة الأولى ليس سبب وجودها الحركة الثانية، والحركة الثانية سبب وجودها الحركة الأولى. ولا يبعد أن يكون الشيء مهما وجد وجب ضرورةً أن يكون علة لشيء. وبالحقيقة فإن الشيء لا يجوز أن يكون بحيث يصح أن يكون علة للشيء إلاّ ويكون معه الشيء. فإن كان من شرط كونه علة نفس ذاته، فما دام ذاته موجوداً يكون علة وسبباً لوجود الثاني؛ وإن لم يكن شرط كونه علة نفس ذاته، فذاته بذاته ممكن أن يكون عنه الشيء وممكن أن لا يكون وليس أحد الطرفين أولى من الآخر. وكذلك المتكون هو كذلك ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون. فلا من حيث هو ممكن أن يكون هو بموجود، ولا من حيث ذلك ممكن أن يكونه، فذلك معط للوجود. وذلك لأن كون الشيء عن الممكن أن يكونه ليس لذات أنه ممكن أن يكونه، فنفس كونه ممكناً ليس كافياً في أن يكون الشيء عنه. فإن كان

الصفحة    : 83

نفس كونه ممكناً أن يكونه، وإن لم يكن كافياً، فقد يكون معه الشيء موجوداً مرة، ومرة لا يكون؛ ونسبته إلى الذي يكون والذي لا يكون، في الحالتين، نسبة واحدة. وليس في الحالة التي تتميز فيها أن يكون من أن لا يكون تميز أمر بسببه يوجد المعلول مع إمكان كونه عن العلة تميزاً يخالف به حال لا وجود المعلول عن العلة مع إمكان كونه عن العلة. فتكون نسبة كونه عن العلة إلى وجود الشيء عنه ولا وجود عنه واحدة، وما نسبته إلى وجود الشيء عنه ونسبته إلى لا وجوده عنه واحدة. فليس كونه علة أولى من لا كونه علة، بل العقل الصحيح يوجب أن يكون هناك حال يتميز بها وجوده عنه عن لا وجوده. فإن كانت تلك الحال أيضاً توجب هذا التمييز، فهذه الحال إذا حصلت للعلة ووجدت تكون جملة الذات وما اقترن إليها هو العلة، وقبل ذلك فإن الذات كانت موضوع العلية. وكان الشيء الذي يصح أن يصير علة ولم يكن ذلك الوجود وجود العلة، بل وجوداً إذا انضاف إليه وجود آخر كان مجموعهما العلة، وكان حينئذ يجب عنه المعلول سواء كان ذلك الشيء إرادة أو شهوة أو غضباً أو طبعاً حادثاً أو غير ذلك، أو أمراً خارجاً منتظراً لوجود العلة. فإنه إذا صار بحيث يصلح أن يصدر عنه المعلول من غير نقصان شرط باق وجب وجود المعلول. فإذن وجود كل معلول واجب مع وجود علته، ووجود علته واجب عنه وجود المعلول. وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك، ولكن ليسا معاً في القياس إلى حصول الوجود. وذلك لأن وجود ذلك لك يحصل من وجود هذا، فذلك له حصول وجود ليس من حصول وجود هذا، ولهذا حصول وجود هو من حصول وجود ذلك، فذلك أقدم بالقياس إلى حصول الوجود. ولقائل أن يقول: إنه إذا كان كل واحد منهما إذا وجد وجد الآخر، وإذا ارتفع ارتفع الآخر، فليس أحدهما علة والآخر معلولاً، إذ ليس أحدهما أولى أن يكون علة في الوجود دون الآخر. ونحن نجيب عن ذلك دون أن ننظر فيما يتضمنه مفهوم هذه القضية، وذلك لأنه ليس إذا وجد كل واحد منهما فقد وجد الآخر بلا تفصيل واختلاف. وذلك لأن معنى "إذا" لا يخلو إما أن يعنى به أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود نفسه أن يحصل الآخر، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في الوجود أن يكون قد حصل وجود الآخر، أو أن وجود كل منهما إذا حصل في العقل يجب عنه أن يحصل الآخر في العقل، أو أن وجود كل واحد منهما إذا حصل يجب عنه في العقل أن يكون قد حصل الآخر في الوجود أو حصل في العقل، فإن لفظة "إذا" في مثل هذه المواضع مشتركة مغلطة.

الصفحة    : 84

فنقول: إن الأول كاذب غير مسلم، فإن أحدهما هو الذي إذا حصل يجب عنه حصول الآخر بعد إمكانه وهو العلة. وأما المعلول فليس حصوله يجب عنه حصول العلة، بل العلة تكون قد حصلت حتى حصل المعلول. وأما القسم الثاني فلا يصدق في جانب العلة، فإنه ليس إذا وجدت العلة وجب في الوجود إن كان المعلول قد حصل من تلقاء نفسه أو بغير علة، وذلك لأنه إن كان قد حصل فلم يجب في الوجود من حصول العلة إذا وجدت العلة وكانت تلك قد حصلت مستغنية الوجود، إلاّ أن لا يعني "بحصلت" ما مضى. ولكن تغني المقارنة ولا تصدق من جانب المعلول من وجهين: وذلك لأن العلة وإن كانت حاصلة الذات فليس ذلك واجب من حصول المعلول. والوجه الثاني أن الشيء الذي قد حصل يستحيل أن يجب وجوده بحصول شيء يفرض حاصلاً إلاّ أن لا يعني بلفظ "حصل" مفهومه. وأما القسمان الآخران فالأول منهما صحيح، فإنه يجوز أن يقال: إذا وجدت العلة في العقل وجب عند العقل أن يحصل المعلول الذي تلك العلة علته بالذات في العقل؛ وأيضاً إذا وجد المعلول في العقل وجب أن يحصل أيضاً وجود العلة في العقل. وأما الثاني منهما وهو القسم الرابع فيصدق منه قولك: إنه إذا وجد المعلول شهد العقل بأن العلة قد حصل لها وجود لا محالة مفروغ عنه حتى يحصل المعلول، وربما كانت في العقل بعد المعلول لا في الزمان فقط، ولا يلزم أن يصدق القسم الآخر من هذين القسمين الداخلين في الرابع لما قد عرفت. وكذلك في جانب الرفع، فإنه إذا رفعنا العلة رفعنا المعلول بالحقيقة، وإذا رفعنا المعلول لم نرفع العلة، بل عرفنا أن العلة تكون قد ارتفعت في ذاتها أولاً حتى أمكن رفع المعلول. فإنا لما فرضنا المعلول مرفوعاً فقد فرضنا ما لا بد من فرضه معه بالقوة، وهو أنه كان ممكناً رفعه. وإذا كان ممكناً رفعه فإنما أمكن بأن رفع العلة أولاً، فرفع العلة وإثباته سبب رفع المعلول وإثباته، ورفع المعلول دليل رفع ذلك، وإثباته دليل إثباته. فنرجع إلى حيث فارقناه، فنقول في حل الشبهة: إنه ليست المعية هي التي أوجبت لأحدهما العلية، حتى يكون ليس أحدهما أولى بالعلية من الآخر لأنهما في المعية سواء، بل إنما اختلفا لأن أحدهما فرضناه أنه لم يجب وجوده بالآخر، بل مع الآخر؛ والثاني فرضناه أنه كما أن وجوده مع الآخر فكذلك هو بالآخر. فهكذا يجب أن تتحقق هذه المسألة. ومما يشكل ههنا أمر القوة والفعل، وأنه أيهما أقدم وأيهما أشد

الصفحة    : 85

تأخراً، فإن معرفة ذلك من المهمات في أمر معرفة التقدم والتأخر، وعلى أن القوة والفعل نفسه من عوارض الوجود ولواحقه، والأشياء التي يجب أن تعلم حيث تعلم أحوال الموجود المطلق.

الفصل الثاني   (ب)

فصل في القوة والفعل والقدرة والعجز وإثبات المادة لكل متكون.

إن لفظة القوة وما يرادفها قد وضعت أول شيء للمعنى الموجود في الحيوان، الذي يمكنه بها أن تصدر عنه أفعال شاقة من باب الحركات ليست بأكثرية الوجود عن الناس في كميتها وكيفيتها، ويسمى ضدها الضعف، وكأنها زيادة وشدة من المعنى الذي هو القدرة، وهو أن يكون الحيوان بحيث يصدر عنه الفعل إذا شاء، ولا يصدر عنه إذا لم يشأ، التي ضدها العجز. ثم نقلت عنه فجعلت للمعنى الذي لا ينفعل له وبسببه الشيء بسهولة، وذلك لأنه كان يعرض لمن يزاول الأفعال والتحريكات الشاقة أن ينفعل أيضاً منها، وكان انفعاله والألم الذي يعرض له منه يصده عن إتمام فعله. فكان إن انفعل انفعالاً محسوساً قيل له: ضعف وليست له قوة، وإن لم ينفعل قيل: إن له قوة. فكان أن "ينفعل" دليلاً على المعنى الذي سميناه أولاً قوة. ثم جعلوه اسم هذا المعنى حتى صار كونه بحيث لا ينفعل إلاّ يسيراً يسمى قوة، وإن لم يفعل شيئاً. ثم جعلوا الشيء الذي لا ينفعل البتة أولى بهذا الاسم، فسموا حالته من حيث هو كذلك قوة. ثم صيروا القدرة نفسها - وهي الحال التي للحيوان، وبها يكون له أن يفعل، وأن لا يفعل، بحسب المشيئة، وعدم المشيئة، وزوال العوائق - قوة، إذ هو مبدأ الفعل. ثم أن الفلاسفة نقلوا اسم القوة، فأطلقوا لفظ القوة على كل حال تكون في شيء هو مبدأ تغيير يكون منه في آخر من حيث ذلك آخر، وإن لم يكن هناك إرادة، حتى سموا الحرارة قوة لأنها مبدأ التغيير من آخر في آخر بأنه آخر. حتى أن الطبيب إذا حرك نفسه أو عالج نفسه وكان مبدأ التغيير منه فيه، فليس ذلك فيه من حيث هو قابل للعلاج أو الحركة، بل من حيث هو آخر، بل كأنه شيئان: شيء له قوة أن يفعل، وشيء له قوة أن ينفعل، ويشبه أن يكون الأمران منه مفترقين في جزءين. فيكون مثلاً المحرك في نفسه، والمتحرك في بدنه، وهو المحرك بصورته والمتحرك في مادته. فهو من حيث يقبل العلاج غيرٌ لذاته من حيث يعالج.

الصفحة    : 86

ثم بعد ذلك لما وجدوا الشيء الذي له قوة بالمعنى المشهور - قدرة كانت أو شدة قوة - ليس من شرط تلك القوة أن يكون بها فاعلاً بالفعل، بل له من حيث القوة إمكان "أن يفعل" وإمكان أن "لا يفعل" نقلوا اسم القوة إلى الإمكان. فسموا الشيء الذي وجوده في حد الإمكان موجوداً بالقوة، وسموا إمكان قبول الشيء وانفعاله قوة انفعالية، ثم سموا تمام هذه القوة فعلاً وإن لم يكن فعلاً، بل انفعالاً، مثل تحريك أو تشكل أو غير ذلك. فإنه لما كان هناك المبدأ الذي يسمى قوة، وكان الأصل الأول في المسمى بهذا الاسم إنما هو على ما هو بالحقيقة فعل، سموا هذا الذي قياسه إلى ما سموه الآن قوة، كقياس الفعل إلى المسمى قديماً باسم الفعل، ويعنون بالفعل حصول الوجود. وإن كان ذلك الأمر انفعالاً، أو شيئاً ليس هو فعلاً ولا انفعالاً، فهذه هي القوة الانفعالية، وربما قالوا قوة لجودة هذه وشدتها. والمهندسون لما وجدوا بعض الخطوط من شأنه أن يكون ضلع مربع، وبعضها ليس ممكناً له أن يكون ضلع ذلك مربع، جعلوا ذلك المربع قوة ذلك الخط كأنه أمر ممكن فيه. وخصوصاً إذا تخيل بعضهم أن حدوث هذا المربع هو بحركة ذلك الضلع على مثل نفسه. وإذ قد عرفت القوة، فقد عرفت القوي، وعرفت أن غير القوي إما الضعيف وإما العاجز وإما السهل الانفعال وإما الضروري، وإما أن لا يكون المقدار الخطي ضلعاً لمقدار سطحي مفروض. وقد يشكل من هذه الجملة أمر القوة التي بمعنى القدرة، فإنها يظن أنها لا تكون موجودة إلاّ لما من شأنه أن يفعل، ومن شأنه أن لا يفعل. فإن كان لما من شأنه أن يفعل فقط فلا يرون أن له قدرة، وهذا ليس بصادق. فإنه إن كان هذا الشيء الذي يفعل فقط يفعل من غير أن يشأ ويريد، فذلك ليس له قدرة ولا قوة بهذا المعنى؛ وإن كان يفعل بإرادة واختيار إلاّ أنه دائم الإرادة ولا يتغير، وإرادته وجوداً اتفاقياً أو يستحيل تغيرها استحالة ذاتية، فإنه يفعل بقدرة. وذلك لأن حد القدرة التي يؤثرون هؤلاء أن يحدوها به موجود ههنا، وذلك لأن هذا يصح عنه أن يفعل إذا شاء وأن لا يفعل إذا لم يشأ، وكلا هذين شرطيان، أي أنه إذا شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل.وإنما هما داخلان في تحديد القدرة على ما هما شرطيان، وليس من صدق الشرطي أن يكون هناك استثناء بوحه من الوجوه، أو صدق حملي، فإنه ليس إذا صدق قولنا: إذا لم يشاء أن يفعل، يلزم أن يصدق: لكنه لم يشأ وقتاً ما؛ وإذا كذب: أنه لم يشأ البتة، يوجب ذلك كذب قولنا: وإذا لم يشأ لم يفعل. فإن هذا يقتضي أنه لو كان لا يشاء لما كان يفعل، كما أنه إذا يشاء فيفعل. وغذا صح أنه إذا شاء فعل، صح أنه إذا فعل فقد شاء أي إذا فعل فعل من حيث هو قادر. فيصح أنه إذا لم يشأ لم يفعل، وإذا لم يفعل لم يشأ، وليس في هذا أنه يلزم أن لا يشأ وقتاً ما. وهذا بيّن

 

الصفحة    : 87

لمن عرف المنطق. وهذه القوى التي هي مبادئ للحركات والأفعال، بعضها قوى تقارن النطق والتخيل، وبعضها قوى لا تقارن ذلك. والتي تقارن النطق والتخيل تجانس النطق والتخيل، فإنه يكاد أن يعلم بقوة واحدة الإنسان واللا إنسان، ويكون لقوة واحدة أن تتوهم أمر اللذة والألم، وأن تتوهم بالجملة الشيء وضده. وكذلك هذه القوى أنفسها أو حادها تكون قوة على الشيء وعلى ضده، لكنها بالحقيقة لا تكون قوة تامة أي مبدأ تغير من أمر آخر في آخر بأنه آخر بالتمام وبالفعل إلاّ إذا اقترن بها الإرادة منبعثة عن اعتقاد وهمي تابع لتخيل شهواني أو غضبي، أو عن رأي عقلي تابع لفكرة عقلية أو تصور صورة عقلية. فتكون إذا اقترن بها تلك الإرادة ولم تكن إرادة مميلة بعد، بل إرادة جازمة، وهي التي هي الإجماع الموجب لتحريك الأعضاء، صارت لا محالة مبدأ للفعل بالوجوب، إذ قد بينا أن العلة ما لم تصر علة بالوجوب حتى يجب عنها الشيء لم يوجد عنها المعلول، وقبل هذه الحالة فإنما تكون الإرادة ضعيفة لم يقع إجماع. فهذه القوى المقارنة للنطق - بانفرادها - لا يجب من حضور منفعلها ووقوعه بالنسبة التي إذا فعلت فيه فعلاً، فعلت بها أن يكون يفعل بها وهي بعد قوة. وبالجملة لا يلزم من ملاقاتها للقوة المنفعلة أن تفعل ذلك، وذلك لأنه لو كان يجب عنها وحدها أن تفعل لكان يجب من ذلك أن تصدر عنها الفعلان المتضادان والمتوسطان بينهما، وهذه محال؛ بل إذا صارت كما قلنا فإنها تفعل بالضرورة. وأما القوى التي في غير ذوات النطق والتخيل فإنها إذا لاقت القوة المنفعلة وجب هناك الفعل، إذ ليس هناك إرادة واختيار تنتظر، فإن انتظر هناك فيكون طبع ينتظر. فإذا كان يحتاج إلى طبع فذلك هو إما المبدأ للأمر، وإما جزء من المبدأ. والمبدأ مجموع ما كان قبل وما حصل ويكون حينئذ نظيراً للإرادة المنتظرة. لكن الإرادة تفارق هذا من حيث تعلم، والقوة الإنفعالية أيضاً التي يجب إذا لاقت الفاعل أن يحدث الإنفعال في هذه الأشياء هي القوة الإنفعالية التامة، فإن القوة الإنفعالية قد تكون تامة وقد تكون ناقصة، لأنها قد تكون قريبة وقد تكون بعيدة. فإن في المني قوة أن يصير رجلاً، وفي الصبي أيضاً قوة أن يصير رجلاً، لكن القوة التي في المني تحتاج إلى أن تلقاها أيضاً قوة محركة قبل المحرك إلى الرجلية، لأنها تحتاج إلى الفعل شيئاً ما غير الرجل، ثم بعد ذلك يهيأ أن تخرج إلى الفعل رجلاً، وبالحقيقة فإن القوة الإنفعالية الحقيقية هي هذه. وأما المني فبالحقيقة ليست فيه بعد قوة انفعالية، فإنه يستحيل أن يكون المني وهو مني أن ينفعل رجلاً، لكنه كما كان في قوته أن يصير شيئاً من قبل غير

الصفحة    : 88

المني ثم ينتقل بعد ذلك إلى شيء آخر، كان هو بالقوة أيضاً ذلك الشيء، بل المادة الأولى هو بالقوة كل شيء. فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض، فيحتاج المعوق عنه إلى زواله، وبعض ما فيه لا يعوق عن بعض آخر ولكنه يحتاج إلى قرينة أخرى حتى يتم الاستعداد، وهذه القوة هي قوة بعيدة. وأما القوة القريبة فهي لا تحتاج إلى أن تقارنها قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية التي تنفعل بها، فإن الشجرة ليست بالقوة مفتاحاً لأنها تحتاج إلى أن تلقاها أولاً قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية للمفتاحية وهي القوة القالعة والناشرة والناحتة، ثم بعد ذلك تتهيأ لأن تفعل من ملاقاة القوة الفاعلية للمفتاحية. والقوى بعضها يحصل بالطباع وبعضها يحصل بالعادة وبعضها يحصل بالصناعة وبعضها يحصل بالاتفاق. والفرق بين الذي يحصل بالصناعة والذي يحصل بالعادة أن الذي يحصل بالصناعة هو الذي يقصد فيه استعمال مواد وآلات وحركات فتكتسب النفس بذلك ملكة كأنها صورة تلك الصناعة، وأما الذي بالعادة فهو ما يحصل من أفاعيل ليست مقصورة فيها ذلك فقط، بل إنما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأي يتوجه فيها القصد إلى غير هذه الغاية. ثم قد تتبعها غاية هي العادة، ولم تقصد، ولا تكون العادة نفس ثبوت تلك الأفاعيل في النفس، وربما لم يكن للعادة آلات ومواد معينة، فإنه لا سواء أن يعتاد إنسان المشي وأن يعتاد التجارة من الجهة التي قلنا وبينهما تفاوت شديد. ومع ذلك فإنك إذا دققت النظر عاد حصول العادة والصناعة إلى جهة واحدة. والقوى التي تكون بالطبع منها ما يكون في الأجسام الغير الحيوانية ومنها ما يكون في الأجسام الحيوانية وقد قال بعض الأوائل، وغاريقوا منهم: إن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدمه، وقال بهذا أيضاً قوم من الواردين بعده بحين كثير. فالقائل بهذا القول كأنه يقول: إن القاعد ليس يقوى على القيام أي لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم فكيف يقوم؟ وأن الخشب ليس في جبلته أن ينحت منه باب، فكيف ينحت؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى وعلى أن يبصر في اليوم الواحد مراراً، فيكون بالحقيقة أعمى، بل كل ما ليس موجوداً ولا قوة على أن يوجد فإنه مستحيل الوجود. والشيء الذي هو ممكن أن يكون فهو ممكن أن لا يكون وإلاّ كان واجباً أن يكون، والممكن أن يكون لا يخلو إما أن يكون ممكناً أن يكون شيئاً آخر، وأن لا يكون، وهذا هو الموضوع للشيء الذي من شأنه أن تحله صورته. وإما أن يكون كذلك باعتبار نفسه، كالبياض إذ كان يمكن أن يكون وممكن أن لا يكون في نفسه، فهذا لا يخلو إما أن يكون شيئاً إذا وجد كان قائماً بنفسه، حتى يكون إمكان وجوده هو أنه يمكن أن يكون قائماً مجرداً

الصفحة    : 89

أو يكون إذا كان موجوداً وجد في غيره. فإن كان الممكن، بمعنى أنه يمكن أن يكون شيئاً في غيره، فإن إمكان وجوده أيضاً في ذلك الغير. فيجب أن يكون ذلك الغير مووداً مع إمكان وجوده وهو موضوعه. وإن كان إذا كان قائماً بنفسه لا في غيره ولا من غيره بوجه من الوجوه، ولا علاقة له مع مادة من المواد علاقة ما يقوم فيها أو يحتاج في أمر ما إليها، فيكون إمكان وجوده سابقاً عليه غير متعلق بمادة دون مادة ولا جوهر دون جوهر. غذ ذلك الشيء لا علاقة له مع شيء، فيكون إمكان وجوده جوهراً لأنه شيء موجود بذاته. وبالجملة إن لم يكن إمكان وجوده حاصلاً كان غير ممكن الوجود ممتنعاً، وإذ هو حاصل موجود قائم بذاته - كما فرض - فهو موجود جوهراً، وإذ له جوهر فله ماهية ليس لها من المضاف إذ كان الجوهر ليس بمضاف الذات، بل يعرض له المضاف فيكون لهذا القائم بذاته وجود أكثر من إمكان وجوده الذي هو به مضاف. وكلامنا في نفس إمكان وجوده، وعليه حكمنا أنه ليس في موضوع، والآن فقد صار أيضاً في موضوع، هذا خلف. فإذ لا يجوز أن يكون لما يبقى قائماً بنفسه لا في موضوع ولا من موضوع بوجه من الوجوه وجود بعد ما لم يكن، بل يجب أن يكون له علاقة ما مع الموضوع حتى يكون. وأما إذا كان الشيء الذي يوجد قائماً بنفسه لكنه يوجد من شيء غيره أو مع وجود شيء غيره، أما الأول فكالجسم من هيولي وصورة، وأما الثاني فكالأنفس الناطقة مع تكون الأبدان، فإن إمكان وجوده يكون متعلقاً بذلك الشيء لا على أن ذلك الشيء بالقوة هو كون الجسم أبيض بالقوة ولا أن فيه قوة أن يوجد هو منطبعاً فيه كون إمكان البياض في الموضوع الذي ينطبع فيه البياض، بل على أن يوجد معه أو عند حال له. فالجسم الذي يحدث كنار حادثة إنما إمكان وجوده هو أن يحدث من المادة والصورة، فلا يكون لإمكان وجوده محل بوجه ما وهو مادته، فيكون الشيء الذي يحدث منه أولاً وهو الصورة يحدث في المادة ويحدث الجسم لاجتماعهما من المادة بوجه ومن الصورة بوجه. وأما النفس فإنها لا تحدث أيضاً إلاّ بوجود موضوع بدني. وحينئذ يكون إمكان وجوده في ذلك قائماً به لاختصاص تلك المادة به، فإن النفس إنما يمكن وجودها بعد ما لم تكن، وهو إمكان حدوثها عند وجود أجسام على نحو من الإمتزاج تصلح أن تكون آلة لها ويتميز بها استحقاق حدوثها من الأوائل من لا استحقاقه عنها. فإذا كان فيها إمكان هذا الإمتزاج فهو إمكان لوجود النفس. وكل جسم فإنه إذا صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر من جسم آخر فإنه يفعل بقوة ما فيه، أما

الصفحة    : 90

الذي بالإرادة والاختيار فلأن ذلك ظاهر وأما الذي ليس بالإرادة والاختيار فلأن ذلك الفعل إما أن يصدر عن ذاته أو يصدر عن شيء مباين له جسماني أو عن شيء مباين له غير جسماني. فإن صدر عن ذاته وذاته تشارك الأجسام الأخرى في الجسمية وتخالفها في صدور ذلك الفعل عنها فإن في ذاته معنى زائد على الجسمية هو مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وهذا هو الذي يسمى قوة؛ وإن كان ذلك عن جسم آخر فيكون هذا الفعل عن هذا الجسم بقسر أو عرض، وقد فرض لا بقسر من جسم آخر ولا عرض. وإن كان عن شيء مفارق فلا يخلو إما أن يكون اختصاص هذا الجسم بهذا التوسط عن ذلك المفارق هو بما هو جسم، أو لقوة فيه، أو لقوة في ذلك المفارق. فإن كان بما هو جسم، فكل جسم يشاركه فيه، لكن ليس يشاركه فيه. وإن كان لقوة فيه فتلك القوة مبدأ صدور ذلك الفعل عنه، وأيضاً إن كان قد يفيض من المفارق وبمعاونته، أو لكونه المبدأ الأول فيه. وأما إن كان لقوة في ذلك المفارق فإما أن تكون نفس تلك القوة توجب ذلك، أو اختصاص إرادة. فإن كان نفس القوة توجب ذلك فلا يخلو أن يكون إيجاب ذلك عن هذا الجسم بعينه لأحد الأمور المذكورة، ويرجع الكلام من رأس. وإما أن يكون على سبيل الإرادة، فلا يخلو إما أن تكون تلك الإرادة ميزت هذا الجسم بخاصية يختص بها من سائر الأجسام، أو جزافاً وكيف اتفق. فإن كان جزافاً كيف اتفق لم يستمر على هذا النظام الأبدي والأكثري، فإن الأمور الاتفاقية هي التي ليست دائمة ولا أكثرية، لكن الأمور طبيعية دائمة وأكثرية فليست باتفاقية. فيبقى أن يكون بخاصية بها يختص من سائر الأجسام، وتكون تلك الخاصية مراداً منها صدور ذلك الفعل، ثم لا يخلو إما أن يراد ذلك لأن تلك الخاصية توجب ذلك الفعل، أو تكون منه في الأكثر، أو لا توجب ولا تكون منه في الأكثر. فإن كان يوجب فهو مبدأ ذلك. وإن كان في الأكثر، والذي في الأكثر - كما علمت في الطبيعيات - هو بعينه الذي يوجب لكن له عائق لأن اختصاصه بأن يكون الأمر أكثر يكون بميل من طبيعته إلى جهة ما يكون منه، فإن لم يكن فيكون لعائق، فيكون الأكثري أيضاً في نفسه موجباً إن لم يكن عائق، ويكون الموجب هو الذي يسلم له الأمر بلا عائق وإن كانت تلك الخاصية لا توجبه ولا تكون منه في الأكثر، فكونه عنه وعن غيره واحد، فاختصاصه به جزاف، وقيل إنه ليس بجزاف. وكذلك إذا قيل: إن كونه صاحب تلك الخاصية أولى، فمعناه أن صدوره عنها أوفق. فهو إذن موجب له أو ميسّر لوجوبه، والميسّر إما علة بالذات وإما بالعرض، فإذا لم تكن أخرى بالذات غيره فليس هو

الصفحة    : 91

بالعرض، لأن الذي بالعرض هو على أحد النحوين المذكورين، فبقي أن تلك الخاصية بنفسها موجبة. فالخاصية الموجبة تسمى قوة، وهذه القوة عنها تصدر الأفاعيل الجسمانية وإن كان بمعونة من مبدأ أبعد. ولنؤكد بيان أن لكل حادث مبدأ مادياً، فنقول بالجملة: إن كل حادث بعد ما لم يكن فله لا محالة مادة، لأن كل كائن يحتاج إلى أن يكون - قبل كونه - ممكن الوجود في نفسه، فإنه إن كان ممتنع الوجود في نفسه لم يكن البتة. وليس إمكان وجوده هو أن الفاعل قادر عليه، بل الفاعل لا يقدر عليه إذا لم يكن هو في نفسه ممكناً. ألا ترى أنا نقول: إن المحال لا قدرة عليه، ولكن القدرة هي على ما يمكن أن يكون فلو كان إمكان كون الشيء هو نفس القدرة عليه، كان هذا القول كأنا نقول: إن القدرة إنما تكون على ما عليه القدرة، وكأنا نقول: إن المحال ليس عليه قدرة لأنه ليس عليه قدرة، وما كنا نعرف أن هذا الشيء مقدور عليه أو غير مقدور عليه بنظرنا في نفس الشيء، بل نظرنا في حال قدرة القادر هل عليه قدرة أم لا. فإن أشكل علينا أنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه لم يمكننا أن نعرف ذلك البتة، لأنا إن عرفنا ذلك من جهة أن الشيء محال أو ممكن وكان معنى المحال هو أنه غير مقدور عليه ومعنى الممكن أنه مقدور عليه، كنا عرفنا المجهول بالمجهول. فبين واضح أن معنى كون الشيء ممكناً في نفسه هو غير معنى كونه مقدوراً عليه وإن كانا بالموضوع واحداً، وكونه مقدوراً عليه لازم لكونه ممكناً في نفسه، وكونه ممكناً في نفسه هو باعتبار ذاته وكونه مقدوراً عليه هو باعتبار إضافته إلى موجده. وإذا قد تقرر هذا، فإنا نقول: إن كل حادث فإنه قبل حدوثه إما أن يكون في نفسه ممكناً أن يوجد أو محالاً أن يوجد. والمحال أن يوجد لا يوجد. والممكن أن يوجد قد سبقه إمكان وجوده، وأنه ممكن الوجود، فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً، ومحال أن يكون معنى معدوماً وإلاّ فلم يسبقه إمكان وجوده، فهو إذن معنى موجود. وكل معنى موجود فإما قائم في موضوع أو قائم لا في موضوع، وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً. وإمكان الوجود إنما هو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له، فليس إمكان الوجود جوهراً لا في موضوع، فهو إذن معنى في موضوع وعارض لموضوع. ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجود؛ ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه وجود الشيء موضوعاً وهيولي ومادة وغير ذلك بحسب اعتبارات مختلفة، فإذن كل حادث فقد تقدمته المادة، فنقول: إن هذه الفصول التي أوردناها توهم أن القوة - على الاطلاق - قبل الفعل ومتقدمة عليه لا في الزمان وحده،

الصفحة    : 92

وهذا شيء قد مال إليه عامة من القدماء، فبعضهم جعل للهيولي وجوداً قبل الصورة، وأن الفاعل ألبسها الصورة بعد ذلك إما ابتداء من نفسه وإما لداع دعاه إليه، كما ظنه بعض الشارعين فيما لا يعنيه ولا له درجة الخوض في مثله. فقال: إن شيئاً كالنفس وقع له فلتةً أن اشتغل بتدبير الهيولي وتصويرها فلم يحسن التدبير ولا كمل لحسن التصوير، فتداركها الباري تعالى وأحسن تقويمها. ومنهم من قال: إن هذه الأشياء كانت في الأزل تتحرك بطباعها حركات غير منتظمة، فأعان الباري تعالى طبيعتها ونظمها. ومنهم من قال: إن القديم هو الظلمة أو الهاوية أو شيء لا يتناهى لم يزل ساكناً، ثم حرك، أو الخليط الذي يقول به أنكساغورس. وذلك لأنهم قالوا: إن القوة تكون قبل الفعل، كما في البذور والمني وفي جميع ما يصنع، فبالحري أن نتأمل هذا ونتكلم فيه. فنقول: أما الأمر في الأشياء الجزئية الكائنة الفاسدة فهو على ما قالوا، فإن القوة فيها قبل الفعل قبلية في الزمان؛ وأما الأمور الكلية أو المؤبدة التي لا تفسد وإن كانت جزئية فإنها لا تتقدمها التي بالقوة البتة. ثم القوة متأخرة بعد هذه الشرائط من كل وجه، وذلك لأن القوة إذ ليست تقوم بذاتها فلابد لها من أن تقوم بجوهر يحتاج أن يكون بالفعل، فإنه إن لم يكن صار بالفعل فلا يكون مستعداً لقبول شيء، فإن ما هو ليس مطابقاً فليس ممكناً أن يقبل شيئاً. ثم قد يكون الشيء بالفعل ولا يحتاج إلى أن يكون بالقوة شيئاً كالأبديات فإنها دائماً بالفعل. فمن هذه الجهة حقيقة ما بالفعل قبل حقيقة القوة بالذات، ومن وجه آخر أيضاً فإن القوة تحتاج أن تخرج إلى الفعل بشيء موجود بالفعل وقت كون الشيء بالقوة، ليس إنما يحدث ذلك الشيء حدوثاً مع الفعل فإن ذلك أيضاً يحتاج إلى مخرج آخر وينتهي إلى شيء موجود بالفعل لم يحدث. وفي أكثر الأمر فإنما يخرج القوة إلى الفعل شيء مجانس لذلك الفعل موجود قبل الفعل بالفعل كالحار يسخن والبارد يبرد. وأيضاً فكثيراً ما يوجد ما هو بالقوة من هو حامل القوة للشيء الذي هو بالفعل، حتى يكون الفعل بالزمان قبل القوة لا مع القوة، فإن المني كان عن الإنسان والبذر عن الشجرة حتى كان عن ذلك إنسان وعن هذا شجرة. فليس أن يفرض الفعل في هذه الأشياء قبل القوة أولى من أن تفرض القوة قبل الفعل. وأيضاً فإن الفعل في التصور والتحديد قبل القوة، لأنك لا يمكنك أن تحد القوة إلاّ أنها للفعل وأما الفعل فإنك لا تحتاج في تحديده وتصويره أنه للقوة. فإنك تحد المربع وتعقله من غير أن يخطر ببالك قوة مقبولة، ولا يمكنك أن تحد القوة على التربيع إلاّ أن تذكر المربع لفظاً أو عقلاً وتجعله جزء حده.

الصفحة    : 93

وأيضاً فإن العقل قبل القوة بالكمال والغاية، فإن القوة نقصان والفعل كمال، والخير في كل شيء إنما هو مع الكون بالفعل؛ وحيث الشر فهناك ما بالقوة بوجه ما، فإن الشيء إذا كان شراً فإما أن يكون لذاته شراً ومن كل وجه، وهذه محال. فإنه إن كان موجوداً فمن حيث هو موجود ليس بشر، وإنما يكون شراً من حيث هو فيه عدم كمال مثل الجهل للجاهل، أو لأنه يوجب في غيره ذلك مثل الظلم للظالم. فالظلم إنما هو شر لأنه ينتقص من الذي فيه الظلم طبيعة الخير، ومن الذي عليه الظلم السلامة أو الغنى، أو غير ذلك. فيكون من حيث هو شر مشوباً بعدم وبشيء بالقوة، ولو أنه لم يكن معه ولا منه ما بالقوة لكانت الكمالات التي تجب للأشياء حاضرة فما كان شراً بوجه من الوجوه. فبين أن الذي بالفعل هو الخير من حيث هو كذلك، والذي بالقوة هو الشر أو منه الشر. واعلم أن القوة على الشر خير من الفعل، والكون بالفعل خيراً خير من القوة على الخير، ولا يكون الشرير شريراً بقوة الشر، بل بملكة الشر. ونرجع إلى ما كنا فيه، فنقول: قد علمت حال تقدم القوة مطلقاً، وأما القوة الجزئية فيتقدم الفعل الذي هو قوة عليه، وقد يتقدمها فعل مثل فعلها حتى تكون القوة منه، ولا يجب لكن يكون معها شيء آخر به تخرج القوة إلى الفعل وإلاّ لم يكن الفعل البتة بموجود. إذ القوة وحدها لا تكفي في أن تكون فعل، بل تحتاج إلى مخرج للقوة إلى الفعل. فقد علمت أن الفعل بالحقيقة أقدم من القوة، وأنه هو المتقدم بالشرف والتمام.

الفصل الثالث   (ج)

الصفحة    : 94

فصل في التام والناقص وما فوق التمام، وفي الكل، وفي الجميع التام.

أول ما عرف عرف في الأشياء ذوات العدد، إذ كان جميع ما ينبغي أن يكون حاصلاً للشيء قد حصل بالعدد، فلم يبقى شيء من ذلك غير موجود. ثم نقل ذلك إلى الأشياء ذوات الكم المتصل، فقيل: تام في القامة إذا كانت تلك أيضاً عند الجمهور معدودة لأنها إنما تعرف عند الجمهور من حيث تقدر، وإذا قدرت لم يكن بد من أن تعد. ثم نقلوا ذلك إلى الكيفيات والقوى، فقالوا: كذا تام القوة وتام البياض وتام الحسن وتام الخير، كأن جميع ما يجب أن يكون له الخير قد حصل له ولم يبق شيء من خارج. ثم إذا كان من جنس الشيء شيء، وكان لا يحتاج إليه في ضرورة أو منفعة أو نحو ذلك، رأوه زائداً ورأوا الشيء تاماً دونه، ثم إن كان ذلك الذي يحتاج إليه الشيء في نفسه قد حصل وحصل معه شيء آخر من جنسه ليس يحتاج إليه في أصل ذات الشيء إلاّ أنه وإن كان ليس يحتاج إليه في ذلك الشيء فهو نافع في بابه، قيل لجملة ذلك: إنه فوق التمام ووراء الغاية. فهو هو التام والتمام. فكأنه اسم للنهاية، وهو أولاً للعدد، ثم لغيره على الترتيب. وكان الجمهور لا يقولون لذي العدد إنه تام أيضاً إذا كان أقل من ثلاثة، وكذلك كأنهم لا يقولون له كل وجميع. وكأن الثلاثة إنما صارت تامة لأن لها مبدأ وواسطة ونهاية، وإنما كان كون الشيء له مبدأ وواسطة ونهاية تجعله تاماً لأن أصل التمام كان في العدد. ثم لم يكن هذا في طبيعة عدد من الأعداد من حيث هو عدد أن يكون تاماً على الاطلاق، فإن كل عدد فمن جنس وحدانياته ما ليس موجوداً فيه، بل إنما يكون تاماً في العشرية والتسعية، وأما من حيث هو عدد فليس يجوز أن يكون تامتً من حيث هو عدد، وأما من حيث له مبدأ ومنتهى وواسطة فهو تام، لأنه من حيث يكون له مبدأ ومنتهى يكون ناقصاً من جهة ما ليس فيما بينهما شيء من شأنه أن يكون بينهما وهو الواسطة. وقس عليه سائر الأقسام أي أن يكون واسطة وليس منتهى، أو واسطة ومنتهى وقد فقد مايجب أن يكون له مبدأ. ثم من المحال أن يكون مبدآن في الأعداد ليس أحدهما واسطة بوجه إلاّ لعددين ولا منتهيان ليس أحدهما واسطة بوجه إلاّ لعددين. وأما الوسائط فقد يجوز أن تكثر إلاّ أنها تكون جملتها في أنها واسطة كشيء واحد؛ ثم لا يكون للتكثر حد يوقف عليه. فإذن حصول المبدئية والنهاية والتوسط هو أتم ما يمكن أن يقع في ترتيب مثله، ولا يكون ذلك إلاّ للعدد ولا يكون منحصراً إلاّ في الثلاثية.

الصفحة    : 95

وإذا اشرنا إلى هذا المبلغ فلنعرض عنه، فليس من عادتنا أن نتكلم في مثل هذه الأشياء التي تبنى على تخمينات إقناعية وليست من طرق القياسات العلمية. بل نقول: إن الحكماء ايضاً قد نقلوا التام إلى حقيقة الوجود، فقالوا من وجه: إن التام هو الذي ليس شيء من شأنه أن يكمل به وجوده بما ليس له بل كل ما هو كذلك فهو حاصل له وقالوا من وجه آخر: إن التام هو الذي بهذه الصفة مع شرط أن وجوده بنفسه على أكمل ما يكون له هو وحده حاصل له وليس منه إلا ما له، وليس ينسب إليه من جنس الوجود شيء فضل على ذلك الشيء نسبة أولية لا بسبب غيره. وفوق التمام ما له الوجود الذي ينبغي له، ويفضل عنه الوجود لسائر الأشياء كأن له وجوده الذي ينبغي له، وله الوجود الزائد الذي ليس ينبغي له، ولكن يفضل عنه للأشياء وذلك من ذاته. ثم جعلوا هذا مرتبة المبدأ الأول الذي هو فوق التمام، ومن وجوده في ذاته لا بسبب غير يفيض الوجود فاضلا عن وجوده على الأشياء كلها. وجعلوا مرتبة التمام لعقل من العقول المفارقة الذي هو في أول وجوده بالفعل لا يخالطه ما بالقوة، ولا ينتظر وجوداً آخر يوجد عنه، فإن كل شيء آخر، فذلك أيضاً من الوجود الفائض من الأول. وجعلوا دون التمام شيئين: المكتفي والناقص. والمكتفي هو الذي أعطى ما به يحصل كمال نفسه في ذاته، والناقص المطلق هو الذي يحتاج إلى آخر يمده الكمال بعد الكمال. مثل المكتفي: النفس النطقية التي للكل، أعني السموات، فإنها بذاتها تفعل الأفعال التي لها وتوجد الكمالات التي يجب أن يكون لها شيء بعد شيء لا تجتمع كلها دفعة واحدة، ولا تبقى أيضاً دائماً إلا ما كان من كمالاتها التي في جوهرها وصورتها، فهو لا يفارق ما بالقوة وإن كان فيه مبدأ يخرج قوته إلى الفعل، كما تعلم هذا بعد. وأما الناقص فهو مثل هذه الأشياء التي في الكون والفساد. ولفظ التمام ولفظ الكل ولفظ الجميع تكاد تكون متقاربة الدلالة. لكن التمام ليس من شرطه أن يحيط بكثرة بالقوة أو بالفعل. وأما الكل فيجب أن يكون لكثرة بالقوة أو بالفعل، بل الوحدة في كثير من الأشياء هو الوجود الذي ينبغي له. وأما التمام في الأشياء ذوات المقادير والأعداد فيشبه أن يكون هو بعينه الكل في الموضوع. فالشيء "تام" من حيث أنه لم يبق شيء خارجاً عنه وهو "كل" لأن ما يحتاج إليه حاصل فيه فه بالقياس إلى الكثرة الموجودة المحصورة فيه "كل" وبالقياس إلى ما لم يبق خارجاً عنه "تام". ثم قد اختلف في لفظي الكل والجميع على اعتباريهما، فتارة يقولون: إن الكل يقال للمتصل والمنفصل،

الصفحة    : 96

والجميع لا يقال إلا للمنفصل، وتارة يقولون: إن الجميع يقال خاصة لما ليس لوضعه اختلاف والكل لما لوضعه اختلاف، ويقال: "كل" و"جميع" معاً لما يكون له الحالان جميعاً. وأنت تعلم هذه الألفاظ يجب أن تستعمل على ما يقع عليه الإصطلاح والأحرى من وجه أن يقال: "كل" لما كان فيه انفصال حتى يكون له جزء فإن الكل يقال بالقياس إلى الجزء، والجميع أيضاً يجب أن يكون كذلك. فإن الجميع من جمع، والجمع إنما يكون لآحاد بالفعل أو وحدات بالفعل، لكن الاستعمال قد اطلقه على ما كان أيضاً جزؤه وواحده بالقوة. فكأن الكل يعتبر فيه أن يكون في الأصل بإزاء الجزء، والجميع بإزاء الواحد، كأن الكل يعتبر فيه أن يكون له ما بعده، وإن لم يلتفت إلى وحدته، وكأن الجميع يعتبر فيه أن يكون فيه آحاد وإن لم يلتفت إلى عده. وكأن هذا القول كله من الفضل، فإن الإصطلاح أجراهما بعد ذلك مجرى واحداً حتى صار أيضاً يقال الكل والجميع في غير ذوات الكمية، إذ كان لها أن تتكمم بالعرض كالبياض كله والسواد كله، أو كان لها أن تشتد وتضعف كالحرارة كلها والقوة كلها. ويقال للمركب من أشياء تختلف كالحيوان "كل" إذ هو من نفس وبدن. وأما الجزء فإنه تارة يقال لما يُعد وتارة لما يكون شيئاً من الشيء و له غيره معه وإن كان لا يَعُدّه، وربما خُصّ هذا بإسم البعض. ومن الجزء ما ينقسم إليه الشيء لا في الكم، بل في الوجود، مثل النفس والبدن للحيوان، والهيولي والصورة للمركب؛ وبالجملة ما يتركب منه المركب لمختلف المبادئ.

الصفحة    : 97

المقالة الخامسة
وفيها تسعة فصول

 

الفصل الأول   (أ)

فصل في الأمور العامة وكيفية وجودها.

وبالحري أن نتكلم الآن في الكلي والجزئي، فأنه مناسب أيضاً لما فرغنا منه، وهو من الأعراض الخاصة بالوجود، فنقول: إن الكلي قد يقال على وجوه ثلاثة: فيقال كلي للمعنى من جهة أنه مقول بالفعل على كثيرين، مثل الإنسان. ويقال كلي للمعنى إذا كان جائزاً أن يحمل على كثيرين وإن لم يشترط أنهم موجودون بالفعل، مثل معنى البيت المسبع، فإنه كلي من حيث أن من طبيعته أن يقال على كثيرين، ولكن ليس يجب أن يكون أولئك الكثيرين لا محالة موجودين بل ولا الواحد منهم. ويقال كلي للمعنى الذي لا مانع من تصوره أن يقال على الكثيرين؛ إنما يمنع منه إن مَنعَ سبب ويدل عليه دليل، مثل الشمس والأرض، فإنها من حيث تعقل شمساً وأرضاً لا يمنع الذهن عن أن يجوز أن معناه يوجد في كثير، إلا أن يأتيه دليل أو حجة يعرف به أن هذا ممتنع. ويكون ذلك ممتنعاً بسبب من خارج لا لنفس تصوره. وقد يمكن ان يجمع هذا كله في أن هذا الكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره عن ان يقال على كثيرين. ويجب أن يكون الكلي المستعمل في المنطق وما أشبهه هو هذا. وأما الجزئي المفرد فهو الذي نفس تصوره يمنع أن يقال معناه على كثيرين كذات زيد هذا المشار إليه، فإنه يستحيل أن تتوهم إلا له وحده. فالكلي من حيث هو كلي شيء، ومن حيث هو شيء تلحقه الكلية شيء. فالكلي من حيث هو كلي هو ما يدل عليه أحد هذه الحدود، فإذا كان ذلك إنساناً أو فرساً فهناك معنى آخر غير معنى الكلية وهو الفرسية. فإن حد الفرسية ليس حد الكلية، ولا الكلية داخلة في حد الفرسية، فإن الفرسية لها حد لا يفتقر إلى حد الكلية لكن تعرض له الكلية. فإنه في نفسه ليس شيء من الأشياء البتة إلا الفرسية، فإنه في نفسه لا واحد ولا كثير ولا موجود في الأعيان ولا في النفس ولا في شيء من ذلك بالقوة ولا بالفعل على أن يكون داخلاً في الفرسية، بل من حيث هو فرسية فقط. بل الواحدية صفة تقترن إلى الفرسية؛ فتكون

الصفحة    : 98

الفرسية مع تلك الصفة واحدة. كذلك للفرسية مع تلك الصفة صفات أخرى كثيرة داخلة عليها، فالفرسية - بشرط أنها تطابق بحدها أشياء كثيرة - تكون عامة، ولأنها مأخوذة بخواص وأعراض مشار إليها تكون خاصة. فالفرسية في نفسها فرسية فقط. فإن سألنا عن الفرسية لطرفي نقيض، مثلاً: هل الفرسية ألف أم ليس بألف؟ لم يكن الجواب إلا بالسلب لأي شيء كان. ليس على أن السلب بعد "من حيث"، بل على أنه قبل "من حيث". أي ليس يجب أن يقال: إن الفرسية من حيث هي فرسية ليست بألف، بل ليست من حيث هي فرسية بألف ولا شيء من الأشياء. فإن طرفا المسألة عن موجبتين لا يخلو منهما شيء، لم يلزم أن نجيب عنهما البتة. وبهذا يفترق حكم الموجبة والسالبة والموجبتين اللتين في قوة النقيضين. وذلك لأن الموجب منهما الذي هو لازم للسالب معناه أنه إذا لم يكن الشيء موصوفاً بذلك الموجب الآخر كان موصوفاً بهذا الموجب، وليس إذا كان موصوفاً به كان ماهيته هو، فإنه ليس إذا كان الإنسان واحداً أو أبيض كانت هوية الإنسانية هي هوية الوحدة أو البياض، أو كانت هوية الإنسانية هي هوية الواحد أو الأبيض. فإذا جعلنا الموضوع في المسألة هوية الإنسانية من حيث هي إنسانية كشيء واحد، وسئل عن طرفي نقيض، فقيل: أواحد هو أم كثير؟ لم يلزم أن يجاب لأنها من حيث هي هوية الإنسانية شيء غير كل واحد منهما، ولا يوجد في حد ذلك الشيء إلا الإنسانية فقط. وأما أنه هل يوصف بأنه واحد أو كثير على أنه وصف يلحقه من خارج، فلا محالة أنه يوصف بذلك، ولكن لا يكون هو ذلك الموصوف من حيث هو إنسانية فقط، فلا يكون من حيث هو إنسانية هو كثيراً بل إنما يكون كأن ذلك شيء يلحقه من خارج. فإذا كان نظرنا إليه من حيث هو إنسانية فقط، فلا يجب أن نشوبه بنظر إلى شيء من خارج يجعل النظر نظرين: نظر إليه بما هو هو، ونظر إلى لواحقه. ومن حيث النظر الواحد الأول لا يكون إلا الإنسانية فقط، فلهذا إن قال قائل: إن الإنسانية التي في زيد من حيث هي إنسانية هل هي غير التي في عمرو؟ فيلزم أن يقول: لا. وليس يلزم من تسليمه هذا أن يقول: فإذن تلك وهي واحدة بالعدد، لأن هذا كان سلباً مطلقاً، وعنينا بهذا السلب أن تلك الإنسانية من حيث هي إنسانية هي إنسانية فقط، وكونها غير التي في عمرو شيء من خارج. فإنه إن لم يكن ذلك خارجاً عن الإنسانية لزم أن تكون الإنسانية من

الصفحة    : 99

حيث هي إنسانية ألفاً مثلاً أو ليست بألف، وقد أبطلنا ذلك، وإنما أخذنا الإنسانية من حيث هي إنسانية فقط. على أنه إذا قيل: الإنسانية التي في زيد من حيث هي إنسانية يكون قد جعلها اعتباراً من حيث هي إنسانية، ساقطاً عنها أنها في زيد وأنها التي في زيد، وإلاّ نكون قد أخذنا الإنسانية على أنها في زيد، فإنا قد جردناها وتكلمنا على أنا نلتفت إليها وهي إنسانية. ثم لا يخلو إما أن نرجع الكناية التي في أنها إلى الإنسانية التي في زيد، فيكون هذامحالاً من القول، فإنه لا تجتمع أن تكون إنسانية في زيد وهي باعتبار أنها إنسانية فقط. وإن رجعت إلى الإنسانية فقط فذكر زيد لغواً إلا أن تعني أن الإنسانية التي عرض لها من خارج أن كانت في زيد وقد أسقطنا عنها أنها في زيد، فهل هي هكذا؟ وهذا أيضاً فيه اعتبار غير الإنسانية. فإن سألنا سائل وقال: ألستم تجيبون وتقولون: إنها ليست كذا وكذا، وكونا ليست كذا وكذا غير كونها إنسانية بما هي إنسانية. فنقول: إنا لا نجيب بأنها من، حيث هي إنسانية، ليست كذا، بل نجيب أنها ليست من حيث إنسانية كذا، وقد علم الفرق بينهما في المنطق. وههنا شيء آخر وهو أن الموضوع في مثل هذه المسائل يكاد يرجع إلى الإهمال إذا لم تعلق بحصر ولا يكون عنها جواب، اللهم إلا أن تجعل تلك الإنسانية كأنها مشار إليها أو لا كثرة فيها. فحينئذ لا يكون قولنا: "من حيث هي إنسانية" جزءاً من الموضوع، لأنه لا يصلح أن يقال: إن الإنسانية التي هي من حيث هي إنسانية إلا وقد عادت مهملة. فإن قيل: تلك الإنسانية التي هي من حيث إنسانية، يكون قد وقع إليها الإشارة فزادت على الإنسانية. ثم إن سألنا في ذلك فيكون الطرفان من المسألة مسلوبين عنها، ولم يجب أن يكون واحداً أو كثيراً هو هو أو غيره إلا على معنى أنه لابد له أن يكون هو هو أو غير. فحينئذ نقول: لابد لها من أن تصير غيراً بالأعراض التي معها، إذ لا توجد البتة إلا مع الأعراض. وحينئذ لا تكون مأخوذة من حيث هي إنسانية فقط، فإذا ليست إنسانية عمرو فهي غير إنسانية بالأعراض، فيكون لهذه الأعراض تأثير في شخص زيد بأنه مجموع الإنسان أو الإنسانية فأعراض لازمة كأنها أجزاء منه، وتأثير الإنسان أو الإنسانية بأنها منسوبة إليه. ونعود من رأس ونجمع هذا ونخبر عنه بعبارة أخرى كالمذكر لما سلف من قولنا، فنقول: إن ههنا شيئاً محسوساً هو الحيوان أو الإنسان مع مادة وعوارض، وهذا هو الإنسان الطبيعي. وههنا شيء هو

الصفحة    : 100

الحيوان أو الإنسان منظوراً إلى ذاته بما هو هو، غير مأخوذ معه ما خالطه، وغير مشترط فيه أنه عام أو خاص أو واحد أو كثير بالفعل ولا باعتبار القوة أيضاً من حيث هو بالقوة. إذ الحيوان بما هو حيوان، والإنسان بما هو إنسان أي باعتبار حده ومعناه، غير ملتفت إلى أمور أخرى تقارنه، ليس إلا حيواناً أو إنساناً. وأما الحيوان العام، والحيوان الشخصي، والحيوان من جهة اعتبار أنه بالقوة، عام أو خاص، والحيوان باعتبار أنه موجود في الأعيان، أو معقول في النفس، هو حيوان وشيء وليس هو حيواناً منظور إليه وحده. ومعلوم أنه إذا كان حيوان وشيء كان فيهما الحيوان كالجزء منهما. وكذلك في جانب الإنسان. ويكون اعتبار الحيوان بذاته جائزاً وإن كان مع غيره، لأن ذاته مع غيره ذاته. فذاته له بذاته؛ وكونه مع غيره أمر عارض له أو لازم ما لطبيعته كالحيوانية والإنسانية. فهذا الاعتبار متقدم في الوجود على الحيوان الذي هو شخصي بعوارضه أو كلي وجودي، أو عقلي، تقدم البسيط على المركب، والجزء على الكل. وبهذا الوجود لا هو جنس ولا نوع ولا شخص ولا واحد ولا كثير، بل هو بهذا الوجود حيوان فقط وإنسان فقط. لكنه يلزمه لا محالة أن يكون واحداً أو كثيراً، إذ لا يخلو عنهما شيء موجود، على أن ذلك لازم له من خارج. وهذا الحيوان بهذا الشرط وإن كان موجوداً في كل شخص فليس هو بهذا الشرط حيواناً ما، وإن كان يلزمه أن يصير حيواناً ما لأنه في حقيقته وماهيته بهذا الاعتبار حيوان ما. وليس يمنع كون الحيوان الموجود في الشخص حيواناً ما أن يكون الحيوان بما هو حيوان لا باعتبار أنه حيوان بحال ما موجود فيه، لأنه إذا كان هذا الشخص حيواناً ما، فحيوان ما موجود، فالحيوان الذي هو جزء من حيوان ما موجود، كالبياض فإنه وإن كان غير المفارق للمادة فهو ببياضيته موجود في المادة على أنه شيء آخر معتبر بذاته وذو حقيقة بذاته، وإن كان عرض تلك الحقيقة أن تقارن في الوجود أمراً آخر. ولقائل أن يقول: إن الحيوان بما هو حيوان غير موجود في الأشخاص، لأن الموجود في الأشخاص هو حيوان ما لا الحيوان بما هو حيوان. ثم الحيوان بما هو حيوان موجود، فهو إذن مفارق للأشخاص. ولو كان الحيوان بما هو حيوان موجوداً لهذا الشخص، لم يخل إما أن يكون خاصاً له أو غير خاص؛ فإذا كان خاصاً له لم يكن الحيوان بما هو حيوان هو الموجود فيه أو هو، بل حيوان ما؛ وإن كان غير خاص كان كل شيء واحد بعينه بالعدد موجوداً في الكثرة، وهذه محال.

الصفحة    : 101

وهذا الشك وإن كان ركيكاً سخيفاً فقد أوردناه بسبب أنه قد وقعت منه الشبهة في زماننا هذا لطائفة ممت تتشحط في التفلسف. فنقول: إن هذا الشك قد وقع فيه الغلط من وجوه عدة. أحدها الظن بأن الموجود من الحيوان إذا كان حيواناً ما فإن طبيعة الحيوانية معتبرة بذاتها لا بشرط آخر لا تكون موجودة فيه. وبيان غلط هذا الظن قد تقدم. والثاني، الظن بأن الحيوان بما هو حيوان يجب أن يكون خاصاً أو غير خاص بمعنى العدول، وليس كذلك، بل الحيوان إذا نظر إليه بما هو حيوان ومن جهة حيوانيته لم يكن خاصاً ولا غير خاص الذي هو العام، بل كلاهما يسلبان عنه. لأنه من جهة حيوانيته فقط، ومعنى الحيوان في أنه حيوان غير معنى الخاص والعام، وليسا داخلين أيضاً في ماهيته. وإذا كان كذلك لم يكن الحيوان بما هو حيوان خاصاً ولا عاماً في حيوانيته، بل هو لا غيره من الأمور والأحوال، لكنه يلزمه أن يكون خاصاً أو عاماً. فقوله لم يخلو إما أن يكون خاصاً أو يكون عاماً: إن عنى بقوله إنه لا يخلو عنهما في حيوانيته فهو خال عنهما في حيوانيته، وإن عنى أنه لا يخلو عنهما في الوجود أي لا يخلو عن لزوم أحدهما فهو صادق. فإن الحيوان يلزمه ضرورة أن يكون خاصاً أو عاماً وأيهما عرض له لم يبطل عنه الحيوانية التي باعتبار ما ليس بخاص ولا عام، بل يصير خاصاً أو عاماً بعدها بما يعرض لها من الأحوال. وههنا شيء يجب أن نفهمه وهو أنه حق أن يقال: إن الحيوان بما هو حيوان لا يجب أن يقال عليه خصوص أو عموم، وليس بحق أن يقال: الحيوان بما هو حيوان يجب أن يقال عليه خصوص أو عموم، وذلك أنه لو كانت الحيوانية توجب أن لا يقال عليها خصوص أو عموم لم يكن حيوان خاص أو حيوان عام. ولهذا المعنى يجب أن يكون فرق قائم بين أن نقول: إن الحيوان بما هو حيوان مجرد بلا شرط شيء آخر، وبين أن نقول: إن الحيوان بما هو حيوان مجرد بشرط لا شيء آخر. ولو كان يجوز أن يكون الحيوان بما هو حيوان مجرداً بشرط أن لا يكون شيء آخر موجود في الأعيان، لكان يجوز أن يكون للمثل الأفلاطونية وجود في الأعيان؛ بل الحيوان بشرط لاشيء آخر وجوده في الذهن فقط. وأما الحيوان مجرداً لا بشرط شيء آخر فله وجود في الأعيان، فإنه في نفسه وفي حقيقته بلا شرط شيء آخر، وإن كان مع ألف شرط يقارنه من خارج. فالحيوان بمجرد الحيوانية موجوداً في الأعيان، وليس يوجب ذلك عليه أن يكون مفارقاً بل هو الذي هو في نفسه خال عن الشرائط اللاحقة موجودٌ في الأعيان. وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال، فهو في حد وحدته التي بها هو واحد من تلك الجملة حيوان مجرد بلا شرط شيء آخر، وإن كانت تلك الوحدة زائدة على حيوانيته ولكن غير اللواحق

الصفحة    : 102

الأخرى، ولو كان ههنا حيوان مفارق كما يظنون، لم يكن هو الحيوان الذي نتطلبه ونتكلم عليه، لأنا نطلب حيواناً مقولاً على كثيرين بأن يكون كل واحد من الكثيرين هو هو. وأما المباين الذي ليس محمولاً على هؤلاء إذ ليس شيء منها هو هو، فلا حاجة بنا إليه فيما نحن بسبيله. فالحيوان مأخوذاً بعوارضه هو الشيء الطبيعي، والمأخوذ بذاته هو الطبيعة التي يقال إن وجودها أقدم من الوجود الطبيعي بقدم البسيط على المركب، وهو الذي يخص وجوده بأنه الوجود الإلهي لأن سبب وجوده بما هو حيوان عناية الله تعالى. وأما كونه مع مادة وعوارض وهذا الشخص وإن كان بعناية الله تعالى فهو بسبب الطبيعة الجزئية، فكما أن للحيوان في الوجود أنحاء فوق واحد، كذلك له في العقل. فإن في العقل صورة الحيوان المجرد على النحو الذي ذكرناه من التجريد، وهو بهذا الوجه يسمى صورة عقلية؛ وفي العقل أيضاً صورة الحيوان من جهة ما يطابق في العقل بحد واحد بعينه أعياناً كثيرة، فتكون الصورة الواحدة مضافة عند العقل إلى الكثرة، وهو بهذا الاعتبار كلي، وهو معنى واحد في العقل لا تختلف نسبته إلى أي واحد أخذته من الحيوانات، أي أي واحد منها أحضرت صورته في الخيال بحال، ثم انتزع العقل مجرد معناه عن العوارض حصل في العقل هذه الصورة بعينها، وكانت هذه الصورة هي ما يحصل عن تجريد الحيوانية عن أي خيال شخصي مأخوذ عن موجود من خارج أو جار مجرى الموجود من خارج وإن لم يوجد هو بعينه من خارج، بل اخترعه الخيال. وهذه الصورة وإن كانت بالقياس إلى الشخاص كلية، فهي بالقياس إلى النفس الجزئية التي انطبعت فيها شخصية، وهي واحدة من الصور التي في العقل. ولأن الأنفس الشخصية كثيرة بالعدد، فيجوز إذن أن تكون هذه الصورة الكلية كثيرة بالعدد من الجهة التي هي بها شخصية، ويكون لها معقول كلي آخر هو بالقياس إليها مثلها بالقياس إلى خارج، ويتميز في النفس عن هذه الصورة التي هي كلية بالقياس إلى خارج بأن تكون مقولة عليها وعلى غيرها. وسنعيد الكلام في هذا عن قريب بعبارة أخرى. فالأمور العامة من جهة موجودة من خارج، ومن جهة ليست، وأما شيء واحد بعينه بالعدد محمول على كثير، يكون هو محمولاً على هذا الشخص بأن ذلك الشخص هو، وعلى شخص آخر كذلك، فامتناعه بيّن، وسيزداد بياناً. بل الأمور العامة، من جهة ما هي عامة بالفعل، موجودة في العقل فقط.

الفصل الثاني    (ب)

الصفحة    : 103

فصل في كيفية كون الكلية للطبائع الكلية وإتمام القول في ذلك، وفي الفرق بي الكل والجزء، والكلي والجزئي.

فقد تحققت إذن أن الكلي من الموجودات ما هو، وهو هذه الطبيعة عارضاً لها أحد المعاني التي سميناها كلية. وذلك المعنى ليس له وجود مفرد في الأعيان البتة، فإنه ليس الكلي بما هو موجوداً مفرداً بنفسه، إنما يتشكك من أمره أنه هل وجود على أنه عارض لشيء من الأشياء، حتى يكون في الأعيان مثلاً شيء هو إنسان وهو ذاته بعينه موجوداً لزيد وعمرو وخالد. فنقول: أما طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان فيلحقها أن تكون موجودة وإن لم يكن أنها موجودة هو إنها إنسان ولا داخلا فيه، وقد لحقها مع الوجود هذه الكلية ولا وجود لهذه الكلية إلا في النفس. وأما الكلية خارج فعلى اعتبار آخر شرحناه في الفنون السابقة. بل هذه الطبائع ما كان منها غير محتاج إلى المادة في أن يبقى، ولا في أن يبتدئ لها وجود فيكون من المستحيل أن يتكثر، بل إنما يكون النوع منه قائماً واحداً بالعدد. لأن مثل هذه الطبيعة ليست تتكثر بالفصول ولا بالمواد ولا بالأعراض. أما بالفصول فلنوعيته وأما بالمواد فلتجرده، وأما بالأعراض فلأن الأعراض إما أن تكون لازمة للطبيعة فلا تختلف فيها الكثرة بحسب النوع وإما أن تكون عارضة غير لازمة للطبيعة فيكون عروضها بسبب ما يتعلق بالمادة، فيكون حق مثل هذا إذا كان نوعاً موجوداً، أن يكون واحداً بالعدد. وما كان منها محتاجاً إلى المادة فإنما يوجد مع أن توجد المادة مهيأة فيكون وجوده مستلحقاً به أعراضاً وأحوالاً خارجة يتشخص بها، وليس يجوز أن تكون طبيعة واحدة مادية وغير مادية، وقد عرفت هذا في خلال ما علمت. وأما إن كانت هذه الطبيعة جنسية فسنبين أن طبيعة الجنس محال أن تقوم إلا في الأنواع ثم يقوم قوام الأنواع. فهذه حال وجود الكليات. وليس يمكن أن يكون معنى هو بعينه موجوداً في كثيرين، فإن الإنسانية التي في عمرو إن كانت بذاتها لا بمعنى الحد موجودة في زيد، كان ما يعرض لهذه الإنسانية في زيد لامحالة يعرض لها وهي في عمرو، إلا ما كان من العوارض ماهيته معقولة بالقياس إلى زيد. وأما ما كان يستقر في ذات الإنسان ليس استقراره فيه محوجاً إلى أن يصير مضافاً مثل أن يبيض أو يسود أو يعلم، فإنه إذا علم لم يكن به مضافاً إلا إلى المعلوم. ويلزم من هذا أن تكون ذات واحدة قد اجتمع فيها الأضداد وخصوصاً إن كان حال الجنس عند الأنواع حال النوع عند الأشخاص، فتكون ذات واحدة هي موصوفة بأنها ناطقة وغير ناطقة، وليس يمكن أن يعقل من له جبلة سليمة أن إنسانية واحدة اكتنفتها أعراض عمرو وإياها بعينها

الصفحة    : 104

اكتنفت أعراض زيد. فإن نظرت إلى الإنسانية بلا شرط آخر فلا تنظرن إلى هذه الإضافات، فهي على ما علمناك. فقد بان أنه ليس بمكن أن تكون الطبيعة توجد في الأعيان وتكون بالفعل كلية، أي هي وحدها مشتركة للجميع. وإنما تعرض الكلية لطبيعة ما إذا وقعت في التصور الذهني، وأما كيفية وقوع ذلك فيجب أن نتأمل ما قلناه في كتاب النفس. فالمعقول في النفس من الإنسان هو الذي هو كلي، وكليته لا لأجل أنه في النفس، بل لأجل أنه مقيس إلى أعيان كثيرة موجودة أو متوهمة حكمها عنده حكم واحد. وأما من حيث أن هذه الصورة هيئة في نفس جزئية فهي أحد أشخاص العلوم أو التصورات، وكما أن الشيء باعتبارات مختلفة يكون جنساً ونوعاً، فكذلك بحسب اعتبارات مختلفة يكون كلياً وجزئياً. فمن حيث أن هذه الصورة صورة ما في النفس ما من صور النفس فهي جزئية، ومن حيث أنها يشترك فيها كثيرون على أحد الوجوه الثلاثة التي بينا فيما مضى فهي كلية، ولا تتناقض بين هذين الأمرين. لأنه ليس بممتنع اجتماع أن تكون الذات الواحدة تعرض لها شركة بالإضافة إلى كثيرين. فإن الشركة في الكثرة لا تمكن إلا بالأضافة فقط، وإذا كانت الإضافة لذوات كثيرة لم تكن شركة، فيجب أن تكون إضافات كثيرة لذات واحدة بالعدد. والذات الواحدة بالعدد من حيث هي كذلك فهي شخصية لا محالة، والنفس نفسها تتصور أيضاً كلياً آخر يجمع هذه الصورة، وأخرى في تلك النفس أو في نفس غيرها، فإنها كلها من حيث هي في النفس تحد بحد واحد. وكذلك قد توجد اشتراكات أخرى، فيكون الكلي الآخر يُمايز هذه الصورة بحكم له خاص وهو نسبته إلى أمور في النفس، وهذه إنما كانت نسبتها الجاعلة إياها كلية هي إلى أمور من خارج على وجه أن أي تلك الخارجات سبقت إلى الذهن فجائز أن يقع عنها هذه الصورة بعينها. وإذا سبق واحد فتأثرت النفس منه بهذه الصفة لم يكن لما خلاه تأثير جديد إلا بحكم هذا الجواز المعتبر، فإن هذا الأثر هو مثل صورة السابق قد جرد عن العوارض وهذا هو المطابقة. ولو كان بدل أحد هذه المؤثرات أو المؤثر بها شيء غير تلك الأمور المعروفة وغير مجانس لها لكان الأثر غير هذا الأثر، فلا يكون مطابقة. وأما الكلي الذي في النفس بالقياس إلى هذه الصورة التي في النفس، فهذا الاعتبار له بحسب القياس إلى أي صورة سبقت من هذه الصور التي في النفس إلى النفس. ثم هذه أيضاً تكون صورة شخصية من حيث هي على ما قلناه، ولأن في قوة النفس أن تعقل، وتعقل لأنها عقلت، وتعقل أنها عقلت أنها عقلت، وأن تركب إضافات في إضافات، وتجعل للشيء الواحد أحوالاً مختلفة من المناسبات إلى غير النهاية

الصفحة    : 105

بالقوة. فيجب أن لا تكون لهذه الصور العقلية المترتب بعضها على بعض وقوف، ويلزم أن تذهب إلى غير النهاية، لكن تكون بالقوة لا بالفعل.لأنه يلزم النفس إذا عقلت شيئاً أن تكون بالفعل تعقل معه الأمور التي تلزمه لزوماً قريباً، وأن تخطرها بالبال فضلاً عما يمعن في البعد. فإن ههنا مناسبات في الجذور الصم وفي إضافات الأعداد كلها قريبة المنال من النفس، وليس يلزم أن تكون النفس في حال واحدة تعقل تلك كلها أو أن تكون مشتغلة على الدوام بذلك، بل في قوتها القريبة أن تعقل ذلك مثل إخطار المضلعات التي لا نهاية لها بالبال، ومزاوجة عدد بأعداد لا نهاية لها بالبال، بل بوقوع مناسبة عدد مع مثله مراراً لا نهاية لها بالتضعيف. فإن هذا أشبه شيء بما نحن في ذكره. فإما أنه هل يجوز أن تقوم المعاني العامة للكثرة مجردة عن الكثرة وعن التصورات العقلية، فأمر سنتكلم فيه من بعد. فإذا قلنا: إن الطبيعة الكلية موجودة في الأعيان فلسنا نعني، من حيث هي كلية بهذه، الجهة من الكلية، بل نعني أن الطبيعة التي تعرض لها الكلية موجود في الأعيان. فهي من حيث هي طبيعة شيء، ومن حيث هي محتملة لأن تعقل عنها صورة كلية شيء؛ وأيضاً من حيث عقلت بالفعل كذلك شيء، ومن حيث هي صادق عليها أنها لو قارنت بعينها لا هذه المادة والأعراض، بل تلك المادة والأعراض، لكان ذلك الشخص الآخر شيء. وهذه الطبيعة موجودة في الأعيان بالاعتبار الأول، وليست فيه كلية موجودة بالاعتبار الثاني والثالث والرابع أيضاً في الأعيان. فإن جعل هذا الاعتبار بمعنى الكلية كانت هذه الطبيعة مع الكلية في الأعيان، وأما الكلية التي نحن في ذكرها فليست إلا في النفس. وإذ قد عرفنا هذه الأشياء فقد، سهل لنا الفرق بين الكل والجزء وبين الكلي والجزئي، وذلك أن الكل من حيث هو كل يكون موجوداً في الأشياء، وأما الكلي من حيث هو كلي فليس موجوداً إلا في التصور. وأيضاً الكل يُعد بأجزائه ويكون كل جزء داخلاً في قوامه، وأما الكلي فإنه لا يعد بأجزائه، ولا أيضاً الجزئيات داخلة في قوامه. وأيضاً فإن طبيعة الكل لا تقوم الأجزاء التي فيه، بل يتقوم منها، وأما طبيعة الكلي فإنها تقوم الأجزاء التي فيه. وكذلك فإن طبيعة الكل لا تصير جزءاً من أجزائه البتة، وأما طبيعة الكلي فإنها جزء من طبيعة الجزئيات لأنها إما الأنواع فتقوم من طبائع الكليين أعني الجنس والفصل، وإما الأشخاص فتتقوم من طبيعة الكليات كلها ومن طبيعة الأعراض التي تكتنفها مع المادة. وأيضاً فإن الكل لا يكون كلاً لكل جزء وحده ولو انفرد، والكلي يكون كلياً محمولاً على كل جزئي. وأيضاً فإن أجزاء كل كل متناهية، وليس أجزاء كل كلي متناهية. وأيضاً الكل يحتاج، إلى أن تحضره أجزاؤه معاً، والكلي لا يحتاج إلى أن تحضره أجزاؤه معاً. وقد يمكنك أن تجد فروقاً أيضاً غير هذه فتعلم أن الكل غير الكلي.

الصفحة    : 106

 

الفصل الثالث   (ج)

فصل في الفصل بين الجنس والمادة.

والذي يلزمنا الآن هو أن نعرف طبيعة الجنس والنوع. فأما أن الجنس على كم شيء يدل فقد كان يدل في زمان اليونانيين على معان كثيرة، وقد ذهب استعمالها في زماننا. فالجنس في صناعتنا لا يدل إلا على المعنى المنطقي المعلوم، وعلى الموضوع، وربما استعملنا لفظ الجنس مكان النوع فقلنا: ليس كذا من جنس كذا أي من نوعه أو من جملة ما يشاركه في حده. والنوع أيضاً ليس يدل عندنا الآن في زماننا وعادتنا في الكتب العلمية إلا على النوع المنطقي، وعلى صور الأشياء. وغرضنا الآن فيما يستعمله المنطقيون من ذلك فنقول: إن المعنى الذي يدل عليه بلفظة الجنس ليس يكون جنساً إلا على نحو من التصور، إذا تغير عنه ولو بأدنى اعتبار لم يكن جنساً، وكذلك كل واحد من الكليات المشهورة. ولنجعل بياننا في الجنس وفي مثال إشكاله على المتوسطين في النظر فنقول: إن الجسم قد يقال له إنه جنس الإنسان وقد يقال له إنه مادة الإنسان، فإن كان مادة الإنسان كان لا محالة جزء من وجوده واستحال أن يحمل ذلك الجزء على الكل. فلننظر كيف يكون الفرق بين الجسم وقد اعتبر مادة، وبينه وقد اعتبر جنساً، فهنالك يصير لنا سبيل إلى معرفة ما نريد بيانه. فإذا أخذنا الجسم جوهراً ذا طول وعرض وعمق من جهة ما له هذا، وبشرط انه ليس داخلاً فيه معنى غير هذا، وبحيث لو انضم إليه معنى غير هذا، مثل حس أو تغذّ أو غير ذلك، كان معنى خارجاً عن الجسمية، محمولاً في الجسمية، مضافاً إليها. فالجسم مادة وإن أخذنا الجسم جوهراً ذا طول وعرض وعمق بشرط ألا يتعرض بشرط آخر البتة ولا يوجب أن تكون جسميته لجوهرية متصورة بهذه الأقطار فقط، بل جوهرية كيف كانت ولو مع ألف معنى مقوم لخاصية تلك الجوهرية وصوره، ولكن معها أو فيها الأقطار. فللجملة أقطار ثلاثة على ما هي للجسم، وبالجملة أي مجتمعات تكون بعد أن تكون جملتها جوهراً ذا أقطار ثلاثة، وتكون تلك المجتمعات - إن كانت هناك مجتمعات - داخلة في هوية ذلك الجوهر، لا أن تكون تلك الجوهرية تمت بالأقطار ثم لحقت تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي قد تم، كان هذا المأخوذ هو الجسم الذي هو الجنس. فالجسم بالمعنى الأول إذ هو جزء من الجوهر المركب من الجسم والصورة التي بعد الجسمية بمعنى

الصفحة    : 107

المادة فليس بمحمول، لأن تلك الجملة ليست بمجرد جوهر ذي طول وعرض وعمق فقط. وأما هذا الثاني فإنه محمول على كل مجتمع من مادة، وصورة واحدة كانت أو الفاً، وفيها الأقطار الثلاثة، فهو إذن محمول على المجتمع من الجسمية التي كانت كالمادة ومن النفس، لأن جملة ذلك جوهر وإن اجتمع من معان كثيرة. فإن تلك الجملة موجودة لا في موضوع، وتلك الجملة جسم لأنها جوهر، وهو جوهر له طول وعرض وعمق. وكذلك فإن الحيوان إذا أخذ حيواناً بشرط أن لا يكون في حيوانيته إلا جسمية وتغذ وحس، وأن يكون ما بعد ذلك خارجاً عنه، فربما كان لا يبعد أن يكون مادة للإنسان أو موضوعاً وصورته النفس الناطقة. وإن أخذ بشرط أن يكون جسماً بالمعنى الذي يكون به الجسم جنساً، وفي معاني ذلك الجسم على سبيل تجويز الحس لا غير ذلك من الصور، ولو كان النطق أو فصل يقابل النطق غير متعرض لرفع شيء منها أو وضعه، بل مجوزاً وجود أي ذلك كان في هويته، ولكن هناك معها بالضرورة قوة تغذية وحس وحركة ضرورة ولا ضرورة في أن لا يكون غيرها أو يكون، كان حيواناً بمعنى الجنس. وكذلك فافهم الحال في الحساس والناطق، فإن أخذ الحساس جسماً أو شيئاً له حس بشرط أن لا يكون زيادة أخرى لم يكن فصلاً وإن كان جزءاً من الإنسان. وكذلك فإن الحيوان غير محمول عليه وإن أخذ جسماً أو شيئاً مجوزاً له وفيه ومعه، أي الصور والشرائط كانت بعد ان يكون فيها حس، كان فصلاً وكان الحيوان محمولاً عليه. فإذن أي معنى أخذته مما يشكل الحال في جنسيته أو ماديته من هذه فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه أيها كان على أنها فيه ومنه، كان جنساً. وإن أخذته من جهة بعض الفصول وتممت به المعنى وختمته حتى لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة، بل مضافاً من خارج، لم يكن جنساً، بل مادة. وإن أوجبت لها تمام المعنى حتى دخل فيه ما يمكن أن يدخل، صار نوعاً.‏ وإن كانت في الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرض لذلك، كان جنساً. فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة تكون مادة، وباشتراط أن تكون زيادة يكون نوعاً. وبأن لا تتعرض لذلك، بل يجوز أن يكون كل واحد من الزيادات على أنها داخلة في جملة معناه، يكون جنساً. وهذا إنما يشكل في ذاته مركبة، وأما فيما ذاته بسيطة فعسى أن العقل يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه على النحو الذي ذكرنا قبل هذا الفصل. وأما في الوجود فلا يكون منه شيء متميز هو جنس وشيء هو مادة، فنقول: إنما يوجد للإنسان الجسمية قبل الحيوانية في بعض وجوه التصور إذا أخذت الجسمية بمعنى المادة لا بمعنى الجنس،

الصفحة    : 108

وكذلك إنما يوجد له الجسم قبل الحيوانية إذا كان الجسم بمعنى لا يحمل عليه لا بمعنى يحمل عليه. وأما الجسمية التي تفرض مع جواز أن توضع متضمنة لكل معنى مقروناً بها وجوب أن يتضمن الأقطار الثلاثة، فإنها لم توجد للشيء الذي هو نوع الحيوان إلا وقد تضمن الحيوانية. فيكون معنى الحيوانية جزءاً ما من وجود ذلك الجسم بالفعل بعد أن كان مجوزاً في نفسها تضمنها إياه، فيكون معنى الحيوانية جزءاً ما من وجود ذلك الجسم بعكس حال الجسم إذا حصل. كما أن الجسم الذي هو بمعنى المادة جزء من وجود الحيوان ثم الجسم المطلق الذي ليس بمعنى المادة إنما وجوده واجتماعه من وجود أنواعه، وما توضع تحته فهي أسباب لوجوده، وليس هو سبباً لوجودها. ولو كان للجسمية التي بمعنى الجنس وجود محصل قبل وجود النوعية، وإن كانت قبليته قبلية لا بالزمان بل بالذات، لكان سبباً لوجود النوعية، مثل الجسم الذي بمعنى المادة، وإن كانت قبليته لا بالزمان بل وجود تلك الجسمية في هذا النوع هو وجود ذلك النوع لا غير. وفي العقل أيضاً فإن الحكم فيه كذلك. فإن العقل لا يمكنه أن يضع في شيء من الأشياء للجسمية التي لطبيعة الجنس وجوداً يحصل هو أولاً وينضم إليه شيء آخر حتى يحدث الحيوان النوعي في العقل. فإنه لو فعل ذلك لكان ذلك المعنى الذي للجنس في العقل غير محمول على طبيعة النوع، بل كان جزءاً منه في العقل أيضاً. بل إنما يحدث للشيء الذي هو النوع طبيعة الجنسية في الوجود وفي العقل معاً إذا حدث النوع بتمامه. ولا يكون الفصل خارجاً عن معنى ذلك الجنس ومضافاً إليه، بل متضمناً فيه وجزء منه من الجهة التي أومأنا إليها. وليس هذا حكم الجنس وحده من حيث هو كلي، بل حكم كل كلي من حيث هو كلي. فبيّن من هذا أن الجسم إذا أخذ على الجهة التي يكون جنساً يكون كالمجهول بعد، لا يدري أنه على أي صورة، وكم صورة يشتمل، وتطلب النفس تحصيل ذلك، لأنه لم يتقرر بعد بالفعل شيء هو جسم محصل. وكذلك إذا أخذنا اللون وأخطرناه ببال النفس، فإن النفس لا تقنع بتحصيل شيء متقرر لا بالفعل، بل تطلب في معنى اللون زيادة حتى يتقرر بالفعل لون. وأما طبيعة النوع فليس يطلب فيها تحصيل معناها، بل تحصيل الإشارة. وأما طبيعة الجنس فإنها وإن كانت النفس إذا طلبت فيها تحصيل الإشارة كانت قد فعلت الواجب وما يجب أن يقنع معه. فإن النفس قد تطلب أيضاً مع ذلك تحصيل معناه قبل هذا الطلب، حتى إنما يبقى له أن يستعد لهذا الطلب أكثر ويكون إلى النفس أن يفرضه اي مشار إليه شاء. فلا يمكن النفس أن تجعله بحيث يجوز أن يكون أي مشار إليه

الصفحة    : 109

شاء إلا بعد أن تضيف إليه معاني أخرى بعد اللونية قبل الإشارة. فإنه ليس يمكنه أن يجعل اللون وهو لون بعد بلا زيادة شيء مشار إليه أنه لون في هذه المادة، وذلك الشيء ليس إلا لوناً فقط. وقد يخصص بأمور عرضية عرضت من خارج يجوز أن يتوهم هو بعينه باقياً مع زوال واحد واحد منها. كما يكون في مخصصات طبيعة النوعية. وكذلك في المقدار أو الكيفية أو غيرها، كذلك في الجسم الذي نحن بسبيله ليس يمكن أن يجعله الذهن مشاراً إليه مقتصراً على أنه جوهر يتضمن أي شيء اتفق بعد أن تكون الجملة طويلة عريضة عميقة على جملته لم يتحدد الأشياء التي يتضمنها أو لا يتضمنها فيصير نوعاً. فإن قال قائل: فيمكننا أن نجمع مثل هذا الجمع أي الأشياء شيئاً، فنقول: إن كلامنا في نحو من الاجتماع مخصوص، يكون اجتماع الأشياء فيه على نحو الاجتماع في طبيعة الجنس من حيث هو جنس، وذلك النحو هو أن تكون المجتمعات فصولاً تنضم إليه، إلا أنه ليس كلامنا ههنا في الدلالة على طبيعة الجنس أنه كيف تحوي الفصول وغير الفصول، وأي الأشياء يجتمع فيه على نحو الفصول، بل كلامنا فيها على النحو المؤدي إلى الفرق بين الجنس والمادة. وليس إذا أردنا أن نفرق بين شيئين يلزمنا أن نتعدى التفريق إلى بيانات أحوال أخرى، وإنما غرضنا أن نعرف أن طبيعة الجنس الذي هو الجسم هو أنه جوهر يجوز فيه اجتماع أشياء من شأنها أن تجتمع فيه. فتكون الجملة طويلة عريضة عميقة، وتكون وإن كانت لا تكون إلا أشياء معلومة الشروط مجهولة بعد. وإلى هذا الحد ما نتكلم في هذا الفصل.

الفصل الرابع   (د)

الصفحة    : 110

فصل دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس في كيفية دخول المعاني الخارجة عن الجنس على طبيعة الجنس.

فلنتكلم الآن في الشياء التي يجوز اجتماعها في الجنس، ويكون التوقف في إثبات طبيعته وماهيته محصلة بالفعل إنما يقع لأجلها. فنقول: إن هذا المطلب ينقسم إلى قسمين: أحدهما، أنه أي الأشياء هي الأشياء التي يجب أن يحصرها الجنس في نفسه وتجتمع، فتكون تلك الأشياء جاعلة إياه نوعاً. والثاني أنه أي الأشياء يكون واقعاً في حصره مما ليس كذلك. وذلك أن الجسم إذا انحصر فيه البياض على النحو المذكور لم يجعله نوعاً، والحيوان إذا قسم إلى ذكر وأنثى لم يتنوع بذلك، وهو مع ذلك يتنوع بأشياء أخرى. ثم الحيوان يجوز أن يقع على شخص فيه أعراض كثيرة تكون تلك الجملة حيواناً مشاراً إليه. فنقول أولاً: ليس يلزمنا أن نتكلف إثبات خاصية فصل كل جنس عند كل نوع ولا أيضاً فصول أنواع جنس واحد، فإن ذلك ليس في مقدورنا، بل الذي في مقدورنا هو معرفة القانون في ذلك، وأنه كيف ينبغي أن يكون الأمر في نفسه. وأما إذا نظرنا في معنى من المعاني المعقولة الواقعة في تخصيص الجنس أنه هل هذا المعنى للجنس على شرط ذلك القانون أو ليس، فربما جهلناه في كثير من الأشياء، وربما علمناه في بعضها، فنقول: إن المعنى العام إذا انضافت إليه طبيعة فيجب أول شيء أن يكون انضيافها إليه على سبيل القسمة حتى ترده إلى النوعية، وان تكون القسمة مستحيلة أن تنقلب وذلك المشار إليه باقي الجوهر، حتى يصير مثلاً المتحرك منهما غير متحرك وهو واحد بالشخص، وغير المتحرك متحركاً وهو واحد بالشخص، وغير المتحرك والمتحرك قسما التقسيم الذاتي؛ بل يجب أن تكون القسمة لازمة فيكون المعنى الخاص لا يفارق قسطه الخاص من الجنس وبعد ذلك فيجب أن يكون الموجب من القسمين أو كلاهما ليسا عارضين له بسبب شيء قبلهما وتتضمن طبيعة الجنس أن يكون له ذلك المعنى أولاً. فإنه إن كان ثانياً جاز أن لا يكون ذلك المعنى فصلاً البتة، بل كان أمراً لازماً للأمر الذي هو الفصل مثل أن يكون قاسم قد غير حكمه فلم يقسم الجوهر إلى جسم وغير جسم، بل يقسم إلى قابل الحركة وإلى غير قابل للحركة. فإن القابل للحركة لا يلحق الجوهر أول اللحوق، بل بعد أن يصير مكانياً جسمانياً. فقابل الحركة يلزم الجسم، ويلزم الجسم أشياء كثيرة كل واحد منها يذكر الجسم، لكنها ليست فصولاً بل أموراً لزمت الفصول. لأن الجوهر يتوسط الجسمية ما تعرض له تلك المعاني، وانقسامه إلى أن يكون ذا جسمية أو غير ذي جسمية فهو لما هو جوهر لا لتوسط شيء آخر.

الصفحة    : 111

وقد يجوز أن يكون بعض ما لا يعرض أولاً فصلاً، ولكن لا يكون فصلاً قريباً لذلك الجنس، بل فصلاً بعد فصل، مثل أن يقال: إن الجسم منه ناطق ومنه غير ناطق، لأن الجسم بما هو جسم فقط ليس مستعداً لأن يكون ناطقاً وغير ناطق؛ بل يحتاج إلى أن يكون أولاً ذا نفس حتى يكون ناطقاً. وإذا وجد الجنس فصلاً فيجب أن تكون تلك الفصول التي بعده فصولاً تعرف تخصيص ذلك الفصل، فإن ذا النطق وعديم النطق تعرف حال فصل كونه ذا نفس، فإنه ذو نطق وعديم النطق من جهة ما هو ذو نفس، لا من جهة أنه أبيض أو أسود أو شيء آخر البتة بالفعل. وكذلك كون الجسم ذا نفس أو غير ذي نفس ليس له هذا بسبب شيء البتة من الأجناس المتوسطة، فإذا عرض لطبيعة الجنس أيضاً عوارض ينفصل بها لم يخل إما أن يكون الاستعداد للإنفصال بها إنما هو لطبيعة الجنس، أو لطبيعة أعم منها، كما كان من قبل لطبيعة أخص منها. فإن كان لطبيعة أعم منها، مثل أن الحيوان منه أبيض وأسود، والإنسان منه ذكر وأنثى، فليس ذلك من فصوله بل الحيوان إنما صار أبيض وأسود لأجل أنه جسم طبيعي، وقد صار ذلك الجسم الطبيعي قائماً بالفعل ثم وضع بهذه العوارض، وهو يقبلها، وإن لم يكن حيواناً، والإنسان إنما صار مستعداً للذكر والأنثى لأجل أنه حيوان، فهذا لا يكون فصلاً للجنس. وأيضاً قد تكون أشياء خاصة بالجنس تقسمه كالذكر والأنثى بالحيوان، ولا تكون فصولاً بوجه من الوجوه، وذلك لأنها إنما كانت تكون فصولاً لو كانت عارضة للحيوان من جهة صورته حتى انقسمت بها صورته انقساماً أولياً، ولم تكن لازمة لشيء يقومه فصل أولاً، فأما إذا لم تكن كذلك بل إنما عرضت للحيوان لأن مادته التي يكون منها عرض لها عارض فصارت بحال من الأحوال لا تمنع حصول صورة الجنس وماهيته ولا طرفا القسمة في المادة، ولا أيضاً تمنع أن يقع للجنس افتراق آخر من حيث صورته بالفصول، فليس طرفا القسمة من الفصول، بل من العوارض اللازمة فيه أعني مثل الذكورة والأنوثة. فإن المعنى الذي كان صالحاً لصورة الحيوان وكان متعيناً لفصل خاص من الحيوان الكلي عرض له انفعال حار فصار ذكراً، وكان يجوز أن يعرض له بعينه انفعال مبرد في المزاج فيكون أنثى، وذلك الانفعال وحده لا يمنعه من حيث نفسه أن يقبل أي فصل يعرض للحيوان من جهة صورته، أي من جهة كونه ذا نفس داركاً متحركاً بالإرادة، فكان يجوز أن يقبل النطق وغير النطق فلم يكن ذلك مؤثراً في تنويعه. وحتى لو توهمنا لا أنثى ولا ذكراً ولم نلتفت إلى ذلك البتة لقام نوعاً بما ينوعه، فلا ذلك يمنع عن التنوع دون الالتفات إليه ولا يفيد التنوع بالالتفات إليه. وليس كذلك إذا توهمنا لا ناطقاً ولا أعجم أو توهمنا اللون لا أبيض ولا أسود بوجه.

الصفحة    : 112

وليس يكفي إذا أردنا أن نفرق بين الفصول والخواص القاسمة أن نقول: إن الذي عرض من جهة المادة فليس بفصل. فإن كونه غاذياً أو غير غاذ إنما يعرض من جهة المادة لكن يجب أن تراعي الشرائط الأخرى التي وصفناها. ولهذا لا نجد شيئاً من جملة ما هو مغتذ من أنواع الجسم يدخل في جملة ما هو غير مغتذ، ونجد الإنسان وهو نوع لا محالة من الحيوان يدخل في جملة الذكر والأنثى جميعاً، وكذلك الفرس وغيره، والذكر والأنثى قد تدخل أيضاً في الإنسان والفرس. على ان هذا المثنى وهو ملازم ما به تقع القسمة للمقسوم - وإن كان من شرائط الفصل - فقد يكون في غير الفصل. فربما لزم ما ليس بفصل نوعاً واحداً لا يتعداه؛ وذلك إذا كان من لوازم الفصل. ونرجع فنقول: وأنت تعلم أن المادة إذا كانت تتحرك إلى قبول حقيقة صورة ليحدث نوع، فقد يعرض لها عوارض من الأمزجة وغيرها تختلف بها حالها في أفعال تصدر عنها لا من حيث تقبل صورة الجنس أو صورة الفصل، إذ ليس كل ما تقبله من الأحوال وما يعرض لها إنما يكون من جملة ما هو داخل في الغاية التي إليها تتحرك في التكون. فقد علمت مصادمات الأمور الطبيعية، ومعارضة بعضها لبعض، والانفعالات التي تقع بينها، فربما كانت الانفعالات المعترضة صارفة عن الغاية المقصودة، وربما كانت موقعة لإختلافات لا في نفس الغاية المقصودة، بل في أمور تناسب الغاية مناسبة ما، وربما كانت في أمور خارجة عنها جداً. فما يعرض للمادة من هذه الجهة وتبقى معه المادة مستمرة إلى الصورة فذلك خارج عن معنى الغاية، والذكورة والأنوثة إنما تؤثر في كيفية حال الآلات التي بها يكون التناسل، والتناسل لا محالة أمر عارض بعد الحياة وبعد تنوع الحياة شيئاً محصلاً بعينه. فيكون ذانك وأمثالهما من جملة الأحوال اللاحقة بعد تنوع النوع نوعاً، وإن كانت مناسبة للغاية. فما كان من الانفعالات واللوازم بهذه الصفة فليعلم أنها ليست من الفصول للأجناس. قد عرّفنا طبيعة الكلي وأنه كيف يوجد وأن الجنس منها كيف يفارق المادة تعريفاً ن وجه يمكن أن يتفرع منه وجوه سنوردها بعد، وعرفنا أي الأشياء يتضمنها الجنس مما يتنوع بها. وبقي بحثان متصلان بما نحن بسبيله. أحدهما، أي الأشياء يتضمنها الجنس مما ليس بمنوع إياه. والثاني، أن هذا التأحيد كيف يكون وكيف يكون عن الجنس وعن الفصل، وهما شيئان، شيء واحد متحصل بالفعل. فأما البحث الأول فنقول فيه: إن تلك الأشياء إذ لا تكون فصولاً فهي لا محالة عوارض. والعوارض إما لازمة وإما غير لازمة. واللازمة إما لازمة لأجناس الجنس - إن كان له أجناس - وإما لفصول أجناسه وإما للجنس نفسه من فصله، وإما لفصول تحته، وإما لمادة شيء منها. وأما ما كان منها من

الصفحة    : 113

فوق فإن اللازمات للأجناس الفوقانية والفصول التي لها الفصل المقوم الذي للجنس نفسه واللازمات لمواد هذه ولأعراضها - إذ قد يلزم الأعراض أعراض - فجميع ذلك يكون لازماً للجنس ولما تحته. وأما التي تلزم الفصول التي تحت الجنس فلا يلزم الجنس شيء منها، إذ يلزم من ذلك أن يلزمه النقيضان، بل قد يجوز أن يقع فيه كلاهما. وأما البحث الثاني فلنفرض مشاراً إليه وهو مجموع محصل من فصول الأجسام وأعراض كثيرة. فإذا قلنا له جسم، فلسنا نعني بذلك مجرد مجموع الصورة الجسمية مع المادة التي هذه الأشياء كلها عارضة لها خارجة، بل نعني شيئاً لا في موضوع له طول وعرض وعمق سواء كان هذا الحمل عليه أولياً أو غير أولي. فتكون هذه الجملة من حيث هي جملة معينة يقع عليها حمل الجسم بهذا المعنى، ولا يحمل عليها الجسم بالمعنى الآخر الذي هو مادته. فإذا قيل له جسم، لم يكن ذلك الجسم إلا هو نفسه، لا الجزء منه ولا شيء خارج عنه. ولكن لقائل أن يقول: قد جعلتم طبيعة الجنس ليست غير طبيعة الشخص، وقد أجمع الحكماء على أن للشخص أعراضاً وخواص خارجة عن طبيعة الجنس. فنقول: معنى قولهم أن للشخص أعراضاً وخواص خارجة عن طبيعة الجنس هو: أن طبيعة الجنس مقولة على الشخص لا تحتاج في أن تكون لها طبيعة الجنس من حيث تعم إلى تلك الأعراض بالفعل، لا أن طبيعة الجنس لا تقال على الجملة.فإنه لو كان لا يقال على الجملة لم يكن محمولاً على الشخص، بل كان يكون جزءاً من الشخص. لكنه لو لم تكن هذه الأعراض والخواص لكان يكون أيضاً هذه الطبيعة التي قلناها موجودة بهذا المعنى المذكور، وهو أنها طبيعة جوهر كيف كانت جوهريته يتقوم بكذا وكذا مما يجب له في أنه جسم. فهذه الأعراض والخواص خارجة عن أن يحتاج إليها الجسم من الأجناس مثلاً في أن يكون جسماً على ما قيل، إلا أن يكون مخصصاً. وليس في ذلك إذا كانت هذه، فليس يقال عليها الجسم، ففرق بين أن يقال: إن طبيعة لا يحتاج في معناها إلى شيء، وبين أن يقال: لا يحمل عليه. فقد يحمل على ما لا يحتاج إلى معناه. وأما إذا حمل فقد تخصص به الفعل، بعد أن كان يجوز أن يتخصص بغيره. وكذلك حاله مع الفصول. لو لا هذا الوجه من الاعتبار في حمل الجنس لكان طبيعة الجنس جزءاً لا محمولاً.

الفصل الخامس   (ه)

الصفحة    : 114

فصل في النوع وأما النوع فإنه الطبيعة المتحصلة في الوجود وفي العقل جميعاً، وذلك لأن الجنس إذا تحصل ماهيته بأمور تحصله يكون العقل إنما ينبغي له بعد ذلك أن يحصلها بالإشارة فقط، ولا يطلب شيئاً في تحصيلها إلا الإشارة فقط بعد أن تحصلت الطبيعة نوع الأنواع. ويكون حينئذ تعرض له لوازم من الخواص والأعراض تتعين بها الطبيعة المشار إليها، وتكون تلك الخواص والأعراض إما إضافات فقط من غير أن تكون معنى في الذات البتة، وهي ما يعرض لشخصيات الأمور البسيطة والأعراض، لأن تشخصها بكونها محمولة على موصوفاتها، وتشخصها بالموضوع يكون بالعرض كالصور الطبيعية مثل صورة النار؛ وإما أن تكون أحوالاً زائدة على المضافات، لكن بعضها بحيث لو توهم مرفوعاً عن هذا المشار إليه لوجب أن لا يكون هذا المشار إليه الذي هو مغاير للآخرين موجوداً، بل يكون قد فسد نحو مغايرته اللازمة؛ وبعضها لو توهم مرفوعاً لم يجب به لا بطلان ماهيته بعد وجودها ولا فساد ذاته بعد تخصصها، ولكن بطلت مغايرته ومخالفته للآخرين إلى المغايرة أخرى من غير فساد. لكننا ربما أشكل علينا ذلك فلم يتحصل، وليس كلامنا فيما نعلمه نحن، بل فيما الأمر في نفسه عليه.

الفصل السادس   (و)

الصفحة    : 115

فصل في تعريف الفصل وتحقيقه

والفصل أيضاً يجب أن نتكلم فيه ونعرف حاله. إن الفصل بالحقيقة ليس هو مثل النطق والحس، فإن ذلك غير محمول على شيء إلا على ما ليس فصلاً له، بل نوعاً مثل اللمس للحس على ما علمت في موضع آخر، أو شخصاً مثل حمل النطق على نطق زيد وعمرو. فإن أشخاص الناس لا يحمل عليها النطق ولا الحس فلا يقال لشيء منها أنه نطق أو حسن، لكن يشتق له من أسمائها اسم. فإن كانت هذه فصولاً فهي فصول من جهة أخرى، وليست من الجهة التي هي أقسام المقول على كثيرين بالتواطؤ. فالأولى أن تكون هذه مبادئ الفصول لا الفصول، فإنها إنما تحمل بالتواطؤ على غير أشخاص النوع التي يقال إنها فصولها. وذلك لأن النطق يحمل على نطق زيد ونطق عمرو بالتواطؤ، والحس يحمل على البصر والسمع بالتواطؤ. فالفصل الذي هو كالنطق والحس ليس هو بحيث يقال على شيء من الجنس، فليس الحس ولا النطق حيواناً البتة. وأما الفصل الذي هو الناطق والحساس فالجنس بالقوة هو، وإذا صار بالفعل صار نوعاً. وأما كيف ذلك فقد تكلمنا فيه وبينا أنه كيف يكون الجنس هو الفصل وهو النوع في الوجود بالفعل وكيف تفترق هذه بعضها من بعض. وان النوع بالحقيقة شيء هو الجنس إذا صار موصوفاً بالفعل، وأن ذلك التميز والتفريق هو عند العقل، فإذا احتيل وفصل وتميز في الوجود في المركبات صار الجنس مادة والفصل صورة، ولم يكن الجنس ولا الفصل مقولاً على النوع. ثم من الشكوك التي تعرض على هذا الكلام، بل على وجود طبيعة الفصل ما أقوله: إنه من البين أن كل نوع منفصل عن شركائه في الجنس بفصل. ثم ذلك الفصل معنى أيضاً من المعاني، فإما أن يكون أعم المحمولات، وإما أن يكون معنى واقعاً تحت أعم المحمولات. ومحال أن يقال: إن كل فصل هو أعم المحمولات. فإن الناطق وأشياء كثيرة مما يجري مجراه ليس مقولة ولا في حكم مقولة، فيبقى أن يكون واقعاً تحت أعم المحمولات وكل ما هو واقع تحت معنى أعم منه فهو منفصل عما يشاركه فيه بفصل يختص به، فيكون إذن لكل فصل فصل، ويذهب هذا إلى غير النهاية. والذي يجب أن يعلم حتى ينحل به هذا الشك أن من الحمل ما يكون المحمول فيه مقوماً لماهية الموضوع، ومنه ما يكون أمراً لازماً له غير مقوم لماهيته كالوجود. وأنه ليس يجب أن يكون كل معنى يكون أخص ويقع تحت معنى أعم، إنما ينفصل عن شركائه فيه بفصل في العقل، هو معنى يغاير ذاته وماهيته وإنما يجب ذلك إذا كان ما يحمل عليه مقوماً لماهيته فيكون كالجزء في العقل والذهن لماهيته،

الصفحة    : 116

فما يشاركه عند العقل والذهن والتحديد في ذلك المعنى شاركه في شيء هو جزء ماهيته، فإنه إذا خالفه يجب أن يخالفه في شيء لا يتشاركان فيه، ويكون ذلك جزءاً آخر عند العقل والذهن والتحديد من ماهيته. فتكون مخالفته الأولية له بشيء من جملة ماهيته، ليس بجميع ما يدخل في ماهيته، أعني عند الذهن والتحديد. والجزء غير الكل فتكون مخالفته له بشيء غيره وهو الفصل. وأما إذا كانت المشاركة في أمر لازم وكان لا يشاركه في أجزاء حد الماهية أصلاً وكانت الماهية بنفسها منفصلة لا بجزء منها، مثل انفصال اللون عن العدد، فإنهما وإن اشتركا في الوجود، فالوجود - كما اتضح في سائر ما تعلمت من الفلسفة - لازم غير داخل في الماهية. فلا يحتاج اللون في انفصاله من العدد عند التحديد والذهن إلى شيء آخر غير ماهيته وطبيعته. ولو شاركه العدد في معنى آخر داخل في ماهيته لكان يحتاج إلى أن ينفصل عنه بمعنى آخر غير جملة ماهيته. لكن جملة ماهية اللون غير مشاركة البتة لماهية العدد، وإنما تشاركها بشيء خارج عن الماهية. فلا يحتاج إذن اللون إلى فصل يخالف به العدد. ونقول أيضاً إن الجنس يحمل على النوع على أنه جزء من ماهيته، ويحمل على الفصل على أنه لازم له لا على أنه جزء من ماهيته، مثاله الحيوان يحمل على الإنسان على أنه جزء من ماهيته، ويحمل على الناطق على أنه لازم له على أنه جزء من ماهيته. فإنما يعني بالناطق شيء له نطق وشيء له نفس ناطقة من غير أن يتضمن نفس قولنا الناطق بياناً لذلك الشيء أنه جوهر أو غير جوهر. إلا أنه يلزم أن لا يكون هذا الشيء إلا جوهراً وإلا جسماً وإلا أحساسا ً، فتكون هذه الأمور مقولة عليه قول اللازم على الملزوم لأنها غير داخلة في مفهوم الناطق أي الشيء ذي النطق. فنقول الآن: أما الفصل فإنه لا يشارك الجنس الذي يحمل عليه في الماهية فيكون إذن انفصاله عنه بذاته. ويشارك النوع على أنه جزء منه فيكون انفصاله عنه لطبيعة الجنس التي هي ماهية النوع وليست ماهية الفصل. وأما حاله مع سائر الأشياء، فغن الفصل إن شاركها في الماهية وجب أن ينفصل عنها بفصل، وإن لم يشاركها في الماهية لم يجب أن ينفصل عنها بفصل. وليس يجب أن يكون كل فصل يشارك شيئاً في ماهية، فليس يجب لا محالة إذا وقع الفصل تحت ما هو أعم منه أن يكون وقوعه تحته هو وقوعه تحت الجنس، بل قد يمكن أن يقع تحت ما هو أعم منه ويكون الأعم داخلاً في ماهيته. ويمكن أن لا يقع تحت ما هو أعم منه إلا وقوع المعنى اللازم له دون الداخل في ماهيته، مثل الناطق مثلاً، فإنه يقع تحت المدرك على ان المدرك جنس له، والمدرك يقع تحت الجوهر على أنه - أعني

الصفحة    : 117

الجوهر - لازم له لا جنس على الوجه الذي أومأنا إليه، ويقع أيضاً تحت المضاف - لا على أن الإضافة جوهره أو داخلة في ماهيته - بل على أنها لازمة له. فالفصل ليس يحتاج في انفصاله عن النوع إلى فصل آخر، وليس يحتاج في انفصاله عن الأشياء المشاركة له في الوجود وسائر اللوازم إلى معنى غير نفس ماهيته، وليس يجب أن يقع لا محالة تحت ما هو أعم منه وقوع النوع تحت الجنس، بل قد يقع وقوع الملزوم الأخص تحت اللازم الذي لا يدخل في الماهية. وأما إذا أخذت الفصل كالنطق مثلاً، فإنما يجب أمثاله في فصول الأشياء المركبة. فإن عنيت بالنطق كونه ذا نفس ناطقة كان من المعاني المؤلفة من نسبة وجوهر، على ما علمت من حكمه في مواضع أخرى. وإن عنيت نفس النفس الناطقة كانت جوهراً وكانت جزء جوهر مركب تخالفه بالفصل الواقع بين البسيط والمركب في الجواهر، على نحو ما تحققت كثيراً. ولنرجع الآن إلى المقدمات التي في الشك، فنقول: أما المقدمة القائلة إن الفصل لأنه معنى من المعاني فإما أن يكون أعم المحمولات، وإما أن يكون معنى واقعاً تحت أعم المحمولات، فمسلّمة. وأما الأخرى وهي قائلة إن كل ما هو أعم المحمولات فهو مقولة كذب، وإنما المقولة أعم المحمولات الجنسية المقومة للماهية لا التي هي أعم المحمولات، وليس تقوم ماهية كل ما تحتها، بل تلزم الأشياء. والقائلة الأخرى إن كل ما هو واقع تحت معنى أعم منه فهو مفصل عما يشاركه فيه بفصل يختص به، كاذبة. لأن المشاركات إذا كانت مشاركة في اللازم دون المعنى الداخل في الماهية، لم يكن الانفصال عنها بفصل بل بمجرد الماهية. فتعين بعد هذا أنه لا يجب أن يكون لكل فصل فصل. ويجب أن يعلم أن الذي يقال من أن فصول الجوهر جوهر، وفصول الكيف كيف، معنى ذلك، أن فصول الجوهر يلزم أن تكون جوهراً، وفصول الكيف يلزم أن تكون كيفاً، لا أن فصول الجوهر يوجد في مفهوم ماهياتها حد الجوهر على أنها جواهر في أنفسها، وفصول الكيف يود في ماهياتها حد الكيف على أنها كيفية. إلا أن نعني بفصول الجواهر مثلاً لا الفصل المقول على الجوهر بالتواطؤ، بل الفصل المقول عليه بالإشتقاق؛ أعني لا الناطق بل النطق، فيكون حينئذ ما علمت ويكون فصلاً بالإشتقاق لا بالتواطؤ، والفصل الحقيقي الذي يقال بالتواطؤ. وليس يجب إذا كان الفصل الذي بالتواطؤ موجوداً، أن يكون أيضاً الفصل الذي بالإشتقاق موجوداً إنما يكون هكذا لا في كل ما هو نوع، بل فيما هو نوع جوهري دون الأنواع العرضية، وليس

الصفحة    : 118

أيضاً في كل نوع جوهري، بل فيما كان مركباً ولم يكن جوهراً بسيطاً. فالفصل الذي يقال بالتواطؤ معناه شيء بصفة كذا مطلقاً، ثم بعد ذلك على سبيل النظر والتأمل يعلم أنه يجب أن يكون هذا الشيء الذي بصفة كذا جوهراً أو كيفاً. مثاله أن الناطق هو شيء له نطق. فليس في كونه شيئاً له نطق هو أنه جوهر أو عرض، إلا أنه يعرف من خارج أنه لا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا جوهراً أو جسماً.

الفصل السابع   (ز)

فصل في تعريف مناسبة الحد والمحدود

ولقائل أن يقول: إن الحد كما وقع عليه الإتفاق من أهل الصناعة مؤلف من جنس وفصل، وكل واحد منهما مفارق للآخر، ومجموعهما هو جزء الحد، وليس الحد إلا ماهية المحدود، فتكون نسبة المعاني المدلول عليها بالجنس والفصل إلى طبيعة النوع كنسبتها في الحد إلى المحدود. وكما أن الجنس والفصل جزءا الحد، فكذلك معنياهما جزءا المحدود. وإذا كان كذلك لم يصح حمل طبيعة الجنس على طبيعة النوع لأنه جزء منه. فنقول: إنا إذا حددنا فقلنا: الإنسان - مثلاً - حيوان ناطق، فليس مرادنا بذلك أن الإنسان هو مجموع الحيوان والناطق، بل مرادنا بذلك أنه الحيوان الذي ذلك الحيوان ناطق، بل الذي هو بعينه الناطق. كأن الحيوان في نفسه أمر لايتحصل وجوده على النحو الذي قلنا قبل. فإذا كان ذلك الحيوان ناطقاً حتى يكون هذا الذي نقول له: إنه ذو نفس درّاكة مجملاً الذي هو غير محصل، أي أنه ذو نفس هو قد صار محصلاً من حاله أن نفسه حساسة ناطقة، فيكون هذا تحصيلاً لكونه ذا نفس درّاكة. فليس يكون الجسم ذو النفس الدراكة شيئاً، وكونه ذا نفس ناطقة شيئاً ينضم إليه خارجاً عنه، بل يكون هذا الذي هو حيوان هو الجسم ذو النفس الدراكة. ثم كون نفسه دراكة أمر مبهم، ولا يكون بالفعل في الوجود مبهماً البتة كما علمت، بل يكون فيه محصلاً، وإنما يكون هذا الإبهام في الذهن، إذ يكون مشكلاً عليه حقيقة النفس الدراكة حتى يفصل، فيقال دراكة بالحس والتخيل والنطق. وإذا أخذ الحس في حد الحيوان فليس هو بالحقيقة الفصل، بل هو دليل على الفصل. فإن فصل الحيوان أنه ذو نفس دراكة متحركة بالإرادة وليس هوية نفس الحيوان أن يحس، ولا هويته أن يتخيل، ولا هويته أن يتحرك بالإرادة، بل هو مبدأ لجميع ذلك، وهذه كلها قواه، ليس أن ينسب إلى بعضها أولى من أن ينسب إلى الآخر، لكنه ليس له في نفسه اسم، وهذه توابعه، فنضطر إلى أن نخترع له اسماً بالنسبة

الصفحة    : 119

إليها. ولهذا نجمع الحس والتحرك معاً في حده، ونجعل الحس كأنه معنى يجمع الحس الظاهر والباطن، أو يقتصر على الحس فيكون دالاً على جميع ذلك لا بالتضمن بل بالالتزام. وقد سلف لك بيان هذا وما أشبه، فليس الحس بالحقيقة فصل الحيوان، بل أحد شعب فصله وأحد لوازمه. وإنما فصله وجود النفس التي هي مبدأ هذا كله له، وكذلك الناطق للإنسان. لكن عدم الأسماء وقلة شعورنا بالفصول يضطرنا - إما هذا وإما ذاك - إلى الإنحراف عن حقيقة الفصل إلى لازمه. فربما اشتققنا اسمه من لازمه، فعنينا بالحساس الذي له المبدأ الذي ينبعث منه الحس وغيره، وربما كان الفصل نفسه مجهولاً عندنا، ولم نشعر إلا بلازمه. وليس كلامنا في هذه الأمور على حسب ما نعقل نحن ونصنع ونتصرف فيها نحن، بل من جهة كيفية وجودها في أنفسها. ثم لو كان ليس للحيوان نفس إلا الحساسة كان كونه جسماً ذا حس ليس جنساً بمعنى الطبيعة الجسمية والحسية بشرط أن يكون هو فقط، بل على النحو الذي قلنا. فاتحاد الفصل بالجنس ليس إلا على أنه شيء كان يتضمن الجنس بالقوة لا يلزم الجنس بالقوة، واتحاد المادة بالصورة أو الجزء بالجزء الآخر في المركب فإنما هو اتحاد شيء بشيء خارج عنه لازم أو عارض. فتكون الأشياء التي يكون فيها اتحاد على أصناف. أحدها، أن يكون كاتحاد المادة والصورة فتكون المادة شيئاً لا وجود له بانفراد ذاته بوجه، وإنما يصير بالفعل بالصورة على ان يكون الصورة أمراً خارجاً عنه، ليس أحدهما الآخر، ويكون المجموع ليس ولا واحد منهما. والثاني، اتحاد أشياء يكون كل واحد منها في نفسه مستغنياً عن الآخر في القوام، إلا أنها تتحد فيحصل منها شيء واحد إما بالتركيب وإما بالاستحالة والامتزاج. ومنها، اتحاد أشياء بعضها لا يقوم بالفعل إلا بما انضم إليه، وبعضها يقوم بالفعل؛ فيقوم الذي لا يقوم بالفعل ويجتمع من ذلك جملة متحدة، مثل اتحاد الجسم والبياض. وهذه الاقسام كلها لا تكون المتحدات منها بعضها بعضاً، ولا جملتها أجزاؤها، ولا يحمل البتة شيء منها على الآخر حمل التواطؤ. ومنها اتحاد شيء بشيء، قوة هذا الشيء منهما أن يكون ذلك الشيء، لا أن ينضم إليه. فإن الذهن قد يعقل معنى يجوز أن يكون ذلك المعنى نفسه أشياء كثيرة كل واحد منها ذلك المعنى في الوجود، فينضم إليه معنى آخر تعين وجوده بان يكون ذلك المعنى متضمناً فيه، وإنما يكون آخر من حيث التعيين والإبهام لا في الوجود. مثل المقدار فإنه معنى يجوز أن يكون هو الخط والسطح والعمق، لا على أنه يقارنه شيء فيكون مجموعهما الخط والسطح والعمق، بل على أن يكون نفس الخط ذلك أو نفس السطح ذلك.وذلك لأن معنى المقدار هو شيء يحتمل مثل المساواة، غير مشروط فيه أن يكون هذا

الصفحة    : 120

المعنى فقط. فإن مثل هذا لا يكون جنساً كما علمت، بل بلا شرط غير ذلك، حتى يجوز أن يكون هذا الشيء القابل للمساواة هو في نفسه أي شيء كان، بعد أن يكون وجوده لذاته هو الوجود، أي يكون محمولاً عليه لذاته أنه كذا، سواء كان في بُعد أو بُعدين أو ثلاثة. فهذا المعنى في الوجود لا يكون إلا أحد هذه، لكن الذهن يخلق له من حيث يعقل وجوداً مفرداً. ثم أن الذهن إذا أضاف إليه الزيادة لم يضف الزيادة على أنها معنى من خارج لاحق بالشيء قابل للمساواة حتى يكون ذلك قابلاً للمساواة في حد نفسه وهذا شيء آخر مضاف إليه خارجاً عن ذلك، بل يكون ذلك تحصيلاً لقبوله للمساواة أنه في بعد واحد فقط أو في أكثر منه. فيكون القابل للمساواة في بُعد واحد في هذا الشيء هو نفس القابل للمساوة، حتى يجوز لك أن تقول: إن هذا القابل للمساواة هو هذا الذي هو ذو بُعد واحد وبالعكس، ولا يكون هذا في الأشياء التي مضت. وههنا وإن كانت كثرة ما لا شك فيها فهي كثرة ليست من الجهة التي تكون من الأجزاء بل كثرة تكون من جهة أمر غير محصل وأمر محصل. فإن الأمر المحصل في نفسه يجوز أن يعتبر من حيث هو غير محصل عند الذهن فتكون هناك غيرية؛ لكن إذا صار محصلاً لم يكن ذلك شيئاً آخر بالاعتبار المذكور الذي ذلك للعقل وحده. فإن التحصيل ليس يغيره بل يحققه. فهكذا يجب أن يعقل التوحيد الذي من الجنس والفصل. وإنه وإن كان مختلفاً وكان بعض الأنواع فيها تركيب في طبائعها وتنبعث فصولها من صورها وأجناسها من المواد التي لصورها، وإن لم يكن لا أجناسها ولا فصولها موادها وصورها من حيث هي مواد وصور، وبعضها ليس فيها تركيب في طبائعها بل إن كان فيها تركيب فهو على النحو الذي قلنا، فإنما يكون أحد الشيئين منهما في كل نوع غير الآخر، لأنه قد أخذ مرة لا بحاله من التحصيل، بل على أنه بالقوة محصل، وأخذ مرة وهو محصل بالفعل. وهذه القوة له ليس بحسب الوجود، بل بحسب الذهن. فإنه ليس له في الوجود حصول طبيعة جنسية هي بعد بالقوة محصلة نوعاً، سواء كان النوع له تركيب في الطبائع أو لم يكن. والجنس والفصل في الحد أيضاً من حيث كل واحد منهما هو جزء للحد من حيث هو حد، فإنه لا يحمل على الحد ولا الحد يحمل عليه. فإنه لا يقال للحد أنه جنس ولا فصل ولا بالعكس، فلا يقال لحد الحيوان إنه جسم ولا أنه ذو حس ولا بالعكس. وأما من حيث الأجناس والفصول طبائع تبعت طبيعة على ما علمت فإنها تحمل على المحدود، بل نقول: إن الحد يفيد بالحقيقة معنى طبيعة واحدة. مثلاً إنك إذا قلت الحيوان الناطق، يحصل من ذلك معنى شيء واحد هو بعينه الحيوان الذي ذلك الحيوان هو بعينه

الصفحة    : 121

الناطق. فإذا نظرت إلى ذلك الشيء الواحد لم يكن كثرة في الذهن، لكنك إذا نظرت إلى الحد فوجدته مؤلفاً من عدة هذه المعاني واعتبرتها من جهة ما كل واحد منها على الاعتبار المذكور معنى في نفسه غير الآخر، وجدت هناك كثرة في الذهن. فإن عنيت بالحد المعنى القائم في النفس بالاعتبار الأول، وهو الشيء الواحد الذي هو الحيوان الذي ذلك الحيوان هو الناطق، كان الحد بعينه هو المحدود المعقول. وإن عنيت بالحد المعنى القائم في النفس بالاعتبار الثاني المفصل، لم يكن الحد بعينه معناه المحدود، بل كان شيئاً مؤدياً إليه كاسباً له. ثم الاعتبار الذي يوجب كون الحد بعينه هو المحدود لا يجعل الناطق والحيوان جزئين من الحد، بل محمولين عليه بأنه هو لا أنهما شيئان من حقيقة متغايران للمجتمع. لكن نعني به في مثالنا الشيء الذي هو بعينه الحيوان الذي ذلك الحيوان حيوانيته مستكملة متحصلة بالنطق. والاعتبار الذي يوجب كون الحد غير المحدود يمنع أن يكون الجنس والفصل محمولين على الحد، بل جزئين منه. فلذلك ليس الحد بجنس ولا الجنس بحد ولا الفصل واحداً منهما ولا جملة معنى الحيوان مؤلفاً مع الناطق هو معنى الحيوان غير مؤلف ولا معنى الناطق غير مؤلف. ولا يفهم من معنى مجموع حيوان وناطق ما يفهم من أحدهما، ولا يحمل أحدهما عليه، فليس مجموع حيوان وناطق هو حيوان وناطق لأن المجموع من شيئين غيرهما، بل ثالث. لأن كل واحد منهما جزء منه، والجزء لا يكون هو الكل، ولا الكل يكون هو الجزء.

الفصل الثامن   (ح)

الصفحة    : 122

فصل في الحد.

والذي ينبغي لنا أن نعرفه الآن أن الأشياء كيف تتحدد، وكيف نسبة الحد إليها، وما الفرق بين الماهية للشيء وبين الصورة. فنقول: كما أن الموجود والواحد من الأشياء العامة للمقولات ولكن على سبيل تقديم وتأخير، فكذلك أيضاً كون الأشياء ذوات ماهية وحد، فليس ذلك في الأشياء كلها على مرتبة واحدة. فأما الجوهر فإنه مما يتناوله تناولاً أولياً بالحقيقة، وأما الأشياء الأخرى فلما كانت ماهيتها متعلقة بالجوهر أو بالصورة الجوهرية على نحو ما حددناه، أما الصورة الطبيعية فقد عرفت حالها، والمقادير والأشكال قد عرفتها أيضاً، فيكون تلك الأشياء الأخرى أيضاً من وجه لا تحدد إلا بالجوهر فيعرض من ذلك أن تكون.أما الأعراض فإن في حدودها زيادة على ذواتها، لأن ذواتها وإن كانت أشياء لا يدخل الجوهر فيها على أنه جزء لها بوجه من الوجوه، وذلك لأن ما جزؤه جوهر فهو جوهر، فإن حدودها يدخل الجوهر فيها على أنه جزء إذ كانت تتحدد بالجوهر لا محالة. وأما المركبات فإنها يعرض فيها تكرار شيء واحد بعينه مرتين، فإنه إذ فيها جوهر فلا بد من إدخاله في الحد، وإذ فيها عرض يتحدد بالجوهر فلا بد من دخوله في حد العرض مرة أخرى لتكون جملة الحد مؤلفة من حد الجوهر وحد العرض لا محالة وعائد إلى اثنينية وكثرة. ويتبين إذا حلل حد ذلك العرض ورد إلى متضمناته، فيكون حد هذا المركب قد وجد فيه الجوهر مرتين، وهو في ذات المركب مرة واحدة، فيكون في هذا الحد زيادة على معنى المحدود في نفسه. والحدود والحقيقة لا يجب أن تكون فيها زيادات. ومثال هذا أنك إذا حددت الأنف الأفطس فيجب أن تأخذ فيه الأنف لا محالة، وتأخذ فيه الأفطس فتكون أخذت فيه حد الأفطس، لكن الأفطس هو أنف عميق، ولا يجوز أن تأخذ عميقاً وحده، فإنه لو كان العميق وحده هو الأفطس لكانت الساق المعمقة أيضاً فطساء، بل يجب لا محالة أن تأخذ الأنف في حد الأفطس. فإذا حددت الأنف الأفطس تكون قد أخذت فيه الأنف مرتين، فلا يخلو إما أن لا تكون أمثال هذه حدوداً وإنما تكون الحدود للبسائط فقط، أو تكون هذه حدوداً على جهة أخرى. وليس ينبغي أن نقتصر من الحد على أن يكون شرح الاسم، فتجعل أمثال هذه لذلك حدوداً حقيقية، لأن الحد هو ما يدل على الماهية، وقد عرفته. لو كان كل قول يمكن أن يفرض بإزائه اسمٌ حداً لكان جميع كتب الجاحظ حدوداً. فإذا كان الأمر على هذا، فبيّن أن هذه المركبات حدودها حدود على جهة أخرى. وكل بسيط فإن ماهيته ذاته لأنه ليس هناك شيء قابل لماهيته، ولو كان هناك شيء قابل لماهيته، لم يكن ذلك الشيء ماهيته

الصفحة    : 123

ماهية المقبول الذي حصل له، لأن ذلك المقبول كا يكون صورته، وصورته ليس هو الذي يقابله حده، ولا المركبات بالصورة وحدها هي ما هي، فإن الحد للمركبات ليس هو من الصورة وحدها، بل حد الشيء يدل على جميع ما يتقوم به ذاته، فيكون هو أيضاً يتضمن المادة بوجه. وبهذا يعرف الفرق بين الماهية في المركبات والصورة، والصورة دائماً جزء من الماهية في المركبات، وكل بسيط فإن صورته أيضاً ذاته لأنه لا تركيب فيه، وأما المركبات فلا صورتها ذاتها ولا ماهيتها ذاتها، أما الصورة فظاهر أنها جزء منها، وأما الماهية فهي ما بها هي ما هي، وإنما هي ما هي بكون الصورة مقارنة للمادة، وهو أزيد من معنى الصورة. والمركب ليس هذا المعنى أيضاً، بل هو مجموع الصورة والمادة، فإن هذا هو ما هو المركب، والماهية هذا التركيب. فالصورة أحد ما يضاف إليه التركيب، والماهية هي نفس هذا التركيب الجامع للصورة والمادة، والوحدة الحادثة منهما لهذا الواحد. فللجنس بما هو جنس ماهية. وللنوع بما هو نوع ماهية، وللمفرد الجزئي أيضاً بما هو مفرد جزئي ماهية مما يتقوم به من الأعراض اللازمة. فكأن الماهية إذا قيلت على التي في الجنس والنوع وعلى التي للمفرد الشخصي كان باشتراك الاسم. وليست هذه الماهية مفارقة لما هو بها ما هو، وإلا لم تكن ماهية. لكنه لا حد للمفرد بوجه من الوجوه، وإن كان للمركب حد ما، وذلك لأن الحد مؤلف من أسماء ناعتة لا محالة ليس فيها إشارة إلى شيء معين، ولو كانت إشارة لكانت تسمية فقط، أو دلالة أخرى بحركة وإشارة وما أشبه ذلك، وليس فيها تعريف المجهول بالنعت. وإذا كان كل اسم يحصر في حد المفرد يدل على نعت، والنعت يحتمل الوقوع على عدة، والتأليف لا يخرجها من هذا الاحتمال، فإنه إذا كان "أ" معنى كلياً وأضيف إليه "ب" - وهو معنى كلي - جاز أن يكون فيه تخصيص ما. ولكن إذا كان تخصيص كلي بكلي يبقى بعده الشيء الذي هو "أ" و"ب" كلياً يجوز أن يقع فيه شركة. ومثال ذلك: "هذه سقراط"، إن حددته فقلت: إنه الفيلسوف، ففيه شركة؛ وإن قلت: الفيلسوف الدين، ففيه شركة؛ فإن قلت: الفيلسوف الدين المقتول ظلماً، ففيه أيضاً شركة؛ فإن قلت: ابن فلان، كان فيه احتمال شركة أيضاً، وكان فلان شخصاً تعريفه كتعريفه، فإن عرف ذلك الشخص بالإشارة أو باللقب عاد الأمر إلأى الإشارة واللقب، وبطل أن يكون بالتحديد. وإن زيد فقيل: هو الذي قتل في مدينة كذا يوم كذا، فهذا الوصف أيضاً مع تشخصه بالحيلة كلي يجوز أن يقال على كثيرين إلا أن يستند إلى شخص. فإن كان المسند إليه شخصاً من جملة أشخاص نوع من الأنواع لم يكن السبيل إليه إلا بالمشاهدة ولم يجد العقل عليه وقوفاً إلا بالحس، فإن كان المسند إليه من الأشخاص - التي كل

الصفحة    : 124

شخص منها مستوف لحقيقة النوع - فلا شخص نظيراً له، وكان قد عقل العقل ذلك النوع بشخصه. فإذا جعل الرسم مسنداً إليه كان للعقل وقوف عليه ولم يخف العقل تغير الحال لجواز فساد ذلك الشيء، إذ مثل هذا الشيء لا يفسد. ولكن المرسوم لا يوثق بوجوده ودوام قول الرسم عليه، وربما عرف العقل مدة بقائه، فلم يكن هذا أيضاً حداً حقيقياً. فبين أنه لا حد حقيقي للمفرد، إنما يعرف بلقب أو إشارة أو نسبة إلى معروف بلقب أو إشارة. وكل حد فإنه تصور عقلي صادق أن يحمل على المحدود، والجزئي فاسد إذا فسد لم يكن محدوداً بحده. فيكون حمل الحد عليه مدة ما صادقاً وفي غيرها كاذباً، فيكون حمل الحد عليه بالظن دائماً، أو يكون هناك غير التحديد بالعقل زيادة إشارة ومشاهدة، فيصير بتلك الإشارة محدوداً بحده، وإذا لم يكن ذلك يكون مظنوناً به أن له حده. وأما المحدود بالحقيقة فيكون حده له يقيناً. فمن شاء أن يحد الفاسدات فقد تعرض لإبقائها، ويركب شططاً.

الفصل التاسع   (ط)

فصل في مناسبة الحد وأجزائه

ونقول: إنه كثيراً ما يكون في الحدود أجزاء هي أجزاء المحدود. وليس إذا قلنا: إن الجنس والفصل لا يتقومان جزئين للنوع في الوجود، نكون كأنا قلنا: إنه لا يكون للنوع أجزاء. فإن النوع قد يكون له أجزاء، وذلك إذا كان من أحد صنفي الأشياء، أما في الأعراض فمن الكميات، وأما في الجواهر فمن المركبات. وظاهر الحال يومئ إلى أن أجزاء الحد أقدم من المحدود، لكنه قد يتفق أن يكون في بعض المواضع بالخلاف. فإنا إذا أردنا أن نحد قطعة الدائرة حددناها بالدائرة، وإذا أردنا أن نحد أصبع الإنسان حددناها بالإنسان، وإذا أردنا أن نحد الحادة وهي جزء من القائمة حددناها بالقائمة، ولا نحد البتة القائمة بالحادة ولا الدائرة بقطعتها ولا الإنسان بالأصبع. فيجب أن نعرف العلة في هذا. فنقول: إن هذه ليس شيء منها أجزاء النوع من جهة ماهيته وصورته؛ ثم إنه ليس من شروط الدائرة أن تكون فيها قطعة بالفعل تتألف عنها صورة الدائرة، كما من شرطها أن يكون لها محيط؛ ولا من شرط الإنسان - من حيث هو إنسان - أن يكون له أصبع بالفعل، ولا من شرط القائمة أن تكون هناك حادة هي جزء منها. فهذه كلها ليست أجزاء للشيء من حيث ماهيته بل من حيث مادته موضوعه. فإنما يعرض للقائمة أن تكون فيها حادة، وللدائرة أن تكون فيها قطعة لانفعال

الصفحة    : 125

يعرض لمادتها، ليس ذلك مما يتعلق به استكمال مادتها بصورتها ولا استكمال صورتها في نفسها. واعلم أن السطح مادة عقلية لصورة الدائرة وبسببه يقع لها الإنقسام، ولو كان يتعلق بها استكمال مادتها لكان من اللازمات التي لا يخلو الشيء عنها، لا من المقومات كما مضى لك شرحه. وليس ما نحن فيه كذلك، بل يخلو الشيء منها. وما يجري مجرى الأصبع أيضاً فإنه ليس يحتاج الإنسان في أن يكون حيواناً ناطقاً إلى أصبع، بل هذا من الأجزاء التي لمادته ليحسن بها حال مادته. فما كان من الأجزاء إنما هو بسبب المادة، وليس تحتاج إليه الصورة، فليست هي من أجزاء الحد البتة. لكنها إذا كانت أجزاء المادة ولم تكن أجزاء للمادة مطلقاً، بل إنما تكون أجزاء لتلك المادة لأجل تلك الصورة، وجب أن تؤخذ في حدها تلك الصورة. وذلك النوع فيكون أيضاً مع المادة مثلما أن الأصبع ليس جزءاً مناسباً للجسم مطلقاً، بل للجسم الذي صار حيواناً أو إنساناً. وكذلك الحادة والقطعة ليس جزءاً للسطح الذي صار قائمة أو دائرة.فلذلك تؤخذ صورة هذه الكلات في حدود هذه الأجزاء. ثم تفترق هذه الأمثلة الثلاثة. فإن الإصبع في الإنسان جزء بالفعل، فإذا حد أو رسم الإنسان من حيث هو شخص كامل إنساني وجب أن يوجد الإصبع حينئذ في رسمه لأنه يكون له ذلك جزءاً ذاتياً في أن يكون شخصاً كامل الأعراض ولا يكون مقوماً لطبيعة نوعه. إذا قلنا مراراً: إن ما يتقوم ويتم به الشخص في شخصه هو غير ما تتقوم به طبيعة النوع. فهذا القسم من الجملة التي الجزء فيها جزء بالفعل، وأما ذانك الآخران فليس الجزء فيهما جزء بالفعل. ويشبه أن تكون الدائرة إذا قسمت بالفعل إلى قطع بطلت الوحدة لسطحها وبطل عنها أنها دائرة، إذ لا يكون المحيط خطاً واحداً بالفعل بل كثيراً، اللهم إلا أن تكون الأقسام بالوهم وبالفرض لا بالفعل وبالقطع. وكذلك حكم القائمة. ثم الدائرة والقائمة يختلفان في شيء وهو أن قطعة الدائرة لا تكون إلا من دائرة بالفعل. والحادة ليس من شرطها في الوجود أن تكون جزء زاوية أخرى، ولا أنها هي حادة بالقياس إلى المنفرجة والقائمة، بل هي في نفسها حادة بسبب وضع أحد ضلعيها عند الآخر. ولكنها من جهة أن ذلك الوضع من حيث هو وضع وقعت فيه الإضافة، لأن الميل والقرب بين الخطوط بعضها إلى بعض أو البعد فيما بينها مما تتعلق به إضافة ما عرض أن يتعلق البيان للمادة بالإضافة، وإن لم يدل على هذه الإضافة بالفعل لصعوبتها فقد دل عليها بالقوة في إدخال إضافة بالفعل. ثم لما كانت الزاوية السطحية إنما تحدث عن قيام خط على خط، وكان الميل الذي يحدث هو ميل عن اعتدال ما وجهة ما، لأنا لو أخذنا قرب أحد الخطين من الآخر مطلقاً وأخذنا ميله إليه مطلقاً من غير تعيين الميل

الصفحة    : 126

عنه لم يكن إلا ميل مطلق يوجد ذلك للحادة وللقائمة والمنفرجة. فإن خطوطها أيضاً فيها ميل لبعضها إلى بعض، فإنك إذا اعتبرت اتصال خطين على الإستقامة لوجدت المنفرجة وفيها ميل لأحد الخطين إلى الآخر. لكن هذا الميل هو ميل مطلق يقتضيه انفراج خطي كل زاوية، فيجب ضرورة أن يكون هذا الميل حدوداً عن شيء. ولما كان ذلك الشيء يجب أن يكون بُعداً خطياً، ولم يمكن أن تتوهم خطوط يميل عنها هذا الخط إلا الخط المتصل على الإستقامة بالخط الثاني، والذي يفعل زاوية منفرجة أو الذي يفعل زاوية قائمة أو الذي يفعل زاوية حادة. فأما الخط الغير متصل بهذا الخ فإنه لا يحدد به شيء، وكان اعتبار الميل من الخط المستقيم مطلقاً غير صحيح في هذا الباب، وإلا المنفرجة والقائمة أيضا حادة. وكذلك اعتبار الميل عن الخط الفاعل للمنفرجة، لأن الميل عن الانفراج قد يحفظ الانفراج، إذ تكون منفرجة أصغر من منفرجة. وكذلك حكم الحادة هذه مع أن الحادة لا يمكن أن تعرّف بالحادة فيكون تعريف مجهول بمجهول. فبقي ضرورة أن يكون تعريفها بالقائمة، التي ليس يبقى قوامها مع الميل عنها محفوظاً. فكأنه يقول: إن الحادة هي التي عن خطين قام أحدهما على الآخر، ومال أقرب من خط قائمة لو قامت حتى هي أصغر من القائمة لو كانت. وليس نعني بها أنها بالفعل موجودة مقيسة بقائمة تزيد عليها فحينئذ يكون الحد كاذباً، ولكن بقائمة بهذه الصفة. والقائمة بهذه الصفة من حيث هي بالقوة الموجودة بالفعل قوة هي قائمة بالقوة، فإن القوة من حيث هي قوة وجودٌ بالفعل. وربما كانت القوة أيضاً موجودة بالقوة وهي القوة البعيدة من الفعل، ثم يصير بالفعل قوة قريبة. فإن القوة القريبة على تكوّن الإنسان في الغذاء تكون بالقوة، ثم إذا صار ميّتاً صارت تلك القوة القريبة موجودة بالفعل، وإنما يكون فعلها غير موجود. فإذن الحادة تحد بالقائمة لا بالفعل مطلقاً، بل القوة. فلا تحد بنظير لها ولا أيضاً بما ليس له حصول. فإن المحدود به قائم بالقوة، وذلك له من حيث هو كذلك حصول بالفعل، وبالحري إن عرّفت الحادة والمنفرجة بالقائمة فان القائمة تتحقق من المساواة والمماثلة والوحدانية، وتانك تتحققان من الخروج عن المساواة. وأما القائمة فتتحقق بذاتها. ولقد كان يمكن أن يقال: إن الحادة أصغر زاويتين مختلفتين تحدثان من قيام خط على خط، والمنفرجة أعظمهما، وكان حينئذ إذا حقق فقد أشير إلى القائمة، لأن الأكبر هو الذي يكون مثلاً وزيادة، والأصغر هو الذي ينقص عن المثل. فبالمثل تتحقق معرفة الصغر والكبر، وبالواحد المتشابه يتحقق المتكثر الغير المتشابه المختلف. فهكذا يجب أن يتصور الحال في أجزاء المحدودات، ثم يجب أن يتذكر ماقلناه قبل أيضاً في حال أجزاء المادة وعلائقها.

الصفحة    : 127

المقالة السادسة

وفيها خمسة فصول

 الفصل الأول   (أ)

فصل في أقسام العلل وأحوالها

قد تكلمنا في أمر الجوهر والأعراض، وفي اعتبار التقدم والتأخر فيها، وفي معرفة مطابقة الحدود للمحدودات الكلية والجزئية. فبالحري أن نتكلم الآن في العلة والمعلول، فإنهما أيضاً من اللواحق التي تلحق الموجود بما هو موجود. والعلل كما سمعت، صورة وعنصر وفاعل وغاية. فنقول: إنا نعني بالعلة الصورية، العلة التي هي جزء من قوام الشيء، يكون الشيء بها هو ما هو بالفعل؛ وبالعنصرية العلة التي هي جزء من قوام الشيء، يكون بها الشيء هو ما هو بالقوة، وتستقر فيها قوة وجوده؛ وبالفاعل، العلة التي تفيد وجوداً مبايناً لذاتها، أي لا تكون ذاتها بالقصد الأول محلاً لما يستفيد منها وجود شيء يتصور بها، حتى يكون في ذاتها قوة وجوده إلا بالعرض، ومع ذلك فيجب ألا يكون ذلك الوجود من أجله من جهة ما هو فاعل، بل إن كان ولا بد فباعتبار آخر، وذلك لأن الفلاسفة الإلهيين ليسوا يعنون بالفاعل مبدأ التحريك فقط، كما يعنيه الطبيعيون، بل مبدأ الوجود ومفيده، مثل الباري للعالم؛ وأما العلة الفاعلية الطبيعية فلا تفيد وجوداً غير التحريك بأحد أنحاء التحريكات؛ فيكون مفيد الوجود في الطبيعيات مبدأ حركة؛ ونعني بالغاية، العلة التي لأجلها يحصل وجود شيء مباين لها. وقد يظهر أنه لا علة خارجة عن هذه، فنقول: إن السبب للشيء لا يخلو إما أن يكون داخلاً في قوامه وجزءاً من وجوده، أو لا يكون. فإن كان داخلاً في قوامه وجزءاً من وجوده فإما أن يكون الجزء الذي ليس يجب من وجوده وحده له أن يكون بالفعل، بل أن يكون بالقوة فقط، ويسمى الهيولي؛ أو يكون الجزء الذي وجوده هو صيرورته بالفعل، وهو الصورة. وأما إن لم يكن جزءاً من وجوده فإما أن يكون ما هو لأجله، أو لا يكون. فإن كان ما هو لأجله، فهو الغاية؛ وإن لم يكن ما هو لأجله، فلا يخلو إما أن يكون وجوده منه بألا يكون هو فيه إلا بالعرض، وهو فاعله، أو يكون وجوده منه بأن يكون هو فيه، وهو أيضاً عنصره أو موضوعه.

الصفحة    : 128

فتكون المبادئ إذن كلها من جهة خمسة، ومن جهة أربعة. لأنك إن أخذت العنصر الذي هو قابل، وليس جزءاً من الشيء، غير العنصر الذي هو جزء، كانت خمسة. وإن أخذت كليهما شيئاً واحداً، لاشتراكهما في معنى القوة والاستعداد، كانت أربعة. ويجب أن لا تأخذ العنصر بمعنى القابل الذي هو جزء، مبدأ للصورة بل للمركب. إنما القابل يكون مبدأ بالعرض، لأنه إنما يتقوم أولاً بالصورة وبالفعل، وذاته باعتبار ذاته فقط تكون بالقوة، والشيء الذي هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة، لا يكون مبدأ البتة. ولكنه إنما يكون مبدأ بالعرض، فإن العرض يحتاج إلى أن يكون قد حصل الموضوع له بالفعل، ثم صار سبباً لقوامه، سواء كان العرض لازماً فتكون الأولية بالذات، أو زائلاً فتكون الأولية بالذات والزمان. فهذه هي أنواع العلل. وإذا كان الموضوع علة لعرض يقيمه، فليس ذلك على النوع الذي يكون فيه الموضوع علة للمركب، بل هو نوع آخر. وإذا كانت الصورة علة للمادة تقيمها، فليست على الجهة التي تكون الصورة علة للمركب، وإن كانا يتفقان من جهة أن كل واحد منهما علة لشيء لا تباينه ذاته. فإنهما وإن اتفقا في ذلك، فإن أحد الوجهين ليس تفيد العلة للآخر وجوده، بل إنما يفيد الوجود شيء آخر ولكن فيه؛ والثاني يكون العلة فيه هو المبدأ القريب لإفادة المعلول وجوده بالفعل، ولكن ليس وحده، وإنما يكون مع شريك وسبب يوجد هذه العلة، أعني الصورة فتقيم الآخر به، فتكون واسطة مع شريك في إفادة ذلك وجوده بالفعل وتكون الصورة للمادة كأنها مبدأ فاعلي لو كان وجودها بالفعل يكون عنه وحده، ويشبه أن تكون الصورة جزءاً للعلة الفاعلية، مثل أحد محركي السفينة على ما سيتضح بعد. وإنما الصورة، علة صورية للمركب منها ومن المادة، فالصورة إنما هي صورة للمادة ولكن ليست علة صورية للمادة. والفاعل يفيد شيئاً آخر وجوداً ليس للآخر عن ذاته، يكون صدور ذلك الوجود عن هذا الذي هو فاعل، من حيث لا تكون ذات هذا الفاعل قابلة لصورة ذلك الوجود، ولا مقارنة له مقارنة داخلة فيه، بل يكون كل واحد من الذاتين خارجاً عن الآخر، ولا يكون في أحدهما قوة أن يقبل الآخر. وليس يبعد أن يكون الفاعل يوجد المفعول حيث هو، وملاقياً ذاته؛ فإن الطبيعة التي في الخشب هي مبدأ فاعل للحركة، وإنما تحدث الحركة في المادة التي الطبيعة فيها وحيث ذاته، ولكن ليس مقارنتهما على سبيل أن أحدهما جزء من وجود الآخر أو مادة له، بل الذاتان متباينتان في الحقائق، ولهما محل مشترك، فمن الفاعل ما يتفق وقتاً أن لا يكون فاعلاً، ولا مفعوله مفعولاً، بل يكون مفعوله معدوماً، ثم يعرض الفاعل الأسباب التي يصير بها فاعلاً بالفعل.

الصفحة    : 129

وقد تكلمنا في هذا فيما سلف، فحينئذ يصير فاعلاً، فيكون عنه وجود الشيء بعد ما لم يكن، فيكون لذلك الشيء وجود، ولذلك الشيء أنه لم يكن، وليس له من الفاعل أنه لم يكن، ولا أنه كان بعد ما لم يكن، إنما له من الفاعل وجوده. وإذن فإن كان له من ذاته اللا وجود، لزم أن صار وجوده بعد ما لم يكن، فصار كائناً بعد ما لم يكن. فالذي له بالذات من الفاعل الوجود، وأن الوجود الذي له، إنما هو لأن الشيء الآخر على جملة يجب عنها أن يكون لغيره وجود عن وجوده الذي له بالذات. وأما أنه لم يكن موجوداً فليس عن علة فعلته، فإن كونه غير موجود قد ينسب إلى علة ما، وهو عدم علته، فأما كون وجوده بعد العدم فأمر لم يصر لعلة، فإنه لا يمكن البتة أن يكون وجوده إلا بعد عدم. وما لا يمكن فلا علة له، نعم وجوده يمكن أن يكون، وأن لا يكون، فلوجود علة، وعدمه قد يكون وقد لا يكون، فيجوز أن يكون لعدمه علة، وأما كون وجوده بعد ما لم يكن فلا علة له. فإن قال قائل: كذلك وجوده بعد عدمه، يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون، فنقول: إن عنيت وجوده من حيث هو وجوده، فلا مدخل للعدم فيه؛ فإ نفس وجوده يكون غير ضروري، أي ممكن، وليس هو غير ضروري من حيث هو بعد عدم، ولكن الغير الضروري، وجوده هذا الذي اتفق الآن، وقد كان معدوماً. وأما من حيث أخذ وجوده وجوداً بعد عدم، فليحفظ كونه بعد عدم، لا كونه موجوداً فقط، الذي كان بعد عدم، واتفق بعد عدم، وذلك لا سبب له، فلا سبب لكون وجوده بعد العدم، وإن كان سبباً لوجود الذي كان بعد عدم من حيث وجوده. فحق أن وجوده جائز أن يكون وأن لا يكون بعد العدم الحاصل، وليس بحق أن يكون وجوده بعد العدم من حيث هو وجود بعد العدم جائز أن يكون وجوداً بعد العدم وأن لا يكون بعد العدم، اللهم إلا أن لا يكون وجوداً أصلاً فيكون الاعتبار للوجود. وربما ظن ظان أن الفاعل والعلة إنما يحتاج إليه ليكون للشيء وجود بعد ما لم يكن، وإذا وجد الشيء، فلو فقدت العلة، لوجد الشيء مستغنياً بنفسه، فظن من ظن أن الشيء إنما يحتاج إلى على في حدوثه، فإذا حدث ووجد فقد استغنى عن العلة، فتكون عنده العلل علل الحدوث فقط وهي متقدمة لا معاً، وهو ظن باطل لأن الوجود بعد الحدوث لا يخلو إما أن يكون وجوداً واجباً أو وجوداً غير واجب؛ فإن كان وجوداً واجباً، فإما أن يكون وجوبه لتلك الماهية لذات تلك الماهية حتى تقتضي تلك الماهية وجوب الوجود فيستحيل حينئذ أن تكون حادثة، وإما أن يجب لها بشرط، وذلك الشرط إما الحدوث، وإما صفة من صفات تلك الماهية، وإما شيء مباين، ولا يجوز أن يكون وجوب وجوده بالحدوث؛ فإن الحدوث

الصفحة    : 130

نفسه ليس وجوده واجباً بذاته، فكيف يجب به وجود غيره. والحدوث قد بطل فكيف يكون عند عدمه علة لوجوب غيره، إلا أن يقال إن العلة ليست هي الحدوث، بل يكون الشيء قد حصل له الحدوث، فيكون هذا من الصفات التي للشيء الحادث فيدخل في الجملة الثانية من القسمين. فنقول: إن هذه الصفات لا تخلو إما أن تكون للماهية بماهي ماهية، لا بما هي قد وجدت، فيجب أن يكون ما قد يلزمها يلزم الماهية، فتكون الماهية يلزمها وجوب الوجود؛ أو تكون هذه الصفات حادثة مع الوجود؛ فيكون الكلام في وجوب وجودها كالكلام في الأول، فإما أن يكون هناك صفات بلا نهاية كلها بهذه الصفة، فتكون كلها ممكنة الوجود، غير واجبة بذاتها، وإما أن تنتهي إلى صفة تجب بشيء خارج. والقسم الأول يجعل الصفات كلها ممكنة الوجود في أنفسها، وقد بان أن الممكن الوجود في نفسه، موود بغيره، فتكون جميع الصفات تجب بغير خارج عنها. والقسم الثاني يوجب أن الوجود الحادث إنما يبقى وجوداً بسبب من خارج وهو العلة. على أنك قد علمت أن الحدوث ليس معناه إلا وجوداً بعد ما لم يكن، فهناك وجود، وهناك كون بعد ما لم يكن، وليس للعلة المحدثة تأثير وغناء في أنه لم يكن، بل إنما تأثيرها وغناؤها في أن منه الوجود.ث عرض أن كان ذلك، في ذلك الوقت، بعد ما لم يكن، والعارض الذي عرض بالاتفاق لا دخول له في تقوم الشيء، فلا دخول للعدم المتقدم في أن يكون للوجود الحادث علة، بل ذلك النوع من الوجود بما هو لذلك النوع من الماهيات مستحق لأن يكون له علة وإن استمر وبقي. ولهذا لا يمكنك أن تقول: إن شيئاً جعل وجود الشيء بحيث يكون بعد أن لم يكن، فهذا غير مقدور عليه، بل بعض ما هو موجود واجب ضرورة أن لا يكون بعد عدم، وبعضه واجب ضرورة أن يكون بعد عدم. فأما الوجود، من حيث هو وجود هذه الماهية، فيجوز أن يكون عن علة؛ وأما صفة هذا الوجود، وهي أنه بعد ما لم يكن، فلا يجوز أن تكون عن علة؛ فالشيء من حيث وجوده حادث، أي من حيث أن الوجود الذي له موصوف بأنه بعد العدم لا لعة له بالحقيقة، بل العلة له من حيث للماهية وجود، فالأمر بعكس ما يظنون بل العلة للوجود فقط، فإن اتفق أن سبقه عدم كان حادثاً، وإن لم يتفق كان غير حادث. والفاعل، الذي تسميته العامة فاعلاً، فليس هو بالحقيقة علة من حيث يجعلونه فاعلاً، فإنهم يجعلونه فاعلاً من حيث يجب أن يعتبر فيه أنه لم يكن فاعلاً، فلا يكون فاعلاً من حيث هو علة، بل من حيث هو علة وأمر لازم معه، فإنه يكون فاعلاً من حيث اعتبار ما له فيه أثر مقروناً باعتبار ما ليس له فيه أثر، كأنه إذا اعتبرت العلة من حيث ما يستفاد منها مقارناً لما لا يستفاد منها سمي فاعلاً. فلذلك كل

الصفحة    : 131

شيء يسمونه فاعلاً يكون من شرطه أن يكون بالضرورة وقد كان مرة غير فاعل، ثم أراد أو قسر، أو عرض حال من الأحوال لم يكن، فلما قارنه ذلك المقارن كان ذاته مع ذلك المقارن علة بالفعل، وقد كان خلا عن ذلك، فيكون فاعلاً عندهم من حيث هو علة بالفعل بعد كونه علة بالقوة، لا من حيث هو علة بالفعل فقط. فيكون كل ما يسمونه فاعلاً يلزم أن يكون أيضاً ما يسمونه منفعلاً، فإنهم لا يخلونه عن مقارنة ما يقارنه من حال حادثة لأجلها ما صدر عنه وجوده ما لم يكن.فإذا ظهر أن وجود الماهية يتعلق بالغير من حيث هو وجود لتلك الماهية لا من حيث هو بعد ما لم يكن، فذلك الوجود من هذه الجهة معلول ما دام موجوداً. كذلك كان معلولاً متعلقاً بالغير، فقد بان أن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود لنفس الوجود بالذات، لكن الحدوث وما سوى ذلك أمور تعرض له، وأن المعلول يحتاج إلى مفيده الوجود دائماً سرمداً ما دام موجوداً.

الفصل الثاني   (ب)

فصل كل علة هي مع معلولها في حل ما يتشكك به على ما يذهب إليه أهل الحق من أن كل علة هي مع معلولها، وتحقيق الكلام في العلة الفاعلية والذي يظن من أن الابن يبقى مع الأب، والبناء يبقى بعد البنّاء، والسخونة تبقى بعد النار، فالسبب فيه تخليط واقع من جهة جهل العلة بالحقيقة، فإن البنّاء والأب والنار ليست عللاً بالحقيقة لقوام هذه المعلولات، فإن الباني العامل له المذكور، ليس علة لقوام البناء المذكور، ولا أيضاً وجوده. أما البنّاء فحركته علة لحركة ما، ثم سكونه وتركه الحركة أو عدم حركته ونقله بعد ذلك النقل علة لانتهاء تلك الحركة، وذلك النقل بعينه وانتهاء تلك الحركة علة لاجتماع ما، وذلك الاجتماع علة لتشكل ما، وكل واحد مما هو علة فهو ومعلوله معاً. وأما الأب فهو علة لحركة المني، وحركة المني إذا انتهت على الجهة المذكورة علة لحصول المني في القرار، ثم حصوله في القرار علة لأمر؛ وأما تصويره حيواناً وبقاؤه حيواناً فله علة أخرى؛ فإذا كان كذلك كان كل علة مع معلولها. وكذلك النار على لتسخين عنصر الماء، والتسخين علة لإبطال استعداد الماء بالفعل لقبول صورة المائية

الصفحة    : 132

أو حفضها، وذلك أن شيئاً آخر علة لإحداث الاستعداد التام في مثل هذه الحال لقبول ضدها وهي الصورة النارية، وعلة الصورة النارية هي العلل التي تكسو العناصر صورها وهي مفارقة. فتكون العلل الحقيقية موجودة مع المعلول؛ وأما المتقدمات فهي علل، إما بالعرض وإما معينات. فلهذا يجب أن يعتقد أن علة شكل البناء هو الاجتماع، وعلة ذلك طبائع المجتمعات وثباتها على ما ألفت، وعلة ذلك السبب المفارق الفاعل للطبائع. وعلة الولد اجتماع صورته مع مادته بالسبب المفيد للصور. وعلة النار السبب المفيد للصور وزوال الاستعداد التام لضد تلك الصور معاً. فنجد إذن أن العلل مع المعلولات. وإذا قضينا بما يتصل به كلامنا بأن العلل متناهية، فإنما نشير إلى هذه العلل ولا نمنع أن تكون عللاً معينة ومُعدة بلا نهاية، بعضها قبل بعض، بل ذلك واجب ضرورة، لأن كل حادث فقد وجب بعد ما لم يجب لوجوب علته حينئذ كما بينا، وعلته ما كان أيضاً وجب. فوجب في المور الجزئية، أن تكون الأمور المتقدمة التي بها تجب في العلل الموجودة بالفعل، أن تصير عللاً لها بالفعل أموراً بلا نهاية، ولذلك لا يقف فيها سؤال لِمَ البتة. ولكن الإشكال ههنا في شيء، وهو أن هذه التي بلا نهاية لا يخلو إما أن يوجد كل واحد منها آناً فتتوالى آنات متشافعة ليس بينها زمان وهذا محال؛ وإما أن يبقى زماناً فيجب أن يكون إيجابها في كل ذلك الزمان لا في طرف منه، ويكون المعنى الموجب لإيجابها ايضاً معها في ذلك الزمان، ويكون الكلام في إيجاب إيجابها كالكلام فيه، وتحصل علل بلا نهاية معاً. وهذه هو الذي نحن في منعه فنقول: إنه لولا الحركة لوجب هذا الإشكال، إلا أن الحركة تبقي الشيء الواحد لا على حالة واحدة فلا يكون ما يتجدد من حالة بعد حالة في آن بعد آن يشافعه ويماسه، بل كذلك على الاتصال، فتكون ذات العلة غير موجبة لوجود المعلول بل لكونها على نسبة ما، وتلك النسبة تكون علتها الحركة أو شريكة علتها أو التي بها العلة علة بالفعل الحركة، فتكون حينئذ العلة لا ثابتة الوجود على حالة واحدة ولا باطلة الوجود حادثة في آن واحد، فباضطرار إذن تكون العلة الحافظة أو المشاركة لنظام هذه العلل التي بسببها تنحل الإشكالات هو الحركة، وسنوضح ذلك في موضعه إيضاحاً أشفى من هذا. فقد بان ووضح أن العلل الذاتية للشيء التي بها وجود ذات الشيء بالفعل يجب أن تكون معه لامتقدمة في الوجود تقدماً يكون زواله مع الحدوث المعلول، وأن هذا إنما يجوز في علل غير ذاتية أو غير قريبة، والعلل غير الذاتية أو الغير القريبة لا يمنع ذهابها إلى غير النهاية بل يوجبه.

الصفحة    : 133

وإذ قد تقرر هذا، فإذا كان شيء من الأشياء لذاته سبباً لوجود شيء آخر دائماً كان سبباً له دائماً ما دامت ذاته موجودة. فإن كان دائم الوجود كان معلوله دائم الوجود، فيكون ميل هذا من العلل أولى بالعلية لأنه يمنع مطلق العدم للشيء فهو الذي يعطي الوجود التام للشيء. فهذا هو المعنى الذي يسمى إبداعاً عند الحكماء وهو تأييس الشيء بعد ليس مطلق، فإن للمعلول في نفسه أن يكون "ليس" ويكون له عن علته أن يكون "أيس". والذي يكون للشيء في نفسه أقدم عند الذهن بالذات لا في الزمان، من الذي يكون عن غيره، فيكون كل معلول "أيساً" بعد "ليس" بعدية بالذات. فإن أطلق اسم المحدث على كل ما له "أيس" بعد "ليس" وإن لم تكن بعدية بالزمان كان كل معلول محدثاً، وإن لم يطلق، بل كان شرط المحدث أن يوجد زمان ووقت كان قبله فبطل لمجيئه بعده، فتكون بعديته بعدية لا تكون مع القبلية موجودة، بل تكون ممايزة لها في الوجود لأنها زمانية. فلا يكون كل معلول محدثاً، بل المعلول الذي سبق وجوده زمان سبق وجوده لا محالة حركة وتغير كما علمت، ونحن لا نناقش في الاسماء. ثم المحدث بالمعنى الذي لا يستوجب الزمان لا يخلو إما أن يكون وجوده بعد "ليس" مطلق، أو يكون وجوده بعد "ليس" غير مطلق بل بعد عدم مقابل خاص في مادة موجودة على ما عرفته. فإن كان وجود بعد "ليس" مطلق كان صدوره عن العلة، ذلك الصدور إبداعاً، ويكون أفضل أنحاء إعطاء الوجود، لأن العدم يكون قد منع البتة، وسُلّط عليه الوجود، ولو أمكن العدم تمكيناً فسبق الوجود كان تكوينه ممتنعاً إلا عن مادة، وكان سلطان الإيجاد، أعني وجود الشيء من الشيء ضعيفاً قصيراً مستأنفاً. ومن الناس من لا يجعل كل ما هذا بصفته مبدعاً، بل يقول، إذا توهمنا شيئاً وجد عن علة أولى بتوسط علة وسطى فاعلية، وإن لم يكن عن مادة، ولا كان لعدمه سلطان، ولكن كان وجوده عن العلة الأولى الحقيقية بعد وجود آخر انساق إليه، فليس تأييسه عن "ليس" مطلقاً، بل عن "أيس" وإن لم يكن مادياً. ومن الناس من يجعل الإبداع لكل وجود صوري كيف كان، وأما المادي، وإن لم تكن المادة سبقت فيخص نسبته إلى العلة باسم التكوين. ونحن لا نناقش في هذه الاسماء البتة بعد أن تحصل المعاني متميزة، فنجد بعضها له وجود عن علة دوماً بلا مادة، وبعضها بمادة، وبعضها بواسطة، وبعضها بغير واسطة، ويحسن أن يسمى كل ما لم يوجد عن مادة سابقة غير متكون بل مبدعاً، وأن نجعل أفضل ما يسمى مبدعاً ما لم يكن بواسطة عن علته الأولى مادية كانت أو فاعلية أو غير ذلك.

الصفحة    : 134

ونرجع إلى ما كنا فيه فنقول: أما الفاعل الذي يعرض له أن يكون فاعلاً فلا بد له من مادة يفعل بها، لأن كل حادث، كما علمت، يحتاج إلى مادة فربما فعل دفعة، وربما فعل بالتحريك فيكون مبدأ الحركة؛ وإذا قال الطبيعيون للفاعل، مبدأ الحركة، عنوا به الحركات الأربع، وتساهلوا في هذا الموضع فجعلوا الكون والفساد حركة. وقد يكون الفاعل بذاته فاعلاً، وقد يكون بقوة؛ فالذي بذاته، فمثل الحرارة لو كانت موجودة مجردة تفعل، فكان يصدر عنها ما يصدر لأنها حرارة فقط؛ وأما الفاعل بقوة، فمثل النار بحرارتها وقد عددنا في موضع آخر أصناف القوى.

الفصل الثالث   (ج)

فصل في مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها

نقول انه ليس الفاعل كل ما أفاد وجوداً أفاده مثل نفسه، فربما أفاد وجوداً مثل نفسه وربما أفاد وجوداً، لا مثل نفسه، كالنار تسوّد، أو كالحرارة تسخّن؛ والفاعل الذي يفعل وجوداً مثل نفسه، فإن المشهور أنه أولى وأقوى في الطبيعة التي يفيدها من غيره، وليس هذا المشهور ببين ولا بحق من كل وجه، إلا أن يكون ما يفيده هو نفس الوجود والحقيقة، فحينئذ يكون المفيد أولى بما يفيده من المستفيد. ولنعد من رأس فنقول: إن العلل لا تخلو إما أن تكون عللاً للمعلولات في نحو وجود أنفسها، وإما أن تكون عللاً للمعلولات في وجود آخر، مثال الأول: تسخين النار؛ ومثال الثاني: تسخين الحركة، وحدوث التخلخل من الحرارة، وأشياء كثيرة مشابهة لذلك. ولنتكلم عن العلل والمعلولات التي تناسب الوجه الأول. ولنورد الأقسام التي قد يظن في الظاهر أنها أقسامه، فنقول: قد يظن في الوجه الأول أنه قد يكون المعلول في كثير منه أنقص وجوداً من العلة في ذلك المعنى، إن كان ذلك المعنى يقبل الأشد والأنقص مثل الماء إذا تسخن عن النار، وقد يكون في ظاهر النظر مثله أيضاً، قبل ذلك أو لم يقبل، مثل النار فإنها يعتقد فيها، في الظاهر، أنها تحيل غيرها مثل نفسها ناراً في الظاهر فيكون مساوياً لها في صورة النارية، لأن تلك الصورة لا تقبل الأزيد والأقل، ومساوياً له في العرض اللازم من السخونة المحسوسة إذا كان صدور ذلك الفعل عن الصورة المساوية لصورته وعنه أيضاً، والمادة أيضاً، والمادة مساوية في التهيؤ. وأما كون المعلول أزيد في المعنى الذي هو من العلة، فهو الذي يرى أنه لا يمكن البتة ولا يوجد في الأشياء المظنونة عللاً ومعلولات، لأن تلك الزيادة لا يجوز أن يكون حدوثها بذاتها، ولا يجوز أن يكون

الصفحة    : 135

حدوثها لزيادة استعداد المادة، حتى يكون قد أوجب ذلك خروج الشيء إلى الفعل بذاته، فإن الاستعداد ليس سبباً للإيجاد، فإن جعل سببها العلة والأثر الذي وجد عن العلة معاً، فتلك الزيادة تكون معلولة أمرين لا معلولة أمر واحد، وهما مجموعتين يكونان أكثر وأزيد من المعلول الذي هو الزيادة. فإن سلمنا هذه الظنون إلى أن نستبين حالها، ساغ لنا أن نقول: إنه إذا كان المعنى في المعلول والعلة متساوياً في الشدة والضعف فإنه يكون للعلة، بما هي علة، التقدم الذاتي لا محالة في ذلك المعنى. والتقدم الذاتي، الذي له في ذلك المعنى معنى من حال ذلك المعنى، غير الموجود للثاني، فيكون ذلك المعنى مساوياً للأول إذا أخذ بحسب وجوده وأحواله التي له من جهة وجوده أقدم منه للآخر. فيزول إذن مطلق المساواة، لأن المساواة تبقى في الحد، وهما من جهة ما لهما ذلك الحد متساويان، وليس أحدهما علة ولا معلولاً. فأما من جهة ما أحدهما علة والآخر معلول فواضح أن اعتبار وجود ذلك الحد لأحدهما أولى، إذ كان له أولاً لا من الثاني ولم يكن الثاني إلا منه. فظاهر من هذا أن هذا المعنى إذا كان نفس الوجود لم يمكن أن يتساويا فيه البتة إذ كان إنما يمكن أن يساويه باعتبار الحد ويفضل عليه باعتبار استحقاق الوجود. والآن فإن استحقاق الوجود هو من جنس استحقاق الحد بعينه، إذ قد أخذ هذا المعنى نفس الوجود، فبين أنه لا يمكن أن يساويه إذا كان المعنى نفس الوجود فمفيد وجود الشيء من حيث هو وجود أولي بالوجود من الشيء. ولكن ههنا تفضيل آخر بنوع من التحقيق يجب أن لا نغفله، وهو أن العلل والمعلولات تنقسم في أول النظر عند التفكر إلى قسمين: قسم تكون طباع المعلول فيه ونوعيته وماهيته الذاتية توجب أن يكون معلولاً في وجوده لطبيعة أو لطبائع، فتكون العلل مخالفة لنوعيته، لا محالة، إذ كانت عللاً له في نوعه لا في شخصه. وإذا كان كذلك لم يكن النوعان واحداً، إذ المطلوب علة ذلك النوع، بل تكون المعلولات تجب عن نوع غير نوعها، والعلل يجب عنها نوع غير نوعها، تكون عللاً للشيء المعلول ذاتية بالقياس إلى نوع المعلول مطلقاً. وقسم منه يكون المعلول ليس معلول العلة، والعلة علة المعلول في نوعه بل في شخصه. ولنأخذ هذا على ظاهر ما يقتضيه الفكر من التقسيم، وظاهر ما يوجد له من الأمثلة وعلى سبيل التوسع، إلى أن نبين حقيقة الحال الواجبة فيه من نظرنا في السبب المعطى لصورة كل ذي صورة من الأجسام. فمثال الأول كون النفس علة للحركة الاختيارية، ومثال الثاني كون هذه النار علة لتلك النار. والفرق بين

الصفحة    : 136

الأمرين معلوم، فإن هذه النار ليست علة لتلك النار على أنها علة نوعية النار بل على أنها علة نار ما، فإذا اعتبر من جهة النوعية كانت هذه العلة للنوعية بالعرض، وكذلك الأب للابن لا من جهة ما هو أب وذلك ابن، وذاك من جهة وجود الإنسانية. وهذا القسم يتوهم على وجهين: أحدهما أن تكون العلة والمعلول مشتركين في استعداد المادة كالنار والنار. والآخر أن لا يكونا فيه مشتركين كضوء الشمس الذي في جوهره الفاعل للضوء ههنا أو في القمر، وإذ ليس استعداد المادتين فيهما متساوياً ولا المادتان من نوع واحد، فبالحري أن لا يتساوى الشخصان في ذلك، أعني هذا الضوء الذي في الشمس وهذا الضوء الحادث عنه، فيكاد لذلك أن لا يكون الضوءان من نوع واحد عند من يشترط في تساوي نوعية الكيفيات أن لا يكون أحدهما أنقص والآخر أزيد، على ما علمت في موضعه من صفته، ويكونان نوعاً واحداً عند من يرى المخالفة بالنقص والاشتداد مخالفة بالعوارض والتشخصات. وأما القسم الأول وهو أن يكون الأمران مشتركين في استعداد المادة، فهو أيضاً على قسمين؛ لأن ذلك الاستعداد إما أن يكون استعداداً في المنفعل تاماً، أو يكون استعداداً ناقصاً. والاستعداد التام أن لا يكون في طباع الشيء معاوق ومضاد لما هو بالقوة فيه، كاستعداد الماء المسخن للتبريد لأن في نفسه قوة طبيعية - كما علمناه في الطبيعيات - تعاوق القوة الخارجة في التبريد أو لا تعاوقه؛ وأما الاستعداد الناقص فهو كاستعداد الماء للتسخن، لأن فيه قوة تعاوق التسخن الذي يحدث فيه من خارج، وتوجد مع التسخن باقية فيه ولا تبطل. والقسم الأول على أقسام ثلاثة: فإنه إما أن يكون في المستعد قوة معاونة، تبقى كما في الماء إذا برد عن سخونته. وإما أن يكون في المستعد قوة مضادة للأمر، إلا أنها تبطل مع وجود الأمر كما في الشعر إذا شاب عن سواد. وإما أن لا يكون في المستعد ولا واحد من الأمرين لا ضد ولا معين، ولكن عدم الأمر والاستعداد له فقط، مثل حال التّفه في قبول الطعم، وعديم الرائحة في قبول الرائحة. فإن سئلنا عن استعداد الماء لأن يصير ناراً أنه من أي الأقسام الخمسة هو، لم يشكل علينا أنه من قسم المشاركة في استعداد تام للمادة ولكن به في المادة ضده. ولقائل أن يقول: إنكم قد تركتم اعتبار قسم واحد، وهو أن لا يكون هناك مشاركة في المادة أصلاً إذ لا يكون لها مادة؛ فالجواب عن هذا أن هناك لا يمكن أن يكون اتفاق في النوع البتة، فإنه قد استبان أن

الصفحة    : 137

الأشياء المتفقة في النوع البريئة عن المادة أصلاً يكون وجودها عيناً واحداً، ولا يجوز أن يقال معنى الواحد منها على كثيرين. فغذا قد دللنا على هذه الأقسام التي حاصلها خمسة؛ فإنا نرود الحكم في قسم قسم منها فنقول: أما القسم من هذا الباب الذي لا مشاركة فيه في استعداد المادة لا القريبة ولا البعيدة، فليس يجب فيه أن يكون ما يحدثه الفاعل من الاثار القابلة للزيادة والنقصان مساوياً لنفسه، لأنه يمكن أن يكون بما افترقاً فيه من جوهر المادة افتراقاً في الاستعداد لقبول الأمر فلم يقبلاه بالسوية، وليس أيضاً يجب أن لا يتساويا فيه، بل قد يجوز أن يكون الحال في ذلك مثل الحال في اتباع سطح فلك الأثير لسطح فلك القمر في الحركة التي بالعرض، وذلك حيث يمكن أن لا يكون في هذا مانع من قبول التأثير مساوياً لما يؤثره الفاعل وهو في مثل هذا الموضع إحداث مثل نفسه. وأما القسم من هذا الباب الذي هناك استعداد تام كيف كان، فالأمر ظاهر في أن المنفعل قد يجوز أن يتشبه بالفاعل تشبهاً تاماً، وذلك مثل النار تحيل الماء ناراً والملح يحيل العسل ملحاً، وما أشبه ذلك. وقد يجوز أن يزيد فيه المنفعل على الفاعل في الظاهر غير المتحقق، مثل الماء الذي يجمده الهواء ولا يكون برد ذلك الهواء برد ذلك الجمد؛ إلا انك إذا تحققت لم يكن الفاعل وجده هو البرد الذي في الهواء، بل والقوة المبردة الصورية التي في جوهر الماء - الذي دللنا عليه في الطبيعيات - إذا عاونها ولم يعاوقها برد الهواء. وأما القسم من هذا الباب الذي يكون استعداد المنفعل فيه ناقصاً، فليس يمكن البتة أن يتشبه فيه المنفعل بالفاعل التام القوة ويساويه، فإنه لا يمكن أن يكون الشيء الحاصل من قوة في الشيء لا مضاد لها والحاصل من قوة أخرى، وهناك مضاد ممانع، متساويين البتة، أو يبطل الممانع. ولهذا لا يمكن أن يكون شيء غير النار يتسخن من النار وتكون سخونته مثل سخونة تلك النار، أو شيء غير الماء يبرد عن الماء وتكون برودته أكثر من برودة ذلك الماء، لأن استعداد النار للتسخن والماء للتبرد حال غير مضاد في جوهره، والقوة الفاعلة داخلة في جوهره غير غريبة منه، فأما ما ينفعل منهما ففيه مانع عنه مضاد. والفاعل الأول للإنفعال خارج عن جوهره ويفعل فيه بمماسته وبتوسط أمر، كالسخونة المحسوسة في النار المسخنة، والبرودة المحسوسة في الماء المبرد، فليس يمكن أن يساويه. فإن قال قائل: إن النار قد تذيب الجواهر فتجعلها أسخن منها، لأنا ندخل أيدينا في النار ونمرها بعجلة فلا تحترق احتراقها في المسبوكات لو فعل بها ذلك بعينه، فيعلم من ذلك يقيناً أن المسبوكات أسخن من

الصفحة    : 138

النار ومع ذلك فإنما سخنت من النار. فإنا نجيب ونقول: إن ذلك ليس بسبب أن المسبوكات أسخن، ولكن لمعان ثلاثة، منها ما هو أقرب إلى الظهور؛ أحدهما في المسبوك. والآخر في النار، والثالث في اللامس، وكلها متعاونة متقاربة. أما الذي في المسبوك، فلأنه غليظ فيه تشبث ما ولزوجة وبطء انفصال، فإذا لمس ذهب مع اللامس ولم يمكن أن يفارق إلا في زمان ذي قدر في نفسه بالقياس إلى زمان مفارقة اللامس النار، وإن كان الحس لا يضبط ذلك الإختلاف، لكن العقل والذهن يوجبه. ومن شأن الفاعل الطبيعي أن يفعل في المنفعل في مدة أطول فعلاً آكد وأحكم، وأن يفعل الضعيف في مدة اطول ما لا يفعله القوي في مدة قصيرة. وأما الذي في النار، فلأن النار محسوسة إنما هي أجزاء من النار الحقيقية مع أجزاء من الأرض متحركة، واجتماعها على سبيل التجاور لا على سبيل الإتصال، بل هي في أنفسها متفرقة، ويتخللها الهواء تخللاً على سبيل التجدد، فيكسر ما بداخله فيها من صرافة حرة، لأنه أبرد منها، ولأنه ليس ينفعل في تلك العجلة انفعالاً لا يصير به ناراً محضاً، ومع ذلك فإنها سريعة الحركة في نفسها لا يكاد يبقى جزء منها مماساً لجزء من اليد زماناً يؤثر فيه تأثيراً محسوساً بل يتجدد، فما لم تجتمع تأثيرات غير محسوسة كثيرة لا يؤدي إلى قدر محسوس وذلك في مدة لها قدر. وأما المسبوك، فإن جوهره مجتمع متحد ثابت قائم بالإتصال؛ وإذا كان كذلك كان ما يلاقي سطح اليد من المسبوك سطحاً واحداً مطابقاً بالكلية، وما يلاقيه من النار المحسوسة سطوح صغار مخالطة لما هو بالقياس إليها برد، فيختلف بذلك التأثير، إلا أن يبقى مدة تتوالى فيها المماسات فيكثر ويفعل كل سطح فيما يماسه فعلاً، ثم يتسلط الفعل على ما هو عليه الأمر في الاستحالات الطبيعية.وأما النار المحقونة في مثل الكيران للحدادين فإنها أعظم تأثيراً فيما يماسه من المسبوكات وغيرها، وأسرع مدة لاجتماعها وصرافتها. وأما الحال التي في اليد، فلأن اليد قادرة على قطع الهواء والنار والأجسام اللطيفة بأسرع حركة، وليست قادرة على قطع المسبوك الكثيف باسرع حركة، لأن المقاومة للدفع والخرق في اللطيف قليل، وفي الكثيف كثير، ويكاد أن يكون هذا يسمى كثيفاً وذلك لطيفاً بسبب اختلافهما في هذا المعنى، فلو كان المسبوك ليس ألزج وأكثر تشبثاً لما يلامسه، وليس أيضاً اشد اجتماعاً واتحاداً، ثم كان قطعه في مدة أطول لمقاومته، وكان ثابتاً لازماً غير هارب عن المماسة، لكفاه ذلك في جواز أن يؤثر تأثيراً أشد من تاثير اللطيف بحسب نسبة الأزمنة إذ كان ذا أثر في مثل زمان ملاقاة اللطيف أثراً ما، فإذا ضوعف الزمان أمكن أن يساويه في بعض الأضعاف، وإذا زيد في الأضعاف أمكن أن يزيد عليه، وربما لم يكن زمانه المضاعف مع عظم نسبته محسوس القدر لما تعرفه. ومن حق هذا الموضع أن

الصفحة    : 139

يبسط بسطاً أكثر مما بسطناه، لكنه أولى بالصناعة الطبيعية وإنما يجب أن نذكر ههنا قدر ما تنحل به الشبهة ويظهر وجهها، ثم إن شاء مستقص أن يستقصي ذلك استقصاه من الأقوال المستقصاة في علم الطبيعة وخصوصاً ما عسى يجده من جهتنا. فقد ظهر من جملة هذه التفصيلات الموضع الذي نظن فيه أنه يجوز أن يتساوى الفاعل والمنفعل فيه، والموضع الذي يظن فيه أنه يجوز أن يزيد عليه، والموضع الذي لا يجوز إلا أن يقصر عنه. وظهر في خلال ذلك أنه وإن كان كذلك فوجود المعنى من جهة نفس الوجود لا يتساوى فيه الفاعل والمنفعل إذا لم يكن فاعلاً للمعنى بما هو وجود المعنى بالعرض كما بيناه. ثم الفاعل والمبدأ الذي ليس منفعله مشاركاً له في النوع ولا في المادة، وإنما يشاركه بوجه ما في معنى الوجود، وليس يمكن أن يعتبر فيه حال المعنى الذي له الوجود لأنهما ليسا يشتركان فيه، فبقي فيه حال اعتبار الوجود نفسه، وقد كان في سائر ذلك ما كان من المتساوية والزائدة على مبدأ الفاعل إذا رجع إلى حال اعتبار الوجود كان المبدأ الفاعلي غير مساو له لأن وجوده بنفسه، ووجود المنفعل من حيث ذلك الإنفعال مستفاد منه. ثم الوجود بما هو وجود لا يختلف في الشدة والضعف، ولا يقبل الأقل والأنقص وإنما يختلف في عدة أحكام وهي: التقدم، والتأخر، والاستغناء والحاجة، والوجوب والإمكان. أما في التقدم والتأخر، فإن الوجود، كما علمت، للعلة أولاً، ولمعلول ثانياً. وأما الاستغناء والحاجة، فقد علمت أن العة لا تفتقر في الوجود إلى المعلول، بل يكون موجوداً بذاته أو بعلة أخرى، وهذا المعنى قريب من الأول وإن خالفه في الاعتبار. وأما الوجوب والإمكان، فإنا لم نعلم أنه إن كانت علة هي علة لكل ما هو معلول فهي واجبة الوجود بالقياس إلى الكل من كل المعلولات وعلى الإطلاق، وإن كان علة لمعلول ما فهي واجبة الوجود بالقياس إلى ذلك المعلول، وذلك المعلول كيف كان فهو ممكن الوجود في نفسه. وتلخيص هذا: هو أن المعلول هو في ذاته بحيث لا يجب له وجود، وإلا لوجب من دون علته إذا فرض واجباً لذاته وبحيث لا يمتنع له وجود؛ وإلا لما وجد بالعلة فذاته بذاته بلا شرط كون علة له أو لا كون علة له ممكنة الوجود، وإنما يجب لا محالة بالعلة. ثم العلة كما قد تبين لا يجوز أن يجب بها، بل يكون إما واجباً بذاته وإما واجباً من شيء غيره، فإذا حصل له الوجوب به فحينئذ يصح أن يكون عنه وجوب غيره، فيكون المعلول باعتبار ذاته ممكناً وأما العلة فباعتبار ذاتها إما واجباً وإما ممكناً، فإن كان واجباً فوجوده أحق من وجود الممكن وإن كان ممكناً

الصفحة    : 140

وليس يجب بالمعلول، والمعلول يجب به وبعد وجوبه، فتكون العلة إذا صار ذاتها واجبة لم يكن بالقياس إلى المعلول، والمعلول لا يصير ذاته واجبة إلا بالقياس إليها، فيكون إلى ذات العلة نظر قد وجب به لا يتناول ذات المعلول بل يكون به هو واجباً، والمعلول غير ملحوظ بعد، وذات المعلول لا تكون إلا ممكنة، ولا يجب إلا ا، تلاحظ مقيسة بالعلة، فيكون للعلة اختصاص بوجوب، ولا يكون للمعلول إلا الإمكان فقط عند ذاك الإختصاص، ويكون إذا كان للمعلول وجوب كان العلة اولاً وإلا لكانت العلة بعد ممكنة لم يجب وجودها ووجب وجود المعلول، فيكون وجب لا عن ذات العلة وهذا محال، فيكون للعلة وجوب باعتبار ذاته ومن حيث لم تضف إلى المعلول والمعلول بعد ثابت على مقتضى إمكانه إذ كانت العلة لا تجب عنه بل بذاته أو بإضافة إلى غيره لا إليه، ومن حيث العلة غير مضافة إلى المعلول بعد. فالمعلول ليس يجب وجوده، بل إنما يجب وجوده من حيث العلة مضافة إليه، فتصير العلة، لهذه المعاني الثلاثة، أولى بالوجود من المعلول، فالعلة أحق من المعلول، ولأن الوجود المطلق إذا جعل وجود شيء صار حقيقياً. فبين أن المبدأ المعطى للحقيقة المشارك فيها أولى بالحقية، فإذا صح أن ههنا مبدأ أولاً هو المعطي لغيره الحقيقة، صح أنه الحق بذاته، وصح أن العلم به هو العلم بالحق مطلقاً؛ وإذا حصل العلم به كان العلم الحق مطلقاً بالنحو الذي يقال للعلم حق، وهو الذي بالقياس إلى المعلوم.

الفصل الرابع   (د)

الصفحة    : 141

فصل في العلل الأخرى العنصرية والصورية والغائبة

فهذا ما نقوله في المبدأ الفاعلي، ولنشرح الآن القول في المبادئ الأخر، فأما العنصر فهو الذي فيه قوة وجود الشيء، فنقول: إن الشيء تكون له هذه الحالة مع شيء آخر على وجوه: فتارة يكون كما للوح إلى الكتابة، وهو أنه مستعد لقبول شيء يعرض له من غير تغير فيه ولا زوال أمر كان له عنه. وتارة يكون كما للشمعة إلى الصنم، وللصبي إلى الرجل، وهو أنه مستعد لقبول شيء يعرض له من غير أن يتغير من أحواله شيء، إلا حركة في "أين" أو "كم" أو غير ذلك. وتارة يكون كما للخشبة إلى السرير، فإنه يُنقصه بالنحت شيئاً من جوهره. وتارة يكون مثل ما للأسود إلى الأبيض، فإنه يستحيل ويفقد كيفيته من غير فساد جوهره. وتارة يكون كما للماء إلى الهواء، فإنه يكون الهواء عنه بأن يفسد. وتارة يكون كما للمني إلى الحيوان، فإنه يحتاج أن ينسلخ عن صور له انسلاخات حتى يستعد لقبول صورة الحيوان. وكذلك الحصرم للخمر. وتارة يكون كما للمادة الأولى إلى الصورة، فإنها مستعدة لقبولها متقومة بالفعل. وتارة يكون مثل الهليلجة إلى المعجون، فإنه ليس عنه وحده يكون المعجون، بل عنه وعن غيره فيكون قبل ذلك جزءاً بالقوة. وتارة يكون كما للخشب والحجارة إلى البيت، فإنه كالأول، إلا أن الأول إنما يكون عنه المعجون بضرب من الاستحالة، وهذا ليس فيه إلا التركيب. ومن هذا الجنس أيضاً الآحاد للعدد، وقد يجعل قوم المقدمات كذلك النتيجة، وذلك غلط. بل المقدمات كذلك لشكل القياس، وأما النتيجة فليست صورة في المقدمات، بل شيئاً يلزم عنها، كأن المقدمات تفعلها في النفس. فعلى هذه الأنحاء نجد الأشياء الحاملة للقوة، فإنها إما أن تكون حاملة للقوة بوحدانيتها أو بشركة غيرها. فإن كانت بوحدانيتها فإما إلا يحتاج فيما يكون منها إلا إلى الخروج بالفعل لذلك فقط، وهذا هو الذي بالحري أن يسمى موضوعاً بالقياس إلى ما هو فيه، ويجب أن يكون لمثل هذه بنفسه بالفعل قوام، فإنه إن لم يكن له قوام لم يجز أن يكون متهيئاً لقبول الحاصل فيه، بل يجب أن يكون قائماً بالفعل؛ فإن كان إنما يصير قائماً بما يحله فقد كان فيه شيء يحله قبل ما حله ثانياً به يقوم، وإما أن يكون الثاني ليس مما يقومه بل مضافاً إليه أو يكون وروده يبطل ما كان يقيمه قبله فيكون قد استحال، وقد فرضناه لم

الصفحة    : 142

يستحل.فهذا قسم. وأما إن كان يحتاج إلى زيادة شيء، فإما أن يكون إلى حركة فقط، إما مكانية وإما حركة كيفية أو حركة كمية أو وضعية و جوهرية، وإما إلى فوات أمر آخر من جوهره من كم أو كيف أو غير ذلك. وأما الذي يكون بمشاركة غيره فيكون لا محالة فيه اجتماع وتركيب، فإما أن يكون تركيب من اجتماع فقط، وإما أن يكون مع ذلك استحالة في الكيف. وكل ما فيه تغير فإما أن ينتهي إلى الغاية وتغير واحد، أو بتغيرات كثيرة. وقد جرت العادة بأن يسمى الذي يكون الكون منه بالتركيب وهو في الشيء أسطقساً، وهو الذي ينحل إليه أخيراً، فإن كان جسمانياً فهو أصغر ما ينتهي إليه القاسم في القسمة إلى المختلفات الصور الموجودة فيه وقد حد بأنه الذي منه ومن غيره تركب الشيء وهو فيه بالذات ولا ينقسم بالصورة. ومن رأى أن الأشياء إنما تتكون من الأجناس والفصول جعلها الاسطقسات الأولى، وخصوصاً الواحد والهوية فقد جعلوها أولى المبادئ بالمبدئية، لأنها أشدها كلية وجنسية. ولو أنصفوا لعلموا أن القوام بالذات إنما هو للأشخاص، فما يليها أولى بأن يكون جواهر وقائمات بأنفسها، وأنها أولى بالوجود أيضاً. ولنعد إلى أمر النعصر فنقول: قد جرت العادة في مواضع بأن يقال: إن الشيء كان عن العنصر في مواضع، ولم يجر في مواضع، فإنه يقال: إنه كان من الخشب باب، ولا يقال: كان من الإنسان كاتب. وأن ينسب الكائن إلى الموضوع في مواضع، وأن لا ينسب في مواضع، فيقال، تارة، إن هذا باب خشبي، ولا يقال: إن هذا كاتب إنساني. فأما الأول، فإذا وجدوا الموضوع لم يتحرك إليه البتة ولم يتغير في قبول الشيء، فإنهم حينئذ لا يقولون دائماً إنه كان عن العدم، كما يقولون عن غير الكاتب. وإذا تغير خصوصاً فيما لا يجدون للعدم منه اسماً، فيقولون: كان عن غير الموضوع. وأما بالنسبة إلى الموضوع فإنما يستعمل في الأكثر إذا كان الموضوع قد يصلح غيره للصورة. وأما الصورة فلا ينسب إليها، ولا يقال كان منها، إنما يشتق منها الاسم، والموضوع قد يكون مشتركاً للكل وقد يكون مشتركاً لعدة أمور، مثل العصير للخل والخمر والطلا والرُّبّ وغير ذلك. وكل عنصر فإنه من حيث هو عنصر، إنما له القبول فقط، وأما حصول الصورة فله من غيره، وما كان من العناصر أو القوابل مبدأ الحركة إلى الأثر موجود في نفسه ظن أنه متحرك إليه بنفسه، وليس كذلك. فقد تبين لنا في مواضع أخرى أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد فاعلاً وقابلاً لشيء واحد من غير أن يتجزأ ذاته، لكن العنصر إذا كان مبدأ حركته فيه بذاته كان متحركاً عن الطبيعة، وكان ما

الصفحة    : 143

يكون منه طبيعياً، وإذا كان مبدأ الحركة فيه من خارج ولم يكن له أن يتحرك إلى ذلك الكمال من نفسه كان ما يكون منه صناعياً أو تجارياً مجراه، فهذا جمل ما نقوله في العنصر. وأما الصورة فنقول: قد يقال صورة لكل معنى بالفعل يصلح أن يفعل حتى تكون الجواهر المفارقة صوراً بهذا المعنى. ويقال صورة لكل هيئة وفعل يكون في قابل وحداني أو بالتركيب حتى تكون الحركات والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تتقوم به المادة بالفعل فلا تكون حينئذ الجواهر العقلية والأعراض صوراً. ويقال صورة لما تكمل به المادة وإن لم تكن متقومة بها بالفعل، مثل الصورة وما يتحرك بها إليها بالطبع، ويقال صورة خاصة لما يحدث في المواد بالصناعة من الأشكال وغيرها. ويقال صورة لنوع الشيء ولجنسه ولفصله ولجميع ذلك. وتكون كلية الكلي صورة للأجزاء أيضاً، والصورة قد تكون ناقصة كالحركة وقد تكون تامة كالتربيع والتدوير. وقد علمت أن الشيء الواحد يكون صورة وغاية ومبدأ فاعلياً من وجوه مختلفة. وفي الصناعة أيضاً، فإن الصناعة هي صورة المصنوع في النفس، فإن البناء في نفسه صورة الحركة إلى صورة البيت، وذلك هو المبدأ الذي يصدر عنه حصول الصورة في مادة البيت، وكذلك الصحة هي صورة البرء، ومعرفة العلاج هي صورة الإبراء. والفاعل الناقص يحتاج إلى حركة وآلات حتى يصدر ما في نفسه محصلاً في المادة، والكامل فإن الصورة التي في ذاته يتبعها وجود الصورة في مادتها ويشبه أن تكون الأمور الطبيعية صورها عند العلل المتقدمة للطبيعة بنوع، وعند الطبيعة على طريق التسخير بنوع، وأنت تعلم هذا بعد. وأما الغاية فهي ما لأجله يكون الشيء، وقد علمته فيما سلف، وقد تكون الغاية في بعض الأشياء في نفس الفاعل فقط كالفرح بالغلبة، وقد تكون الغاية في بعض الأشياء في شيء غير الفاعل، وذلك تارة في الموضوع مثل غايات الحركات التي تصدر عن رؤية أو طبيعة، وتارة في شيء ثالث كمن يفعل شيئاً ليرضي به فلان، فيكون رضاء فلان غاية خارجة عن الفاعل والقابل، وإن كان الفرح بذلك الرضى أيضاً غاية أخرى. ومن الغايات التشبه بشيء آخر، والمتشبه به من حيث هو متشوق إليه غاية، والتشبه نفسه أيضاً غاية.

الفصل الخامس   (ه)

الصفحة    : 144

فصل في إثبات الغاية وحل شكوك قيلت في إبطالها، والفرق بين الغاية وبين الضروري وتعريف الوجه الذي تتقدم به الغاية على سائر العلل والوجه الذي تتأخر به فنقول: إنه قد بان، مما سلف لنا من القول، أن كل معلول فله مبدأ، وكل حادث فله مادة وصورة، ولم يتبين بعد أن كل تحريك فله غاية ما، فإن ههنا ما هو عبث، وههنا ما هو اتفاق، وأيضاً ههنا مثل حركة الفلك، فإن لا غاية لها في ظاهر الأمر، والكون والفساد لا غاية لهما في ظاهر الظن. ثم لقائل أن يقول: قد يجوز أن يكون لكل غاية غاية، كما يكون لكل ابتداء ابتداء، فلا يكون بالحقيقة غاية وتمام، لأن الغاية بالحقيقة ما يسكن لديه، وقد نجد أشياء هي غايات أخرى إلى غير النهاية، فإن ههنا أشياء يظن أنها غايات ولا تتناهى، كنتائج تترادف عن القياسات ولا تتناهى. ثم لقائل أن يقول: لنترك أن الغاية موجودة لكل فعل، فلم جعلت علة متقدمة وهو بالحقيقة معلولة العلل كلها؟ ومما يليق أن نتكلم فيه بعد حل هذه الشبهة أنه هل الغاية والخير شيء واحد أم يختلف؟ وأيضاً ما الفرق بين الجود والخيرية؟ فتقول: أما الشك الأول المنسوب إلى الاتفاق والعبث فنحله ونقول: أما حال الاتفاق وأنه غاية ما فقد فرغ منه في الطبيعيات. وأما بيان أمر العبث فيجب أن نعرف أن كل حركة ارادية فلها مبدأ قريب، ومبدأ بعيد، ومبدأ أبعد. فالمبدأ القريب هو القوة المحركة التي في عضلة العضو، والمبدأ الذي يليه هو الإجماع من القوة الشوقية، والأبعد من ذلك هو التخيل أو التفكر. فغذا ارتسم في التخيل أو الفكر النطقي صورة ما، فتحركت القوة الشوقية إلى الإجماع، خدمتها القوة المحركة التي في الاعضاء، فربما كانت الصور المرتسمة في التخيل أو الفكر هي نفس الغاية التي تنتهي إليها الحركة؛ وربما كانت شيئاً غير ذلك؛ إلا أنه لا يتوصل إليه إلا بالحركة إلى ما تنتهي إليه الحركة، أو تدوم عليه الحركة. مثال الأول: أن الإنسان ربما ضجر عن المقام في موضع ما، وتخيل في نفسه صورة موضع آخر، فاشتاق إلى المقام فيه، فتحرك نحوه، فانتهت حركته إليه، فكان متشوقه نفس ما انتهى إليه تحريك القوى المحركة للعضلة. ومثال الثاني: أن الإنسان قد يتخيل في نفسه صورة لقائه لصديق له، فيشتاقه، فيتحرك إلى المكان الذي يقدر مصادفته فيه، فتنتتهي حركته إلى ذلك المكان، ولا تكون نفس ما انتهت إليه حركته نفس المتشوق الأول الذي نزع إليه بل معنى آخر، لكن المتشوق يتبعه، ويحصل بعده، وهو لقاء الصديق.

الصفحة    : 145

فقد عرفت هذين القسمين، وتبين لك من ذلك بأدنى تأمل أن الغاية التي تنتهي إليها الحركة في كل حال من حيث هي غاية الحركة، هي غاية أولى حقيقية للقوة الفاعلة المحركة التي في الأعضاء، وليس للقوة المحركة التي في الأعضاء غاية غيرها، لكنه ربما كان للقوة التي قبلها غاية غيرها، فليس يجب دائماً أن يكون ذلك الأمر غاية أولى للقوة الشوقية: تخييلية كانت أو فكرية، ولا أيضاً دائماً يجب أن لا يكون، بل ربما كان، وربما لم يكن، كما تبين لك في المثالين. أما الأول منهما فكانت الغاية فيهما واحدة، وأما الثاني فكانت مختلفة. والقوة المحركة التي في الأعضاء مبدأ حركة لا محالة، والقوة الشوقية ايضاً مبدأ أول لتلك الحركة، فإنه لا يمكن أن تكون حركة نفسانية لا عن شوق البتة، لأن الشيء الذي لا تنبعث إليه القوة ثم تنبعث إليه إنبعاثاً نفسانياً يكون بتشوق نفساني لا محالة قد حدث بعد ما لم يكن. فإذن كل حركة نفسانية مبدؤها الأقرب قوة محركة في عضل الأعضاء، ومبدؤها الذي يليه شوق، والشوق - كما علم في علم كتاب النفس - تابع لتخيل أو فكر لا محالة، فيكون المبدأ الأبعد تخيلاً أو فكراً. فإذن ههنا مبادئ للحركات النفسانية. منها واجبة بأعيانها ضرورة. ومنها غير الواجبة بأعيانها ضرورة. والواجبة ضرورة: هي القوى المحركة في الأعضاء، والقوة الشوقية. وغير الواجبة: هي التخيل والفكر، فإنه ليس يجب لا محالة أن يكون تخيل ولا فكر أو فكر ولا تخيل ولكل مبدأ حركة غاية لا محالة والمبدأ الذي لا بد منه في الحركة الإرادية له غاية لا بد منها، والمبدأ الذي منه بد توجد الحركة خالية عن غايته؛ فإن اتفق أن يتطابق المبدأ الأقرب - وهو القوة المحركة - والمبدءان اللذان بعده - أعني الشوقية مع التخيل أو الشوقية مع الفكرية - كانت نهاية الحركة هي الغاية للمبادئ كلها، وكان ذلك غير عبث لا محالة. وإن اتفق أن يختلف؛ أعني أن لا يكون ما هو الغاية الذاتية للقوة المحركة غاية، ذاتية للقوة الشوقية، وجب ضرورة أن يكون للقوة الشوقية غاية أخرى بعد الغاية التي في القوة المحركة التي للعضو؛ وذلك لأنا قد أوضحنا أن الحركة الإرادية لا تكون بلا شوق وكل ما هو شوق فهو شوق لشيء، وإذا لم يكن لمنتهى الحركة كان لشيء آخر غيره لا محالة، وإذا كان ذلك الشيء يراد لأجله الحركة فيجب أن يكون بعد انتهاء الحركة.

الصفحة    : 146

وكل نهاية تنتهي إليها الحركة أو تحصل بعد نهاية الحركة، ويكون الشوق التخيلي والفكري قد تطابقا عليها، فبين أنها غاية إرادية، وليست بعبث البتة، وكل نهاية تنتهي إليها الحركة وتكون هي بعينها الغاية المتشوقة المتخيلة ولا تكون المتشوقة بحسب الفكرة، فهي التي تسمى العبث. وكل غاية ليست هي نهاية الحركة ومبدؤها تشوق تخيلي غير فكري، فلا تخلو: إما أن يكون التخيل وحده هو المبدأ لحركة الشوق. أو التخيل مع طبيعة أو مزاج مثل التنفس أو حركة المريض. أو التخيل مع خلق وملكة نفسانية داعية إلى ذلك الفعل بلا روية. فإن كان التخيل وحده هو المبدأ للشوق سمي ذلك الفعل جزافاً، ولم يسم عبثاً. وإن كان تخيل مع طبيعة مثل التنفس، سمي ذلك الفعل قصداً ضرورياً أو طبيعياً. وإن كان تخيل مع خلق وملكة نفسانية سمي ذلك الفعل عادة، لأن الخلق إنما يتقرر باستعمال الأفعال، فما يكون بعد الخلق يكون عادة لا محالة. وإذا كانت الغاية التي للقوة المحركة وهي نهاية الحركة موجودة ولم توجد الغاية الأخرى التي بعدها وينحو التشوق وهي غاية الشوق فيسمى ذلك الفعل باطلاً، كمن حصل في المكان الذي قدّر فيه مصادفة الصديق ولم يصادفه هناك، فسمي فعله باطلاً بالقياس إلى القوة المتشوقة دون القوة المحركة وبالقياس إلى الغاية الأولى دون الغاية الثانية. وإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: قول من يقول إن العبث فعل من غير غاية البتة هو قول كاذب. وقول القائل أيضاً إن العبث فعل من غير غاية البتة هي خير أو مظنون خيراً، هو قول كاذب. أما الأول فإن الفعل إنما يكون بلا غاية إذا لم يكن له غاية بالقياس إلى ما هو مبدأ حركته، لا بالقياس إلى ما ليس مبدأ حركته، وإلى أي شيء اتفق. وما مثل به في الشك من اللعب باللحية، فمبدأ حركته القريبة هو القوة التي في العضلة، والذي قبله تشوق تخيلي بلا فكر، وليس مبدؤه فكراً البتة، فليس فيه غاية فكرية، وقد حصلت فيه الغاية التي للتشوق التخيلي وللقوة المحركة، فبيّنٌ أن هذا الفعل بحسب مبدئه المحرك، منته إلى غاية، وأنه إنما لا يتحرك إلى غاية بحسب ما ليس مبدأه المحرك. ولا يجب أن يظن أن هذا يصدر لا عن شوق تخيلي، فإن كان فعل نفساني كان بعد ما لم يكن، فهناك شوق ما لا محالة، وطلب نفساني، وذلك مع تخيل ما، إلا أن ذلك التخيل ربما كان غير ثابت بل سريع البطلان، أو كان ثابتاً ولكن لم يشعر به، فليس كل من تخيل شيئاً يشعر مع ذلك ويحكم أنه قد تخيل؛

الصفحة    : 147

وذلك لأن التخيل غير الشعور بأنه قد تخيل. وهذا ظاهر، ولو كان كل تخيل يتبعه شعور بالتخيل لذهب الأمر إلى غير النهاية. وأما الثاني فلأن لانبعاث هذا الشوق علة ما لا محالة: إما عادة، وإما ضجر عن هيئة وإرادة انتقال إلى هيئة أخرى، وإما حرص من القوى المحركة والمحسة على أن يتجدد لها فعل تحريك وإحساس. والعادة لذيذة، الانتقال من المملول لذيذ، والحرص على الفعل الجديد لذيذ، أعني بحسب القوة الحيوانية والتخييلية. واللذة هي الخير الحسي، والتخييلي، والحيواني، بالحقيقة وهي المظنونة خيراً، بحسب الإنساني فإذا كان المبدأ تخيلاً حيوانياً فيكون خيره لا محالة خيراً تخيلياً حيوانياً فليس إذن هذا الفعل خالياً عن خير بحسبه، وإن لم يكن خيراً حقيقياً أي بحسب العقل ثم رواه هذا علل لتخصيص هيئة دون هيئة من الحركات جزئية لا تضبط. وأما الشك الذي يليه فينكشف بأن نعرف الفرق بين الغاية بالذات وبين الضروري الذي هو أحد الغايات التي بالعرض. والفرق بينهما أن الغاية بالذات هي الغاية التي تطلب لذاتها، والضروري أحد ثلاثة أمور. إما أمر لا بد من وجوده حتى توجد الغاية على أنه علة للغاية بوجه؛ مثل صلابة الحديد حتى يتم القطع به. وإما أمر لا بد من وجوده حتى توجد الغاية لا على أنه علة للغاية، بل على أنه أمر لازم للعلة؛ مثل أنه لا بد من أن يكون جسم أدكن حتى يتم القطع به؛ وإنما لم يكن بد من جسم أدكن لا لدكانته، لكن لأنه كان لازماً للحديد الذي لا بد منه. وإما أمر لا بد من وجوده لازماً للعلة الغائية نفسها؛ مثل أن العلة الغائية في التزويج مثلاً التوليد، ثم التوليد يتبعه حب الولد ويلزمه، لأن التزويج كان لأجله. فهذه كلها غايات بالعرض الضروري، لا بالعرض الإتفاقي. وقد علمت الغايات العرضية الاتفاقية في موضع آخر. واعلم أن وجود مبادئ الشر في الطبيعة، هو من القسم الثاني من هذه الأقسام، فإنه مثلاً لما كان يجب في الغاية الإلهية - التي هي الجود - أن يؤتى كل ممكن الوجود وجوده الخيري، وكان الوجود الذي للمركبات من العناصر، وكان لا يمكن أن تكون المركبات إلا من العناصر وكان يمكن أن تكون العناصر لها إلا الأرض والماء والنار والهواء، وكان لا يمكن أن تكون النار على الجهة المؤدية إلى الغاية الخيرية المقصودة بها إلا أن تكون محرقة مفرقة، لزم ذلك ضرورة أن يكون بحيث تضر

الصفحة    : 148

الصالحين وتفسد كثيراً من المركبات. وكأنا قد خرجنا عن غرضنا، فلنعد إليه، ولنجب عن الشك المورد فنقول: أما أشخاص الكائنات الغير متناهية فليست هي بغايات ذاتية في الطبيعة، ولكن الغايات الذاتية هي مثلاً أن يوجد الجوهر الذي هو الإنسان أو الفرس أو النخلة، وأن يكون هذا الوجود وجوداً دائماً ثابتاً، وكان هذا ممتنعاً في الشخص الواحد المشار إليه، لأن كل كائن يلزمه ضرورة الفساد، وأعني الكائنات من الهيولي الجسمانية، ولما امتنع في الشخص استبقى بالنوع، فالغرض الأول إذن هو بقاء الطبيعة الإنسانية مثلاً، أو غيرها،أو الشخص منتشر في غير معين، وهو العلة التمامية لفعل الطبيعة الكلية؛ وهو واحد، لكن هذا الواحد لا بد له في حصوله باقياً من أن يكون أشخاص بعد أشخاص بلا نهاية، فيكون لا تناهي الأشخاص بالعدد غرضاً على المعنى الضروري من القسم الأول، ل على أنه عرض بنفسه، لأنه لو أمكن أن يبقى الإنسان دتئماً كما تبقى الشمس والقمر لما احتيج إلى التوالد والتكاثر بالنسل. على أنه وإن سلمنا أن الغرض لا تناهي الأشخاص كان لا تناهي الأشخاص غير معنى كا شخص، وإنما يذهب بلا نهاية شخص بعد شخص، لا لا تناه بعد لا تناه؛ فإذن الغاية بالحقيقة ههنا موجودة، وهي وجود شخص منتشر، أو لا تناهي الأشخاص ثم الشخص الذي يؤدي إلى شخص آخر إلى ثالث إلى رابع ليس هو بعينه غاية للطبيعة الكلية؛ بل للطبيعة الجزئية فهذه هي غاية للطبيعة الجزئية فليس غيرها بعدها غرضاً وغاية لتلك الطبيعة الجزئية التي هي غايتها. وأعني بالطبيعة الجزئية القوة الخاصة التدبير بشخص واحد. وأعني بالطبيعة الكلية القوة القابضة من جواهر السماويات كشيء واحد وهو المدبرة لكلية ما في الكون. وأنت تعلم هذه كلها بعد هذا. وأما الحركة الذاهبة إلى غير النهاية فإنها واحدة بالإتصال كما علمت في الطبيعيات. وأيضاً فإن الغرض في تلك الحركة ليس هو نفس الحركة بما هي هذه الحركة، بل الغرض هناك الدوام الذي نصفه بعد، وهذا الدوام معنى واحد إلا أنه متعلق الوجود بأشياء لنسلم أن عددها بغير نهاية. وأما حديث المقدمات والنتيجة، فيجب أن يعلم أن المراد بقولنا: إن العلة الغائية تتناهى وتقف، أن العلة الغائية التي بحسب فاعل واحد فعل واحد تتناهى، ولا يجوز أن يكون فاعل طبيعي أو اختياري يفعل فعلاً يروم به بعينه غاية بعد غاية من غير أن يقف عند نهاية. وأما المبدأ الواحد إذا كان قد يصدر عنه فعل بعد فعل، ويصير بحسب لك فعل فلعلاً غير الفاعل الذي

الصفحة    : 149

كان بحسب الفعل الآخر، وإن لم يكن بالذات والموضوع غيره، فيجوز أن تتكثر غاياته ويكون له بحسب كل كون منه فاعلاً غاية أخرى، وإن جاز أن يعتبر له كونه فاعلاً إلأى غير النهاية، كانت غاياته بغير نهاية. ثم النتيجة هي علة غاية تمامية للقياس الذي يكون على مطلوب محدود، وكل تركيب قياس فعل مبتدأ، وللنفس بحسب كل قياس فعل مستأنف يصدر عنه استحقاق أن يقال له فاعل مستأنف، وفي كل واحد من مرات كونه فاعلاً غاية محدودة بعينها لا يجوز أن تكون ذاهبة إلى غير النهاية إذ لكل قياس واحد نتيجة واحدة لا محالة. وأما الشك الذي يليه فينحل بأن يعلم أن الغاية تفرض شيئاً. وتفرض موجوداً، وفرق بين الشيء والموجود، وإن كان الشيء لا يكون إلا موجوداً، كالفرق بين الأمر ولازمه، وقد علمت هذا وتحققته فاستأنف تأمله من الإنسان. فإن للإنسان حقيقة هي حده وماهيته من غير شرط وجود خاص أو عام في الأعيان أو في النفس بالقوة شيء من ذلك أو بالفعل. وكل علة فإنها من حيث هي تلك العلة لها حقيقة وشيئية، فالعلة الغائية هي في شيئيتها سبب لأن تكون سائر العلل موجودة بالفعل عللاً، والعلة الغائية في وجودها مسببة لوجود سائر العلل عللاً بالفعل، فكأن الشيئية من العلة الغائية علة علة وجودها، وكأن وجودها معلول معلول شيئيتها، لكن شيئيتها لا تكون علة ما لم تحصل متصورة في النفس أو ما يجري مجراها، ولا علة للعلة الغائية في شيئيتها إلا علة أخرى غير العلة التي تحرك إليها أو يتحرك إليها. واعلم أن الشيء: يكون معلولاً في شيئيته. ويكون معلولاً في وجوده. فالمعلول في شيئيته مثل الاثنينية، فإنها في حد تكونها اثنينية معلولة واحدة. والمعلول في ظاهر وجوده ظاهر لا يخفى. وكذلك قد يكون للشيء أمر حاصل موجود في شيئيته مثل العددية للاثنينية. وقد يكون الأمر زائداً لأمر زائد على شيئيته مثل كون التربيع في الخشب أو الحجر. والأجسام الطبيعية علة لشيئية كثير من الصور والأعراض، أعني التي لا يتجدد إلا بها، وعلة لوجود بعضها دون شيئية كما يظن أن الحكم في التعليمات كذلك.

الصفحة    : 150

فقد سهل لك أن تفهم أن العلة الغائية في الشيئية قبل العلل الفاعلة والقابلة، وكذلك قبل الصورة من جهة ما الصورة علة صورية مؤدية إليها، وكذلك أيضاً العلة الغائية في وجودها في النفس قبل العلل الأخرى. أما في نفس الفاعل فلأنها توجد أولاً ثميتصور عنده الفاعلية، وطلب القابل، وكيفية الصورة. وأما في نفس غير الفاعل فليس لبعضها ترتيب على الآخر ضروري، فإذن في اعتبارالشيئية واعتبار الوجود في العقل ليست علة أقدم من الغائية بل هي علة لصيرورة سائر العلل عللاً، ولكن وجود العلل الأخرى بالفعل عللاً، علة لوجودها؛ وليست العلة الغائية علة على أنها موجودة، بل على أنها شيء فبالجهة التي هي علة، هي علة العلل؛ وبالجهة الأخرى هي معلولة العلل. هذا إذا كانت العلة الغائية في الكون، وأما إذا كانت العلة الغائية ليست في الكونولكن وجودها أعلى من الكون على ما سيتضح في موضعه فلا يكون شيء من العلل الأخرى علة لها ولا في الواحد الذي هو الحصول والوجود؛ فتكون إذن العلة الغائية ليست معلولة لسائر العلل لا لأنها علة غائية ولكن لأنها ذات كون؛ ولو كانت ليست ذات كون، لما كانت معلولة البتة، وأما إذا اعتبرت كونها علة غائية فتجدها علة لسائر العلل في أن تكون عللاً مثل أن تكون علة فاعلية وعلة قابلية وعلة صورية، لا في أن تكون كائنة وموجودة في أنفسها؛ فإذن الذي بالذات للعلة الغائية بما هي علة غائية، أن تكون علة لسائر العلل ويعرض لها من جهة أن معناها قد يكون واقعاً في الكون أن يكون معلولاً من جهة الكون. فقد تبين لك أنه كيف يكون الشيء علة ومعلولاً، على أنه فاعل وغاية، وهذا من المبادئ للطبيعيين. وأما البحث الذي بعد هذا فينكشف بما نقوله: إن الغاية التي تحصل في فعل الفاعل تنقسم إلى قسمين: غاية تكون صورة أو عرضاً في منفعل قابل للفعل. وغاية لا تكون صورة ولا عرضاً في منفعل قابل البتة فتكون في الفاعل لا محالة؛ لأنها إن لم تكن في الفاعل ولا في المنفعل، وليس يجوز أن يكون ما يقوم بنفسه جوهراً حدث من مادة ولا من مادة، فلا يكون لها وجود البتة. فمثال الأول صورة الإنسانية في المادة الإنسانية، فإنها غاية للقوة الفاعلة للتصوير في مادة الإنسان، وإليها يتوجه فعلها وتحريكها. ومثال الثاني الاستكنان، فإنه غاية لمستبني البيت الذي هو مبدأ لحركة كونه، وليس هو البتة صورة في البيت. ويشبه أن تكون غاية الفاعل القريب الملاصق لتحريك المادة صورة في المادة، وأن يكون ما ليس غايته صورة في المادة ليس مبدأ قريباً للحركة بما هو كذلك، فإن عرض أن يكون ما غايته صورة

الصفحة    : 151

في المادة المتعاطاة وما غايته معنى ليس صورة في تلك المادة شيئاً واحداً، فإن وحدته تكون بالعرض، مثل أن يكون الإنسان يبني بيتاً ليسكن فيه؛ فإنه من جهة ما هو طالب السكن داع إلى البناء وعلة أولى للبناء، ومن جهة ما هو بناء معلول لما هو مستكن، فيكون الغاية لما هو مستكن، غير الغاية لما هو بان. وإذا كان كذلك فيكون أيضاً في الإنسان الواحد المستكن الباني غايته بما هو مستكن غير غايته بما هو بان. وإذ قد تقرر هذا فنقول: أما القسم الأول فإن للغاية نسبة إلى أمور كثيرة هي قبلها في الحصول بالفعل والوجود؛ لأنها لها نسبة إلى الفاعل، ونسبة إلى القابل، وهي بالقوة؛ ونسبة إلى القابل، وهي بالفعل قابل، ونسبة إلى الحركة؛ فهي بقياسها إلى الفاعل غاية وبقياسها إلى الحركة نهاية وليست بغاية؛ لأن الغاية التي لأجلها الشيء ويؤمها الشيء لا يبطل مع وجودها الشيء، بل يستكمل بها الشيء والحركة تبطل مع انتهائها؛ وهي بقياسها إلى القابل المستكمل به وهو بالقوة خير يصلحه؛ لأن الشر هو العدم لكماله، والخير الذي يقابله هو الوجود والحصول بالفعل، وبالقياس إلى القابل وهو بالفعل صورة. وأما الغاية التي بحسب القسم الثاني فبيّن أنها ليست صورة للمادة المنفعلة، ولا هي نفس نهاية الحركة. وقد بان أنها تكون صورة أو عرضاً في الفاعل، ويكون لا محالة قد خرج بها الفاعل من الذي بالقوة إلى الذي بالفعل، والذي بالقوة هو لأجل العدم الذي يقارنه شر، والذي بالفعل هو الخير الذي يقابله. فتكون إذن هذه الغاية خيراً بالقياس إلى ذات الفاعل، لا غلى ذات القابل؛ فإذا نسبت إلى الفاعل من جهة ما هو مبدأ حركة وفاعل، كانت غاية، وإذا نسبت إليه من جهة ما هو خارج بها من قوة إلى الفعل ومستكمل، كانت خيراً إذا كان ذلك الخروج من القوة إلى الفعل في معنى نافع في الوجود أو بقاء الوجود، وكانت الحركة طبيعية أو اختيارية عقلية، وأما إن كانت تخيلية فليس يجب أن يكون خيراً حقيقياً، بل قد يكون خيراً مظنوناً، فيكون إذن كل غاية فهي باعتبار غاية، وباعتبار آخر خير إما مظنون وإما حقيقي، فهذا هو حال الخير والعلة التمامية. وأما الحال الجود والخير فيجب أن يعلم أن شيئاً واحداً له قياس إلى القابل المستكمل به، وقياس إلى الفاعل الذي يصدر عنه، وإذا كان قياسه إلى الفاعل الذي يصدر عنه، بحيث لا يوجب أن يكون الفاعل منفعلاً به أو بشيء يتبعه كان قياسه إلى الفاعل جوداً وإلى المنفعل خيراً؛ ولفظة الجود وما يقوم مقامها موضوعها الأول في اللغات إفادة المفيد لغيره فائدة لا يستعيض منها بدلاً، وأنه إذا استعاض منها بدلاً قيل له مبايع أو معاوض، وبالجملة معامل، ولأن الشكر والثناء والصيت وسائر الأحوال المستحسنة لا

الصفحة    : 152

تعد عند الجمهور من الأعواض، بل إما جواهر وإما أعراض يقررونها في موضوعات يظن أن المفيد غيره فائدة يربح منها شكراً هو أيضاً جواد وليس مبايعاً ولا معاوضاً، وهو في الحقيقة معاوض؛ لأنه أفاد واستفاد سواء استفاد عوضاً مالياً، إما من جنسه، وإما من غير جنسه، أو شكراً، أو ثناء يفرح به، أو استفاد أن صار فاضلاً محموداً، بأن فعل ما هو أولى وأحرى الذي لو لم يفعله لم يكن جميل الحال في فضيلته. لكن الجمهور لا يعدون هذه المعاني في الأعواض، فلا يمتنعون عن تسمية من يحسن إلى غيره بشيء من هذه الخيرات المظنونة أو الحقيقية التي يحصل له بذلك ثناء، جواداً؛ ولو فطنوا لهذا المعنى لم يسموه جواداً، إذ الواحد منهم إذا أحسن إليه لعوض وإن كان شيئاً غير المال، ففطن له، استخف المنة أو أنكرها وأبى أن يكون المحسن إليه جواداً إذ كان فعله لعلة، فإذا حقق وحصل معنى الجود كان إفادة الغير كمالاً في جوهره أو في أحواله من غير ان يكون بإزائه، عوض بوجه من الوجوه، فكل فاعل يفعل فعلاً لغرض يؤدي إلى شبه عوض فليس بجواد، وكل مفيد للقابل صورة أو عرضاً وله غاية أخرى يحصل بالخير الذي أفاده إياه فليس بجواد. بل نقول: إن الغرض والمراد في المقصود لا يقع إلا للشيء الناقص الذات؛ وذلك لأن الغرض إما أن يكون بحسب نفسه في ذاته، أو بحسب مصالح ذاته، أو بحسب شيء آخر في ذاته، أو في مصالحه. ومعلوم أنه إن كان بحسب ذاته أو بحسب مصالح ذاته أو بحسب شيء آخر في مصالحه، وبالجملة بحسب أمر يعود إلى ذاته بعائدة ما، فذاته ناقصة في وجودها، أو في كمالاتها. وإن كان بحسب شيء آخر فلا يخلو إما أن يكون صدور ذلك المعنى عنه إلى غيره بحيث كونه عنه له ولا كونه عنه بمنزلة، حتى إنه لو لم يصدر عنه ذلك الخير الذي هو خير بحسب غيره كانت حاله من كل جهة كحالة لو صدر عنه ذلك، فلم يكن ذلك أجمل وأحسن به وأجلب إليه لمحمدة أو غيرها من الأغراض الخاصة في ذاته ولا ضده غير الأجمل به وغير الجالب إليه محمدة أو غيرها من الأغراض المأثورة والنافعة، حتى لو لم يفعل ذلك لما ترك ما هو أولى والأحسن به، فيكون لا داعي له إلى ذلك ولا مرجح لأن يصدر عنه ذلك الخير إلى غيره على مقابلة. ومثل هذا إن لم يكن شيئاً يصدر ع طبع وعن إرادة ليست على سبيل إجابة داع بل على وجه آخر سيوقف عليه فلا يكون مصدراً لأمر من الأمور علة من العلل، بل يجب أن يكون الأولى بالفاعل القاصد بالقصد المذكور أن يكون إنما يفيض خيراً على غيره؛ لأنه أولى به، وضده غير الأولى به،

الصفحة    : 153

ويرجع آخر الأمر إلى غرض يتصل بذاته ويعود على ذاته ويرجع إلى ذاته، وحينئذ لا يكون وجود ذلك الغرض ولا وجوده بمنزلة واحدة بالقياس إلى ذاته وكمالات ذاته ومصالحها، بل يكون كونه عن ذاته كون الأغراض التي تختص بذاته فيعود إلى أن ذاته تنال بذلك كمالاً وحظاً خاصاً. وكذلك فإن سؤال اللم لا يزال يتكرر إلى أن يبلغ المبلغ الراجع إلى الذات. مثاله إذا قيل للفاعل: لم فعلت كذا؟ فقال، لينال فلان غرضاً؛ فيقال له: ولم طلبت أن ينال فلان غرضاً؟ فقال: لأن الإحسان حسن، لم يقف السؤال؛ بل قيل: ولم تطلب ما هو حسن؟ فإذا أجيب حينئذ بخير يعود إليه أو شر ينتفي عنه، وقف السؤال، فإن حصول الخير لكل شيء وزوال الشر عنه هو المطلوب لذاته مطلقاً. وأما الشفقة والرحمة والعطف على الغير والفرح بما يحسن إلى الغير، والغم بما يقع من التقصير وغير ذلك، فهي اغراض خاصة للفاعل، ودواع يذم عاملها أو تنحط به منزلة كماله. فالوجود إفادة الغنى في جميع الجهات عن الإفادة كمالاً فيكون ذلك المعنى بالقياس إلى القابل خيراً، وبالقياس إلى الفاعل جوداً، وكل إفادة كمال فإنه يكون بالقياس إلى القابل خيراً، سواء كان بعوض ولا يكون بالقياس إلى الفاعل جوداً إلا أن يكون لا بعوض. فهكذا هو البيان لحقيقة الخير والجود. وقد تكلمنا عن العلل وأحوالها، وبقي أن نكمل فيها القول فنقول: إن هذه العلل الأربع وإن كان يظن يظن بها أنها تجتمع في كثير من الأمور الموجودة في العلوم، فإن الأمور التي تتحرك والتعليميات لا يظن أن فيها فاعلاً أي مبدأ حركة، ولا أيضاً يظن أن فيها غاية لأن الغاية يظن أنها للحركة، ولا أيضاً لها مادة بل إنما يبحث عن صورها، فلذلك استخف بها من استخف، قائلاً: إنها لا تدل على علة تمامية، فالنظر فيها لهذا العلم لا أن علماً واحداً يتناولها، كما للمتقابلات فليست متقابلة، ولكن لأن علماً واحداً بالوجه الذي به هذا العلم واحد يشرح أمرها. وذلك لأنا وإن سلمنا أن هذه العلل لا تجتمع في العلوم كلها حتى تكون من الأمور العامة الواقعة في موضوعات للعلوم مختلفة، فإنها أيضاً قد توجد في علوم متفرقة مختلفة، ولو كانت أيضاً في علم واحد لم يكن في منة صاحب ذلك العلم الواحد كالطبيعي مثلاً الذي في صناعته هذه المبادئ كلها، أن يبينها؛ لأنها مبادئ للعلم الطبيعي ويتكلم فيما يعرض لها على اساس أنه ليس الأمر كذلك. فليس كل فاعل مبدأ حركة على ما قيل، فالأمور التعليمية في طبائعها إنما يجب وجودها بغيرها، وطبائعها لا تفارق المادة وإن جردت عن المادة في الوهم فقد يلزمها في الوهم من القسمة ومن التشكل ما يكون بسبب المادة، ويكاد أن تكون المقادير هيولات قريبة الأشكال المقدارية والوحدات أيضاً للعدد، والعدد لخواص العدد،

الصفحة    : 154

فهذه يوجد لها مبدأ فاعلي ومبدأ قابلي وحيث كانا، كان تمام، والتمام هو الاعتدال، والتحديد والترتيب التي بها يكون لها ما يكون من الخواص، وإنما هي لأجل أن يكون على ما هي عليه من الترتيب والاعتدال والتحديد، فإن منع أن يكون هذا تماماً أي غاية حركة فلا يمنع أن يكون خيراً ويكون علة لأنه خير، وهناك أيضاً إنما كان علة لأنه خير ثم كان اتفق لذلك الخير إن كان تماماً لحركة، إذ كان السبيل إليه بحركة. ولولا أن الخواص واللواحق التي لهذه هي غايات تتؤدي إليها هيئاتها لما كان الطالب يطلبها في المواد لتلك الغايات؛ فإن الصانع يحرك المادة إلى أن تكون مستديرة، ولا تكون الغاية هي الاستدارة نفسها بل شيء من خواصها ولواحقها، فتطلب الدائرة لها، فقد صارت هذه العلل أيضاً مشتركة فيجب أن ينظر فيها صاحب هذا العلم، وليس ينظر في المشترك فقط بل ينظر فيما يخص علماً علماً، لكنه مبدأ لذلك العلم وعارض للمشترك؛ فإن هذا العلم قد ينظر في العوارض المخصصة للجزئيات إذا كانت لذاتها أولاً وكانت لم تتأدى بعد إلى أن تكون أعراضاً ذاتية لموضوعات العلوم الجزئية، ولو كانت هذه علوماً مفردة لكان أفضلها علم الغاية وكان يكون ذلك هو الحكمة. والآن فذلك أيضاً أفضل أجزاء هذا العلم، أعني العلم الناظر في العلل الغائية للأشياء.

الصفحة    : 155

المقالة السابعة

وفيها ثلاثة فصول

الفصل الأول   (أ)

فصل في لواحق الوحدة من الهوية وأقسامها ولواحق الكثرة من الغيرية والخلاف وأصناف التقابل المعروفة.   

يشبه أن يكون قد استوفينا الكلام بحسب غرضنا هذا في الأمور التي تختص بالهوية من حيث هي هوية أو تلحقها، ثم الواحد والموجود قد يتساويان في الحمل على الأشياء حتى أن كل ما يقال إنه موجود باعتبار يصح أن يقال له أنه واحد باعتبار، وكل شيء فله وجود واحد لذلك ربما ظن أن المفهوم منهما واحد وليس كذلك، بل هما واحد بالموضوع، أي كل ما يوصف بهذا يوصف بذاك، ولو كان المفهوم من الواحد من كل جهة مفهوم الموجود لما كان الكثير من حيث هو كثير موجوداً، كما ليس واحداً، وإن كان يعرض له الواحد أيضاً، فيقال للكثرة إنها كثرة واحدة ولكن لا من حيث هي كثرة. فحري بنا أن نتكلم أيضاً في الأمور التي تختص بالوحدة ومقابلاتها أي الكثرة مثل الهوية والمجانسة والموافقة والمساواة والمشابهة ومقابلاتها، بل الكلام في الجانب المقابل لها أكثر، فإن الوحدة متشابهة وما يضادها متفنن متغير متشعب، فالهوية هو أن يحصل للكثرة وجه وحدة من وجه آخر، فمن ذلك ما بالعرض وهو على قياس الواحد بالعرض فكما يقال هناك واحد يقال ههنا هو هو، وما كان هو هو في الكيف فهو شبيه، وما كان هو هو في الكم فهو مساو، وما كان هو هو في الإضافة يقال له مناسب، وأما الذي بالذات فيكون في الأمور التي تقوم الذات، فما كان هو هو في الجنس قيل مجانس، وما كان هو هو في النوع قيل مماثل. وأيضاً ما كان هو هو في الخواص يقال له مشاكل. ومقابلات هذه معروفة من المعرفة بهذه. ومقابل الهو هو على الاطلاق الغير. والغير منه في الجنس ومنه في النوع، وهو بعينه الغير بالفصل ومنه غير بالعرض، ويجوز أن يكون الغير بالعرض شيئاً واحداً وهو غير لنفسه من وجهين. وأما الآخر فاسم خاص في الاصطلاح للمخالف بالعدد، والغير يفارق المخالف مخالف بشيء، والغير قد يغاير بالذات، والمخالف أخص من الغير وكذلك الآخر. والأشياء المتغايرة بالجنس الأعلى إذا كانت مما يحب المواد فنفس تغايرها بالجنس الأعلى لا يوجب أن لا يجتمع في مادة واحدة.

الصفحة    : 156

وأما المغايرات التي تختلف بالأنواع تحت الأجناس القريبة التي دون الأعلى، فيستحيل البتة أن تجتمع في موضع واحد، وكل الأشياء التي لا تجتمع في موضع واحد من جهة واحدة في زمان فإنها تسمى متقابلات وقد علمت في المنطق عددها وخاصياتها والقنية، والعدم منها، تدخل بوجه تحت التناقض، والأضداد تدخل بوجه تحت العدد والقنية. ووجه دخول العدم تحت السالبة، غير وجه دخول الضد تحت العدم. ولكن يجب أن تعلم أن العدم يقال على وجوه: فيقال لما من شأنه أن يكون لموجود ما وليس له؛ لأنه ليس من شأنه أن يكون له، وإن كان من شأنه أن يوجد لأمر ما كالبصر فإنه من شأنه أن يكون لشيء ما، لكن الحائط ليس من شأنه أن يكون البصر له. ويقال لما من شأنه أن يكون لجنس الشيء وليس للشيء ولا من شأنه أن يكون له جنساًقريباً أو بعيداً. ويقال لما من شانه أن يكون لنوع الشيء وليس من شأنه أن يكون لشخصه كالأنوثة. ويقال لما من شأنه أن يكون للشيء وليس له مطلقاً أو في وقته أو لأن وقته لم يجيء كالمرد أو لأن وقته قد فات كالدرد؛ والضرب الأول يطابق السالبة مطابقة شديدة وأما الوجوه الأخرى فيخالفها، ويقال عدم لكل فقد بالقسر، ويقال عدم لما يكون قد فقد الشيء لا بتمامه، فإن الأعور لا يقال له أعمى ولا هو أيضاً بصير مطلق لكن هذا إنما يكون بالقياس إلى الموضوع البعيد أعني الإنسان لا العين. ثم إن العدم يحمل عليه السلب، ولا ينعكس. وأما العدم فلا يحمل على الضد لأنه: ليس المرارة عدم الحلاوة، بل هي شيء آخر مع عدم الحلاوة؛ فإن العدم وحده قد يكون في المادة وقد يكون مصاحباً لذات توجب في المادة عدم ذات أخرى أولا يكون إلا مع العدم. وهذه هي الأضداد، وليس السبب في تقابلها تغاير الأجناس وقد بينا ذلك؛ بل السبب في ذلك أن ذواتها في حد أنفسها وحد فصولها تتمانع عن الاجتماع وتتفاسده، وإذا ليس شيء من الأجناس العالية بمتضادة فيجب أن تكون الأضداد الحقيقية واقعة تحت جنس، وأن يكون جنساً واحداً، فيجب أن يكون الأضداد تتخالف بالفصول، وتكون الأضداد من جملة الغير في الصورة مثل السواد والبياض تحت اللون، والحلاوة والمرارة تحت الذوق. وأما الخير والشر فليسا بالحقيقة أجناساً عالية ولا الخير يدل على معنى متواطئ ولا الشر، ومع ذلك فالشر يدل في كل وجه ما على عدم الكمال الذي له، والخير على وجوده؛ فبينهما مخالفة العدم والوجود، وأما الراحة والألم وأمثال ذلك فإنها تشترك في غير جنس الخير والشر، وإنها تشترك في المحسوس أو في المتخيل وغير ذلك، فليست أنواعاً للخير والشر ويشبه أن يكون أهل الظاهر من النظر

الصفحة    : 157

عمدوا إلى الأشياء التي هي متضادة ولها أجناسقريبة تدخل فيها، وطبقة منها موافقة للحاسة أو العقل وطبقة مخالفة وطبقة منها موافقة للإيجاب، والأخرى للفصل، وطبقة مخالفة لأيهما كان، فالتقطوا منها المعنى الموافق والمعنى المخالف فجعلوا أحدهما جنساً لطبقة، والآخر لطبقة أخرى، وليس الواجب كذلك بل دلالة الموافقة والمخالفة دلالة اللوازم لأنها ليست للأشياء في أنفسها بل بالإضافة. ثم إن الأمور الموافقة والمخالفة إذا جعلا كطبيعتين وجد لهما أشياء يصلح أن تجعل بحسب الاعتبارات المختلفة كالأجناس لها فغنها تدخل في جملة الأفعال والإنفعالات من جهة، وفي الكيفيات من جهة أخرى، وفي المضافات باعتبارات أخرى، فإنها من حيث هي صادرة من أشياء هي أفعال، ومن حيث هي حاصلة عن أشياء في أشياء هي انفعالات، ومن حيث يتقرر عنها هيآت قارة في حواملها فهي من الكيفيات، ومن حيث أن الموافق موافق لموافقة فهي من المضاف، فإذا كان اسم الموافقة والمخالفة مصروفاً إلى أحد هذه المعاني بعينه دخل في الجنس الخاص له، لست أقول إن شيئاً واحداً يدخل في أجناس مختلفة فهذا مما نحرمه، بل كل اعتبار هو شيء آخر، وهو الذاخل في جنس آخر ولا هذه بالحقيقة أجناس بل كأجناس، لأنها أمور مركبة من معنى ومن فعل أو إنفعال أو إضافة أو غير ذلك، ويشبه أن تكون في ذواتها كيفيات وتكون سائر الاعتبارات تلزمها، ثم مع الاجتهاد كله في أن تجعل الموافقة والمخالفة مما يسندها إلى الأجناس العالية فإن لتلك الطبائع الأضداد التي جعلت طبيعتين أجناساً حقيقية غير الموافقة والمخالفة هي تدخل فيها وقد علمت هذا في موضعه. وأما القول بوجود الضدين في جنسين متضادين مثل الشجاعة والتهور فهو أيضاً قول متوسع فيه، فإن الشجاعة في نفسها كيفية، وباعتبار ما تكون فضيلة، وكذلك التهور في نفسه كيفية، وباعتبار ما يكون رذيلة، فالفضيلة والرذيلة ليستا من الأجناس لهذه الكيفيات، كما أن الطيب وغير الطيب ليسا جنسين للروائح والمذوقات بل لوازم لها بحسب اعتبارات تلحقها. فالشجاعة في ذاتها لا تضاد التهور والجبن وإنما المتضادان هما التهور والجبن الداخلان في باب الملكة من الكيف، وأما الشجاعة فتقابل اللا شجاعة كما قلنا في المساوي وما يقابله، ثم اللا شجاعة كالجنس للتهور والجبن، فإذا ضادت الشجاعة التهور فتضاده لا لطبيعة ذاتها بل إنما تضاده لعارض فيها هو أن هذه محمودة وفضيلة ونافعة. وذلك مذموم ورذيلة وضار، فالأضداد بالحقيقة هي التي تتفق في الجنس وتتفق في الموضوع الواحد، فمنها ما يكون الموضوع الواحد يقبل الضدين جميعاً من غير استحالة في غيرهما، ومنها ما يكون الموضوع يستحيل أولاً في غيرهما حتى يعرض له أحدهما فإن مزاجاً ما يحلو

الصفحة    : 158

به الشيء، وإذا أمر احتاج إلى مزاج آخر وليس كذلك الحال في استحالة الحار إلى البارد. ولما كان الضدان يكونان في الجنس فلا يخلو إما أن يكون عدم كل واحد منهما في طبيعة الجنس يلزمه الآخر فقط فيكون لا واسطة بينهما، إما أن يكون ليس كذلك. فلا يخلو: إما أن يكون مخالفة تلك الكثرة للواحد منهما مخالفة واحدة ليس مخالفة بعضها أقل أو أكثر أو يكون ذلك مختلفاً، فإن كان مختلفاً في ذلك فيكون أقرب إلى مشابهته والأقرب إلى مشابهته فيه شيء من صورته وبعضها في غاية الخلاف له فيكون الضد ذلك، ويكون التضاد غاية الخلاف للمتقابلات المتفقة في الجنس والمادة، وذلك لأنه يصدق أن يقول غاية الخلاف من حيث كان متوسطاً وحيث لم يكن، لأنه إن كان اثنان كل واحد منهما في غاية البعد عن الآخر فالتضاد خلاف تام، ولذلك فإن ضد الشيء واحد. وأما إن جعل غاية الخلاف والبعد قد يقع بين الواحد وبين أخرين اثنين متخالفين فذلك محال، لأن التخالف بين الواحد وبينهما إما أن يكون في معنى واحد من جهة واحدة فتكون المخالفات للواحد من جهة واحدة متفقة في صورة الخلاف، ويكون نوعاً واحداً لا أنوعاً كثيرة؛ وإما أن يكون من جهات فيكون ذلك وجوهاً من التضاد لا وجهاً واحداً، فلا يكون ذلك بسبب الفصل الذي إذا لحق الجنس فعل ذلك النوع من غير انتظار شيء، وخصوصاً في البسائط، وقد علمت هذا، بل يكون من جهة لواحق وأحوال تلزم النوع. وكلامنا في نمط واحد من التضاد وفي التضاد الذي بالذات ليس نعني بقوله بالذات الجوهر والموضوع، بل نعني به ما يقع به التضاد ولو كان كيفية أيضاً، فقد بان أن ضد الواحد واحد. والمتوسط في الحقيقة هو الذي مع أنه يخالف يشابه، فحينئذ يجب أن يكون الانتقال إليه أولاً في التغيير إلى الضد، فإن الأسود لذلك يغبر أو يخضر أو يحمر أولاً ثم يبيض، وقد يعرض للأضداد متوسطات بسبب الطرفين، فربما كان ذلك لعدم الاسم، والمتوسط متوسط، ونعني به متوسطاً حقيقياً مثل اللا حار واللا بارد، وإذا لم يكن للفاتر اسم فمثل هذا أيضاً يكون في الجنس، وإذا أخرج عن الجنس كقوله لا خفيف ولا ثقيل فذلك ليس بالمتوسط الحقيقي إنما ذلك متوسط باللفظ، وأما الملكة والعدم فلا يكون لهما في الموضوع متوسط لأنهما هما الموجبة والسالبة بعينهما مخصصة بجنس أو موضوع، وأيضاً في وقت وحال، فتكون نسبة الملكة والعدم إلى ذلك الشيء والحال نسبة النقيضين إلى الوجود كله، وإذ لا واسطة بين النقيضين فكذلك لا واسطة بين العدم والملكة.

الفصل الثاني   (ب)

الصفحة    : 159

فصل مذاهب الحكماء الأقدمين في المثل في اقتصاص مذاهب الحكماء الأقدمين في المثل ومبادئ التعليميات والسبب الداعي إلى ذلك وبيان أصل الجهل الذي وقع لهم حتى زاغوا لأجله قد حان لنا أن نتجرد لمناقضة آراء قيلت في الصور والتعليمات والمبادئ المفارقة والكليات مخالفة لأصولنا التي قد قررناها، وإن كان في صحة ما قلناه وإعطائنا القوانين التي أعطيناها تنبيه للمستبصر على حل جميع شبههم وإفسادها ومناقضات مذاهبهم، لكنا مستظهرون بتكلف ذلك بأنفسنا لما نرجو أن يجري في ذلك من فوائد نذكرها من خلال مقاومتنا إياهم يكون قد ذهب علينا فيما قدمناه وشرحناه. ونقول: إن كل صناعة فإن لها نشأة تكون فيها نيئة فجة غير أنها تنضج بعد حين ثم إنها تزداد وتكمل بعد حين آخر؛ ولذلك كانت الفلسفة في قديم ما اشتغل بها اليونانيون خطبية، ثم خالطها غلط وجدل، وكان السابق إلى الجمهور من أقسامها هو القسم الطبيعي، ثم أخذوا ينتبهون للتعليمي، ثم الإلهي وكانت لهم انتقالات من بعضها إلى بعض غير سديدة، وأول ما انتقلوا عن المحسوس إلى المعقول تشوشوا فظن قوم أن القسمة توجب شيئين في كل شيء؛ كإنسانين في معنى الإنسانية: إنسان فاسد محسوس، وإنسان معقول مفارق أبدي لا يتغير، وجعلوا لكل واحد منهما وجوداً، فسموا الوجود المفارق وجوداً مثالياً، وجعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة مفارقة هي المعقولة، وإياها يتلقى العقل؛ إذ كان المعقول أمراً لا يفسد، وكل محسوس من هذه فهو فاسد، وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإياها تتناول. وكان المعروف بافلاطون ومعلمه سقراط يفرطان في هذا الرأي ويقولان إن للإنسانية معنى واحد موجود يشترك فيه الأشخاص ويبقى مع بطلانها، وليس هو المعنى المحسوس المتكثر الفاسد فهو إذن المعنى المعقول المفارق. وقوم آخرون لم يروا لهذه الصورة مفارقة بل لمبادئها، وجعلوا الأمور التعليمية التي تفارق بالحدود مستحقة للمفارقة بالوجود، وجعلوا ما لا يفارق بالحد من الصور الطبيعية لا يفارق بالذات، وجعلوا الصور الطبيعية إنما تتولد بمقارنة تلك الصور التعليمية للمادة؛ كالتقعير فإنه معنى تعليمي، فإذا قارن المادة صار فطوسة، وصار معنى طبيعياً، وكان للتقعير من حيث هو تعليمي أن يفارق وإن لم يكن له من حيث هو طبيعي أن يفارق. وأما افلاطون فأكثر ميله إلى أن الصور هي المفارقة، فأما التعليميات فإنها عنده معان بين الصور والماديات؛ فإنها وإن فارقت في الحد فليس يجوز عنده أن يكون بعد قائم لا في مادة؛ لأنه إما أن يكون

الصفحة    : 160

متناهياً، أو غير متناه، فإن كان غير متناه، وذلك يلحقه لأنه مجرد طبيعة، كان حينئذ كل بعد غير متناه، وإن لحقه لأنه مجرد عن المادة كانت المادة مفيدة للحصر والصورة، وكلا الوجهين محال؛ بل وجود بعد غير متناه محال، وإن كان متناهياً فانحصاره في حد محدود وشكل مقدر ليس إلا لإنفعال عرض له من خارج، لا لنفس طبيعته، ولن تنفعل الصورة إلا لمادتها، فتكون مفارقة وغير مفارقة، وهذه محال فيجب أن تكون متوسطة. وأما الآخرون فإنهم جعلوا مبادئ الأمور الطبيعية أموراً تعليمية؛ وجعلوها المعقولات بالحقيقة، وجعلوها المفارقات بالحقيقة، وذكروا أنهم إذا جردوا الأحوال الجسمانية عن المادة لم يبق إلا أقطار وأشكال وأعداد؛ وذلك لأن المقولات التسع فإن الكيفيات الإنفعالية والإنفعالات منها والملكات والقوة واللا قوة أمور تكون لذوات الإنفعالات والملكات والقوى، وأما الإضافة فما يتعلق بأمثال هذه فهي أيضاً مادية؛ فيبقى الأين وهو كمي، ومتى وهو كمي، وأما الفعل والانفعال فهو مادي، فيحصل من هذا أن جميع ما ليس بكمي فهو متعلق بالمادة، والمتعلق بالمادة مبدؤه ما ليس متعلقاً بالمادة، فتكون التعليميات هي المبادئ، وتكون هي المعقولات بالحقيقة، وسائر ذلك غير معقول؛ ولذلك فليس واحد يحد اللون والطعم وغير ذلك حداً يعبأ به، إنما هو نسبة إلى قوة مدركة فلا يعقلها عندهم العقل إنما يتخيلها الخيال تبعاً للحس. قالوا واما الأعداد والمقادير وأحوالها فهي معقولة لذاتها، فهي إذن مفارقة. وقوم جعلوها مبادئ ولم يجعلوها مفارقة، وهم أصحاب فيثاغورث، وركبوا كل شي من الوحدة والثنائية، وجعلوا الوحدة في حيز الخير والحصر، وجعلوا الثنائية في حيز الشر وغير الحصر. وقوم جعلوا المبادئ الزائد والناقص والمساوي، وجعلوا المساوي مكان الهيولي؛ إذ عنه الاستحالة إلى الطرفين. وقوم جعلوه مكان الصورة؛ لأنها المحصورة المحدودة ولا حد للزائد والناقص. ثم تشعبوا في أمر تركيب الكل من التعليميات، فجعل بعضهم العدد مبدأ للمقدار، فركب الخط من وحدتين، والسطح من أربع وحدات. وبعضهم جعل لكل واحد منهما حيزاً على حدة، وأكثرهم على أن العدد هو المبدأ، والوحدة هي المبدأ الأول، وأن الوحدة ولهوية متلازمتان أو مترادفتان، وقد رتبوا العدد وإنشاؤه من الوحدة على وجوه ثلاثة: أحدها على وجه العدد العددي.

الصفحة    : 161

والثاني على وجه العدد التعليمي. والثالث على وجه التكرار. أما وجه العدد العددي فجعلوا الوحدة في أول الترتيب، ثم الثنائية، ثم الثلاثية. وأما العدد التعليمي: فجعلوا الوحدة مبدأ، ثم الثاني، ثم الثالث، فرتبوا العدد على توالي وحدة وحدة. وأما الثالث فجعلوا إنشاء العدد بتكرار وحدة بعينها لا باضافة أخرى إليها. والعجب من طائفة فيثاغورثية ترى أن العدد يتألف من وحدة وجوهر؛ إذ الوحدة لا تقوم وحدها، فإنها وحدة شيء، والمحل جوهر، وحينئذ يكون التركيب، فتكون الكثرة. ومن هؤلاء من يجعل لكل رتبة تعليمية من العدد صورة مطابقة لصورة موجودة، فيكون عند التجريد رتبة عدد وعند الخلط بالمادة صورة إنسان أو فرس، وذلك للمعنى الذي أشرنا إليه فيما سلف، وقوم يرون أن بين هذه الصور العددية وبين المثل فرقاً، ومن هؤلاء من جعلها متوسطات على ما سلف قبل. وأكثر الفيثاغورسيين يرون أن العدد التعليمي هو مبدأ ولكنه غير مفارق، ومنهم من يجوز تركيب الصور الهندسية من الآحاد فيمتنع تصنيف المقادير، ومنهم من لا يرى بأساً بأن تكون التعليميات مركبة من أعداد يعرض لها بعد التركيب أن تنقسم إلى غير نهاية، ومنهم من يجعل الصور العددية مباينة للصور الهندسية. وأنت إذا فكرت وجدت أصول أسباب الغلط في جميع ما ضل فيه هؤلاء القوم خمسة: أحدها، ظنهم أن الشيء إذا جرد من حيث لم يقترن به اعتبار غيره كان مجرداً في الوجود عنه، كأنه إذا التفت إلى الشيء وحده ومعه قرين التفاتاً خلا الالتفات إلى قرينه فقد جعل غير مجاور لقرينه، وبالجملة إذا نظر إليه لا بشرط المقارنة فقد ظن أنه نظر إليه بشرط غير المقارنة، حتى إنما صلح أن ينظر فيه؛ لأنه غير مقارن بل مفارق، فظن لهذا أن المعقولات الموجودة في العالم لما كان العقل ينالها من غير أن يتعرض لما يقارنها أن العقل ليس ينال إلا المفارقات منها وليس كذلك، بل لكل شيء من حيث ذاته اعتبار، ومن حيث إضافته إلى مقارن اعتبار آخر. وإنا إذا عقلنا صورة الإنسان مثلاً من حيث هي صورة الإنسان وحده فقد عقلنا موجوداً وحده من حيث ذاته، ولكن حيث عقلناه فليس يجب أن يكون وحده مفارقاً فإن المخالط من حيث هو هو غير مفارق على جهة السلب لا على جهة العدول الذي يفهم منه المفارقة بالقوام وليس يعسر علينا أن نقصد بالإدراك أو بغير ذلك من الأحوال واحداً من الاثنين ليس من شأنه أن يفارق صاحبه قواماً وإن فارقه

الصفحة    : 162

حداً ومعنى وحقيقة؛ إذ كانت حقيقته ليست مدخولة في حقيقة الآخر، إذ المعية توجب المقارنة لا المداخلة في المعاني. والسبب الثاني، غلطهم في أمر واحد؛ فإنا إذا قلنا إن الإنسانية معنى واحد لم تذهب فيه إلى أنه معنى واحد هو بعينه يوجد في كثيرين فيتكثر بالإضافة كأب واحد يكون لكثيرين، بل هو كالآباء لأبناء متفرقين، وقد استقصينا القول في هذا في مواضع أخر.فهؤلاء لم يعلموا أنا نقول لأشياء كثيرة إن معناها واحد، ونعني بذلك أن أرى واحد منها لو توهمناه سابقاً إلى مادة هي بالحالة التي بالأخر، كان يحصل منه هذا الشخص الواحد، وكذلك أي واحد منها سبق إلى الذهن منطبعاً فيه كأن يحصل منه هذا المعنى الواحد، وإن كان قد سبق واحد تعطل الآخر فلم يعمل شيئاً كالحرارة التي لو طرأت على مادة فيها رطوبة أثرت معنى آخر أو تعرضت لذهن سبق إليه معنى رطوبة ومعقولها لفعلت معنى آخر، ولو أنهم فهموا معنى الواحد في هذا لكفاهم. ذلك ما أضلهم. والثالث جهلهم بأن قولنا: إن كذا من حيث هو كذا شيء آخر مباين في الحد له، قول متناقض؛ كقول المسئول الغالط إذا سئل هل الإنسان من حيث هو إنسان، إنسان واحد أو كثير؟ فقال: واحد أو كثير؛ فإن الإنسان من حيث هو إنسان، إنسان فقط، وليس هو من حيث هو إنسان، شيئاً غير الإنسان. والوحدة والكثرة غير الإنسان، وقد فرغنا أيضاً من تفهيم هذا. والرابع، ظنهم أنا إذا قلنا: إن الإنسانية توجد دائماً باقية، أن هذا القول هو قولنا إنسانية واحدة أو كثيرة، وإنما يكون هذا لو كان قولنا الإنسانية وإنسانية واحدة أو كثيرة معنى واحداً، وكذلك لا يجب أن يحسبوا أنهم إذا سلموا لأنفسهم أن الإنسانية باقية فقد لزمهم أن الإنسانية الواحدة بعينها باقية حتى يضعوا إنسانية أزلية. والخامس ظنهم أن الأمور المادية إذا كانت معلولة يجب أن تكون عللها أي أمور يمكن أن تفارق؛ فإنه ليس إذا كانت الأمور المادية معلولة وكانت التعليميات مفارقة يجب أن تكون عللها التعليميات لا محالة، بل ربما كانت جواهر أخرى ليست من المقولات التسع؛ ولم يتحققوا كنه التحقيق أن الهندسيات من التعليميات لا تستغني حدودها عن المواد مطلقاً، وإن استغنت عن نوع ما من المواد، وهذه أشياء يشبه أن يكفي في تحقيقها أصول سلفت لنا، فلنتجرد للقائلين بالتعليميات.

الفصل الثالث   (ج)

الصفحة    : 163

فصل في إبطال القول بالتعليميات والمثل

فنقول:إنه إن كان في التعليميات تعليمي مفارق للتعليمي المحسوس، فإما أن لا يكون في المحسوس تعليمي البتة أو يكون؛ فإن لم يكن في المحسوس تعليمي وجب أن لا يكون مربع ولا مدور ولا معدود محسوس، وإذا لم يكن شيء من هذا محسوساً فكيف السبيل إلى إثبات وجودها بل إلى تخيلها، فإن مبدأ تخيلها كذلك من الوجود المحسوس حتى لو توهمنا واحداً لم يحس شيئاً منها لحكمنا أنه لا يتخيل بل لا يعقل شيئاً منها، على أنا أثبتنا وجود كثير منها في المحسوس. وإن كانت طبيعة التعليميات قد توجد أيضاً في المحسوسات فيكون لتلك الطبيعة بذاتها اعتبار، فتكون ذاتها إما مطابقة بالحد والمعنى للمفارق أو مباينة له؛ فإن كانت مفارقة له فتكون التعليميات المعقولة أموراً غير التي نتخيلها ونعقلها ونحتاج في إثباتها إلى دليل مستأنف، ثم نشتغل بالنظر في حال مفارقتها فلا يكون ما عملوا عليه من الإخلاد إلى الاستغناء عن إثباتها والاشتغال بتقديم الشغل في بيان مفارقتها عملاً يستنام إليه. وإن كانت مطابقة مشاركة له في الحد فلا يخلو: إما أن تكون هذه التي في المحسوسات إنما صارت فيها لطبيعتها وحدها، وكيف يفارق ما له حدها؟ وإما أن يكون ذلك أمراً يعرض لها لسبب من الأسباب، وتكون هي معرضة لذلك، وحدودها غير مانعة عن لحوق ذلك إياها، فيكون من شأن تلك المفارقات أن تصير مادية ومن شأن هذه المادية أن تفارق، وهذه هو خلاف ما عقدوه وبنوا عليه أصل رأيهم. وأيضاً فإن هذه المادة التي مع العوارض إما أن تحتاج إلى المفارقات أو لا تحتاج إليها، فإن كانت تحتاج إلى المفارقات، فإنما تحتاج إلى مفارقات غيرها لطبائعها، فتحتاج المفارقات أيضاً إلى أخرى، وإن كانت هذه إنما تحتاج إلى المفارقات لما عرض لها حتى لو لا ذلك العارض لكانت لا تحتاج إلى المفارقات البتة، ولا كان يجب أن يكون للمفارقات وجود البتة، فيكون العارض للشيء يوجب أمر أقدم منه وغني عنه، ويجعل المفارقات محتاجة إليها حتى يجب لها وجود. فإن لم يكن الأمر كذلك، بل كان وجود المفارقات يوجب وجودها مع هذا العارض فلم يوجب العارض في غيرها ولا يوجب في أنفسها والطبيعة متفقة، وإن كانت غير محتاجة إلى المفارقات فلا تكون المفارقات عللاً لها بوجه من الوجوه ولا مبادئ أولى ويلزم أن تكون لها هذه المفارقات ناقصة؛ فإن هذا المفارق للمادة تلحقه من القوى والأفاعيل ما لا يوجد للمفارق، وكم الفرق بين شكل إنساني ساذج وبين شكل إنساني حي كامل.

الصفحة    : 164

والعجب منهم إذ يجعلون الخط متجرداً في قوامه عن السطح، والنقطة عن الخط، فما الذي يجمعها في الجسم الطبيعي؟ أطبيعة واحدة منها توجب ذلك؟ فكذلك يجب أن يجمعهما لو كان مفارقة أو قوة أخرى نفس أو عقل أو باري، ثم الخط كيف يتقدم الجسم التام تقدم العلل وليس هو صورته، فليس الخط صورة جسمية ولا هو فاعله ولا هو غايته، بل إن كان ولا بد فالجسم التام الكامل في الأبعاد هو غاية الخط وغيره ولا هو هيولاه، بل هو شيء يلحقه من جهة ما يتناهى وينقطع، وأيضاً يلزم القائل بالأعداد أن يجعل التفاوت بين الأمور بزيادة كثرة ونقصانها، فيكون الخلاف بين الإنسان والفرس أن أحدهما أكثر والآخر أقل، والأقل دائماً موجود في الأكثر فيكون في أحدهما الآخر، فيلزم من ذلك دخول بعض المتباينات تحت بعض وهو خلف فاسد. ومن هؤلاء من يجعل الوحدات متساوية فيكون ما خالف به الأكثر الأقل جزءاً من الأقل، لكن منهم من يجعل الوحدات أيضاً غير متساوية؛ فإن كانت تختلف بالحد فليست وحدات إلا باشتراك الاسم وإن كانت لا تختلف بالحد لكنها بعد اتفاق في الحد تزيد وتنقص، فإما أن يكون زيادة الزائد منها بشيء فيها بالقوة كالمقادير، فتكون الوحدة مقداراً لا مبدأ مقدار، وإن كانت زيادة الزائد بشيء فيها بالفعل كالأعداد فتكون الوحدة كثرة. ويلزم القائلين بالعدد العددي المركبين منها صور الطبيعيات أن يعلموا أحد شيئين: إما أن يجعلوا للعدد المفارق الموجود نهاية، فيكون تناهيه عند حد من الحدود دون غيره من الاختراع الذي لا محصول له. أو يجعلوه غير متناه فيجعلوا صور الطبيعيات غير متناهية، وهؤلاء يجعلون الوحدة الأولى غير كل وحدة من الوحدتين اللتين في الثنائية، ثم يجعلون الثنائية الأولى غير الثنائية التي في الثلاثية وأقدم منها، وكذلك فيما بعد الثلاثية، وهذا محال؛ فإنه ليس بين الثنائية الأولى، والثنائية التي في الثلاثية فرق في الذات بل في عارض، وهو مقارنة شيء له. ومقارنة الشيء للشيء لا يجوز أن تبطل ذاته، ولو أبطل ذاته لم يكن مقارناً، لأن المقارن مقارن للموجود، وأما المفسد فغير مقارن، وكيف تكون الوحدة مفسدة للوحدتين إلا بإفسادها واحداً واحداً منهما، وكيف تكون الوحدة مفسدة لوحدة؟ ولو أفسدتها لم تكن ثنائية، بل الثنائية بمقارنة الوحدة إياها لا تصير مباينة في الذات للثنائية بوجودها غير مقارنة للوحدة؛ فإن الوحدة لا تتغير بالمقارنة حالاً، بل تجعل الكل أكثر وتذر الجزء على حاله. وبالجملة إذا كانت الوحدات متشاكلة والتركيب واحداً كانت الطبيعتان متفقتين، إلا أن يعرض شيء يغير ويفسد، ولا يجوز أن لا تكون الوحدات متشاكلة، فإن العدد يحدث من وحدات متشاكلة لا غير.

الصفحة    : 165

على أن قوماً منهم يقولون إن الثنائية يلحقها من حيث هي ثنائية وحدة غير وحدة الثلاثية، فكذلك تكون وحدة الثنائية غير وحدة الثلاثية، فيلزم أن تكون العشارية مركبة لا من خماسيتين على ما تكون به الخماسيتان، لأن آحاد العشرة غير آحاد الخماسية، فلا تتركب العشارية من خماسيتين، ويلزم أن تكون آحاد الخماسية إذا كانت جزء عشرة مخالفة لآحادها إذا كانت جزء خمسة عشر، لكنهم عساهم يقولون: إن الخماسية التي في خمسة عشر غير الخماسية التي في العشارية البسيطة، لأنها خماسية عشارية هي جزء من خمسة عشر، فيلزم أن تكون العشارية إذا أضيف إليها الخماسية لا تصير خمسة عشر أو تستحيل آحادها، وذلك كله محال. ثم إن لم تكن خماسية العشرة مساوية للخماسية المطلقة فلا تكون خماسية إلا باشتراك الاسم، فبالحري أن يتفهم معنى الخماسية فيها بعد المشاركة في اللفظ، وإن كانت مساوية فتكون إذن الآحاد في جميعها متساوية والثنائيات والثلاثيات، فتكون أيضاً صورة الثلاثية موجودة في الرباعية، لكن الثلاثية صورة لنوع طبيعي، والرباعية كذلك، فتكون الأنواع الطبيعية موجودة فيها أنواع أمور أخرى مخالفة. مثلاً إذا كان عدد ما هو صورة للإنسان ثم عدد آخر صورة للفرس إما أكثر منه وإما أقل، فإن كان أكثر منه كان نوع الإنسان موجوداً في الفرس وإن كان أقل منه كان نوع الفرس موجوداً في الإنسان، فيلزم أن تكون صورة أنواع قبل أنواع وصورة أنواع بعد أنواع إذا كانت أشد تركيباً منها وإن لم يأخذ تركيب الأنواع من الأنواع مأخذ غير متناه. ثم كيف يكون عدد موجود له ترتيب ذاتي من الوحدانية والثنائية يذهب إلى غير النهاية بالفعل وقد تبين استحالة هذا. وأما الذي يولدون العدد بالتكرير مع ثبات الوحدة للواحد فليس يفهم للتكرير فيه معنى إلا إيجاد شيء آخر غير الأول بالعدد، فإن كان للعدد يفعله التكرير وليس كل واحد من الأول والثاني فيه وحدة فليس الوحدة مبدأ تأليف عدد، فإن كان الأول من حيث هو أول وحدة، والثاني من حيث هو ثان وحدة، فهناك وحدتان، فإن الوحدة لا تتكرر إلا بأن تكون هناك مرة بعد مرة، وهذه المرة إما أن تكون زمانية أو ذاتية، فإن كانت زمانية ولم تعدم في الوسط فهي كما كانت إلا أنها كررت، وإن عدمت ثم أوجدت فالموجودة شخصية أخرى، وإن كانت ذاتية فذلك أبين. وقوم جعلوا الوحدة كالهيولي للعدد وقوم جعلوها كالصورة لأنها تقال في الكل. والعجب من الفيثاغورثيين إذا جعلوا الوحدات الغير متجزئة مبادئ للمقادير، وعلموا أن المقادير تذهب إلى مذهب في التجزؤ إلى غير النهاية. وقال قوم: إن الوحدة إذا قارنت المادة صارت نقطة، والثنائية على ذلك القياس إذا قارنتها فعلت خطاً

الصفحة    : 166

والثلاثية سطحاً والرباعية جسماً، ولا يخلو إما أن تكون المادة لها مشتركة، أو تكون لكل واحد منها مادة أخرى، فإن كانت لها مادة واحدة فتصير المادة تارة نقطة، ثم تنقلب جسماً، ثم تنقلب نقطة، وهذا مع استحالته يوجب أن لا يكون كون النقطة مبدأ للجسم أولى من أن يكون الجسم مبدأ للنقطة، بل ربما يكونان من الأمور المتعاقبة على موضوع واحد وإن كانت موادها مختلفة فلا توجد في مادة الثنائية وحدة، فلا تكون في المادة الثنائية ثنائية، ويلزم أن لا تكون هذه الأشياء البتة معاً. وأما على مذهب التحقيق فليست النقطة موجودة إلا في الخط، الذي هو في السطح، الذي هو في الجسم، الذي هو في المادة، وليست النقطة مبدأ إلا بمعنى الطرف، وأما بالحقيقة فالجسم هو المبدأ، بمعنى أنه معروض له التناهي به. والعجب ممن جعل المبدأ الزيادة والنقصان، فجعل المضاف مبدأ، والمضاف هو أمر عارض لغيره من الموجودات ومتأخر عن كل شيء. ثك كيف يمكنهم أن يجعلوا في الوجود كثرة؟ فإن الوحدة الثانية التي توجد في الكثرة مضافة إلى الأولى إن كانت موجودة لذاتها، فبماذا تباين وحدة وحدة؟ واجب الوجود بذاته لا يتكثر ولا يباين شيئاً إلا بالجوهر لا بالعدد، وإن جاءت بانقسام وحدة فليست الوحدة إلا مقداراً، وإن جاءت بسبب آخر فالوحدة لها علة موجودة في طبيعتها وليست من الأمور التي بذاتها ومن المبادئ التي توجد ولا سبب لها. ثم كيف جعلوا الوحدة والكثرة من الأضداد وقسموها إلى الخير والشر، فمنهم من ما إلى أن يجعل العدد من الخير لما فيه من الترتيب والتركيب والنظام، ومنهم من مال إلى أن يجعل الوحدة من الخير، فإذا كانت الوحدة من الخير، فكيف تولد من خير شر؟ وكيف صار ازدياد الخير شراً؟ وإن كانت الكثرة خيراً والوحدة شراً، فكيف حصل من ازدياد الشر خير؟ وكيف كان الأول والمبدأ شراً حتى صار الأفضل معلوماً والأنقص علة؟ ومنهم من جعل العدد والوحدة من باب الخير، وجعل الشر هيولي، والهيولي إن كانت معلولة فيكون لها علة تستند إلى هيولي أو إلى صورة، فإن كانت تستند إلى هيولي فستقف على ما يقصد بالكلام، وإن كانت تستند إلى صورة فكيف يولد الخير الشر؟ وإن لم تكن معلولة فهي واجبة بذاتها، فإما أن تكون قابلة للإنقسام أو مجردة؛ فإن كانت قابلة للإنقسام في نفسها فهي مقدار مؤلف من آحاد على رأيهم، فهي أيضاً من الخير؛ وإن كانت غير منقسمة في ذاتها فذاتها وحدانية، والوحدانية - بما هي وحدانية - خير؛ إذ ليس عندهم للخير معنى إلا كونه وحدة ونظاماً من العدد، والوحدة أولى عندهم بذلك. فإن جعلوا كون الوحدة وحدة غير كونها خيراً انتقضت أصولهم كلها، وإن جعلوا الوحدانية خيرية لزم

الصفحة    : 167

من ذلك أن تكون الهيولي - لأنها وحدانية - خيرية، ثم إن كانت الوحدانية فيها خيرية، ولكنها لا حق لها غريب، فلتجرد الملحوق به، يلزمه هذا البحث بعينه؛ ثم كيف يتولد من الأعداد حرارة وبرودة وثقل وخفة حتى يكون عدد يوجب أن يتحرك الشيء إلى فوق وعدد يوجب أن يتحرك الشيء إلى أسفل؟ فإن بطلان هذه مما يغني عن تكلف إبانة. على أن قوماً منهم جعلوا الأشياء تتولد من عدد يطابق كيفية ويوجد معها، فتكون المبادئ ليست أعداداً، بل أعداداً، وكيفيات وأمور أخرى؛ وهذا محال عندهم. واعلم بعد هذا كله أن التعليميات لا تفارق الخيرية، وذلك لأنها في أنفسها ذوات حظ وافر من الترتيب والنظام والاعتدال، فكل شيء منها على ما ينبغي أن يكون له،وهذا خير كل شيء.

المقالة الثامنة

في معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته

سبعة فصول

الفصل الأول   (ا)

الصفحة    : 168

فصل في تناهي العطل الفاعلية والقابلية

وإذ قد بلغنا هذا المبلغ من كتابنا فبالحرى أن نختمه بمعرفة المبدء الأول للوجود كله وأنه هل هو موجود، وهل هو واحد لا شريك له في مرتبته ولا ندّ له؟ وندل على مرتبته في الوجود، وعلى ترتيب الموجودات دونه ومراتبها، وعلى حال العود إليه، مستعينين به. فأول ما يجب علينا من ذلك أن ندل على أن العلل من الوجوه كلها متناهية، وأن في كل طبقة منها مبدأ أول، وأن مبدأ جميعها واحد، وأنه مباين لجميع الموجودات، واجب الوجود وحده، وأن كل موجود فمنه ابتدأ وجوده. فنقول: أما أن علة الوجود للشيء تكون موجودة معه فقد سلف لك وتحقق. ثم نقول: إنا إذا فرضنا معلولا، وفرضنا له علة، ولعلته علة، فليس يمكن أن يكون لكل علة علة بغير نهاية، لأن المعلول وعلته وعلة علته إذا اعتبرت جملتها في القياس الذي لبعضها إلى بعض كانت علة العلة علة أولى مطلقة للأمرين، وكان للأمرين نسبة المعلولية إليها، وإن اختلفا في أن أحدهما معلول بمتوسط والآخر معلول بغير متوسط، ولم يكن كذلك الأخير ولا المتوسط لأن المتوسط - الذي هو العلة المماسة للمعلول - علة لشيء واحد فقط، والمعلول ليس علة لشيء، ولكل واحد من الثلاثة خاصية، فكانت خاصية الطرف المعلول أنه ليس علة لشيء، وخاصية الطرف الآخر أنه علة للكل غيره، وكانت خاصية المتوسط أنه علة لطرف ومعلول لطرف. وسواء كان الوسط واحدا" أو فوق واحد، فإن كان فوق واحد فسواء ترتب ترتيبا متناهيا أو ترتب ترتيبا غير متناه؛ فإنه إن ترتب في كثرة متناهية كانت جملة عدد ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك في خاصية الواسطة بالقياس إلى الطرفين، ويكون لكل واحد من الطرفين خاصية، وكذلك إن ترتب في كثرة غير متناهية ولم يحصل الطرف كان جميع الطرف غير المتناهي مشتركا في خاصية الواسطة، لأنك أي جملة أخذت كانت علة لوجود المعلول الأخير، وكانت معلولة، إذ كل واحد منها معلول، والجملة متعلقة الوجود بها، ومتعلق الوجود بالمعلول معلول، إلا أن تلك الجملة شرط في وجود المعلول الأخير، وعلة له، وكلما زدت في البصر كان الحكم إلى غير نهاية باقيا، فليس يجوز إذن أن تكون جملة علل موجودة وليس فيها علة غير معلولة، وعلة أولى، فإن جميع غير المتناهي يكون واسطة بلا طرف وهذا محال؛ وقول القائل إنها - أعنى المعلل قبل العلل - تكون بلا نهاية مع تسليمه لوجود الطرفين، حتى يكون طرفان وبينهما وسائط بلا نهاية، ليس يمنع غرضنا الذي نحن فيه، وهو إثبات

الصفحة    : 169

العلة الأولى. على أن قول القائل: أن ههنا طرفين ووسائط بغير نهاية قول يقوله باللسان، دون الاعتقاد، وذلك لأنه إذا كان له طرف فهو متناه في نفسه، فإن كان المحصى لا ينتهى إلى طرفه، فإن ذلك معنى في المحصى لا معنى في الشيء نفسه، وكون الأمر في نفسه متناهيا، هو أن يكون له طرف، وكل ما بين الطرفين فهو ممدود ضرورة بهما. فقد تبين من جميع هذه الأقاويل أن ههنا علة أولى، فإنه وإن كان ما بين الطرفين غير متناه، ووجد الطرف، فذلك الطرف أول لما لا يتناهى، وهو علة غير معلول. وهذا البيان يصلح أن يجعل بيانا لتناهى جميع طبقات أصناف العلل، وإن كان استعمالنا له في العلل الفاعلية، بل قد علمت أن كل ذي ترتيب في الطبع، فانه متناه وذلك في الطبيعيات، وإن كان كالدخيل فيها فلنقبل على بيان تناهى العلل التي تكون أجزاء من وجود الشيء ومتقدمة في الزمان، وهي العلل التي تختص باسم العنصرية، وهي ما يكون عنه الشيء، بأن يكون هو جزءا" ذاتيا للشيء. وبالجملة اعتبر بقولنا شيء من شيء أن يكون قد دخل في وجود الثاني أمر كان للشيء الأول، إما الجوهر والذات الذي للشيء الأول، مثل الإنسان في الصبى، إذا قيل: إنه كان منه رجل، أو جزء من الجوهر والذات الذي للشيء الأول، ملل الهيولى في الماء، إذا قيل: إنه كان من هواء؛ ولا تعتبر المفهوم من قول القائل: كان كذا من كذا، إذا كان بعده، ولم تدل لفظ " من " على شيء من ذات الأول، بل على البعدية فقط. فنقول: إن كون الشيء من الشيء، لا بمعنى بعد الشيء، بل بمعنى أن في الثاني أمرا" من الأول داخلا في جوهره، يقال على وجهين: أحدهما بمعنى أن يكون الأول إنما هو ما هو بأنه بالطبع يتحرك إلى الاستكمال بالثاني، كالصبي إنما هو صبي لأنه في طريق السلوك إلى الرجلية مثلا، فإذا صار رجلا لم يفسد، ولكنه استكمل، لأنه لم يزل عنه أمر جوهري، ولا أيضا أمر عرضي، إلا ما يتعلق بالنقص، وبكونه بالقوة بعدُ، إذا قيس إلى الكمال الأخير. والثاني أن يكون الأول ليس في طباعه أن يتحرك إلى الثاني، وإن كان يلزمه الإستعداد لقبول صورته، لا من جهة ماهيته،ولكن من جهة حامل ماهيته. وإذا كان منه الثاني، لم يكن من جوهره الذي بالفعل إلا بمعنى بعد، ولكن كان من جزء جوهره، وهو الجزء الثاني الذي يقارن القوة، مثل الماء إنما يصير

الصفحة    : 170

هواء بأن تنخلع عن هيولاه صورة المائية، ويحصل لها صورة الهوائية، والقسم الأول كما لا يخفى عليك، يحصل فيه الجوهر الذي للأول بعينه في الثاني، والقسم الثاني لا يحصل الجوهر الذي في الأول بعينه في الثاني، بل جزء منه ويفسد ذلك الجوهر. ولما كان في أول القسمين جوهر ما هو أقدم موجودا" فيما هو أشد تأخرا" كان هو بعينه، أو هو بعض منه، وكان الثاني هو مجموع جوهر الأول وكمال مضاف إليه، ولما كان قد علم فيما سلف أن الشيء المتناهي الموجود بالفعل لا يكون له أبعاض بالفعل كانت أبعاضا" مقدارية أو معنوية لها تراتيب غير متناهية، فقد استغنينا بذلك عن أن نشتغل ببيان أنه هل يمكن أن يكون موضوع من هذا القبيل قبل موضوع بلا نهاية، أو لا يمكن. وأما الثاني من القسمين فإنه من الظاهر أيضا" وجوب التناهي فيه، لأن الأول إنما هو بالقوة الثاني لأجل المقابلة التي بين صورته وبين صورة الثاني، وتلك المقابلة تقتصر في الإستحالة على الطرفين بأن يكون كل واحد من الأمرين موضوعا" للآخر، فيفسد هذا إلى ذاك، وذاك إلى هذا، فحينئذ بالحقيقة لا يكون أحدهما بالذات متقدما على الآخر، بل يكون تقدمه عليه بالعرض، أي باعتبار الشخصية دون النوعية، ولهذا ليس طبيعة الماء أولى بأن تكون مبدأ للهواء من الهواء للماء، بل هما كالمتكافئين في الوجود. وأما هذا الشخص من الماء فيجوز أن يكون لهذا الشخص من الهواء، ولا يمنع أن يتفق أن لا يكون لتلك الأشخاص نهاية أو بداية. وليس كلامنا ههنا فيما هو بشخصيته مبدأ لا بنوعيته، وفيما هو بالعرض مبدأ لا بالذات، فإنا نجوز أن تكون هناك علل قبل علل بلا نهاية في الماضي والمستقبل، وإنما علينا أن نبين التناهي في الأشياء التي هي بذواتها علل، فهذا هو الحال في ثاني القسمين، بعد أن نستعين أيضا" بما قيل في الطبيعيات. والقسم الأول هو الذي هو بذاته علة موضوعية، ولا ينعكس فيصير الثاني علة للأول، فأن الثاني لما كان عند الاستكمال، والأول عند الحركة إلى الاستكمال، لم يجز أن تكون الحركة إلى الاستكمال بعد حصول لاستكمال.كما يجوز أن يكون الاستكمال بعد الحركة إلى الاستكمال، فجاز رجل من صبي ولم يجز صبي من رجل.

 الفصل الثاني   (ب)

الصفحة    : 171

فصل في شكوك تلزم ما قيل وحلها

ونحن فقد آثرنا في هذا البيان أن نحاذي المذكور منه في التعليم الأول في المقالة الموسومة بألف الصغرى، ثم على هذا الموضوع شكوك يجب أن نوردها ثم نتجرد لحلها. فمن ذلك، أن لقائل أن يقول: إن المعلم الأول لم يستوف القسمة في كون الشيء من شيء آخر، لأنه ذكر ذلك على وجهين: أحدهما، كون الشيء عن آخر يضاده، وبالجملة الكون الذي على سبيل الاستحالة. والثاني، كون الشيء المستكمل عن المتحرك إليه والذي في طريق الكون. وهذا غير مستوف للقسمة، لأن كل ما يكون عن الشيء يكون أولا على وجهين، وهو أنه لا يخلو: إما أن يكون الأول المكون منه هو على وجود ذاته لم يبطل منه شيء، ولم يفسد إلا معنى الاستعداد أو ما يتعلق به. وأما أن يكون الأول إنما أمكن أن يكون منه الثاني بزوال شيء من الأول. والقسم الأول لا يخلو: أن يكون عنه الشيء، وقد كان مستعدا" فقط، فخرج إلى الفعل دفعة من غير سلوك. أو يكون قد كان مستعدا فقط فخرج إلى الفعل بحركة متصلة كان فيها بين الاستعداد الصرف وبين الاستكمال الصرف. فيكون الكائن في القسم الأول ينسب أنه كان عن حالة واحدة، كقولنا: كان عن الجاهل بأمري كذا عالم. والكائن في القسم الثاني ينسب أنه كان تارة عن حالة سالكا، كقولنا كان من الصبي رجل، وتارة عن حالة مستعدة فقط كقولنا: كان عن المنى رجل، فإن اسم الصبي هو للمستعد أن يستكمل رجلا، وهو في السلوك، واسم المنى للمستعد أن يكون إنسانا لا بشرط أن يكون في السلوك. فقد ترك المعلم الأول من الأقسام ما كان استكمالا"، وكان الكون منه غير منسوب إلى الحركة نحو الاستكمال. وأيضا فإنه ليس كل خروج عن استعداد صرف إلى فعل استكمالا، فإن النفس تعتقد الرأي الخطأ فيخرج إلى الفعل فيه من القوة، ويكون ليس على سبيل الاستكمال، ولا أيضا على سبيل الاستحالة. وأيضا" فإن العناصر تتكون منها الكائنات فتكون مستحيلة عند الامتزاج غير فاسدة في صورها الذاتية على ما علمت، فيكون المزاج غير كائن فيها لزوال ضد المزاج بل عدمه فقط، فيكون هذا القسم ليس

الصفحة    : 172

هو من القسم الذي مثل له بكون الهواء من الماء، وذلك لأن العناصر لا تفسد في أنواعها عند المزاج بل تستحيل، ولا من القسم الذي مثل له بكون الرجل من الصبي، لأنه كان لا ينعكس، فلا يكون الصبي بفساد الرجل، وههنا ينعكس فيكون من الممتزج شيء عنه أمتزج بعد فساد المزاج. وأيضا" فإنه إنما تكلم لا على الموضوع، بما هو الموضوع، بل بما يدل عليه لفظ الكون من الشيء؛ ومعلوم أن هذا لا يقال لكل نسبة للمتكون إلى موضوعه؛ فإن ما كان من المستعدات التي يكون منها الشيء بالاستكمال لا اسم له من جهة ما هو مستعد، ولا يلحقه تغير عن حالته التي له قبل الخروج إلى الفعل؛ فلا يقال إن الشيء كان منه، فلا يقال كان من الإنسان رجل، ولكن من الصبي، لأن الصبي اسم له من جهة ما هو ناقص، ولأنه لا يتم إلا بإستحالات أيضا في طريق السلوك؛ فكأنه لما سمى كان له معنى يدل عليه لاسم يزول عنه عند الخروج إلى الفعل؛ كأنه ما لم يتوهم فيه زوال أمر ما، كان له بسببه استحقاق الاسم، لم يقل إنه يكون منه شيء، فيعرض من هذا أن تكون ما لا يسمى فيه نسبة الكائن إلى الموضوع غير داخل في هذه القسمة ويعرض منه أن تكون النسبة إلى الموضوع بالعرض لا الذي بالذات، لأن الصبي بما هو صبي لا يجوز أن يصير رجلا، حتى يكون هو صبيا ورجلا، بل يفسد المعنى المفهوم من اسم الصبي حتى يصير رجلا فيكون الكون من الصبي آخر الأمر بمعنى بعد ويكون أيضا" إنما يتكلم عن الموضوعات التي بالعرض. وأيضا" فإنه لا يخلو: إما أن يكون الماء إذا كان منه الهواء عنصرا" له بوجه ما. أو لا يكون. فإن لم يكن فالاشتغال بذكره باطل. وإن كان فليس يجب إذا كان الهواء يستحيل في كيفيته الفاعلة إلى المائية، فيصير عنصرا" له أن لا يستحيل في كيفية أخرى، فيصير عنصرا" لشيء آخر، مثلا في رطوبته في فيصير عنصرا" للنار من غير أن يرجع ماء؛ ثم كذلك النار في كيفية أخرى غير مقابلة للتي فيها استحالة إليها الهواء فتكون العلل المادية تذهب إلى غير نهاية، من غير أن ترجع؛ فإذن لم يتبين من وضعه أنه يجب أن يرجع لا محالة، بل بأن إمكان الرجوع، ويتعلق بذلك إمكان التناهي، فليس ذلك مطلوبه، بل مطلوبه وجوب التناهي. ولنشرع الآن في حل هذه الشكوك فنقول: الأولى أن يكون كلام المعلم الأول، إنما هو في مباديء الجوهر- بما هو جوهر- لا بما هو جوهر معروض له ما لا يقوم جوهريته، ولا أيضا" يكمله، فيكون

الصفحة    : 173

كلامه في كون الجوهر من عنصره، أو من موضع له، إما على سبيل كون نوع الجوهر مطلقا"، وأما على سبيل كون كمال نوع الجوهر. والأولى أيضا" أن يكون كلامه في الكون الطبيعي دون الصناعي، وإذا كان كذلك كان العنصر جزءا" ذاتيا" في وجود الكائن وأيضا" في وجود المتكون منه، لست أعني بالذاتي أنه يكون ضروريا" لوجود المركب منه ومن غيره، فإن هذا أيضا" موجود العنصر في الأكوان غير الذاتية، مثل العنصر في الجسم الأبيض. ولكن أعني بالذاتية أن يكون كون العنصر جزءا" آمرا" ذاتيا" له، فلا يقوم ذلك العنصر بالفعل إلا أن يكون جزءا" لذلك الشيء أو لما الشيء كما له الطبيعي؛ إذ يكون جزءا" لجوهر أو لآخر، حكمه حكمه، لا أن يكون العنصر يقوم دون ذلك، ثم عرض له أن صار جزا" من مركب منه ومن عرض فيه ليس هو مقوما" له ولا مكملا لما يقومه، فيكون كونه جزءا" هو ذاتي بالقياس إلى المركب، وليس ذاتيا" بالقياس إلى ذاته، بل يجب أن لا يعرى عن كونه جزءا". وإذا كان كذلك، لم يخل الموضوع من أحد أمرين: إما أن يكون متقوما" بهذا الشيء أو بآخر يقوم مقامه، فيكون قد كان فيه قبل حصول الصورة الحادثة فيه شيء آخر يقوم مقامها في تقويمه إلا أنها لا تجتمع مع هذا، فيكون قد كان حصل من العنصر ومن ذلك الشيء جوهر، فلما كان الثاني فسد ذلك الجوهر المركب، وهذا أحد القسمين. وإما أن يكون العنصر قد يقوم لا بهذا الشيء الذي حدث، ولكن بصورة غير مستكملة فيما لها بالطبع، ولكنها قد حصلت بحيث يقوّم المادة فقط، ولم يحصل الأمر الذي هو علة غائية لهذه الصورة بالطبع، فيكون الجوهر قد حصل ولم يحصل كاملا بالطبع، وإذا كان ذلك الكمال كمالا له بالطبع، والقوة الطبيعية مبدأ الحركة إلى الكمال الذي بالطبع فيلزم ضرورة أن لا يكون هذا الشيء موجودا" على سلامته الطبيعية زمانا" لا عائق له فيه وهو غير متحرك بالطبع إلى ذلك الكمال؛ فإذن يلزم ضرورة في هذا القسم أن يكون المستعد متحركا إلى الكمال. فقد ظهر إذن أن جميع أصناف كون الجوهر الذي بحسب هذا النظر هو داخل تحت أحد هذين القسمين ضرورة، وكذلك جميع أصناف ما هو كون الشيء عن شيء يكون ذلك القابل في كليهما جزءا" ذاتيا" باعتباره في نفسه، وباعتباره بالقياس إلى المركب. وليس لقائل، أن يقول: إنه يجوز أن تكون القوة الطبيعية لا تحرك إلى كما هي لإعواز معين من خارج

الصفحة    : 174

أو عائق مانع. مثال الأول فقدان ضوء الشمس في الحبوب والبذور؛ ومثال الثاني الأمراض المذبلة. فالجواب عن ذلك أن كلام المعلم الأول ليس في الذي يكون لا محالة يتحرك بالفعل، بل في الذي لو لم يكن عائق لطبيعته، وكانت الأسباب الطبيعية المعاضدة بالطبع لطبيعته موجودة، كان متحركا إلى الكمال وكان في طريق السلوك. فقد ظهر إذن أن سائر الأقسام غير مقصودة في هذا البحث إلا القسم المذكور، بل هذا الحكم غير صحيح في سائر الأقسام؛ فانه يجوز في غير كون الجوهر إذا فرضنا موضوعا" مبتدأ أن لا يزال يكتسب استعدادا" بعد استعداد لأمور عرضية من غير أن يتناهى؛ كالخشب فإنك كلما شكلته بشكل استعد بذلك لأمر، وإذا خرج استعداده إلى الفعل، استعد لأمر آخر وكذلك النفس في إدراك المعقولات، ويشبه أن تكون الاستحالات الطبيعية لا يمنع فيها هذا المعنى. وأما الشبهة المذكورة في كون الاشياء من العناصر، وأنه ليس على أحد القسمين، فحلها يظهر أيضا" مما قد قيل؛ وهو أن العنصر مفردا ليس مستعدا" لقبول الصور الحيوانية والنباتية، بل يحصل له ذلك الاستعداد بالكيفية التي يحدث فيه بالمزاج؛ والمزاج يحدث فيه لا محالة استحالة ما في أمر طبيعي له، وإن لم يكن مقوما"؛ فتكون نسبته إلى صورة المزاج من القسم الذي يكون بالاستحالة، وإذا حصل فيه المزاج كان قبول صورة الحيوانية له استكمالا لذلك المزاج، ويتحرك الظبع به إليه، فتكون نسبته إلى صورة الحيوانية نسبة الصبي إلى الرجل؛ فلذلك ليست تفسد الصورة الحيوانية إلى أن تصير مجرد مزاج، كما لا يكون الصبي من الرجل، ويفسد المزاج إلى موجب الصورة البسيطة، كما يستحيل الماء إلى الهواء، وليس الحيوان عنصرا" لجوهر العناصر، بل يستحيل إليها من حيث هي بسيطة. فيكون إذن الامتزاج والبساطة يتعاقبان على الموضوع. والبساطة ليست تقوم جوهر العناصر ولكن تكمل طبيعة كل واحد منها، من حيث هو بسيط، فتكون النار نارا" صرفة في الكيفية التي فيها، اللازمة لصورتها وكذلك الماء. وكذلك كل واحد من العناصر؛ فإذن كون الحيوان يتعلق بكونين، ولكل واحد منهما حكم يخصه من وجوب التناهي، فهو داخل أيضا" في القسمين المذكورين. وأما الشبهة التي تعرض من جهة إنه إننا أخذ من العناصر ما جرت به العادة بأن يقال: إن الشيء منه دون ما لم تجري به العادة، فالجواب عن تلك الشبهة هو إنه ليس تتغير أحكام الأشياء من جهة الأسماء، ولكن يجب أن يقصد المعنى؛ فلنقصد ولنعرف الحال فيه فنقول:

الصفحة    : 175

إن العنصر أو الموضوع الذي يكون منه الشيء إذا كان يتقدمه في الزمان، فإن له من جهة تقدمه له خاصية لا تكون مع حصوله له، وهي الاستعداد القوي، وإنما يتكون الجوهر منه لأجل استعداده لقبول صورته. واما إذا زال الاستعداد بالخروج إلى الفعل وجد الجوهر وكان محالا أن يقال إنه متكون منه. فإذا لم يكن من جهة الاستعداد أسم، بل أخذ له اسمه الذي لذاته الذي يكون له أيضا" عندما لا يجوز أن يتكون منه الشيء، لم يكن هو الاسم الذي يتعلق بمعناه التكون، فإن لم يكن له من جهة الاستعداد اسم، لم يمكن أن يقال باللفظ وإن كان المعنى حاصلا في الوجود؛ وإذا كان المعنى الذي يكون للمسمى حاصلا في غير المسمى كان حكمه في المعنى حكم ذلك، وإن كان عدم الاسم يمنع أن يكون حكمه في اللفظ حكم ذلك. فإذا أخذنا القول الذي يكون لذلك الاسم لو كان موضوعا" أمكننا حينئذ أن نقول في كل شيء: إنه يكون من العنصر له؛ مثلا أمكننا أن نقول: إن النفس العاقلة تكون من نفس جاهلة مستعدة للعلم، إلا أن نمنع استعمال لفظ يكون فيما خلا التكو ن الذي في الجوهر.فلا يجوز أن نقول في النفس العاقلة: إنها كانت من نفس مستعدة للعلم؛ ولكن يجوز لا محالة في الجواهر، وكلامنا فيها. على أنه فيما أحسب لا يختلف هذا الحكم في الجواهر مع ذواتها، وفي الجواهر مع أحوالها. وأما قول هذا القائل: إن هذا يكون كونا" من الشيء بمعنى بعد، فليس إذا كان بمعنى بعد كيف كان، لم يكن الكون الذي نقصده؛ فإنه لا بد في كل كون عن شيء أن يكون الكائن بعد ما عنه كان، إنما الذي يزيفه المعلم الأول ولا يتعرض له هو أن لا يكون هناك معنى غير البعدية، مثل المثل الذي يضربه ويشرحه، وأما إذا كان من الشيء بمعنى أن كان بعده، بأن بقي له من جوهره، الذي كان أولا ما هو أيضا"من جوهر الثاني لم يكن بمعنى بعد فقط، وكان الذي كلامنا فيه. وأما قول هذا القائل: إنه تكلم في العنصر الذي بالعرض دون العنصر الذي بالذات، فقد وقعت فيه مغالطة؛ بسبب أن العنصر للكون ليس هو بعينه العنصر للقوام في الاعتبار، وإن كان هو هو بالذات، فإن العنصر بالذات للكون هو ذات مقارنة للقوة، والعنصر بالذات للقوام هو ذات مقارنة للفعل، وكل واحد منهما هو عنصر بالعرض لما ليس هو عنصرا" له بالذات، وكلامه في العنصر الذي للكون، لا في الذي للقوام، فيكون إنما أخذ العنصر بالعرض لو أخذ العنصر الذي للكون مبدأ للقوام؛ فإن الصبي ليس عنصرا" لقوام الرجل ولا يكون منه قوام الرجل، ولكنه عنصر لكون الرجل ويكون منه كون الرجل.

الصفحة    : 176

فإن قال قائل: إن المعلم الأول إنما يتكلم في مباديء الجوهر مطلقا"، فلم أعرض عن العنصر الذي للجوهر في قوامه، مثل موضوع السماء؛ واقتصر على العنصر الذي للجوهر في كونه. فالجواب عن ذلك أن عنصر قوامه جزء منه، وهو معه بالفعل، ولا يشكل تناهي الأمور الموجودة بالفعل في شيء متناه موجود بالفعل. على أن من بلغ أن يتعلم هذا العلم، ووقف على سائر ما سلف فإنما يشكل عليه من أمر تناهي العلل ولا تناهيها أنه هل يمكن أن يكون كذلك في العناصر التي بالقوة واحدا" بعد آخر مختلفة بالقرب والبعد. وأما الشك الآخر في حديث الماء والهواء فحله سهل على من وقف على كلامنا في العناصر، حيث تكلمنا في الكون والفساد؛ على أن الكلام ههنا في كون الشيء من الشيء بالذات، وكل تغير من الذي بالذات فهو في مضادة واحدة مقتصر عليها، فيكون الذي كان عنها بالذات يفسد إليها ضرورة، وفي الأخرى كذلك، فتكون جملة التغيرات محصورة، وكل طبقة منها مقتصرة على طرفين نرجع بأحدهما على الآخر، فقد انحلت جميع الشبه المذكورة.

الفصل الثالث   (ج)

الصفحة    : 177

فصل في إبانة تناهي العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقا"، وفصل القول في العلة الأولى مطلقا"، وفي العلة الأولى مقيدا"، وبيان أن ما هو علة أولى مطلقة علة لسائر العلل. وأما تناهي العلل الغائية فيظهر لك من الموضوع الذي حاولنا فيه إثباتها وحللنا الشكوك في أمرها؛ فإن العلة الغائية إذا ثبت وجودها ثبت تناهيها؛ وذلك لأن العلة التمامية هي التي تكون سائر الأشياء لأجلها، ولا تكون هي من أجل شيء آخر؛ فإن كان وراء العلة التمامية علة تمامية كانت الأولى لأجل الثانية، فلم تكن الأولى علة تمامية، وقد فرضت علة تمامية فإذا كان كذلك فمن جوز أن تكون العلل التمامية تستمر واحدة بعد أخرى، فقد رفع العلل التمامية في أنفسها، وأبطل طبيعة الخير التي هي العلة التمامية، إذا الخير هو الذي يطلب لذاته، وسائر الأشياء تطلب لأجله؛ فإذا كان الشيء يطلب لشيء آخر كان نافعا" لا خيرا" حقيقيا، فقد اتضح أن في ايجاب لا تناهي العلل التمامية رفع العلل التمامية؛ فإن من جوز أن وراء كل تمام تماما" فقد أبطل فعل العقل؛ فإنه من البين بنفسه أن العاقل إنما يفعل ما يفعل بالعقل؛ لأنه يؤم مقصودا" وغاية؛ حتى إنه إذا كان فاعل ما منا يفعل فعلا وليس له غاية عقلية، قيل إنه يعبث ويجازف ويفعل لا بما هو ذو عقل، ولكن بما هو حيوان، وإذا كان هذا هكذا فيجب أن تكون الأمور التي يفعلها العاقل بما هو عاقل محدودة، تفيد غايات مقصودة لأنفسها، وإذا كان الفعل العقلي لا يكون إلا محدود الغاية، وليس ذلك للفعل العقلي من جهة ما هو فعل عقلي، بل من جهة ما هو فعل يؤم به الفاعل الغاية، فهو إذن كذلك من جهة ما هو ذو غاية، فإذن كونه ذا غاية يمنع أن يكون لكل غاية غاية؛ فظاهر أنه لا يصح قول القائل: إن كل غاية وراءها غاية، وأما الأفعال الطبيعية والحيوانية، فقد علم أيضا" في مواضع أخرى إنها لغايات. وأما العلة الصورية للشيء فيفهم عن قريب تناهيها بما قيل في المنطق، وبما علم من تناهي الأجزاء الموجودة للشيء بالفعل على ترتيب طبيعي، وأن الصورة التامة للشيء واحدة، وأن الكثير يقع منها على نحو العموم والخصوص، وأن العموم والخصوص يقتضي الترتيب الطبيعي، وماله ترتيب طبيعي فقد علم تناهيه، وفي تأمل هذا القدر كفاية وغنية عن التطويل. و نبتديء فنقول: إذا قلنا مبدأ أول فاعلي، بل مبدأ أول مطلق فيجب أن يكون واحدا. وأما إذا قلنا علة أولى عنصرية، وعلة أولى صورية، وغير ذلك، لم يجب أن تكون واحدة وجوب ذلك في واجب

الصفحة    : 178

الوجود، لأنه لا تكون ولا واحد منها علة أولى مطلقا، لأن واجب الوجود واحد، وهو في طبقة المبدأ الفاعلي، فيكون الواحد الواجب الوجود هو أيضا مبدأ وعلة لتلك الأوائل. فقد بان من هذا ومما سلف لنا شرحه، أن واجب الوجود واحد بالعدد، وبان أن ما سواه إذا اعتبر ذاته كان ممكنا في وجوده، فكان معلولا، ولاح أنه ينتهي في المعلولية لا محالة إليه، فإذن كل شيء إلا الواحد الذي هو لذاته واحد، والموجود الذي هو لذاته موجود؛ فإنه مستفيد الوجود عن غيره، وهو أيس به، وليس في ذاته، وهذا معنى كون الشيء مبدعا أي نائل الوجود عن غيره، وله عدم يستحقه في ذاته مطلق، ليس إنما يستحق العدم بصورته دون مادته، أو بمادته دون صورته، بل بكليته، فكليته إذا لم تقترن بايجاب الموجد له، واحتسب أنه منقطع عنه وجب عدمه بكليته، فإذن إيجاده عن الموجد له بكليته، فليس جزء منه يسبق وجوده بالقياس إلى هذا المعنى، لا مادته ولا صورته، إن كان ذا مادة وصورة. فالكل إذن بالقياس إلى العلة الأولى مبدع، وليس إيجاده لما يوجد عنه إيجادا يمكن العدم ألبتة من جواهر الأشياء بل إيجادا يمنع العدم مطلقا فيما يحتمل السرمد، فذلك هو الإبداع المطلق، والتأييس المطلق ليس تأييسا ما، وكل شيء حادث عن ذلك الواحد، وذلك الواحد محدِث له إذ المحّدث هو الذي كان بعد ما لم يكن، وهذا البعد إن كان زمانيا سبقه القبل وعدم مع حدوثه، فكان شيء هو الموصوف بأنه قبله، وليس الآن، فلم يكن يتهيأ أن يحدث شيء إلا وقبله شيء آخر يعدم بوجوده، فيكون الإحداث عن الليس المطلق وهو الابداع باطلا لا معنى له بل البعد الذي ههنا هو البعد الذي بالذات، فإن الأمر الذي للشيء من تلقاء نفسه قبل الذي له من غيره، وإذا كان له من غيره الوجود والوجوب فله من نفسه العدم و الامكان، وكان عدمه قبل وجوده، ووجوه بعد عدمه قبلية وبعدية بالذات، فكل شيء غير الأول الواحد فوجوده بعد ما لم يكن باستحقاق نفسه.

الفصل الرابع   (د)

الصفحة    : 179

فصل في الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود

فقد ثبت لك الآن شيء واجب الوجود، وكان ثبت لك أن واجب الوجود واحد، فواجب الوجود واحد لا يشاركه في رتبته شيء، فلا شيء سواه واجب الوجود، وإذ لا شيء سواه واجب الوجود، فهو مبدأ وجوب الوجود لكل شيء، ويوجه إيجابا أوليا أو بواسطة، وإذا كان كل شيء غيره فوجوده من وجوده فهو أول. ولا تعني بالأول معنى ينضاف إلى وجوب وجوده حتى يتكثر به وجوب وجوده، بل نعني به اعتبار إضافته إلى غيره. وأعلم أنا إذا قلنا بل بينا أن واجب الوجود لا يتكثر بوجه من الوجوه، وأن ذاته وحداني صرف محض حق، فلا نعني بذلك أنه أيضا لا يسلب عنه وجودات، ولاتقع له إضافة إلى وجودات؛ فإن هذا لا يمكن. وذلك لأن كل موجود فيسلب عنه أنحاء من الوجود مختلفة كثيرة، ولكل موجود إلى الموجودات نوع من الإضافة والنسبة، وخصوصا الذي يفيض عنه كل وجود، لكنا نعني بقولنا إنه وحداني الذات لا يتكثر أنه كذلك في ذاته، ثم إن تبعته إضافات إيجابية وسلبية كثيرة فتلك لوازم للذات معلولة للذات، توجد بعد وجود الذات، وليست مقومة للذات ولا أجزاء لها. فإن قال قائل: فإن كانت تلك معلولة فلها أيضا إضافة أخرى، ويذهب إلى غير النهاية. فإنا نكلفه أن يتأمل ما حققناه في باب المضاف من هذا الفن، حيث أردنا أن نبين أن الإضافة تتناهى وفي ذلك إنحلال شكه. ونعود فنقول: إن الأول لا ماهية له غير الإنية، وقد عرفت معنى الماهية، وبماذا تفارق الإنية فيما تفارقه في افتتاح تبياننا هذا فنقول: إن واجب الوجود لا يصح أن يكون له ماهية يلزمها وجوب الوجود، بل نقول من رأس: إن واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود، كالواحد قد يعقل نفس الواحد، وقد يعقل من ذلك أن ماهيته هي مثلا إنسان أو جوهر آخر من الجواهر، وذلك الإنسان هو الذي هو واجب الوجود، كما أنه قد يعقل من الواحد أنه ماء أو هواء أو إنسان وهو واحد. وقد تتأمل فتعلم ذلك مما وقع فيه الاختلاف في أن المبدأ في الطبيعيات واحد أو كثير. فبعضهم جعل المبدأ واحدا، وبعضهم جعله كثيرا. والذي جعله منهم واحدا فمنهم من جعل المبدأ الأول لا ذات الواحد، بل شيئا هو الواحد، مثل ماء أو هواء أو نار أو غير ذلك. ومنهم من جعل المبدأ ذات الواحد من حيث هو واحد، لا شيء عرض له الواحد، ففرق إذن بين ماهية

الصفحة    : 180

يعرض لها الواحد والموجود، وبين الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود. فنقول: إن واجب الوجود لا يجوز أن يكون على الصفة التي فيها تركيب حتى يكون هناك ماهية ما، وتكون تلك الماهية واجبة الوجود، فيكون لتلك الماهية معنى غير حقيقتها وذلك المعنى وجوب الوجود مثلا إن كانت تلك الماهية أنه إنسان، فيكون أنه إنسان غير أنه واجب الوجود، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون لقولنا وجوب الوجود هناك حقيقة، أو لا يكون، ومحال أن لا يكون لهذا المعنى حقيقة، وهي مبدأ كل حقيقة، بل هي تؤكد الحقيقة وتصححها. فإن كان له حقيقة وهي غير تلك الماهية، فإن كان ذلك الوجوب من الوجود يلزمه أن يتعلق بتلك الماهية ولا يجب دونها، فيكون معنى واجب الوجود من حيث هو واجب الوجود يوجد بشي ليس هو، فلا يكون واجب الوجود، من حيث هو واجب الوجود، وبالنظر إلى ذاته من حيث هو واجب الوجود ليس بواجب الوجود، لأن له شيئا به يجب؛ وهذا محال إذا أخذ مطلقا غير مقيد بالوجود الصرف الذي يلحق الماهية، وإذا أخذ لاحقا للماهية فإنه وإن كان قد يقارن ذلك الشيء فليست تلك الماهية ألبتة واجبة الوجود مطلقا، ولا عارضا لها وجوب الوجود مطلقا، لأنها لا تجب في كل وقت، وواجب الوجود مطلقا يجب في كل وقت، وليس هكذا حال الوجود إذا أخذ مطلقا غير مقيد بالوجوب الصرف الذي يلحق الماهية، فلا ضير لو قال قائل: إن ذلك الوجود معلول للماهية من هذه الجهة أو لشيء آخر. وذلك لأن الوجود يجوز أن يكون معلولا، والوجوب المطلق الذي بالذات لا يكون معلولا، فبقي أن يكون واجب الوجود بالذات مطلقا متحققا من حيث هو واجب الوجود بنفسه، واجب الوجود من دون تلك الماهية، فتكون تلك الماهية عارضة لواجب الوجود المتحقق القوام بنفسه إن كان يمكن، فواجب الوجود مشار إليه بالعقل في ذاته، ويتحقق واجب الوجود وإن لم تكن تلك الماهية العارضة، فإذن ليست تلك الماهية ماهية للشيء المشار إليه بالعقل أنه واجب الوجود، بل ماهية لشيء آخر لاحق له، وقد كانت فرضت ماهية لذلك الشيء لا شيء آخر، هذا خلف، فلا ماهية لواجب الوجود غير أنه واجب الوجود، وهذه هي الإنية. ونقول: إن الإنية والوجود لو صارا عارضين للماهية فلا يخلو إما أن يلزمها لذاتها، أو لشيء من خارج، ومحال أن يكون لذات الماهية، فإن التابع لا يتبع إلا موجودا فيلزم أن يكون للماهية وجود قبل وجودها، وهذا محال. ونقول إن كل ماله ماهية غير الإنية فهو معلول؛ وذلك لأنك علمت أن الإنية والوجود لا يقوم من الماهية التي هي خارجة عن الإنية مقام الأمر المقوم، فيكون من اللوازم، فلا

الصفحة    : 181

يخلو: إما أن يلزم الماهية لأنها تلك الماهية. وإما أن يكون لزومها إياها بسبب شيء. ومعنى قولنا اللزوم اتباع الوجود، ولن يتبع موجود إلا موجودا، فإن كانت الإنية تتبع الماهية وتلزمها لنفسها، فتكون الإنية قد تبعت في وجودها وجودا، وكل ما يتبع في وجوده وجودا فإن متبوعه موجود بالذات قبله، فتكون الماهية موجودة بذاتها قبل وجودها، وهذا خلف. فبقي أن يكون الوجود لها عن علة، فكل ذي ماهية معلول، وسائر الأشياء غير الواجب الوجود فلها ماهيات، وتلك الماهيات هي التي بأنفسها ممكنة الوجود، وإنما يعرض لها وجود من خارج. فالأول لا ماهية له، وذوات الماهيات يفيض عليها الوجود منه، فهو مجرد الوجود بشرط سلب العدم وسائر الأوصاف عنه؛ ثم سائر الأشياء التي لها ماهيات فإنها ممكنة توجد به، وليس معنى قولي: إنه مجرد الوجود بشرط سلب سائر الزوائد عند أنه الوجود المطلق المشترك فيه إن كان موجود هذه صفته؛ فأن ذلك ليس الموجود المجرد بشرط السلب بل الموجود لا بشرط الإيجاب، أعني في الأول أنه الموجود مع شرط لا زيادة تركيب، وهذا الآخر هو الموجود لا بشرط الزيادة، فلهذا ما كان الكلي يحمل على كل شيء، وذلك لا يحمل على كل ما هناك زيادة، وكل شيء غيره فهناك زيادة. والأول أيضا لا جنس له؛ وذلك لأن الأول لا ماهية له، وما لا ماهية له فلا جنس له؛ إذ الجنس مقول في جواب ما هو والجنس من وجه هو بعض الشيء، والأول قد تحقق أنه غير مركب. وأيضا أن معنى الجنس لا يخلو: إما أن يكون واجب الوجود فلا يتوقف إلى أن يكون هناك فصل. وإن لم يكن واجب الوجود وكان مقوما لواجب الوجود كان واجب الوجود متقوما بما ليس بواجب الوجود، وهذا خلف، فالأول لا جنس له. ولذلك فإن الأول لا فصل له، وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حد له، ولا برهان عليه، لأنه لا علة له، ولذلك لا لمّ له، وستعلم أنه لا لمية لفعله. ولقائل أن يقول: إنكم إن تحاشيتم أن تطلقوا على الأول اسم الجوهر فلستم تتحاشون أن تطلقوا عليه معناه، وذلك لأنه موجود لا في موضوع، وهذا المعنى هو الجوهر الذي جنستموه له. فنقول: ليس هذا معنى الجوهر الذي جنساه، بل معنى ذلك أنه الشيء ذو الماهية المتقررة الذي وجوده ليس في موضوع كجسم أو نفس؛ والدليل على أنه إذا لم يعن بالجوهر هذا

الصفحة    : 182

لم يكن جنسا ألبتة، هو أن المدلول عليه بلفظ الموجود ليس يقتضي جنسيته، والسلب الذي يلحق به لا يزيده على الوجود إلا نسبة مباينة: وهذا المعنى ليس فيه إثبات شيء محصل بعد الوجود، ولا هو معنى لشيء بذاته، بل هو بالنسبة فقط، فالموجود لا في موضوع إنما المعنى الإثباتي فيه الذي يجوز أن يكون لذات ما، هو الموجود؛ وبعده شيء سلبي ومضاف خارج عن الهوية التي تكون للشيء. فهذا المعنى إن أخذ على هذا الوجه لم يكن جنسا"، وأنت قد علمت هذا في المنطق علما" متقنا". وقد علمت في المنطق أيضا" أنا إذا قلنا: كل " أ " مثلا، عنينا كل شيء موصوف بأنه " أ " ولو كانت له حقيقة غير الألفية، فقولنا في حد الجوهر: إنه الموجود لا في موضوع، معناه أنه الشيء الذي يقال عليه موجود لا في موضوع، على أن الموجود لا في موضوع محمول عليه، وله في نفسه ماهية مثل الإنسان والحجر، والشجر، فهكذا يجب أن يتصور الجوهر حتى يكون جنسا". والدليل على أن بين الأمرين فرقا" وإن الجنس أحدهما دون الآخر، أنك تقول لشخص إنسان ما مجهول الوجود: إنه لا محالة هو ما وجوده أن لا يكون في موضوع، ولا تقول: إنه لا محالة موجود الآن لا في موضوع، وكأنا قد بالغنا في تعريف هذا حيث تكلمنا في المنطق.

الفصل الخامس   (ه)

الصفحة    : 183

فصل توحيد واجب الوجود كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج

و بالحرى أن نعيد القول في أن حقيقة الأول موجودة للأول دون غيره؛ وذلك لأن الواحد - بما هو واجب الوجود - يكون ما هو به هو، وهو ذاته؛ ومعناه إما مقصورا" عليه لذات ذلك المعنى، أو لعلة، مثلا: لو كان الشيء الواجب الوجود هو هذا الإنسان، فلا يخلو إما أن يكون هو هذا للإنسانية ولأنه إنسان، أو لا يكون. فإن كان لأنه إنسان هو هذا، فالإنسانية تقتضي أن يكون هذا فقط؛ فإن وجدت لغيره فما اقتضت الإنسانية أن يكون هذا، بل إنما صار هذا الأمر غير الإنسانية. وكذلك الحال في حقيقة واجب الوجود، فإنها إن كانت لأجل نفسها هي هذا المعين استحال أن تكون تلك الحقيقة لغيره، فتكون تلك الحقيقة ليست إلا هذا. وإن كان تحقق هذا المعنى لهذا المعين لا عن ذاته، بل عن غيره، وإنما هو هو لأنه هذا المعين، فيكون وجوده الخاص له مستفادا" من غيره، فلا يكون واجب الوجود، وهذا خلف؛ فإذن حقيقة الواجب الوجود الواحد فقط. وكيف تكون الماهية المجردة عن المادة لذاتين، والشيئان إنما يكونان اثنين إما بسبب المعنى، وإما بسبب الحامل للمعنى، وإما بسبب الوضع أو المكان، أو بسبب الوقت والزمان، وبالجملة لعلة من العلل؟ لأن كل اثنين لا يختلفان بالمعنى، فإنما يختلفان بشيء عارض للمعنى مقارن له، فكل ما ليس له وجود إلا وجود معنى، ولا يتعلق بسبب خارج أو حالة خارجة، فبماذا يخالف مثله؟ فإذن لا يكون له مشارك في معناه، فالأول لا ند له. وأيضا، فإنا نقول: إن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون معنى مشتركا فيه لعدة بوجه من الوجوه، لا متفقى الحقائق والأنواع ولا مختلفي الحقائق والأنواع. أما أول ذلك فإن وجوب الوجود لا ماهية له تقارنه غير وجوب الوجود، فلا يمكن أن يكون لحقيقة وجوب الوجود اختلاف بعد وجوب الوجود. وأيضا، لا يخلو إما أن يكون ما يختلف به آحاد واجب الوجود بعد الاتفاق في وجوب الوجود أشياء موجودة لكل واحد من المتفقين فيه بها يخالفه صاحبه، أو غير موجودة لشيء منها، أو موجودة لبعضها وليس في البعض الآخر إلا عدمها. فإن كانت غير موجودة وليس هناك شيء يقع به الاختلاف بعد الاتفاق، فلا اختلاف بينهما في الحقائق، فهي متفقة الحقائق، وقد قلنا إنها تختلف حقائقها بعد ما اشتركت

الصفحة    : 184

فيه، وإن كانت غير موجودة في بعضها وموجودة في بعضها؛ مثلا أن يكون أحدهما انفصل عن الآخر بأن له حقيقة وجوب الوجود، وشيئا هو الشرط في الانفصال، وللآخر حقيقة وجوب الوجود مع عدم الشرط الذي لذلك، وإنما فارقه لأجل هذا العدم فقط، وليس هناك شيء إلا العدم ينفصل به عن الآخر، فيكون من شأن وجوب الوجود بالحقيقة التي له أن تثبت قائمة مع عدم شرط يلحق به، والعدم لا معنى له محصلا في الأشياء، وإلا لكان في شيء واحد معان بلا نهاية فإن فيه اختلاف أشياء بلا نهاية. فلا يخلو إما أن يكون وجوب الوجود متحققا" في الثاني من دون الزيادة التي له، أو لا يكون. فإن لم يكن، فيكون ليس له دونه وجوب الوجود، ويكون شرطا في وجوب الوجود في الآخر أيضا. وإن كان، فتكون الزيادة فصلا أيضا"، وليس من شرط وجوب الوجود، وهو مع ذلك مركب، وواجب الوجود غير مركب. وإن كان لكل واحد منهما ما ينفصل به عن الآخر، فهو يقتضي التركيب في كل واحد منهما. ثم لا يخلو أيضا"، إما أن يكون وجوب الوجود يتم وجوب وجود دون كل واحد من الزيادتين، أو يكون ذلك شرطا له في أن يتم. فإن تم، فوجوب الوجود لا اختلاف فيه بالذات، إنما الاختلاف في العوارض التي تلحقه، وقد قام الوجود واجبا" مستغنيا" في قوامه عن تلك اللواحق. وإن لم يتم فلا يخلو: إما أن لا يتم دون ذلك في أن يكون له حقيقة وجوب الوجود، وإما أن يكون وجوب الوجود معنى متحققا" في نفسه، وليس ذانك ولا أحدهما داخلا في هويته من حيث هو واجب الوجود، ولكنه لابد من أن يصير حاصل الوجود بأحدهما، مثل أن الهيولي - وإن كانت لها جوهريتها في حد هيوليتها - فإن وجودها بالفعل إما بهذه الصورة أو بالأخرى؛ وأيضا" اللون، فإنه وإن كان فصل السواد لا يقومه - من حيث هو لون ولا فصل البياض - فإن كل واحد منهما كالعلة له في أن يوجد بالفعل ويحصل، وليس أحدهما علة له بعينه، بل أيهما اتفق، ولكن ذلك في حال، وذلك في حال. فإن كان الأمر على مقتضى الوجه الأول، فكل واحد منهما داخل في تقويم وجوب الوجود وشرط فيه، فحيث كان وجوب الوجود، وجب أن يكون معه؛ وإن كان على مقتضى المعنى الثاني فواجب الوجود يحتاج إلى شيء يوجد به، فيكون واجب الوجود - من بعد ما يتقرر له معنى أنه واجب الوجود - يحتاج إلى شيء آخر يوجد به، وهذا محال. وأما في اللون، وفي الهيولي، فليس الأمر هناك على هذه الصورة؛ فإن الهيولي في إنها هيولي شيء، واللون في أنه لون شيء، وفي أنه موجود شيء. ونظير اللون هناك هو واجب الوجود ههنا، ونظير فصلي السواد والبياض هناك هو ما يختص به كل واحد من المفروضين ههنا، فكما أن كل واحد من

الصفحة    : 185

فصلي السواد والبياض لا مدخل لهما في تقرير اللونية، كذلك يجب أن يكون خاصة كل واحد من هذين المفروضين لا مدخل لهما في تقرير وجوب الوجود. وأما هناك، فكان المدخل للفصلين في أن صار اللون موجودا"، أي صار اللون شيئا" هو غير اللون، وزائدا" على أنه لون؛ وههنا ليس يمكن ذلك؛ لأن وجوب الوجود يكون متقرر الوجود، بل هو تقرر الوجود، بل الوجود شرط في تقرير ماهية واجب الوجود، أو هو نفسه مع عدم عدم، أو امتناع بطلان. وأما في اللون، فالوجود لا حق يلحق ماهية هي اللون، فتوجد الماهية التي هي بنفسها لون عينا" موجودة بالوجود. فلو كانت الخاصة ليست علة في تقرير ماهية وجوب الوجود، بل في أن يحصل له الوجود، وكان الوجود أمرا" خارجا" عن تلك الماهية خروجها عن ماهية اللون، كان الامر مستمرا"على قياس سائر الأشياء العامة المنفصلة بفصول، وبالجملة المنقسمة في معان مختلفة؛ لكن الوجود يجب أن يكون حاصلا حتى يكون وجوبه، فتكون الخاصة كأنها تحتاج إليها كشيء في أمر هو الذي استغنى فيه عنه، وهذا خلف، محال، بل الوجوب ليس له الوجود كشيء ثان يحتاج إليه، كما للونية وجود ثان. وبالجملة كيف يكون شيء خارج عن وجوب الوجود شرطا" في وجوب الوجود؟ ومع ذلك فإن حقيقة وجوب الوجود كيف يتعلق بموجب له، فيكون وجوب الوجود في نفسه إمكان الوجود؟ ونقرر من رأس فنقول: بالجملة إن الفصول وما يجري مجراها لا يتحقق بها حقيقة المعنى الجنسي من حيث معناه، بل إنما كانت علة لتقويم الحقيقة موجودة، فإن الناطق ليس شرطا" يتعلق به الحيوان في أن له معنى الحيوان وحقيقته، بل في أن يكون موجودا"معينا. وإّذا كان المعنى العام هو نفس واجب الوجود، وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجودا"، فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس، والحال فيما يقع به اختلاف غير فصلي في جميع هذا ظاهر، فبين أن وجوب الوجود ليس مشتركا فيه، فالأول لا شريك له، وإذ هو بريء عن كل مادة وعلائقها وعن الفساد، وكلاهما شرط مع ما يقع تحت التضاد، فالأول لا ضد له. فقد وضح أن الأول لا جنس له، ولا ماهية له، ولا كيفية له، ولا كمية له، ولا أين له، ولا متى له، ولا ند له، ولا شريك له، ولا ضد له، تعالى وجل، وأنه لا حدّ له، ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كل شيء، بل هو إنما عليه الدلائل الواضحة، وأنه إذا حققته فإنما يوصف بعد الإنية بسلب المشابهات عنه، وبإيجاب الإضافات كلها إليه، فإن كل شيء منه وليس هو مشاركا لما منه، وهو مبدأ كل شيء وليس هو شيئا من الأشياء بعده.

الصفحة    : 186

الفصل السادس   (و)

فصل في إنه تام بل فوق التام وخير، ومفيد كل شيء بعده، وأنه حق، وأنه عقل محض، ويعقل كل شيء، وكيف ذلك، وكيف يعلم ذاته، وكيف يعلم الكليات، وكيف يعلم الجزئيات، وعلى أي وجه لا يجوز أن يقال يدركها فواجب الوجود تام الوجود، لأنه ليس شيء من وجوده وكمالات وجوده قاصرا" عنه، ولا شيء من جنس وجوده خارجا" عن وجوده يوجد لغيره، كما يخرج في غيره؛ مثل الإنسان، فإن أشياء كثيرة من كمالات وجوده قاصرة عنه، وأيضا" فان إنسانيته توجد لغيره. بل واجب الوجود فوق التمام؛ لأنه ليس إنما له الوجود الذي له فقط، بل كل وجود أيضا" فهو فاضل عن وجوده، وله، وفائض عنه. وواجب الوجود بذاته خير محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء وما يتشوقه كل شيء هو الوجود، أو كمال الوجود من باب الوجود. والعدم من حيث هو عدم لا يتشوق إليه، بل من حيث يتبعه وجود أو كمال للوجود، فيكون المتشوق بالحقيقة الوجود، فالوجود خير محض وكمال محض. فالخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء في حدّه ويتم به وجوده، والشر لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح حال الجوهر. فالوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود. والوجود الذي لا يقارنه عدم - لا عدم جوهر، ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائما" بالفعل - فهو خير محض، والممكن الوجود بذاته ليس خيرا" محضا"؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود بذاته، فذاته تحتمل العدم، وما أحتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا" من الشر والنقص، فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته. وقد يقال أيضا": خير، لما كان مفيدا" لكمالات الأشياء وخيراتها، وقد بان أن واجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا" لكل وجود، ولكل كمال وجود، فهو من هذه الجهة خير أيضا" لا يدخله نقص ولا شر، وكل واجب الوجود فهو حق؛ لأن حقية كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له، فلا أحق إذن من واجب الوجود. وقد يقال: حق، أيضا"، لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا"، فلا أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا"، ومع صدقه دائما"، ومع دوامه لذاته لا لغيره؛ وسائر الأشياء فإن ماهياتها كما علمت لا

الصفحة    : 187

تستحق الوجود، بل هي في أنفسها وقطع أضافتها إلى واجب الوجود تستحق العدم؛ فلذلك كلها في أنفسها باطلة، وبه حقه، وبالقياس إلى الوجه الذي يليه حاصلة، فلذلك كل شيء هالك إلا وجهه، فهو أحق بأن يكون حقا. وواجب الوجود عقل محض؛ لأنه ذات مفارقة للمادة من كل وجه، وقد عرفت أن السبب في أن لا يعقل الشيء هو المادة وعلائقها لا وجوده. وأما الوجود الصوري فهو الوجود العقلي وهو الوجود الذي إذا تقرر في شيء صار للشيء به عقل، والذي يحتمل نيله هو عقل بالقوة، والذي ناله بعد القوة هو عقل بالفعل على سبيل الاستكمال، والذي هو له ذاته هو عقل بذاته. وكذلك هو معقول محض؛ لأن المانع للشيء أن يكون معقولا هو أن يكون في المادة وعلائقها، وهو المانع عن أن يكون عقلا. وقد تبين لك هذا فالبريء عن المادة والعلائق، المتحقق بالوجود المفارق، هو معقول لذاته، ولأنه عقل بذاته وهو أيضاً معقول بذاته فهو معقول ذاته، فذاته عقل وعاقل ومعقول، لا أن هناك أشياء متكثرة. وذلك لأنه بما هو هوية مجردة عقل، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة فهو عاقل ذاته؛ فإن المعقول هو الذي ماهيته المجردة لشيء، والعاقل هو الذي له ماهية مجردة لشيء، وليس من شرط هذا الشيء أن يكون هو أو آخر، بل شيء مطلقا، والشيء مطلقا أعم من هو أو غيره. فالأول باعتبار أن له ماهية مجردة لشيء، هو عاقل، وباعتبار أن ماهيته المجردة لشيء، هو معقول، وهذا الشيء هو ذاته، فهو عاقل بأن له الماهية المجردة التي لشيء هو ذاته، ومعقول بأن ماهيته المجردة هي لشيء هو ذاته. وكل من تفكر قليلا علم أن العاقل يقتضي شيئا معقولا، وهذا الاقتضاء لا يتضمن أن ذلك الشيء آخر أو هو، بل المتحرك إذا اقتضى شيئا محركا لم يكن نفس هذا الاقتضاء يوجب أن يكون شيئا آخر أو هو، بل نوع آخر من البحث يوجب ذلك؛ وتبين أنه من المحال أن يكون ما يتحرك هو ما يحرك؛ ولذلك لم يمتنع أن يتصور فريق لهم عدد أن في الأشياء شيئا متحركا عن ذاته، إلى وقت أن قام البرهان على امتناعه، ولم يكن نفس تصور المحرك والمتحرك يوجب ذلك، إذ كان المتحرك يوجب أن يكون له شيء محرك مطلقا بلا شرط أنه آخر أو هو، والمحرك يوجب أن يكون له شيء متحرك عنه بلا شرط أنه آخر أو هو. وكذلك المضافات تعرف إثنينيتها لأمر، لا لنفس النسبة والإضافة المفروضة في الذهن؛ فإنا نعلم علما

الصفحة    : 188

يقينا أن لنا قوة نعقل بها الأشياء. فإما أن تكون القوة التي نعقل بها هذه القوة هي هذه القوة نفسها، فتكون هي نفسها تعقل ذاتها، أو تعقل ذلك قوة أخرى، فتكون لنا قوتان: قوة نعقل الأشياء بها، وقوة نعقل بها هذه القوة، ثم يتسلسل الكلام إلى غير النهاية فيكون فينا قوى تعقل الأشياء بلا نهاية بالفعل؛ فقد بان أن نفس كون الشيء معقولا لا يوجب أن يكون معقولا لشيء، ذلك الشيء آخر. وبهذا تبين أنه ليس يقتضي العاقل أن يكون عاقل شيء آخر بل كل ما توجد له الماهية المجردة فهو عاقل، وكل ماهية مجردة توجد له أو لغيره فهو معقول، إذ كانت هذه الماهية لذاتها عاقلة، ولذاتها أيضا معقولة لكل ماهية مجردة تفارقها أو لا تفارقها. فقد فهمت أن نفس كونه معقولا وعاقلا، لا يوجب أن يكون اثنين في الذات، ولا اثنين في الاعتبار أيضا؛ فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا اعتبار أن ماهية مجردة لذاته، وأنه ماهية مجردة ذاته لها، وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني، والغرض المحصل شيء واحد بلا قسمة، فقد بان أن كونه عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة ألبتة. وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء، وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل، فيكون تقومها بالأشياء؛ وإما عارضة لها أن تعقل، فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة؛ وهذا محال. ويكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال، ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير، والأصول السالفة تبطل هذا وما أشبهه؛ ولأنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعينها، والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها. ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلا زمانيا مشخصا بل على نحو آخر نبينه؛ فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيا منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل عقلا زمانيا منها أنها معدومة غير موجودة،فيكون لكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات، ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص لم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة ووقت وتشخص لم تكن معقولة بل محسومة أو متخيلة؛ ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما تدرك من حيث هي محسوسة أو متخيلة بآلة متجزئة، وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهذا من العجايب التي يحوج تصورها إلى

الصفحة    : 189

لطف قريحة. وأما كيفية ذلك، فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجبا يسببه، وقد بينا هذا، فتكون هذه الأسباب يتأدى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئية. والأول يعلم الأسباب ومطابقتها، فيعلم ضرورة ما يتأدى إليها، وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات؛ لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذا، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية، أعني من حيث لها صفات. وإن تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها كانت أيضا بمنزلتها لكنها تستند إلى مباديء كل واحد منها نوعه في شخصه، فتستند إلى أمور شخصية. وقد قلنا: إن مثل هذا الاستناد قد يجعل للشخصيات رسما ووصفا مقصورا عليها. فإن كان ذلك الشخص مما هو عند العقل شخصي أيضا، كان للعقل إلى ذلك المرسوم سبيل، وذلك هو الشخص الذي هو واحد في نوعه لا نظير له، ككرة الشمس مثلا، أو كالمشتري، وأما إذا كان النوع منتشرا في الأشخاص لم يكن للعقل إلى رسم ذلك الشيء سبيل إلا أن يشار إليه ابتداء على ما عرفته. ونعود فنقول: كما أنك تعلم حركات السماويات كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وكل انفصال جزئي يكون بعينه ولكن على نحو كلي؛ لأنك تقول في كسوف ما إنه كسوف يكون بعد زمان حركة يكون لكذا من كذا شماليا نصفيا ينفصل القمر منه إلى مقابلة كذا، ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق له أو متأخر عنه مدة كذا، وكذلك بين حال الكسوفين الآخرين حتى لا تقدر عارضا من عوارض تلك الكسوفات إلا علمته، ولكنك علمته كليا، لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحد منها يكون حاله تلك الحال، لكنك تعلم لحجة ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحدا بعينه، وهذا لا يدفع الكلية إن تذكرت ما قلناه من قبل. ولكنك مع هذا كله، ربما لم يجز أن تحكم في هذا الآن بوجود هذا الكسوف أو لا وجوده، إلا أن تعرف جزئيات الحركات بالمشاهدة الحسية، وتعلم ما بين هذا المشاهد وبين ذلك الكسوف من المدة، وليس هذا نفس معرفتك بأن في الحركات حركة جزئية صفتها صفة ما شاهدت، وبينها وبين الكسوف الثاني الجزئي كذا، فإن ذلك قد يجوز أن تعلمه على هذا النوع من العلم ولا تعلمه وقت ما يشك فيه أنها هل هي موجودة، بل يجب أن يكون قد حصل لك بالمشاهدة شيء مشار إليه حتى تعلم حال ذلك الكسوف. فإن منع مانع أن يسمى هذا معرفة للجزء من جهة كلية، فلا مناقشة معه؛ فإن غرضنا الآن غير ذلك،

الصفحة    : 190

وهو في تعريفنا أن الأمور الجزئية كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا يتغير معهما العالِم، وكيف يعلم ويدرك علما وإدراكا لا يتغير معهما العالم؛ فإنك إذا علمت أمر الكسوفات كما توجد أنت، أو لو كنت موجودا دائما كان لك علم لا بالكسوف المطلق، بل بكل كسوف كائن، ثم كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغير منك أمرا؛ فإن علمك في الحالين يكون واحدا، وهو أن كسوفا له وجود بصفات كذا، بعد كسوف كذا، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا، في مدة كذا، ويكون بعد كذا، وبعده كذا، ويكون هذا العقد منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده. فأما إن أدخلت الزمان في ذلك، فعلمت في آن مفروض أن هذا الكسوف ليس بموجود، ثم علمت في آن آخر أنه موجود، لم يبق علمك ذلك عند وجوده، بل يحدث علم آخر، ويكون فيك التغير الذي أشرنا إليه، ولم يصح أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبلي الانجلاء، هذا وأنت زماني وآني، ولكن الأول الذي لا يدخل في زمان وحكمه، فهو بعيد أن يحكم حكما في هذا الزمان، وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديدا ومعرفة جديدة. واعلم أنك إنما كنت تتوصل إلى إدراك الكسوفات الجزئية؛ لإحاطتك بجميع أسبابها، وإحاطتك بكل ما في السماء؛ فإذا وقعت الإحاطة بجميع أسبابها ووجودها، انتقل منها إلى جميع المسببات، ونحن سنبين هذا من ذي قبل بزيادة كشف، فتعلم كيف يعلم الغيب وتعلم من هناك إن الأول من ذاته كيف يعلم كل شيء، وأن ذلك لأنه مبدأ كل شيء، ويعلم الأشياء من حالها؛ إذ هو مبدأ شيء أو أشياء حالها وحركاتها كذا، وما ينتج عنها كذا، إلى التفصيل بعده، ثم على الترتيب الذي يلزم ذلك التفصيل لزوم التعدية والتأدية، فتكون هذه الأشياء مفاتيح الغيب التي لا يعلمها أحد إلا هو، فالله أعلم بالغيب وهو عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم.

الفصل السابع   (ز)

الصفحة    : 191

فصل في نسبة المعقولات إليه وفي إيضاح أن صفاته الإيجابية والسلبية لا توجب في ذاته كثرة، وأن له البهاء الأعظم والجلال الأرفع والمجد الغير المتناهي، وفي تفصيل حال اللذة العقلية.

ثم يجب أن يعلم أنه إذا قيل عقل للأول قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس، وأنه ليس فيه اختلاف صور مترتبة متخالفة كما يكون في النفس على المعنى الذي مضى في كتاب النفس؛ فهو لذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثر بها في جوهره، أو تتصور في حقيقة ذاته بصورها، بل تفيض عنه صورها معقولة، وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليته، ولأنه يعقل ذاته، وأنه مبدأ كل شيء، فيعقل من ذاته كل شيء. وأعلم أن المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود، كما عرض أن اخذنا نحن عن الفلك بالرصد والحس صورته المعقولة، وقد تكون الصورة المعقولة غير مأخوذة عن الموجود، بل بالعكس؛ كما أنا نعقل صورة بنائية نخترعها، ثم تكون تلك الصورة المعقولة محركة لأعضائنا إلى أن نوجدها، فلا تكون وجدت فعقلناها، ولكن عقلناها فوجدت. ونسبة الكل إلى العقل الأول الواجب الوجود هو هذا؛ فإنه يعقل ذاته وما توجبه ذاته، ويعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكل، فتتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده، لا على أنها تابعة اتباع الضوء المضيء والإسخان للحار، بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود، وأنه عنه وعالم بأن هذه العالمية يفيض عنها الوجود على الترتيب الذي يعقله خيرا" ونظاما". وعاشق ذاته التي هي مبدأ كل نظام، وخير من حيث هي كذلك، فيصير نظام الخير معشوقا" له بالعرض، لكنه لا يتحرك إلى ذلك عن شوق فإنه لا ينفعل منه ألبتة، ولا يشتاق شيئا ولا يطلبه. فهذه إرادته الخالية عن نقص يجلبه شوق وانزعاج قصد إلى غرض. ولا يظن أنه لو كانت للمعقولات عنده، صور وكثرة، كانت كثرة الصور التي يعقلها أجزاء لذاته، وكيف وهي تكون بعد ذاته؟ لأن عقله لذاته ذاته، ومنها يعقل كل ما بعده؛ فعقله لذاته علة عقله ما بعد ذاته، فعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته. على أن المعقولات والصور التي له بعد ذاته إنما هي معقولة على نحو المعقولات العقلية لا النفسانية، وإنما له إليها إضافة المبدأ الذي يكون عنه لا فيه، بل إضافات على الترتيب بعضها قبل بعض، وإن كانت معا لا تتقدم ولا تتأخر في الزمان، فلا يكون هناك انتقال

الصفحة    : 192

في المعقولات. ولا يظن أن الإضافة العقلية إليها إضافة إليها كيف وجدت، وإلا لكان كل مبدأ صورة في مادة من شأن تلك الصور أن تعقل بتدبير ما، من تجريد وغيره، ويكون هو عقلا بالفعل، بل هذه الإضافة إليها وهي بحال معقولة. ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان، لكان إنما يعقل ما يوجد في كل وقت ولا يعقل المعدوم منها في الأعيان إلى أن يوجد، فيكون لا يعقل من نفسه أنه مبدأ ذلك الشيء على الترتيب إلا عندما يصير مبدأ فلا يعقل ذاته، لأن ذاته من شأنها أن يفيض عنها كل وجود، وإدراكها من حيث شأنها إنها كذا يوجب إدراك الآخر وإن لم يوجد، فيكون العالم الربوبي محيطا بالوجود الحاصل والممكن، ويكون لذاته إضافة إليها من حيث هي معقولة لا من حيث لها وجود في لأعيان. فبقي لك النظر في حال وجودها معقولة أنها تكون موجودة في ذات الأول كاللوازم التي تلحقه، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره كصور مفارقة على ترتيب موضوعة في صقع الربوبية، أو من حيث هي موجودة في عقل أو نفس إذا عقل الأول هذه الصور، ارتسمت في أيها كان، فيكون ذلك العقل أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة، وتكون معقولة له على أنها فيه، ومعقولة من الأول على أنها عنه، ويعقل الأول من ذاته أنه مبدأ لها، فيكون من جملة تلك المعقولات ما المعقول منه أن الأول مبدأ له بلا واسطة، بل يفيض وجوده عنه أولا، وما المعقول منه أنه مبدأ له بتوسط فهو يفيض عنه ثانيا، وكذلك يكون الحال في وجود تلك المعقولات، وإن كان ارتسامها في شيء واحد، لكن بعضها قبل وبعضها بعد، على الترتيب السبي و المسبي. وإذا كانت تلك الأشياء المرتسمة في ذلك الشيء من معلولات الأول، فتدخل في جملة ما الأول يعقل ذاته مبدأ لها، فيكون صدورها عنه ليس على ما قلنا من أنه إذا عقل خيرا وجد؛ لأنها نفس عقله للخير، أو يتسلسل الأمر لأنه يحتاج أن يعقل أنها عقلت، وكذلك إلى ما لانهاية، وذلك محال فهي نفس عقله للخير. فإذا قلنا لما عقلها وجدت، ولم يكن معها عقل آخر، ولم يكن وجودها إلا أنها تعقلات، فإنما يكون كأنا قلنا لأنه عقلها عقلها، أو لأنها وجدت عنه وجدت عنه. وإن جعلت هذه المعقولات أجزاء ذاته عرض تكثر، وإن جعلتها لواحق ذاته عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود لملاصقته ممكن الوجود، وإن جعلتها أمورا مفارقة لكل ذات عرضت الصور الأفلاطونية، وإن جعلتها موجودة في عقل ما عرض أيضا ما ذكرنا قبل هذا من المحال. فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلص من هذه الشبهة، وتتحفظ أن لا تكثر ذاته، ولا تبالي بأن تكون ذاته

الصفحة    : 193

مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود، فإنها من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاتها. وتعلم أن العالم الربوبي عظيم جدا، وتعلم أنه فرق بين أن يفيض عن الشيء صورة من شأنها أن تعقل، وأن يفيض عن الشيء صورة معقولة من حيث هي معقولة بلا زيادة، وهو يعقل ذاته مبدأ لفيضان كل معقول من حيث هو معقول معلول، كما هو مبدأ لفيضان كل موجود من حيث هو موجود معلول. ثم تجتهد في تأمل الأصول المعطاة والمستقبلة ليتضح لك ما ينبغي أن يتضح. فالأول يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل أنه كيف يكون بذلك النظام، لأنه يعقله وهو مستفيض كائن موجود. وكل معلوم الكون، وجهة الكون عن مبدئه عند مبدئه، وهو خير غير مناف، وهو تابع لخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتيهما، فذلك الشيء مراد، لكن ليس مراد الأول هو على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون عنه غرض، فكأنك قد علمت استحالة هذا وستعلم، بل هو لذاته مريد هذا النحو من الإرادة العقلية المحضة، وحياته هذا أيضا بعينه، فإن الحياة التي عندنا تكمل بإدراك وفعل هو التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين، وقد صح أن نفس مدركه - وهو ما يعقله عن الكل - هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله؛ وذلك إيجاد الكل، فمعنى واحد منه هو إدراك وسبيل إلى الإيجاد، فالحياة منه ليس مما تفتقر إلى قوتين حتى تتم بقوتين، ولا الحياة منه غير العلم وكل ذلك له بذاته. وأيضا فإن الصور المعقولة التي تحدث فينا فتصير سببا للصورة الموجودة الصناعية لو كانت بنفس وجودها كافية لأن تكون منها الصور الصناعية - بأن تكون صورها بالفعل لمباديء لما هي له صور - لكان المعقول عندنا هو بعينه القدرة. ولكن ليس كذلك بل وجودها لا يكفي في ذلك، لكن يحتاج إلى إرادة متجددة منبعثة من قوة شوقية تتحرك منهما معا" القوة المحركة فتحرك العصب والأعضاء الأدوية، تم تحرك الآلات الخارجة، ثم تحرك المادة، فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصور المعقولة قدرة ولا إرادة، بل عسى القدرة فينا عند المبدأ المحرك، وهذه الصورة محركة لمبدأ القدرة، فتكون محركة المحرك. فواجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه، ولا مغايرة المفهوم لعلمه، فقد بينا أن العلم الذي له بعينه هو الإرادة التي له. وكذلك قد تبين أن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا، هو مبدأ للكل لا مأخوذا" عن الكل، ومبدأ بذاته، لا يتوقف على وجود شيء. وهذه الإرادة على الصورة التي حققناها التي لا تتعلق بغرض في فيض الوجود، لا تكون غير نفس الفيض وهو الجود. فقد كنا حققنا لك من أمر الجود ما إذا تذكرته علمت أن هذه الإرادة نفسها تكون جودا"، وإذا حققت تكون الصفة الأولى

الصفحة    : 194

لواجب الوجود أنه إنُّ وموجود ثم الصفات الأخرى بعضها يكون المعنى فيها هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع سلب، وليس ولا واحد منها موجبا" في ذاته كثرة ألبتة ولا مغايرة. فاللواتي تخالط السلب أنه لو قال قائل للأول، ولم يتحاش، إنه جوهر، لم يعن إلا هذا الوجود، وهو مسلوب عنه الكون في الموضوع. وإذا قال له: واحد، لم يعن إلا هذا الوجود نفسه مسلوبا" عنه القسمة بالكم أو القول، أو مسلوبا" عنه الشريك. وإذا قال: عقل وعاقل ومعقول، لم يعن بالحقيقة إلا أن هذا المجرد مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما. وإذا قال له: أول، لم يعن إلا إضافة هذا الوجود إلى الكل. وإذا قال له: قادر، لم يعن به إلا أنه واجب الوجود مضافا" إلى أن وجود غيره إنما يصح عنه على النحو الذي ذكر. وإذا قال له: حي، لم يعن إلا هذا الوجود العقلي مأخوذا"مع الإضافة إلى الكل المعقول أيضا" بالقصد الثاني؛ إذ الحي هو المدرك الفعال. وإذا قال له: مريد، لم يعن إلا كون واجب الوجود مع عقليته - أي سلب المادة عنه - مبدأ لنظام الخير كله وهو يعقل ذلك، فيكون هذا مؤلفا" من إضافة وسلب. وإذا قال له: جواد، عناه من حيث هذه الإضافة مع السلب، بزيادة سلب آخر، وهو أنه لا ينحو غرضا" لذاته. وإذا قال له: خير، لم يعن إلا كون هذا الوجود مبرأ عن مخالطة ما بالقوة والنقص وهذا سلب، أو كونه مبدأ لكل كمال ونظام وهذا إضافة. فإذا عقلت صفات الأول الحق على هذه الجهة، لم يوجد فيها شيء يوجب لذاته أجزاء أو كثرة بوجه من الوجوه. ولا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحد من جهة، فالواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض، وهو مبدأ جمال كل شيء وبهاء كل شيء. وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له، فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب؟ وكل جمال وملاءمة وخير مدرك فهو محبوب معشوق، ومبدأ ذلك كله إدراكه. أما الحسي، وأما الخيالي وأما الوهمي وأما الظني، وأما العقلي، وكلما كان الإدراك أشد اكتناها" وأشد تحقيقا"والمدرك أكمل وأشرف ذاتا"، فإحباب القوة المدركة إياه والتذاذها به أكثر. فالواجب الوجود الذي هو في غاية الكمال والجمال والبهاء الذي يعقل ذاته بتلك الغاية والبهاء والجمال، وبتمام التعقل، وبتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة، تكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق وأعظم لاذ وملتذ؛ فإن اللذة ليست إلا إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم، فالحسية إحساس الملائم، والعقلية تعقل الملائم، وكذلك فالأول أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك، فهو أفضل لاذ وملتذ،

الصفحة    : 195

ويكون ذلك أمرا لا يقاس إليه شيء. وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الأسامي، فمن استبشعها استعمل غيرها. ويجب أن يعلم أن أدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس، لأنه - أعني العقل - يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي، ويتحد به ويصير هو على وجه ما، ويدركه بكنهه لا بظاهره، وليس كذلك الحس للمحسوس؛ فاللذة التي تجب لنا: بأن نعقل ملائما"، هي فوق اللذة التي تكون لنا: بأن نحس ملائما" ولا نسبة بينهما. لكنه قد يعرض أن تكون القوة المدركة لا تستلذ بما يجب أن تستلذ به لعوارض، كما أن المريض لا يستلذ الحلو، ويكرهه لعارض، فكذلك يجب أن يعلم من حالنا ما دمنا في البدن. فإذا حصل لقوتنا العقلية كمالها بالفعل لا تجد من اللذة ما يجب للشيء في نفسه؛ وذلك لعائق البدن. ولو انفردنا عن البدن، كنا بمطالعتنا ذاتنا، وقد صارت عالما عقليا مطابقا للموجودات الحقيقية، والجمالات الحقيقية، واللذات الحقيقية، متصلة بها اتصال معقول بمعقول، نجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له. وسنوضح هذه المعاني كلها بعد. واعلم أن لذة كل قوة حصول كمالها لها؛ فللحس المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكل شيء ما يخصه، وللنفس الناطقة مصيرها عالما" عقليا بالفعل. فالواجب الوجود معقول، عقل أو لم يعقل، ومعشوق، عشق أو لم يعشق.

الصفحة    : 196

المقالة التاسعة

في صدور الأشياء عن التدبير الأول والمعاد إليه

سبعة فصول

الفصل الأول   (ا)

فصل في صفة فاعلية المبدأ الأول.

فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود، غير داخل في جنس أو واقع تحت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف والماهية و الأين و المتى والحركة، لا ند له ولا شريك له ولا ضد له، وأنه واحد من جميع الوجوه؛ لأنه غير منقسم: لا في الأجزاء بالفعل ولا في الأجزاء بالفرض والوهم كالمتصل، ولا في العقل بأن تكون ذاته مركبة من معان عقلية متغايرة تتحد منها جملة؛ وأنه واحد من حيث هو غير مشارك ألبته في وجوده الذي له، فهو بهذه الوحدة فرد، وهو واحد لأنه تام الوجود ما بقي له شيء ينتظر حتى يتم، وقد كان هذا أحد وجوه الواحد. وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبي، ليس كالواحد الذي للأجسام، لاتصال أو اجتماع، أو غير ذلك مما يكون الواحد فيه بوحدة هي معنى وجودي يلحق ذاتا أو ذواتا. وقد أتضح لك فيما سلف من العلوم الطبيعية وجود قوة غير متناهية غير مجسمة، وأنها مبدأ الحركة الأولية، وبان لك أن الحركة المستديرة ليست متكونة تكونا" زمانيا"، وقد بان لك من هناك من وجه ما أنه مبدأ دائم الوجود. وقد بان لك بعد ذلك أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته، وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن، مع إنه قد بان لك إن العلة لذاتها تكون موجبة المعلول، فإن دامت أوجبت المعلول دائما". ولو اكتفيت بتلك الأشياء لكفاك ما نحن في شرحه، إلا أنا نزيدك بصيرة. فنقول: إنك قد علمت إن كل حادث فله مادة، فإذا كان لم يحدث ثم حدث لم يخل، إما أن تكون علتا الفاعلية والقابلية لم تكونا فحدثتا، أو كانتا، ولكن كان الفاعل لا يحرك والقابل لا يتحرك، أو كان الفاعل ولم يكن القابل، أو كان القابل ولم يكن الفاعل. ونقول قولا مجملا قبل العود إلى التفصيل، إنه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث ألبته أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أولا وجوبه، على ما كان؛ فلم يجز أن يحدث كائن ألبته. فإن حدث أمر لم يكن، فلا يخلو:

الصفحة    : 197

إما أن يكون حدوثه على سبيل ما يحدث، لحدوث علته دفعة، لا على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. أو يكون حدوثه على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها. فأما القسم الأول فيجب أن يكون حدوثه لحدوث العلة ومعها غير متأخر عنها ألبته؛ فإنه إن كانت العلة غير موجودة ثم وجدت، أو موجودة وتأخر عنها المعلول، لزم ما قلناه في الأول من وجوب حادث آخر غير العلة، فكان ذلك الحادث هو العلة القريبة. فإن تمادى الأمر على هذه الجهة، وجبت علل وحوادث دفعة غير متناهية، ووجبت معا، وهذا مما عرفنا الأصل القاضي بإبطاله، فبقي أن لا تكون العلل الحادثة كلها دفعة لا لقرب من علة أولى أو بعد. فبقي أن مباديء الكون تنتهي إلى قرب علل أو بعدها، وذلك بالحركة. فإذن قد كان قبل الحركة حركة، وتلك الحركة أوصلت العلل إلى هذه الحركة، فهما كالمتماسين، وإلا رجع الكلام إلى الرأس في الزمان الذي بينهما. وذلك أنه إن لم تماسه حركة كانت الحوادث الغير المتناهية منها في آن واحد، إذ لا يجوز أن تكون في آنات متلاقية متماسة، فاستحال ذلك، بل يجب أن يكون واحد قد قرب في ذلك الآن بعد بعد، أو بعد قرب؛ فيكون ذلك الآن نهاية حركة أولى؛ تؤدي إلى حركة أخرى، أو أمر آخر، فإن أدت إلى حركة أخرى وأوجبت، كانت الحركة التي هي كعلة قريبة لهذه الحركة مماسة لها. والمعنى في هذه المماسة مفهوم، على أنه لا يمكن أن يكون زمان بين حركتين ولا حركة فيه، فإنه قد بان لنا في الطبيعيات أن الزمان تابع للحركة، ولكن الاشتغال بهذا النحو من البيان يعرفنا إن كانت حركة قبل حركة، ولا يعرفنا أن تلك الحركة كانت علة لحدوث هذه الحركة اللاحقة. فقد ظهر ظهورا واضحا أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة، ولا تبالي أي حادث كان ذلك الحادث: كان قصدا من الفاعل، أو إرادة، أو علما، أو آلة، أو طبعا، أو حصول وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيؤ أو استعداد من القابل لم يكن، أو وصول من المؤثر لم يكن؛ فإنه كيف كان، فحدوثه متعلق بالحركة لا يمكن غير هذا. ولنرجع إلى التفصيل فنقول: إن كانت العلة الفاعلية والقابلية موجودتي الذات، ولا فعل ولا انفعال بينهما، فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال. أما من جهة الفاعل، فمثل إرادة موجبة للفعل، أو طبيعة موجبة للفعل، أو آلة أو زمان. وأما من جهة القابل، فمثل استعداد لم يكن:

الصفحة    : 198

أو من جهتيهما جميعا مثل وصول أحدهما إلى الآخر. وقد وضح أن جميع هذا بحركة ما وأما إن كان الفاعل موجودا ولم يكن قابل ألبته، فهذا محال: أما أولا؛ فلأن القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة. وأما ثانيا، فإنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل، وهو المادة، فيكون قد كان القابل حتى حدث القابل. وأما إن وضع أن القابل موجود والفاعل ليس بموجود، فالفاعل يحدث ويلزم أن يكون حدوثه بعلة ذات حركة على ما وصفناه. وأيضا مبدأ الكل ذات واجبة الوجود، وواجب الوجود واجب ما يوجد عنه، وإلا فله حال لم يكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته. فإن وضعت الحال الحادثة لا في ذاته، بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الإرادة، فالكلام على حدوث الإرادة عنها ثابت، هل هو بإرادة أو طبع، أو لأمر آخر أي أمر كان؟ ومهما وضع أمر حدث لم يكن؛ فإما أن يوضع حادثا في ذاته، وإما غير حادث في ذاته، بل على أنه شيء مباين لذاته، فيكون الكلام ثابتا. وأن حدث في ذاته، كان ذاته متغيرا، وقد بُيّن أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته. وأيضا إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها، ولم يعرض ألبته شيء لم يكن، وكان الأمر على ما كان ولا يوجد عنه شيء، فليس يجب أن يوجد عنه شيء بل يكون الحال والأمر على ما كان. فلا بد من مميز لوجوب الوجود عنه، وترجيح للوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه، وكان التعطل عن الفعل حاله، وليس هذا أمرا خارجا عنه؛ فإنا نتكلم في حدوث الحادث عنه نفسه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثاني، كما يقولون في الإرادة والمراد. والعقل الصريح الذي لم يكدر يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها كما كانت، وكان لا يوجد عنها فيما قبل شيء، وهي الآن كذلك، فالآن أيضا لا يوجد عنها شيء. فإذا صار الآن يوجد عنها شيء، فقد حدث في الذات قصد وإرادة، أو طبع، أو قدرة وتمكن، أو شيء مما يشبه هذا لم يكن. ومن أنكر هذا، فقد فارق مقتضى عقله لسانا ويعود إليه ضميرا؛ فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد، لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب؛ وإذا كانت هذه الذات التي للعلة كما كانت ولا تترجح، ولا يجب عنها هذا الترجيح، ولا داعي ولا مصلحة ولا غير ذلك، فلا بد من حادث موجب

الصفحة    : 199

للترجيح في هذه الذات إن كانت هي العلة الفاعلية، وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كان قبل، ولا تحدث لها نسبة أخرى؛ فيكون الأمر بحاله، ويكون الإمكان إمكانا صرفا بحاله. وإذا حدث لها نسبة فقد حدث أمر، ولا بد من أن يحدث لذاته وفي ذاته، فانها إن كانت خارجة عن ذاته كان الكلام ثابتا، ولم تكن هي النسبة المطلوبة؛ فإنا نطلب النسبة الموافقة لوجود كل ما هو خارج عن ذاته بعد ما لم يكن أجمع، كأنها جملة واحدة وفي حال ما لم يوجد شيء، و إلا فقد أخرج من الجملة شيء ونظر في حال ما بعده. فإن كان مبدأ النسبة مباينا له، فليست هي النسبة المطلوبة؛ فإذن الحادث الأول يكون على هذا القول في ذاته، لكنه محال فكيف يمكن أن يحدث في ذاته شيء وعمن يحدث؟ وقد بان أن واجب الوجود بذاته واحد، فيرى أن ذلك غير الحادث منه فيكون ليست النسبة المطلوبة؛ لأنا نطلب النسبة الموجبة لخروج الممكن الأول إلى الفعل، أهي عن واجب وجود آخر؟ وقد قيل إن واجب الوجود واحد. وعلى أنه إن كان عن آخر، فهو العلة الأولى والكلام فيه ثابت، ثم كيف يجوز أن يتميز في العدم وقت ترك ووقت شروع؟ وبماذا يخالف الوقت الوقت؟ وأيضا، إذ بان أن الحادث لا يحدث الا لحدوث حال في المبدأ؛ فلا يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع، أو بعرض فيه عن غير الإرادة، أو بالإرادة؛ إذ ليس بقسري ولا اتفاقي. فإن كان بالطبع، فقد تغير الطبع، أو كان بالعرض فقد تغير العرض. وإن كان بالإرادة، فلنترك أنها حدثت فيه أو مباينة له، بل نقول: إما أن يكون المراد نفس الإيجاد، أو غرضا، ومنفعة بعده، فإن كان المراد نفس الإيجاد لذاته فلم لم يوجد قبل؟ أتراه استصلحه الآن؟ أو حدث وقته؟ أو قدر عليه الآن؟ ولا معنى فيما يقوله القائل: إن هذا السؤال باطل؛ لأن السؤال في كل وقت عائد، بل هذا سؤال حق لأنه في كل وقت عائد ولازم وإن كان لغرض ومنفعة، فمعلوم أن الذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة فليس لغرض، والذي هو للشيء بحيث كونه منه أولى فهو نافع؛ والحق الأول كامل الذات لا ينتفع بشيء. وأيضا فإن الأول بماذا سبق أفعاله الحادثة؟ أبذاته؟ أم بالزمان؟ فإن كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين - وإن كانا معا - وحركة المتحرك - بأن يتحرك بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معا - فيجب أن يكونا كلاهما محدثين: الأول القديم، والأفعال الكائنة عنه وإن كان قد سبق لا بذاته فقط بل بذاته والزمان بأن كان وحده ولا عالم ولا حركة. ولا شك أن لفظة " كان " تدل على أمر مضى وليس الآن، وخصوصا ويعقبه قولك ثم، فقد كان كون قد

الصفحة    : 200

مضى قبل أن خلق الخلق، وذلك الكون هو متناه، فقد كان إذن زمان قبل الحركة والزمان؛ لأن الماضي إما بذاته وهو الزمان، وإما بالزمان وهو الحركة وما فيها وما معها؛ فقد بان لك هذا. فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق فهو حادث مع حدوثه، وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ما للوقت الأول من الخلقة، وقد كان ولا خلق، وكان وخلق؟ وليس " كان ولا خلق " ثابتا عند كونه " كان وخلق " ولا " كونه قبل الخلق " ثابت " مع كونه مع الخلق " وليس " كان ولا خلق " نفس وجوده وحده؛ فإن ذاته حاصلة بعد الخلق، ولا " كان ولا خلق " هو وجوده مع عدم الخلق بلا شيء ثالث؛ فإن وجود ذاته حاصل بعد الخلق، وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن. وتحت قولنا: " كان " معنى معقول دون معقول الأمرين؛ لأنك إذا قلت: " وجود ذات وعدم ذات " لم يكن مفهوما منه السبق، بل قد يصح أن يفهم معه التأخر؛ فإنه لو عدمت الأشياء صح وجوده وعدم الأشياء، ولم يصح أن يقال لذلك " كان " بل إنما يفهم السبق بشرط ثالث، فوجود الذات شيء، وعدم الذات شيء، ومفهوم كان شيء موجود غير المعنيين، وقد وضع هذا المعنى للخالق ممتدا لا عن بداية، وجّوز فيه أن يخلق قبل أي خلق توهم فيه خلقا. فإذا كان هكذا، كانت هذه القبيلة مقدرة مكمّمة، وهذا هو الذي نسميه الزمان؛ إذ تقديره ليس تقدير ذي وضع ولا ثبات، بل على سبيل التجدد. ثم إن شئت فتأمل أقاويلنا الطبيعية؛ إذ بينا أن ما يدل عليه معنى " كان ويكون " عارض لهيئة غير قارة، والهيئة غير القارة هي الحركة؛ فإذا تحققت علمت أن الأول إنما سبق الخلق عندهم ليس سبقا مطلقا، بل سبقا بزمان معه حركة وأجسام أو جسم. وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله عن وجوده لا يخلو: إما أن يسلموا أن الله كان قدرا قبل أن يخلق الخلق، أن يخلق جسما ذا حركات بقدر أوقات وأزمنة تنتهي إلى وقت خلق العالم، أو يبقى مع خلق العالم ويكون له إلى وقت خلق العالم أوقات وأزمنة محدودة، أو لم يكن للخالق أن يبتديء الخلق إلا حين ابتدأ. وهذا القسم الثاني يوجب انتقال الخالق من العجز إلى القدرة، أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة. والقسم الأول يقسم عليهم قسمين، فيقال: لا يخلو إما أن يكون كان يمكن أن يخلق الخالق جسما غير ذلك الجسم إنما ينتهي إلى خلق العالم بمدة وحركات أكثر، أو لا يمكن. ومحال أن لا يمكن؛ لما بيناه. فإن أمكن فإما أن يمكن خلقه مع خلق ذلك الجسم الأول الذي ذكرنا قبل

الصفحة    : 201

هذا الجسم، أو إنما يمكن قبله. فإن أمكن معه فهو محال؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء خلقين متساويي الحركة في السرعة و البطء، ويقع بحيث ينتهيان إلى خلق العالم، ومدة أحدهما أطول من الآخر. وإن لم يمكن معه، بل كان إمكانه مباينا له، متقدما عليه، أو متأخرا عنه، يقدر في حال العدم إمكان خلق شيْ ولا إمكانه، وذلك في حال دون حال، وقع ذلك متقدما و متأخرا، ثم ذلك إلى غير نهاية؛ فقد وضح صدق ما قدمناه من وجود حركة لا بدء لها في الزمان، وإنما البدء لها من جهة الخالق، وإنها هي الحركات السماوية، فيجب أن يعلم أن العلة القريبة للحركة الأولى نفس لا عقل، وأن السماء حيوان مطيع لله تبارك وتعالى.

 الفصل الثاني   (ب)

فصل في أن المحرك القريب للسماويات لا طبيعة ولا عقل، بل نفس، والمبدأ الأ بعد عقل.   

فنقول: إنا قد بينا في الطبيعيات أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم على الإطلاق، والجسم على حالته الطبيعية، إذا كان كل حركة بالطبع مفارقة بالطبع لحالة، والحالة التي تفارق بالطبع هي حالة غير طبيعية لا محالة؛ فظاهر أن كل حركة تصدر عن طبع فمن حالة غير طبيعية، ولو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان شيء من نسب الحركات باطل الذات مع بقاء الطبيعة، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية: إما في الكيف، كما إذا سخن الماء بالقسر، وإما بالكم كما يذبل البدن الصحيح ذبولا مرضيا، وإما في المكان كما إذا نقلت المدرة إلى حيز الهواء؛ وكذلك إذا كانت الحركة قد تكون في مقولة أخرى، والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية، وتقدير البعد عن الغاية. فإذا كان الأمر على هذه الصفة لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة، وإلا كانت عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية، وإذا وصلت إليها سكنت، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية؛ لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار، بل على سبيل التسخير، وسبيل ما يلزمها بالذات؛ فإن كانت الطبيعة تحرك على سبيل الاستدارة فهي تحرك لا محالة: إما من أين غير طبيعي، أو وضع غير طبيعي، هربا طبيعيا عنه؛ وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه، والحركة المستديرة تفارق كل نقطة، وتتركها، وتقصد في تركها تلك النقطة، وليست تهرب عن شيء

الصفحة    : 202

إلا وتقصده، فليست إذن الحركة المستديرة طبيعية. إلا إنها قد تكون بالطبع - أي ليس وجوده في جسمها مخالفا لمقتضى طبيعة أخرى بجسمها - فإن الشيء المحرك لها وإن لم يكن قوة طبيعية كان شيئا" طبيعيا" لذلك الجسم غير غريب عنه؛ فكأنه طبيعته. وأيضا فإن كل قوة فإنما تحرك متوسط الميل، والميل هو المعنى الذي يحس في الجسم المتحرك، وإن سكن قسرا أحس ذلك الميل فيه يقاوم المسكن مع سكونه طلبا للحركة، فهو غير الحركة لا محالة، وغير القوة المحركة؛ لأن القوة المحركة تكون موجودة عند إتمامها الحركة ولا يكون الميل موجودا؛ فهكذا أيضا الحركة الأولى؛ فإن محركها لا يزال يحدث في جسمها ميلا بعد ميل، وذلك الميل لا يمتنع أن يسمى طبيعة، لأنه ليس بنفس، ولا من خارج، ولا له إرادة أو اختيار، ولا يمكنه أن لا يحرك، أو يحرك إلى غير جهة محدودة، ولا هو مع ذلك مضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم الغريب، فإن سميت هذا المعنى طبيعة كان لك أن تقول: إن الفلك يتحرك بالطبيعة، إلا أن طبيعته فيض عن نفس يتجدد بحسب تصور النفس؛ فقد بان أن الفلك ليس مبدأ حركة طبيعية، وكان قد بان أنه ليس قسرا، فهي عن إرادة لا محالة. ونقول: إنه لا يجوز أن يكون مبدأ حركته القريب قوة عقلية صرفة لا يتغير ولا يتخيل الجزئيات ألبتة. وكأنا قد أشرنا إلى جمل مما تعين في معرفة هذا المعنى في الفصول المتقدمة، وأوضحنا أن الحركة معنى متجدد النسب، وكل شطر منه مخصص بنسب فإنه لا ثبات له، ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت ألبتة وحده، فإن كان عن معنى ثابت فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال؛ أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب أن تكون كل حركة تتجدد فيه فلتجدد قرب وبعد من النهاية، ولولا ذلك التجدد لم يكن تجدد حركة؛ فإن الثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت. وأما إن كانت عن إرادة فيجب أن تكون عن إرادة متجددة جزئية؛ فإن الإرادة الكلية نسبتها إلى كل شطر من الحركة نسبة واحدة؛ فلا يجب أن تتعين منها هذه الحركة دون هذه، فإنها إن كانت لذاتها علة لهذه الحركة لم يجز أن تبطل هذه الحركة، وإن كانت علة لهذه الحركة بسبب حركة قبلها أو بعدها معدومة كان المعدوم موجبا لموجود، والمعدوم لا يكون موجبا لموجود، وإن كان قد تكون الأعدام علة للأعدام. وأما أن يوجب المعدوم شيئا فهذا لا يمكن.

الصفحة    : 203

وإن كانت علة لأمور تجدد، فالسؤال في تجددها ثابت. فان كان تجددا طبيعيا" لزم المحال الذي قدمناه، وإن كان إراديا" يتبدل بحسب تصورات متجددة فهو يثبت الذي نريده. فقد بان أن الإرادة العقلية الواحدة لا توجب ألبتة حركة، ولكن قد يمكن أن يتوهم أن ذلك لإرادة عقلية منتقلة؛ فإنه قد يمكن أن ينتقل العقل من معقول إلى معقول آخر، إذا لم يكن عقلا من كل جهة بالفعل، ويمكن أن يعقل الجزئي تحت النوع منتشرا" مخصوصا" بعوارض، عقلا بنوع كلي على ما أشرنا إليه؛ فيجب إذن أن يتوهم وجود عقل يعقل الحركة الكلية ويريدها، ثم يعقل انتقاله من حد إلى حد، ويأخذ تلك الحركات وحلولها بنوع معقول على ما أوضحناه، وعلى ما من شأننا أن نبرهن عليه من أن حركة من كذا إلى كذا فهو من كذا إلى كذا؛ فتعين مبدأ ما كليا إلى طرف آخر كلي بمقدار ما، موهوم كلي، وكذلك حتى تفنى الدائرة؛ فلا يبعد أن يتوهم أن تجدد الحركة يتبع تجدد هذا المعقول فنقول: ولا على هذا السبيل يمكن أن يتم أمر الحركة المستديرة؛ فإن هذا التأثير على هذا الوجه يكون صادرا عن الإرادة الكلية، وإن كانت على سبيل تجدد وانتقال، والإرادة الكلية كيف كانت فإنما هي بالقياس إلى طبيعة مشترك فيها؛ وإن كانت إرادة لحركة تتبعها إرادة لحركة، وأما هذه الحركة التي من ههنا بعينه إلى هناك بعينه فليست أولى بأن تصدر عن تلك الإرادة من هذه الحركة التي من هناك إلى حد ثالث؛ فنسبة جميع أجزاء الحركة المتساوية في الجزئية إلى واحد واحد من تلك الإرادات الجزئية العقلية المنتقلة واحدة، وليس جزء من ذلك أولى بأن ينسب إلى واحد من تلك التصورات من أن لا ينسب، فنسبته إلى مبدئه ولا نسبته واحدة؛ فإنه بعد عن مبدئه ولم يتميز، ولم يترجح وجوده عن لا وجوده، وكل ما لم يجب عن علته فإنه لا يكون كما قد علمت. وكيف يصح أن يقال: إن الحركة من " ا " إلى " ب " لزمت عن إرادة عقلية، والحركة من " ب " إلى " ج " من إرادة أخرى عقلية، دون أن يلزم عن كل واحدة من تلك الإرادات غير ما لزم من الأخرى، ويكون بالعكس فإن " ا " و " ب " و " ج " متشابهة بالنوع، وليس شيء من الإرادات الكلية بحيث يعين " ا " دون " ب " و " ب " دون " ج " وليس " الألف " أولى بأن يتعين من " الباء " و " الجيم " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم " إلا أن تصير نفسانية جزئية، وإذا لم تتعين تلك الحدود في العقل بل كانت حدودا كلية فقط، لم يمكن أن توجد الحركة من " أ " إلى " ب " أولى من التي من " ب " إلى " ج " ولا " الألف " أولى بأن يتعين من " ب " و " ج " عن تلك الإرادة ما كانت عقلية، ولا " الباء " من " الجيم ".

الصفحة    : 204

ثم كيف يمكن أن نفرض فيها إرادة وتصورا، ثم إرادة وتصورا يختلفان في أمر متفق، ولا استناد فيه إلى مخصص شخص يقاس به؟ ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه أن يفرض هذا الانتقال إلا مشاركا للتخيل والحس ولا يمكننا إذا رجعنا إلى العقل الصريح أن نعقل جملة الحركة وأجزاء الانتقال العقلي فيما نعقله دائرة معا، فإذن على الأحوال كلها لا غنى عن قوة نفسانية تكون هي المبدأ القريب للحركة، وإن كنا لا نمنع أن يكون هناك أيضا قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال العقلي بعد استناده إلى شبه تخيل، وأما القوة العقلية مجردة عن جميع أصناف التغير فتكون حاضرة المعقول دائما، إن كان معقوله كليا عن كلي، أو كليا عن جزئي، على ما أوضحناه. فإذا كان الأمر على هذا، فالفلك يتحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته القريبة، وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهي متوهمة: أي لها إدراك للمتغيرات كالجزئيات وإرادة لأمور جزئية بأعينها، وهي كمال جسم الفلك وصورته. ولو كانت لا هكذا، بل قائمة بنفسها من كل وجه، لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالطه ما بالقوة. والمحرك القريب للفلك وإن لم يكن عقلا، فيجب أن يكون قبله عقل، هو السبب المتقدم لحركة الفلك؛ فقد علمت أن هذه الحركة محتاجة إلى قوة غير متناهية، مجردة عن المادة لا تتحرك بالذات ولا بالعرض. وأما النفس المحركة فإنها - كما تبين لك - جسمانية مستحيلة ومتغيرة وليست مجردة عن المادة، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا، إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا" بالمادة؛ وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقة، كالعقل العملي فينا. وبالجملة إدراكاتها بالجسم ولكن المحرك الأول لها قوة غير مادية أصلا بوجه من الوجوه. وإذ ليس يجوز أن يتحرك بوجه من الوجه في أن يحرك، وإلا لاستحالت ولكانت مادية - كما قد تبين هذا - فيجب أن يحرك كما يحرك محرك بتوسط المحرك الآخر، وذلك الآخر محاول للحركة مريد لها متغير بسببها، وهذا هو النحو الذي يحرك عليه محرك المحرك. والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية، والغرض الذي إليه ينحو المحرك، وهو المعشوق، والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق؛ بل نقول: إن كل متحرك حركة غير قسرية فهي هي إلى أمر ما، ولتشوق أمر ما، حتى الطبيعة أيضا؛ فإن شوق الطبيعة أمر طبيعي، وهو الكمال الذاتي للجسم: إما في صورته، وإما في أينه ووضعه؛ وشوق الإرادة أمر إرادي، إما إرادة لمطلوب حسي كاللذة، أو وهمي خيالي كالغلبة، أو ظني وهو الخير المظنون. فطالب اللذة هو الشهوة،

الصفحة    : 205

وطالب الغلبة هو الغضب، وطالب الخير المظنون هو الظن، وطالب الخير الحقيقي المحض هو العقل؛ ويسمى هذا الطلب اختيارا". والشهوة والغضب غير ملائم لجوهر الجسم الذي لا يتغير ولا ينفعل؛ فإنه لا يستحيل إلى حال غير ملائمة، فيرجع إلى حال ملائمة، فيلتذ أو ينتقم من مخيل له فيغضب. وعلى أن كل حركة إلى لذيذ أو غلبة فهي متناهية. وأيضا" فإن أكثر المظنون لا يبقى مظنونا" سرمديا". فوجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا" وإرادة لخير حقيقي، فلا يخلو ذلك الخير: إما أن يكون مما ينال بالحركة فيتوصل إليه، أو يكون خيرا" ليس جوهره مما ينال بوجه، بل هو مباين؛ ولا يجوز أن يكون ذلك الخير من كمالات الجوهر المتحرك فينال بالحركة، وإلا لانقطعت الحركة، ولا يجوز أن يكون يتحرك ليفعل فعلا يكتسب بذلك الفعل كمالا، كما من شأننا أن نجود لنمدح، ونحسن الأفعال ليحدث لنا ملكة فاضلة، أو نصير خيرين، وذلك ن المفعول يكتسب لإكماله من فاعله، ومحال أن يعود فيكمل جوهر فاعله، فإن كمال المعلول أخس من كمال العلة الفاعلة، والأخس لا يكسب الأشرف والأكمل كمالا، بل عسى أن يهىء الأخس للافضل آلته ومادته حتى يوجد هو في بعض الأشياء عن سبب آخر. وأما نحن فإن المدح الذي نطلبه ونرغب فيه هو كمال غير حقيقي بل مظنون، والملكة الفاضلة التي نحصلها بالفعل ليس سببها الفعل، بل الفعل يمنع ضدها و يهيء لها. وتحدث هذه الملكة من الجوهر المكمل لأنفس الناس - وهو العقل الفعال - أو جوهر آخر يشبهه؛ وعلى هذا فإن الحرارة المعتدلة سبب لوجود القوى النفسانية، ولكن على أنها مهيئة للمادة لا موجدة، وكلامنا في الموجد، ثم بالجملة إذا كان الفعل مهيئا" ليوجد كمالا انتهت الحركة عند حصوله. فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا" قائما" بذاته ليس من شأنه أن ينال، وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان؛ والتشبه به هو تعقل ذاته في كمالها، فيصير مثله، في أن يحصل له الكمال الممكن له في ذاته كما حصل لمعشوقه، فيوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه كمالا لذلك، فما كان يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالثبات، وما كان لا يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر تم تشبهه به بالحركة. وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه يحرك عن قوة غير متناهية. والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية، لكنهما - بما يعقل الأول فيسنح عليها من نوره وقوته دائما - تصير كأن له قوة غير متناهية؛ فلا يكون له قوة غير متناهية، بل للمعقول الذي يسنح عليه من نوره وقوته، وهو - أعني

الصفحة    : 206

الجرم السماوي - في جوهره على كماله الأقصى إذ لم يبق له في جوهره أمر بالقوة، وكذلك في كمه وكيفه، إلا في وضعه أو أينه أولا، وفيما يتبع وجودهما من الأمور ثانيا"، وإنه ليس أن يكون على وضع أو أين أولى بجوهره من أن يكون على وضع أو أين آخر له في حيزه؛ فانه ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولى بأن يكون ملاقيا" له لجزئه من جزء آخر. فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة، فقد عرض لجوهر الفلك ما بالقوة من جهة وضعه أو أينه، والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال يكون للشيء دائما"، ولم يكن هذا ممكنا" للجوهر السماوي بالعدد؛ فحفظ بالنوع والتعاقب، فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال؛ ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن، ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه، وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن يكون بالفعل أينا" لم تتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقا إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له، أو إلى أن يكون على أكمل ما يكون له من كونه متحركا، وخصوصا" ويتبع ذلك من الأحوال والمقادير الفائضة ما يتشبه فيه بالأول تعالى من حيث هو مفيد للخيرات، لا أن يكون المقصود تلك الأشياء فتكون الحركة لأجل تلك الأشياء، بل أن يكون المقصود هو التشبه بالأول تعالى - بقدر الإمكان - في أن يكون على أكمل ما يكون في نفسه، وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول، لا من حيث هو يصدر عنه أمور بعده حتى تكون الحركة لأجل ذلك بالمقصود الأول، كلا. وأقول: إن نفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركة الفلكية صدور الشيء عن التصور الموجب له، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول؛ لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل الأكمل، ولا يمكن بالشخص فيكون بالتعاقب وهو الحركة؛ لأن الشخص الواحد إذا دام لم يحصل لأمثاله وجود، وبقيت دائما" بالقوة. والحركة تتبع أيضا" ذلك التصور المقصود على هذا النحو، لا على أن تكون مقصودة أولية وإن كان ذلك التصور الواحد يتبعه تصورات جزئية - ذكرناها وفصلناها - على سبيل الانبعاث لا على سبيل المقصود الأول، وتتبع تلك التصورات الجزئية الحركات المنتقل بها في الأوضاع، والجزء الواحد بكماله لا يمكن في هذا الباب فيكون الشوق الأول على ما ذكرنا، ويكون سائر ما يتلوه انبعاثات، وهذه الأشياء قد يوجد لها نظائر بعيدة في أبداننا ليست تناسبها، وإن كانت قد تخيلها وتحكيها، مثل ان الشوق إذا اشتد إلى خليل، أو إلى شيء آخر، تبع ذلك فينا تخيلات على سبيل الانبعاث، يتبعها حركات ليست

الصفحة    : 207

الحركات التي نحو المشتاق نفسه، بل حركات نحو شيء في طريقه وفي سبيله وأقرب ما يكون منه. فالحركة الفلكية كائنة بالإرادة والشوق على هذا النحو، وهذه الحركة مبدؤها شوق واختيار ولكن على النحو الذي ذكرناه، ليس أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول؛ وهذه الحركة كأنها عبادة ما ملكية أو فلكية، وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها، بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسنح منها تأثير يحرك الأعضاء؛ فتارة يتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض، وتارة على نحو آخر مشابه أو مقارب له إذا كان عن تخيل، سواء كان الغرض أمرا" ينال، أو أمرا" يقتدى به ويحتذى حذوه ويتشبه بوجوده. فإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول، وبما يعقل منه أو يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني، شغل ذلك عن كل شيء وكل جهة، لكنه ينبعث عن ذلك ما هو أدون مرتبة منه، وهو الشوق إلى التشبه به بمقدار الإمكان، فيلزم طلب الحركة لا من حيث هي حركة، ولكن من حيث قلنا؛ ويكون هذا الشوق يتبع ذلك العشق والالتذاذ منبعثا" عنه، وهذا الاستكمال منبعثا" عن الشوق، فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء. وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضا"، أن المعلم الأول إذا قال: إن الفلك متحرك بطبعه فماذا يعني؛ أو قال: إنه متحرك بالنفس فماذا يعني؛ أو قال: متحرك بقوة غير متناهية تحرك كما يحرك المعشوق، فماذا يعني، وأنه ليس في أقواله تناقص ولا اختلاف. ثم أنت تعلم أن جوهر هذا الخير المعشوق الأول واحد، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد، وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصها، ومتشوق ومعشوق يخصها على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي علماء المشائين؛ فإنهم إنما ينفون الكثرة عن محرك الكل، ويثبتون الكثرة للمحركات المفارقة وغير المفارقة التي يختص واحدا واحدا منها؛ فيجعلون أول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى، وهي عند من تقدم بطليموس كرة الثوابت، وعند من تعلم العلوم التي ظهرت لبطليموس كرة خارجة عنها غير مكوكبة، وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى بحسب اختلاف الرأيين، وكذلك هلم جرا. فهؤلاء يرون أن محرك الكل شيء واحد، ولكل كرة بعد ذلك محرك خاص. والمعلم الأول يضع عدد الكرات المتحركة على ما كان ظهر في زمانه، ويتبع عددها عدد المباديء المفارقة. وبعض من هو أسد قولا من أصحابه يصرح ويقول - في رسالته التي في مباديء الكل - إن محرك جملة السماء

الصفحة    : 208

واحد لا يجوز أن يكون عددا" كثيرا"، وإن كان لكل كرة محرك ومتشوق يخصانها. والذي يحسن عبارته عن كتب المعلم الأول على سبيل تلخيص، وإن لم يكن يغوص في المعاني، يصرح ويقول ما هذا معناه: إن الأشبه والأحق وجود مبدأ حركة خاصة لكل فلك على أنه فيه، ووجود مبدأ حركة خاصة له على أنه معشوق مفارق. وهذان أقرب قدماء تلامذة المعلم الأول من سواء السبيل. ثم القياس يوجب هذا، فإنه قد صح لنا بصناعة المجسطي أن حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة وفي السرعة والبطء، فيجب لكل حركة محرك غير الذي للآخر ومشوق غير الذي للآخر؛ وإلا لما اختلفت الجهات، ولما اختلفت السرعة والبطء. وقد بينا أن هذه المتشوقات خيرات محضة مفارقة للمادة، وإن كانت الكرات والحركات كلها تشترك في الشوق إلى المبدأ الأول، فتشترك لذلك في دوام الحركة وإستدارتها ونحن نزيد هذا بيانا".

الفصل الثالث   (ح)

فصل في كيفية صدور الأفعال من المبادئ العالية.

 ليعلم من ذلك ما يجب أن يعلم من المحركات المفارقة المعقولة بذاتها المعشوقة   ولنحقق هذا البيان، ولنفتتح من مبدأ آخر فنقول: إن قوما" لما سمعوا ظاهر قول فاضل المتقدمين إذ يقول: إن الاختلاف في هذه الحركات وجهاتها يشبه أن يكون للعناية بالأمور الكائنة الفاسدة التي تحت كرة القمر، وكانوا سمعوا أيضا" وعلموا بالقياس أن حركات السماويات لا يجوز أن تكون لأجل شيء غير ذواتها، ولا يجوز أن تكون لأجل معلولاتها، أرادوا أن يجمعوا بين هذين المذهبين فقالوا: إن نفس الحركة ليست لأجل ما تحت كرة القمر ولكن للتشبه بالخير المحض والشوق إليه. وأما اختلاف الحركات، فلاختلاف ما يكون من كل واحد منها في عالم الكون والفساد اختلافا" ينتظم به بقاء الأنواع، كما أن رجلا خيّرا" لو أراد أن يمضي في حاجته سمة موضع، واعترض إليه طريقان: أحدهما يختص بإيصاله إلى الموضع الذي فيه قضاء وطرح، والآخر يضيف إلى ذلك إيصال نفع إلى مستحق، وجب في حكم خيريته أن يقصد الطريق الثاني، وإن لم تكن حركته لأجل نفع غيره بل لأجل ذاته. قالوا: فكذلك حركة كل فلك، إنما هي ليبقى على كماله الأخير دايما"، لكن الحركة إلى هذه الجهة وبهذه السرعة لينتفع غيره. فأول ما نقول لهؤلاء: إنه إن أمكن أن يحدث للأجرام السماوية في حركاتها قصد ما لأجل شيء معلول،

الصفحة    : 209

ويكون ذلك القصد في اختيار الجهة، فيمكن أن يحدث ذلك ويعرض في نفس الحركة حتى يقول قائل: إن السكون كان يتم لها به خيرية تخصها والحركة كانت لا تضرها في الوجود وتنفع غيرها، ولم يكن أحدهما أسهل عليها من الأخر أو أعسر فاختارت الأنفع. فإن كانت العلة المانعة عن القول بأن مصير حركاتها لنفع الغير، استحالة قصدها فعلا لأجل الغير من المعلولات، فهذه العلة موجودة في نفس قصد اختيار الجهة. وإن لم يمنع هذه العلة قصد اختيار الجهة، لم يمنع قصد الحركة وكذلك الحال في قصد السرعة والبطء هذه الحال، وليس ذلك على ترتيب القوة والضعف في الأفلاك بسبب ترتيبها بعضها على بعض في العلو والسفل حتى ينسب إليه، بل ذلك مختلف. ونقول بالجملة: لا يجوز أن يكون منها شيء لأجل الكائنات؛ لا قصد حركة؛ ولا قصد جهة من حركة، ولا تقدير سرعة وبطء، بل ولا قصد فعل ألبتة لأجلها، وذلك لأن كل قصد فيكون من أجل المقصود، فيكون أنقص وجودا من المقصود؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجودا" من الآخر من حيث هو والآخر على ما هما عليه، بل به يتم للآخر النحو من الوجود الداعي إلى القصد. ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس، فلا يكون ألبتة إلى معلول قصد صادق غير مضمون، وإلا كان القصد معطيا" ومفيدا" لوجود ما هو أكمل وجودا" منه. وإنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئا" له ومفيد وجوده شيء آخر: مثل الطبيب للصحة، فالطبيب لا يعطي الصحة بل يهيء لها المادة والآلة؛ وإنما يفيد الصحة مبدأ أجل من الطبيب، وهو الذي يعطي المادة جميع صورها، وذاته أشرف من المادة. وربما كان القاصد مخطئا" في قصده إذا قصد ما ليس أشرف من القصد، فلا يكون القصد لأجله في الطبع بل بالخطأ؛ ولأن هذا البيان يحتاج إلى تطويل وتحقيق، وفيه شكوك لا تحل إلا بالكلام المشبع، فلنعدل إلى الطريق الأوضح فنقول: إن كل قصد فله مقصود، والعقلى منه هو الذي يكون وجود المقصود عن القاصد أولى بالقاصد من لا وجود عنه، وإلا فهو هدر. والشيء الذي هو أولى بالشيء فإنه يفيد كمالا ما؛ إن كان بالحقيقة فحقيقيا"، وإن كان بالظن فظنيا": مثل استحقاق المدح وظهور القدرة وبقاء الذكر، فهذه وما أشبهها كمالات ظنية. أو الربح، أو السلامة، أو رضى الله تعالى وتقدس وحسن معاد الآخرة، وهذه وما أشبهها كمالات حقيقية لا تتم بالقاصد وحده. فإذن، كل قصد ليس عبثا"فإنه يفيد كمالا مّا لقاصده لو لم يقصده لم يكن ذلك الكمال؛ والعبث أيضا" يشبه أن يكون كذلك، فإن فيه لذة أو راحة أو غير ذلك أو شيئا" مما علمت أو سائر ما تبين لك.

الصفحة    : 210

ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالا لم يكن، فإن المواضع التي يظن فيها إن المعلول أفاد علته كمالا مواضع كاذبة أو محرفة، ومثلك ممن أحاط بما سلف له من الفنون لا يقصر عن تأملها وحلها. فإن قال قائل: إن الخيرية توجب هذا، فإن الخير يفيد الخير، قيل إن الخير يفيد الخير ولكن لا على سبيل قصد وطلب ليكون ذلك؛ فإن هذا يوجب النقص؛ فإن كل طلب وقصد لشيء فهو طلب لمعدوم وجوده من الفاعل أولى من لا وجوده، ومادام معدوما وغير مقصود لم يكن ما هو الأولى بالفاعل وذلك نقص؛ فإن الخيرية لا تخلو: أما أن تكون صحيحة موجودة دون هذا القصد ولا مدخل لوجود هذا القصد في وجودها، فيكون كون هذا القصد ولا كونه عن الخيرية واحدة، فلا تكون الخيرية توجبه، ولا يكون حال سائر لوازم الخيرية التي تلزمها لذاتها لا عن قصد وهو قصد هذه الحال. وأما أن يكون بهذا القصد تتم الخيرية وتقوم، فيكون هذا القصد علة لاستكمال الخيرية وقوامها لا معلولا لها. وإن قال قائل: إن ذلك للتشبه بالعلة الأولى في أن خيرته متعدية، وحتى يكون بحيث يتبعها خير، فنقول: إن هذا في ظاهر الأمر مقبول وفي الحقيقة مردود، فإن التشبه به في إن لا يقصد شيئا بل بأن ينفرد بالذات، فإنه على هذه الصفة اتفاقا من جماعة من أهل العلم. وأما استفادة كمال بالقصد فمباين للتشبه به، اللهم إلا أن يقال إن المقصود الأول شيء، وهذا بالقصد الثاني وعلى جهة الاستتباع، فيجب في اختيار الجهة أيضا" أن يكون المقصود بالقصد الأول شيئا"، وتكون المنفعة المذكورة مستتبعة لذلك المقصود، فتكون الجهة الخيرية غير مقصودة قصدا" أوليا" لنفس ما يتبع، بل يجب أن يكون هناك استكمال في ذات الشيء مستتبع تلك المنفعة حتى يكون تشبها" بالأول. ونحن لا نمنع أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول على إنها تشبه بذات الأول من الجهة التي قلنا، وتشبه بالقصد الثاني بذات الأول من حيث يفيض عنه الوجود بعد أن يكون القصد الأول أمرا" آخر ينظر به إلى فوق. وأما النظر إلى أسفل واعتباره، فلو جاز أن يقع بالقصد الأول إلى الجهة، حتى يكون تشبها" بالأول في الاستتباع، لجاز في نفس اختيار الحركة. فكانت الحركة لأجل ما تحت، ويفيض عنها وجود ليس تشبها" به من حيث هو كامل الوجود ومعشوقه، إنما ذلك لذاته من حيث ذاته. ولا مدخل ألبته لوجود الأشياء عنه في تشريف ذاته وتكميلها، بل المدخل إنه على كماله الأفضل، وبحيث ينبعث

الصفحة    : 211

عنه وجود الكل لا طلبا" وقصدا". فيجب أن يكون الشوق إليه من طريق التشبه على هذه الصورة، لا على ما يتعلق للأول به كمال. فإن قال قائل: إنه كما قد يجوز أن يستفيد الجرم السماوي بالحركة خيرا" وكمالا، والحركة فعل له مقصود، فكذلك لسائر أفاعيلها؛ فالجواب إن الحركة ليست تستفيد كمالا وخيرا"، وإلا لانقطعت عنده، بل هي نفس الكمال الذي أشرنا إليه. وهي بالحقيقة استثبات نوع ما يمكن أن يكون للجرم السماوي بالفعل، إذ لا يمكن استثبات الشخص له. فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات التي تطلب كمالا خارجا عنها، بل يكمل لهذه الحركة نفس المتحرك عنها بذاتها؛ لأنها نفس استبقاء الأوضاع والأيون على التعاقب. وبالجملة يجب أن ترجع إلى ما فصلناه فيما سلف حين بينا إن هذه الحركة كيف تتبع تصور المتشوق، وهذه الحركة شبيهة بالثبات. فإن قال قائل: إن هذا القول يمنع وجود العناية بالكائنات والتدبير المحكم الذي فيها؛ فإنا سنذكر بعد ما نزيل هذا الإشكال، ونعرف إن عناية الباري بالكل على أي سبيل هي، وإن عناية كل علة بما بعدها على أي سبيل هي، وأن الكائنات التي عندنا كيف العناية بها من المبادئ الأولى ومن الأسباب التي وسطها. وقد اتضح بما أوضحناه إنه لا يجوز أن يكون شيء من العلل يستكمل بالمعلول بالذات لا بالعرض، وإنها لا تقصد فعلا لأجل المعلول وإن كان ترضى به وتعلمه. بل كما إن الماء يبرد بذاته بالفعل ليحفظ نوعه لا ليبرد غيره، ولكن يلزمه أن يبرد غيره؛ والنار تسخن بذاتها بالفعل لتحفظ نوعها لا لتسخن غيرها، ولكن يلزمها أن تسخن غيرها؛ والقوة الشهوانية تشتهي لذة الجماع ليندفع الفضل ويتم لها اللذة، لا ليكون عنها ولد، ولكن يلزمها ولد؛ والصحة هي صحة بجوهرها وذاتها، لا لأن تنفع المريض، لكن يلزمها نفع المريض؛ كذلك في العلل المتقدمة، إلا إن هناك إحاطة بما يكون، وعلما بأن وجه النظام والخير فيها كيف يكون، وإنه على ما يكون وليس في تلك. فإذا كان الأمر على هذا، فالأجسام السماوية إنما اشتركت في الحركة المستديرة شوقا إلى معشوق مشترك. وإنما اختلفت، لأن مبادئها المعشوقة المتشوق إليها قد تختلف بعد ذلك الأول. وليس إذا أشكل علينا إنه كيف وجب عن كل تشوق حركة بهذه الحال، فيجب أن يؤثر ذلك فيما علمنا من إن الحركات مختلفة باختلاف المتشوقات. ولكن بقي علينا شيء، وهو إنه يمكن أن تتوهم المتشوقات المختلفة أجساما لا عقولا مفارقة، حتى يكون مثل الجسم الذي هو أخس متشبها بالجسم الذي هو أقدم وأشرف كما ظنه القوم من أحداث المتفلسفة

الصفحة    : 212

الإسلامية في تشويش الفلسفة إذ لم يفهم غرض الأقدمين، فنقول: إن هذا محال؛ وذلك لأن التشبه به يوجب مثل حركته وجهتها والغاية التي تؤمها؛ فإن أوجب القصور عن مرتبته شيئا فإنما يوجب الضعف في الفعل، لا المخالفة في الفعل مخالفة توجب أن يكون هذا إلى جهة وذاك إلى أخرى. ولا يمكن أن يقال: إن السبب في هذه المخالفة طبيعة ذلك الجسم؛ كأن طبيعة ذلك الجسم تعاند أن يتحرك من " أ " إلى " ب " ولا تعاند أن يتحرك من " ب " إلى " أ "؛ فإن هذا محال؛ لأن الجسم بما هو جسم لا يوجب هذا، والطبيعة بما هي طبيعة للجسم تطلب الأين الطبيعي من غير وضع مخصوص، ولو كانت تطلب وضعا مخصوصا لكان النقل عنه قسرا، فدخل في حركة الفلك معنى قسري. ثم وجود كل جزء من أجزاء الفلك على كل نسبة محتمل في طبيعة الفلك، فليس يجب إذن أن يكون إذا أزيل جزء من جهة جاز، وإن أزيل من جهة لم يجز بحسب بساطته إلا أن يكون هناك طبيعة تقبل حركة إلى جهة فتجيب إلى تلك الجهة ولا تجيب إلى جهة أخرى إن كانت عيقت عن جهتها. وقد قلنا: إن مبدأ هذه الحركة ليست طبيعته، ولا أيضا هناك طبيعة توجب وضعا بعينه ولا جهات مختلفة، فليس إذن في جوهر الفلك طبيعة تمنع تحريك النفس له إلى أي جهة كانت. وأيضا، لا يجوز أن يقع ذلك من جهة النفس حتى يكون طبعها أن يريد تلك الجهة لا محالة، إلا أن يكون الغرض في الحركة مختصا بتلك الجهة لأن الإرادة تبع للغرض ليس الغرض تبعا للإرادة. وإذا كان هكذا، كان السبب مخالفة الغرض. فإذن، لا مانع من جهة الجسمية، ولا من جهة الطبيعة، ولا من جهة النفس، إلا اختلاف الغرض والقسر أبعد الجميع عن الإمكان. فإذن لو كان الغرض تشبها بعد الأول بجسم من السماوية، لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم؛ ولم يكن مخالفا له أو أسرع منه في كثير من المواضع، وكذلك إن كان الغرض لمحرك هذا الفلك التشبه بمحرك ذلك الفلك. وقد كان بان أنه ليس الغرض في تلك الحركات شيئا يوصل إليه بالحركة، وإلا لزم الانقطاع، بل شيئا مبايناً لا يوصل إليه. وبان الآن أنه لبس جسما، فبقى أن الغرض لكل فلك تشبه بشيء غير جواهر الأفلاك من مواده وأنفسها، ومحال أن يكون بالبصريات وما يتولد عنها ولا أجسام ولا أنفس غير هذه، فبقى أن يكون لكل واحد منها تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف الحركات وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك، وإن كنا لا نعرف كيفية وجوب ذلك ولميته، وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك. فهذا معنى قول القدماء إن للكل محركا واحدا معشوقا وإن لكل كرة محركا يخصها ومعشوقا يخصها. فيكون إذن لكل فلك نفس محركا تعقل الخير، ولها بسبب الجسم تخيل، أي تصور

الصفحة    : 213

للجزئيات وإرادة للجزئيات، ويكون ما تعقله من الأول وما يعقله من المبدأ الذي يخصه القريب منه مبدأ تشوقه إلى التحرك. ويكون لكل فلك عقل مفارق نسبنه إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسنا، وإن مثال كلي عقلي لنوع فعله، فهو يتشبه به. وبالجملة، لا بد في كل متحرك منها لغرض عقلي من مبدأ عقلي يعقل الخير الأول، وتكون ذاته مفارقة، فقد علمت أن كل ما يعقل مفارق الذات؛ ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم، فقد علمت أن الحركة السماوية نفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال جزئيتها، فيكون عدد العقول المفارقة بعد المبدأ الأول بعدد الحركات. فإن كانت الأفلاك المتحيرة إنما المبدأ في حركة كرات كل كوكب فيها قوة تفيض من الكواكب، لم يبعد إن تكون المفارقات بعدد الكواكب لا بعدد الكرات وكان عددها عشرة بعد الأول: أولها العقل المحرك الذي لا يتحرك وتحريكه لكرة الجرم الأقصى، ثم الذي هو مثله لكرة الثوابت، ثم الذي هو مثله لكرة زحل، وكذلك حتى ينتهي إلى العقل الفائض على أنفسنا، وهو عقل العالم الأرضي، ونحن نسميه العقل الفعال. وإن لم يكن كذلك، بل كان كل كرة متحركة لها حكم في حركة نفسها ولكل كوكب، كانت هذه المفارقات أكثر عددا"، وكان يلزم على مذهب المعلم الأول قريبا" من خمسين فما فوقها، وآخر العقل الفعال؛ وقد علمت من كلامنا في الرياضيات مبلغ ما ظفرنا به من عددها.

الفصل الرابع   (د)

الصفحة    : 214

فصل في ترتيب وجود العقل والنفوس السماوية والأجرام العلوية عن المبدأ الأول.

قد صح لنا في ما قدمناه من القول أن الواجب الوجود بذاته واحد، وأنه ليس بجسم ولا في جسم ولا منقسم بوجه من الوجوه، فإذن الموجودات كلها وجودها عنه، ولا يجوز أن يكون له مبدأ بوجه من الوجوه ولا سبب لا الذي عنه، ولا الذي فيه أو به يكون، ولا الذي له، حتى يكون لأجل شيء، فلهذا لا يجوز أن يكون كون الكل عنه على سبيل قصد منه كقصدنا لتكوين الكل ولوجود الكل فيكون قاصدا" لأجل شيء غيره وهذا الفصل قد فرغنا من تقريره في غيره؛ وذلك في أظهر، ونخصه من بيان امتناع أن يقصد وجود الكل عنه إن ذلك يؤدي إلى تكثره في ذاته؛ فإنه حينئذ يكون فيه شيء بسببه يقصد، وهو معرفته وعلمه لوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، ثم قصد، ثم فائدة يفيدها إياه القصد على ما أوضحنا قبل؛ وهذا محال؛ وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة، ولا لرضى منه، وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل إنه يلزمه وجود الكل عنه؛ لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلا محضا ومبدأ أولا، وإنما يعقل وجود الكل عنه على إنه مبدأه وليس في ذاته مانع كاره لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير، وإن ذلك من لوازم جلالته المعشوقة له لذاتها، وكل ذات يعلم ما يصدر عنه، ولا تخالطه معاوقة ما بل يكون على ما أوضحنا بيانه؛ فإنه راض بما يكون عنه؛ فالأول راض بفيضان الكل عنه، ولكن الحق الأول إنما فعله الأول وبالذات إنه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود؛ فهو عاقل لنظام الخير في الوجود، وإنه كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلا منتقلا، من معقول

إلى معقول؛ فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه على ما أوضحناه قبل، بل عقلا واحدا"، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أن يعقل إنه كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله؛ فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها على ما علمت، علم وقدرة وإرادة. وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وحركة وإرادة حتى توجد، وهو لا يحسن فيه ذلك ولا يصح له لبرائته عن الاثنينية، وعلى ما أطنبنا في بيانه فتعقٌّلٌه علة للوجود على ما يعقله ووجود ما يوجد عنه على سبيل لزوم لوجوده وتبع لوجوده، لا إن وجوده لأجل وجود شيء آخر غيره، وهو فاعل الكل بمعنى إنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضانا مباينا لذاته، ولأن كون ما يكون عن الأول إنما هو على سبيل اللزوم إذا صح أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع

الصفحة    : 215

جهاته، وفرغنا من بيان هذا الغرض قبل. فلا يجوز أن يكون أول الموجودات عنه - وهي المبدعات - كثيرة لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة؛ لأنه يكون لزوم ما يلزم عنه هو لذاته، لا لشيء آخر. والجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه هذا الشيء ليست الجهة والحكم الذي في ذاته الذي يلزم عنه، لا هذا الشيء بل غيره؛ فإن لزم منه شيئان متباينان بالقوام، أو شيئان متباينان يكون منهما شيء واحد: مثل مادة وصورة، لزوما معا، فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته؛ وتانك الجهتان إن كانتا لا في ذاته بل لازمتين لذاته، فالسؤال في لزومهما له ثابت حتى تكونا في ذاته، فتكون ذاته منقسمة المعنى، وقد منعنا هذا قبل وبينا فساده؛ فتبين إن أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد، وذاته وماهيته واحدة لا في مادة، فليس شيء من الأجسام ولا من الصور التي هي كمالات للأجسام معلولا قريبا له، بل المعلول الأول عقل محض؛ لأنه صورة لا في مادة، وهو أول العقول المفارقة التي عددناها ويشبه أن يكون هو المبدأ المحرك للجرم الأقصى على سبيل التشويق. ولكن لقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يكون الحادث عن المبدأ الأول صورة مادية، لكنها يلزم عنها وجود مادتها فنقول: إن هذا يوجب أن تكون الأشياء التي بعد هذه الصورة وهذه المادة تالية في درجة المعلولات، وأن يكون وجودها بتوسط المادة، فتكون المادة سببا لوجود صور الأجسام الكثيرة في العالم وقواها، وهذا محال؛ إذ المادة وجودها إنها قابلة فقط وليست سببا لوجود شيء من الأشياء على غير سبيل القبول. فإن كان شيء من المواد ليس هكذا فليس هو مادة إلا باشتراك الاسم فيكون إن كان الشيء المفروض ثابتا ليس على صفة المادة إلا باشتراك الاسم، فالمعلول الأول لا تكون نسبته إليه على إنه صورة في مادة إلا باشتراك الاسم، فإن كان هذا الثاني من جهة توجد عنه هذه المادة، ومن جهة أخرى توجد صورة شيء آخر، حتى لا تكون الصورة الأخرى موجودة بتوسط المادة، كانت الصورة المادية تفعل فعلا لا يحتاج فيه إلى المادة، وكل شيء يفعل فعله من غير أن يحتاج إلى المادة فذاته أولا غنية عن المادة، فتكون الصورة المادية غنية عن المادة. وبالجملة فإن الصورة المادية وإن كانت علة للمادة في أن تخرجها إلى الفعل وتكملها فإن للمادة أيضا تأثيرا في وجودها وهو تخصيصها وتعيينها، وإن كان مبدأ الوجود من غير المادة كما قد علمت، فيكون لا محالة كل واحد منهما علة للأخرى في شيء، وليسا من جهة واحدة؛ ولولا ذلك لاستحال أن يكون للصورة المادية تعلق بالمادة بوجه من الوجوه؛ ولذلك قد سلف منا القول: أن المادة لا يكفي في وجودها الصورة فقط، بل الصورة كجزء العلة؛ وإذا كان كذلك فليس يمكن أن تجعل الصورة من كل وجه علة

الصفحة    : 216

للمادة مستغنية بنفسها؛ فبين أنه لا يجوز أن يكون المعلول الأول صورة مادية أصلا ولا أن يكون مادة أظهر؛ فوجب أن يكون المعلول الأول صورة غير مادية أصلا بل عقلا، وأنت تعلم إن ههنا عقولا ونفوسا مفارقة كثيرة؛ فمحال أن يكون وجودها مستفادا بتوسط ما ليس له وجود مفارق؛ لكنك تعلم أن في جملة الموجودات عن الأول أجساما؛ إذ علمت أن كل جسم ممكن الوجود في حيز نفسه وأنه يجب بغيره، وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول تعالى بغير واسطة، فهي كائنة عنه بواسطة وقد علمت أنه لا يجوز أن تكون الواسطة وحدة محضة لا اثنينية فيها، فقد علمت أن الواحد من حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد، فبالحرى أن يكون عن المبدعات الأول بسبب إثنينية يجب أن يكون فيها ضرورة أو كثرة كيف كانت، ولا يمكن في العقول المفارقة شيء من الكثرة إلا على ما أقول: إن المعلول بذاته ممكن الوجود، وبالأول واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل، وهو يعقل ذاته، ويعقل الأول ضرورة، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حيزها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته، وعقله للأول، وليست الكثرة له عن الأول؛ فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا بسبب الأول، بل له من الأول وجوب وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول، ونحن لا نمنع أن يكون عن شيء واحد ذات واحدة، ثم يتبعها كثرة إضافية ليست في أول وجوده ولا داخلة في مبدأ قوامه، بل يجوز أن يكون الواحد يلزم عنه واحد، ثم ذلك الواحد يلزمه حكم وحال، أو صفة، أو معلول؛ ويكون ذلك أيضا واحدا؛ ثم يلزم عنه بمشاركة ذلك اللازم شيء، فيتبع من هناك كثرة كلها يلزم ذاته، فيجب إذن أن تكون مثل هذه الكثرة هي العلة لإمكان وجود الكثرة فيها عن المعلولات الأٌول، ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منه إلا واحدة، ولم يمكن أن يوجد عنها جسم، ثم لا إمكان للكثرة هناك إلا على هذا الوجه فقط، وقد بان لنا فيما سلف أن العقول المفارقة كثيرة العدد، فليست إذن موجودة معا عن الأول بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه ثم يتلوه عقل وعقل؛ ولأن تحت كل عقل فلكا بمادته وصورته التي هي النفس وعقلا دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود، فيجب أن يكون إمكان وجود هذه الثلاثة عن العقل الأول في الإبداع لأجل التثليث المذكور، والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة، فيكون إذن العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى، وكمالها وحي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في تعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذلك الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشارك للقوة فيما يعقل الأول، يلزم عنه عقل وبما يختص

الصفحة    : 217

بذاته على جهة تلزم عنه الكثرة الأولى بجزئيها، أعني المادة والصورة، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها، كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذي صورة الفلك، وكذلك الحال في عقل عقل، وفلك فلك، حتى ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا، وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق؛ فإنا نقول: إنه إن لزم وجود كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة. وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة يلزم كثرته هذه المعلولات؛ ولا هذه العقول متفقة الأنواع، حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ولنبتدىء لبيان هذا المعنى ابتداء آخر فنقول: إن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول من جهة كثرته المذكورة، وخصوصاً إذا فصل كل فلك إلى صورته ومادته، فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول، ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر، وذلك لأن الجرم بما هو جرم لا يجوز أن يكون مبدأ جرم، وبما له قوة نفسانية لا يجوز أن يكون مبدأ جرم ذي نفس أخرى؛ وذلك لأنا بينا أن كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته وليس جوهراً مفارقاً وإلا لكان عقلا لا نفسا، وكان لا يتحرك ألبتة على سبيل التشوق وكان لا يحدث فيه من حركة الجرم تغير، ومن مشاركة الجرم تخيل وتوهم، وقد ساقنا النظر إلى إثبات هذه الأحوال لأنفس الأفلاك كما علمت، وإذا كان الأمر على هذا، فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها إلا بوساطة أجسامها، فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفين: إما صور قوامها بمواد الأجسام، فكما أن قوامها بمواد تلك الأجسام، فكذلك ما يصدر عن قوامها يصدر بواسطة مواد تلك الأجسام؛ ولهذا السبب فإن النار لا تسخن حرارتها أي شيء اتفق بل ما كان ملاقياً لجرمها، أو من جسمها بحال. والشمس لا تضيء كل شيء، بل ما كان مقابلا لجرمها. وإما صور قوامها بذاتها لا بمواد الأجسام، كالأنفس؛ ثم كل نفس فإنما جعلت خاصة لجسم بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه. ولو كانت مفارقة الذات والفعل جميعا لذلك الجسم، لكانت نفس كل شيء لا نفس ذلك الجسم فقط. فقد بان على الوجوه كلها أن القوى السماوية المنطبعة بأجسامها، لا تفعل إلا بواسطة جسمها. ومحال أن تفعل بواسطة الجسم نفسا، لأن الجسم لا يكون متوسطا بين نفس ونفس؛ فإن كانت تفعل نفساً بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم واختصاص بفعل مفارق لذاتها وذات الجسم. وهذا غير الأمر الذي نحن في ذكره، وإن لم تفعل نفسا، لم تفعل جرما سماويا؛ لأن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة و الكمال؛ فإن وضع لكل فلك شيء يصدر عنه في فلكه شيء وأثر من

الصفحة    : 218

غير أن يستغرق ذاته في شغل ذلك الجرم وبه، ولكن ذاته مباينة في القوام وفي الفعل لذلك الجسم، فنحن لا نمنع هذا، وهذا هو الذي نسميه العقل المجرد، ونجعل صدور ما بعده عنه، ولكن هذا غير المنفعل عن الجسم وغير المشارك إياه، والصائر صورة خاصة به، والكائن عن الجهة التي حدثنا عنها حين أثبتنا هذه النفس. فقد بان ووضح أن للأفلاك مباديء غير جرمانية، وغير صور الأجرام. وأن كل فلك يختص بمبدأ منها، والجميع يشترك في مبدأ واحد. ومما لا شك فيه أن ههنا عقولا بسيطة مفارقة، تحدث مع حدوث أبدان الناس، ولا تفسد بل تبقى. وقد تبين ذلك في العلوم الطبيعية، وليست صادرة عن العلة الأولى؛ لأنها كثيرة مع وحدة النوع، ولأنها حادثة فهي إذن معلولات الأول بتوسط. ولا يجوز أن تكون العلل الفاعلية المتوسطة بين الأولى وبينها، دونها في المرتبة؛ فلا تكون عقولا بسيطة ومفارقة؛ فإن العلل المعطية للوجود أكمل وجودا، أما القابلة للوجود فقد تكون أخس وجودا؛ فيجب إذن أن يكون المعلول الأول عقلا واحداً بالذات، ولا يجوز أيضاً أن تكون عنه كثرة متفقة النوع؛ وذلك لأن المعاني المتكثرة التي فيه، وبها يمكن وجود الكثرة فيه إن كانت مختلفة الحقائق، كان ما يقتضيه كل واحد منها شيئاً غير ما يقتضي الآخر في النوع. فلم يلزم كل واحد منها ما يلزم الآخر، بل طبيعة أخرى وأن كانت متفقة الحقائق فبماذا تخالفت وتكثرت، ولا انقسام مادة هناك؟ فإذن المعلول الأول لا يجوز عنه وجود كثرة إلا مختلفة الأنواع، فليست هذه الأنفس الأرضية أيضاً كائنة عن المعلول الأول بلا توسط علة أخرى موجودة؛ وكذلك عن كل معلول أول عال حتى ينتهي إلى معلول أول كونه مع كون الاسقاطات القابلة للكون والفساد، المتكثرة بالنوع والعدد معا. فيكون تكثر القابل سببا لتكثر فعل مبدأ واحد بالذات. وهذا بعد استتمام وجود السماويات كلها؛ فيلزم دائما عقل بعد عقل حتى تتكون كرة القمر ثم تتكون الاسقاطات، وتتهيأ لقبول تأثير واحد بالنوع كثير بالعدد عن العقل الأخير. فإنه إذا لم يكن السبب في الفاعل، وجب في القابل ضرورة. فإذن يجب أن يحدث عن كل عقل عقل تحته، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد، لتكثر الأسباب، فهناك ينتهي. وقد اتضح وبان أن كل عقل هو أعلى في المرتبة، فإنه لمعنى فيه، وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه وجرم الفلك كائن عنه، ومستبقى بتوسط النفس الفلكية؛ فإن كل صورة فهي علة لأن يكون مادتها بالفعل، لأن المادة نفسها لا قوام لها.

الفصل الخامس (ه)  

الصفحة    : 219

فصل في حال تكون الإسطقسات عن العلل الأوائل.

فإذا استوفت الكرات السماوية عددها، لزم بعدها وجود اسطقسات، وذلك لأن الأجسام الاسسطقسية كائنة فاسدة، فيجب أن تكون مبادئها القريبة أشياء تقبل نوعا من التغير والحركة، وأن لا يكون ما هو عقل محض وحده سببا" لوجودها، وهذا يجب أن يتحقق من أصول، أن يتحقق من أصول، أكثرنا التكرار فيها، وفرغنا من تقريرها. ولهذه الاسطقسات مادة يشترك فيها، وصور يختلف بها، وصور يختلف بها، فيجب أن يكون اختلاف صورها مما يعين فيه اختلاف في أ في وال الأفلاك، وأن يكون اتفاق مادتها مما يعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك. والأفلاك تتفق في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة، فيجب أن يكون مقتضى تلك الطبيعة يعين في وجود المادة، ويكون ما يختلف فيه مبدأ تهيء المادة للصور المختلفة، لكن الأمور الكثيرة المشتركة في النوع والجنس لا تكون وحدها بلا مشاركة من واحد معين علة لذات هي نفسها متفقة واحدة، وإنما يقيمها غيرها؛ ولا يوجد إذن هذا الواحد عنها إلا بارتباط بواحد يردها إلى أمر واحد، فيجب أن تكون العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه - بمشاركة الحركات السماوية - شيء فيه رسم صور العالم الأسفل على جهة الانفعال؛ كما أن في ذلك العقل أو العقول رسم الصور على جهة التفعيل، ثم تفيض منه الصور فيها بالتخصيص لا بانفراد ذاته، فإن الواحد يفعل في الواحد - كما علمت - واحدة، بل بمشاركة الأجسام السماوية؛ فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا

واسطة جسم عنصري، أو بواسطة تجعله على استعداد خاص بعد العام الذي كان ذلك في جوهره، فاض عن هذا المفارق صورة خاصة، وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم إن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد، بأمر دون أمر يكون له، بل يحتاج إلى أن تكون هناك مخصصات مختلفة، ومخصصات المادة معداتها، والمعد هو الذي يحدث عنه في المستعد أمر ما، تصير مناسبته لذلك الأمر لشيء بعينه أولى من مناسبته لشيء آخر، فيكون هذا الإعداد مرجحا" لوجود ما هو أولى فيه من الأوائل الواهبة للصور، ولو كانت المادة على التهيؤ الأول وتشابهت نسبتها إلى الضدين فما يرجح أحدهما؛ اللهم إلا بحال تختلف به المؤثرات فيه، وذلك الاختلاف أيضا" منسوب إلى جميع المواد نسبة واحدة، فلا يجب أن نختص بموجبة مادة دون مادة إلا لأمر أيضا يكون في تلك المادة، وليس إلا الاستعداد الكامل، وليس الاستعداد الكامل إلا مناسبة كاملة

الصفحة    : 220

لشيء بعينه هو المستعد لها؛ وهذا مثل الماء إذا أفرط تسخينه فاجتمعت السخونة الغريبة، والصورة المائية، وهي بعيدة المناسبة للصورة المائية وشديدة المناسبة للصورة النارية. فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة للصورة النارية فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة اشتد الاستعداد، فصار من حق الصورة النارية أن تفيض، ومن حق هذه أن تبطل؛ ولأن المادة ليست تبقى بلا صورة، فليس قوامها عن ما ينسب إليه من المباديء الأولى وحدها بل عنها وعن الصورة. ولأن الصورة التي تقيم هذه المادة الآن قد كانت المادة قائمة دونها، فليس قوامها عن الصورة وحدها بل بها، و بالمبادىء الباقية بواسطتها أو واسطة أخرى مثلها. فلو كانت من المبادىء الأولى وحدها لاستغنت عن الصورة، ولو كانت عن الصورة وحدها لما سبقت بالصورة، بل كما أن المتفق فيه من الحركة المستدير هناك يلزم طبيعة تقيمها الطبائع الخاصة بفلك فلك. فكذلك المادة ههنا يقيمها مع الطبيعة المشتركة ما يكون عن الطبائع الخاصة وهي الصور. وكما أن الحركة أخس الأحوال هناك، فكذلك المادة الذوات ههنا. وكما أن الحركة هناك تابعة لطبيعة ما بالقوة، كذلك المادة ههنا مرافقة لما بالقوة. وكما أن الطبائع الخاصة والمشتركة هناك مبادىء أو معينات لطبيعة الخاصة والمشتركة ههنا، فكذلك ما يلزم الطبائع الخاصة والمشتركة هناك من النسب المختلفة المتبدلة الواقعة فيها بسبب الحركة مبدأ لتغير الأحوال وتبدلها ههنا، وكذلك امتزاج نسبتها هناك سبب لامتزاج نسب هذه العناصر أو معين. ولأجسام السماويات تأثير في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها، ويسرى منها إلى هذا العالم، ولأنفسها تأثير أيضا في أنفس هذا العالم. وبهذه المعاني يعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام بالكمال والصورة، حادية عن النفس الفاشية في الفلك، أو بمعونتها. وقال قوم من المنتسبين إلى هذا العلم: إن الفلك لأنه مستدير فيجب أن يستدير على شيء ثابت في حشوه، فيلزم محاكته له التسخين حتى يستحيل نارا"، ومما يبعد عنه يبقى ساكنا، فيصير إلى التبرد و التكثف حتى يصير أرضا"، وما يلي النار منه يكون حارا"، ولكنه أقل حرارة من النار؛ وما يلي الأرض يكون كثيفا، ولكنه أقل تكثفا" من الأرض وقلة الحر وقلة التكثف يوجبان الترطيب، فإن اليبوسة إما من الحر، وإما من البرد؛ لكن الرطب الذي يلي الأرض هو أبرد، والذي يلي النار هو أشد حرارة، فهذا سبب كون العناصر؛ فهذا هو ما قد قالوا وليس ما يمكن أن يصحح بالكلام القياسي، ولا هو بسديد عند التفتيش، ويشبه أن يكون الأمر على قانون آخر، وأن تكون هذه المادة التي تحدث بالشركة يفيض إليها

الصفحة    : 221

من الأجرام السماوية، إما عن أربعة أجرام، وإما عن عدة منحصرة في أربع جمل، عن كل واحد منها ما يتهيأ لصور جسم بسيط. فإذا استعد نال الصورة من واهب الصور، أو يكون ذلك كله يفيض عن جرم واحد، وأن يكون هناك سبب يوجب انقساما من الأسباب الخفية علينا، فإنك إن أردت أن تعرف ضعف ما قالوه، تتأمل أنهم يوجبون أن يكون الوجود أولا للجسم، وليس له في نفسه إحدى الصور المقومة غير الصور الجسمية، وإنما يكتسب سائر الصور بالحركة والسكون ثانيا؛ وبيّنا نحن قبل هذا استحالة هذا، وبيّنا أن الجسم لا يستكمل له وجود بمجرد الصورة الجسمية، ما لم تقترن بها صورة أخرى، وليست المقيمة للهيلولى الأبعاد فقط، فإن الأبعاد تتبع في وجودها صورا أخرى تسبق الأبعاد. و إن شئت فتأمل حال التخلخل من الحرارة، و التكاثف من البرودة، بل الجسم لا يصير جسما حتى يصير بحيث يتبع غيره في الحركة، حتى تسخنه متابعته تلك الحركات المتتابعة التي بيّنا أنها ليست قسرية بل طبيعية، إلا وقد تمت طبيعته. لكن يجوز أن يكون إذا تمت طبيعته يستحفظ بأصلح المواضع لاستحفاظها، لأن الحار يستحفظ حيث الحركة، والبارد يستحفظ حيث السكون، ثم لا يفكرون أنه لم وجب لبعض تلك المادة أن يهبط إلى المركز، فعرض له البرودة، ولبعضه أن جاوز الفوق. أما الآن فإن السبب في ذلك معلول. أما في الكليات فالخفة والثقل، وأما في جزئي عنصر واحد، فلأنه قد صح أن أجزاء العناصر كائنة، وأنه إذا تكون جزء منه في موضع ضرورة، لزم أن يكون سطح منه يلي الفوق إذا تحرك فوق، كان ذلك السطح أولى بالفوقية من السطح الآخر. وأما في أول تكونه، فإنما يصير سطح منه إلى فوق، وسطح إلى أسفل، لأنه لا محال قد استحال بحركة ما، وأن الحركة أوجبت له ضرورة وضعا ما. فلأشبه عندي ما قد ذهبنا إليه، وأظن أن الذي قال ذلك في تكون الاسطقسات، رام تقريبا" للأمر عند بعض من كتابه من العاميين، فجزم عليه القول من تأخر عنهم على أن كاتب ذلك الكلام شديد التذبذب و الاضطراب.

الفصل السادس:   (و)

الصفحة    : 222

فصل في العناية وبيان كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. 

وخليق بنا إذا بلغنا هذا المبلغ، أن نحقق القول في العناية، ولا شك أنه قد أتضح لك مما سلف منا بيانه أن العلل العالية لا يجوز أن تكون تعمل ما تعمل لأجلنا، أو تكون الجملة يهمها شيء ويدعوها داع ويعرض لها إيثار. ولا لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماوات، وأجزاء الحيوان والنبات؛ مما لا يصدر ذلك اتفاقا، بل يقتضي تدبيرا ما، فيجب أن يعلم أن العناية هي كون الأول عالما بذاته لما عليه الوجود في نظام الخير، وعلة لذاته للخير و الكمال بحسب الإمكان، وراضيا به على النحو المذكور، فيعقل نظام الخير على الوه الأبلغ في الإمكان فيفيض عنه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام، بحسب الإمكان، فهذا هو معنى العناية. واعلم أن الشر يقال على وجوه: فيقال شر، لمثل النقص الذي هو الجهل والضعف والتشويه في الخلقة؛ ويقال: شر، لما هو مثل الألم والغم الذي يكون إدراك ما بسبب لا فقد سبب فقط. فإن السبب المنافي للخير المانع للخير، والموجب لعدمه، ربما كان مباينا لا يدركه المضرور؛ كالسحاب إذا ظل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس. فإن كان هذا المحتاج داركا، أدرك أنه غير منتفع ولم يدرك من حيث يدرك ذلك أن السحاب قد حال، بل من حيث هو مبصر وليس هو من حيث هو مبصر متأذيا بذلك، متضررا أو متناقصا من حيث هو شيء آخر، وربما كان مواصلا يدركه مدرك عدم السلامة كمن يتألم بفقدان اتصال عضو بحرارة ممزقة، فأنه من حيث يدرك فقدان الاتصال بقوة في نفس ذلك العضو، يدرك المؤذي الحار أيضا فيكون قد أجتمع هناك إدراكان: إدراك على نحو ما سلف من إدراكنا للأشياء العدمية، وإدراك على ما نحو سلف من إدراكنا الأمور الوجودية وهذا المدرك الوجودي ليس شرا في نفسه بل بالقياس إلى هذا الشيء. وأما عدم كماله وسلامته فليس شرا بالقياس إليه فقط، حتى يكون له وجود ليس هو به شرا، بل وليس نفس وجوده إلا شرا فيه، وعلى نحو كونه شرا، فإن العمى لا يجوز إلا أن يكون في العين، ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شرا، وليس لهو جهة أخرى حتى يكون بها غير شر. وأما الحرارة مثلا إذا صارت شرا بالقياس إلى المتألم بها، فلها جهة أخرى تكون بها غير شر؛ فالشر بالذات وهو العدم ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطباعته، والشر بالعرض هو المعدوم، أو الحابس للكمال عن

الصفحة    : 223

مستحقه، ولا خير عن عدم مطلق إلا عن لفظه، فليس هو بشر حاصل، ولو كان له حصول ما لكائن الشر العام. فكل شيء وجوده على كماله الأقصى، وليس فيه ما بالقوة، فلا يلحقه شر، وإنما الشر ليلحق ما في طباعه ما بالقوة، وذلك لأجل المادة. والشر يلحق المادة لأمر أول يعرض لها في نفسها، ولأمر طاريء من بعد. فأما الأمر الذي في نفسها، فأن يكون قد عرض لمادة ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة، فتمكن منها هيئة من الهيئات؛ تلك الهيئة يمانع استعدادها الخاص الكمال الذي منيت بشر يوازيه، مثل المادة التي يتكون منها إنسان أو فرس، إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردأ مزاجا وأعصى جوهرا، فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم، فتشوهت الخلقة ولم يوجد المحتاج إليه من كمال المزاج والبنية، لا لأن الفعل حرم، بل لأن المنفعل لم يقبل. وأما الأمر الطارىء من خارج فأحد شيئين: إما مانع وحائل ومبعد للمكمل، وإما مضاد واصل ممحق للكمال. مثال الأول وقوع سحب كثيرة وتراكمها، وإضلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال. ومثال الثاني حبس البرد من النبات المصيب لكماله في وقته، حتى يفسد الاستعداد الخاص وما يتبعه. وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر وجملة ما تحت فلك القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود كما علمت. ثم الشر إنما يصيب أشخاصا، وفي أوقات. والأنواع محفوظة، وليس الشر الحقيقي يعم أكثر الأشخاص، إلا نوعا من الشر. وأعلم أن الشر الذي هو بمعنى العدم، إما أن يكون شرا بحسب أمر واجب أو نافع قريب من الواجب، وإما أن لا يكون شرا بحسب ذلك، بل شرا بحسب الأمر الذي هو ممكن في الأقل. ولو وجد كان على سبيل ما هو فضل من الكمالات التي بعد الكمالات الثانية، ولا مقتضى له من طباع الممكن هو فيه. وهذا القسم غير الذي نحن فيه، وهو الذي استثنيناه، هذا وليس هو شرا بحسب النوع، بل بحسب اعتبار زائد على واجب النوع كالجهل بالفلسفة، أو بالهندسة أو غير ذلك،فإن ذلك ليس شرا من جهة ما نحن ناس، بل هو شر بحسب كمال الإصلاح في أن يعمم، وستعرف أنه إنما ما يكون بالحقيقة شر إذا اقتضاه شخص إنسان، أو شخص نفسه، وإنما يقتضيه الشخص لا لأنه إنسان أو نفس، بل لأنه قد ثبت عنده حسن ذلك وأشتاق إليه، وأستعد لذلك الاستعداد كما سنشرح لك بعد. وأما قبل ذلك فليس مما ينبعث الشيء إليه في بقاء طبيعة النوع انبعاثه إلى الكمالات الثانية التي تتلو الكمال الأول، فإذا لم يكن، كان عدما" في أمر ما يقتضي في الطباع. فالشر في أشخاص الموجودات قليل، ومع ذلك

الصفحة    : 224

فأن وجود الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير، فإن هذه العناصر لو لم تكن بحيث تتضاد وتنفعل عن الغالب، ولم يمكن أن تكون عنها هذه الأنواع الشريفة، ولو لم تكن النار منها بحيث إذا تأدت بها المصادمات الواقعة في مجرى الكل على الضرورة إلى ملاقاة رداء رجل شريف، وجب احتراقه، لم تكن النار منتفعا بها النفع العام، فوجب ضرورة أن يكون الخير الممكن في هذه الأشياء إنما يكون خيرا" بعد أن يمكن وقوع مثل هذا الشر عنه ومعه، فإفاضة الخير لا توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر، فيكون تركه شرا من ذلك الشر، لأن عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده إذا كان عدمان شرا من عدم واحد، ولهذا ما يؤثر العاقل الاحتراق بالنار بشرط أن يسلم منها حيا على الموت بلا ألم. فلو ترك هذا القبيل من الخير لكان يكون ذلك شرا فوق هذا الشر الكائن بأيجاده، وكان في مقتضى العقل المحيط بكيفية وجوب الترتيب في نظام الخير أن يعقل استحقاق مثل هذا النمط من الأشياء وجودا محجوزا ما يقع معه من الشر ضرورة، فوجب أن يفيض وجوده، فإن قال قائل: فقد كان جائزا" أن يوجد المدبر الأول خيرا محضا مبرأ عن الشر، فنقول: هذا لم يكن جائزا" في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزا في الوجود المطلق على أنه ضرب من الوجود المطلق مبرأ، ليس هذا الضرب، وذلك مما قد فاض عن المدبر الأول، ووجد في الأمور العقلية والنفسية والسماوية، وبقى هذا النمط في الإمكان ولم يكن ترك إيجاده لأجل ما قد يخالطه من الشر الذي إذا لم يكن مبدؤه موجودا" أصلا، وترك لئلا يكون هذا الشر كان ذلك شرا من أن يكون هو فكونه خير الشرين، ولكان أيضا" يجب أن لا توجد الأسباب الخيرية التي هي قبل هذه الأسباب التي تؤدي إلى الشر بالعرض، فإن وجود تلك مستتبع لوجود هذه، فكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي، بل وإن لم نلتفت إلى ذلك، وقصرنا إلتفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها، فكان الوجود المبرأ من الشر قد حصل، وبقى نمط من الوجود إنما يكون على هذه السبيل، ولا كونه أعظم شرا من كونه، فواجب أن يفيض وجوده من حيث يفيض عنه الوجود الذي هو أصوب، وعلى النمط الذي قيل؛ بل نقول من رأس: إن الشر يقال على وجوه، فيقال شر للأفعال المذمومة، ويقال شر لمبادئها من الأخلاق، ويقال شر للآلام والغموم وما يشبهها، ويقال شر النقصان كل شيء عن كماله وفقدانه ما من شأنه أن يكون له. فكأن الآلام والغموم، وإن كانت معانيها وجودية ليست أعداما"، فانها تتبع الإعدام والنقصان، والشر الذي هو في الأفعال هو أيضا إنما هو بالقياس إلى من يفقد كماله بوصول ذلك إليه، مثل الظلم أو بالقياس إلى ما يفقد من كمال يجب في السياسة الدينية كالزنا، وكذلك الأخلاق إنما هي

الصفحة    : 225

شروط بسبب صدور هذه عنها وهي مقارنة لأعدام النفس كمالات يجب أن تكون لها، ولا تجد شيئا" مما يقال له شر من الأفعال إلا وهو كمال للقياس إلى سببه الفاعل له، وعسى إنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة التي هو أولى بها من هذا الفعل، فالظلم يصدر مثلا عن قوة صلابة للغلبة وهي الغضبية مثلا، والغلبة هي كمالها، ولذلك خلقت من حيث هي غضبية، يعني أنها خلقت لتكون متوجهة إلى الغلبة، تطلبها وتفرح بها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير لها، وإن ضعفت عنه، فهو بالقياس أليها شر لها، وإنما هي شر للمظلوم، أو للنفس المنطقية التي كمالها كسر هذه القوة والاستيلاء عليها، فإن عجزت عنه كان شرا لها، وكذلك السبب في الفاعل للآلام والإحراق كالنار إذا أحرقت مثلا فإن الإحراق كمال للنار، لكنه شر بالقياس إلى من سلب سلامته من ذلك، لفقدانه ما فقد. وأما الشر الذي سببه النقصان وقصور يقع في الجبلة، وليس فاعلا فعله، بل لأن الفاعل لم يفعله، فليس ذلك بالحقيقة خيرا بالقياس إلى شيء؛ وأما الشرور التي تتصل بأشياء هي خيرات، فإنما هي من سببين: سبب من جهة المادة أنها قابلة للصورة والعدم، وسبب من جهة الفاعل؛ فإنه لما وجب أن يكون عنه الماديات، وكان مستحيلا أن يكون للمادة وجود الوجود الذي يغنى غن

اء المادة ويفعل فعل المادة إلا أن يكون قابلا للصورة والعدم، وكان مستحيلا أن لا يكون قابلا للمتقابلات، وكان مستحيلا أن يكون للقوى الفعالة أفعال مضادة لأفعال أخرى، قد حصل وجودها وهي لا تفعل فعلها، فإنه من المستحيل أن يخلق ما يراد منه الغرض المقصود بالنار، وهي لا تحرق، ثم كان الكل إنما يتم بأن يكون فيه محترق ومسخن، وأن يكون فيه محرِك مسخّن لم يكن بد من أن يكون الغرض النافع في وجود هذين يستتبع آفات تعرض من الإحراق والاحتراق، كمثل إحراق النار عضو إنسان ناسك، لكن الأمر الأكثرى هو حصول الخير المقصود في الطبيعة، والأمر الدائم أيضا". أما الأكثرى فإن أكثر أشخاص الأنواع في كنف السلامة من الاحتراق، وأما الدائن فلأن أنواعا" كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود مثل النار على أن تكون محرق، وفي الأقل ما يصدر عن النيران الآفات التي تصدر عنها، وكذلك في سائر تلك الأسباب المشابهة لذلك؛ فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأغراض شرية أقلية، فأريدت الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال: إن الله تعالى يريد الأشياء، وأريد الشر أيضا" على الوجه الذي بالعرض، إذ علم أنه يكون ضرورة فلم يعبأ به، فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر. وكذلك فإن المادة قد علم من أمرها أنها تعجز عن أمور، وتقصر عنها الكمالات في أمور، لكنها يتم لها ما لا نسبة له

الصفحة    : 226

كثيرا إلى ما يقصر عنها، فإذا كان كذلك فليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الفائقة الدائنة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة؛ بل نقول: إن الأمور في الوهم إما أمور إذا توهمت موجودة، يمتنع أن تكون إلا شرا على الإطلاق، وإما أمور وجودها أن يكون خيرا، ويمتنع أن تكون شرورا وناقصة؛ وإما أمور تغلب فيها الخيرية إذا وجدت وجودها، ولا يمكن غير ذلك لطباعها؛ وإما أمور تغلب فيها الشرية؛ وإما أمور متساوية الحالين. فأما ما لا شرية فيه، فقد وجد في الطباع؛ وأما ما كله شر أو الغالب أو المساوي أيضا" فلم يوجد. وأما الذي الغالب في وجوده الخير فالأحرى به أن يوجد، إذا كان الأغلب فيه أنه خير. فإن قيل: فلما لم تمنع الشرية عنه أصلا، حتى كان يكون كله خيرا"، فيقال حينئذ لم يكن هي هي إذ قلنا إن وجوده الوجود الذي يستحيل أن يكون، بحيث لا يعرض عنها شر فإذا صيرت بحيث لا يعرض عنها شر فلا أن يكون وجودها الوجود الذي بل يكون وجود أشياء أخرى وجدت وهي غيرها وهي حاصلة. أعني ما خلق بحيث لا يلزمه شر لزوما" أوليا". ومثال هذا، أن النار إذا كان وجودها أن تكون محرقة، وكان وجود المحرق هو أنه إذا مس ثوب الفقير أحرقه، وكان وجود ثوب الفقير أنه قابل للاحتراق وكان وجود كل واحد منهما أن يعرض له حركات شيء، وكان وجود الحركات الشتى في الأشياء على هذه الصفة وجود ما يعرض له الالتقاء، وكان وجود الالتقاء بين الفاعل والمنفعل بالطبع وجودا يلزمه الفعل والانفعال؛ فإن لم تكن الثواني لم تكن الأوائل، فالكل إنما رتبت فيه القوة الفعالة والمنفعلة السماوية والأرضية الطبيعية والنفسانية، بحيث تؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور. فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس ما صورة اعتقاد ردىّ أو كفر أو شر آخر في نفس أو بدن، بحيث لو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلى يثبت، فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة. وقيل: خلقت هؤلاء للنار ولا أبالى، وخلقت هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقيل: كل ميسر لما خلق له. فإن قال قائل: ليس الشر شيئا نادرا أو اقليا، بل هو أكثرى. فليس هو كذلك بل الشر كثير، وليس بأكثرى، وفرق بين الكثير والأكثرى، فإن ههنا أمورا كثيرة هي كثيرة وليس بأكثرية كالأمراض، فإنها كثيرة وليست أكثرية. فإذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر وجدته أقل من الخير الذي يقابله، ويوجد في مادته فضلا عنه بالقياس إلى الخيرات الأخرى الأبدية. نعم الشرور التي هي نقصانات للكمالات الثانية هي أكثرية، لكنها ليست من الشرور التي كلامنا فيها، وهذه الشرور مثل

الصفحة    : 227

الجهل بالهندسة، ومثل فوت الجمال الرائع وغير ذلك مما لا يضر في الكمالات الأولى، ولا في الكمالات التي تليها مما يظهر منفعتها، وهذه الشرور ليس بفعل فاعل، بل لأن لا يفعل الفاعل لأجل أن القابل ليس مستعدا أو ليس يتحرك إلى القبول. وهذه الشرور هي أعدام خيرات من باب الفضل والزيادة.

الفصل السابع   (ز)

 فصل في المعاد.

وبالحري أن نحقق ههنا في أحوال الأنفس الإنسانية إذا فارقت أبدانها، وأنها إلى أية حال تصير، فنقول: يجب أن يعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا عن طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وه الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس وإن كانت الأوهام ههنا تقتصر على تصورهما الآن لما نوضح من العلل؛ والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية، بل كأنهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها، ولا يستعظمونها في جبنة هذه السعادة التي هي مقاربة الحق الأول، وهي على ما سنصفها عن قريب، فلنعرف حال هذه السعادة، والشقاوة المضادة لها فإن البدنية مفروغ منها في الشرع، فنقول: يجب أن تعلم أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً وأذى وشراً يخصها؛ مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذة الغضب الظفر، ولذة الوهم الرجاء، ولذة الحفظ الأمور الموافقة الماضية. وأذى كل واحد منها ما يضاده ويشترك كلها نوعاً من الشركة في أن الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذة الخاصة بها، وموافق كل واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل، فهذا أصل. وأيضاً فإن هذه القوى وإن اشتركت في هذه المعاني فإن مراتبها في الحقيقة مختلفة، فالذي كماله أفضل وأتم، والذي كماله أكثر، والذي كماله أدوم، والذي كماله أوصل إليه واحصل له، والذي هو في نفسه

الصفحة    : 228

أكمل فعلاً وأفضل، والذي هو في نفسه أشد إدراكاً؛ فاللذة التي له هي أبلغ وأوفر لا محالة، وهذا أصل. وأيضاً قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصور كيفيته ولا يشعر بالتذاذه ما لم يحصل، وما لم يشعر به لم يشتق إليه ولم ينزع نحوه، مثل العنين فإنه متحقق أن الجماع لذة لكنه لا يشتهيه ولا يحن نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به، بل شهوة أخرى كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل به إدراك وإن كان مؤذياً، وبالجملة، فإنه لا يتخيله. وكذلك حال الأكمة عند الصور الجميلة، والأصم عند الألحان المنتظمة، ولهذا يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه، وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة اللذة والغبطة، وأن رب العالمين ليس له في سلطانه وخاصيته البهاء الذي له وقوته الغير متناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن نسميه لذة، وللحمار والبهائم حالة طيبة ولذيذة، كلا بل أي نسبة تكون لما للعالية إلى هذه الخسيسة، ولكنا نتخيل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس، فحالنا عنده كحال الأصم الذي لم يسمع قط، في عدم تخيل اللذة اللحنية وهو متيقن لطيبها، وهذا أصل. وأيضاً فإن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الداركة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده عليه مثل كراهية بعض المرضى للطعم الحلو وشهوتهم للطعوم الردية الكريهات بالذات، وربما لم يكن كراهية، ولكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذة فلا يشعر بها ولا يستلذها، وهذا أصل. وأيضاً فإنه قد تكون القوة الداركة ممنوه بما هو ضد ما هو كمالها ولا تحس به ولا تنفر عنه حتى إذا زال العائق ورجعت إلى غريزتها تأذت به مثل الممرور فربما لا يحس بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه ويستنقي أعضاءه، فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له، وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته الغذاء البتة، بل كارها له، وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدة طويلة، فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه، فاشتد جوعه وشهوته للغذاء حتى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه، وقد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير إلا أن الحس مئوف فلا يتأذى البدن به حتى يزول الآفة فيحس حينئذ بالألم العظيم. فإذا تقررت هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمه فنقول: إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض في الكل مبتدئة من نبدأ الكل سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعاً ما

الصفحة    : 229

بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقوامها، ثم كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كلع مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق المطلق ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهيئته ومنخرط في سلكه وصائرة من جوهره، فإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى وجد في المرتبة التي بحيث يقبح معها أن يقال: إنه أفضل وأتم منها بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه فضيلة وتماماً وكثرة وسائر ما يتم به التذاذ المدركات مما ذكرناه. وأما الدوام فكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد. وأما شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال؛ إذ العقل والعاقل و المعقول واحد أو قريب من الواحد، وأما أن المدرك في نفسه أكمل فأمر لا يخفى، وأما أنه أشد إدراكاً أيضاً فأمر تعرفه بأدنى تأمل وتذكر لما سلف بيانه، فإن النفس النطقية أكثر عدد مدركات، وأشد تقصياً للمدرك وأشد تجريداً له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلا بالعرض ولها الخوض في باطن المدرك وظاهره، بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك أو كيف تقاس هذه اللذة باللذة الحسية والبهيمية والغضبية، ولكنا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحس بتلك اللذة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدمناه من الأصول ولذلك لا نطلبها ولا نحن إليها اللهم إلا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا، وطالعنا شيئاً من تلك اللذة، فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً ضعيفاً، وخصوصاً عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات النفسية ونسبة التذاذنا هذا إلى التذاذ ذلك، ونسبة التذاذ الحسي بنشق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطعمها، بل ابعد من ذلك بعداً غير محدود. وأنت تعلم إذا تأملت عويصاً يهمك وعرضت عليك شهوة وخيرت بين الظفرين، استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس؛ والأنفس العامية أيضاً فإنها تترك الشهوات المعترضة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح او خجل أو تغيير أو سوء قاله. وهذه كلها أحوال عقلية تؤثر هي وأضداد )ها( على المؤثرات الطبيعية ويصبر لها على المكروهات الطبيعية فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على النفس من محقرات الأشياء فكيف الأمور البهية العالية؟ إلا أن النفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر، ولا تحس بما يلحق الأمور البهية لما قيل من المعاذير. وأما إذا انفصلنا عن البدن، وكانت النفس منا تنبهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تخصله، وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالفعل أنه موجود. إلا أن اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها

الصفحة    : 230

ومعشوقها كما ينسى المرض الحاجة إلى بدل مل يتحلل وكما ينسى المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهاؤه، ويميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم لفقدانه كفاء ما يعرض من اللذة التي أوجبنا وجودها ودللنا على عظم منزلتها، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعد لهما تفريق النار للاتصال وتبديل الزمهرير للمزاج، فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف، أي الذي قد عملت فيه نار أو زمهرير، فمنعت المادة الملابسة وجه الحس عن الشعور به فلم يتأذ، ثم عرض أن أزال العائق فشعر بالبلاء العظيم. وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حداً من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه، كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحالة الأشهى وكان لا يشعر به، فزال عنه الخدر وطالع اللذة العظيمة دفعة، وتكون تلك اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه، بل لذة تشاكل الحال الطيبة التي هي للجواهر الحية المحضة، وهي أجل من كل لذة وأشرف. فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة، وتلك الشقاوة ليست تكون لكل واحد من الناقصين، بل للذين اكتسبوا للقوة العقلية التشوق إلى كمالها وذلك عندما يبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكل بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل، فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأول، ولا أيضاً في سائر القوى، بل شعوراً أكثر القوى بكمالاتها إنما يحدث بعد أسباب. وأما النفوس والقوى الساذجة الصرفة، فكأنها هيولي موضوعة، لم تكتسب البتة هذا التشوق؛ لأن هذا التشوق إنما يحدث حدوثاً وينطبع في جوهر النفس إذا برهن للقوة النفسانية أن ههنا أموراً يكتسب العلم بها الحدود الوسطى على ما علمت. وأما قبل ذلك فلا يكون، لأن هذا التشوق يتبع رأياً؛ غذ كل شوق يتبع رأياً، وليس هذا الرأي للنفس رأياً أولياً بل رأياً مكتسباً. فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي، لزم النفس ضرورة هذا الشوق؛ وإذا فارقت ولم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال التام وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبدي؛ لأن أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير وقد فات، وهؤلاء إما مقصرون عن السعي في كسب الكمال الأسنى، وإما معاندون جاحدون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية، والجاحدون أسوأ حالاً لما اكتسبوا من هيآت مضادة للكمال. وأما أنه ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات حتى يجاوز به الحد الذي في مثله تقع هذه الشقاوة، وفي تعديه وجوازه ترجى هذه السعادة، فليس يمكنني أن أنص عليه نصاً إلا بالتقريب. وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً، وتصدق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عندها بالبرهان وتعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون

الصفحة    : 231

الجزئية التي لا تتناهى، وتتقرر عندها هيئة الكل ونسب أجزاء بعضها إلى بعض، والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه، وتتصور العناية وكيفيتها، وتتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها، وأية وحدة تخصها، وأنها تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه من الوجوه، وكيف ترتيب نسبة الموجودات إليها. ثم كلما ازداد الناظر استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق إلى ما هناك وعشق لما هناك فصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة. ونقول أيضاً: إن هذه السعادة الحقيقية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، ولنقدم لذلك مقدمة، وكأنا قد ذكرناها فيما سلف، فنقول: إن الخلق هو ملكة يصدر بها من النفس أفعالاً ما بسهولة من غير تقدم روية، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسط بين الخلقين الضدين لا بأن أفعال التوسط دون أن تحصل ملكة التوسط، بل أن تحصل التوسط، وملكة التوسط ملكة كأنها موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً، أما القوى الحيوانية فبأن تحصل فيها هيئة الإذعان، وأما القوة الناطقة فبأن تحصل فيها هيئة الاستعلاء والانفعال، كما أن ملكة الإفراط والتفريط موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً، ولكن بعكس هذه النسبة. ومعلوم أن الإفراط والتفريط هما مقتضى القوى الحيوانية، وإذا قويت القوى الحيوانية وحصل لها ملكة استعلائية حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية وأثر انفعالي قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن يجعلها قوية العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه. وأما ملكة التوسط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانتقادية وتبقية النفس الناطقة على جبلتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزيه، وذلك غير مضاد لجوهرها ولا مائل بها إلى جهة البدن، بل عن جهته، فإن المتوسط يسلب عنه الطرفان دائماً. ثم جوهر النفس إنما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه، ويغفله عن الشوق الذي يخصه، وعن طلب الكمال الذي له، وعن الشعور بلذة الكمال إن حصل، والشعور بألم الكمال إن قصر عنه، لا بأن النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه، ولكن العلاقة التي كانت بينهما وهو الشوق الجبلي إلى تدبيره والاشتغال بآثاره وبما تورده عليه من عوارضه، وبما يتقرر فيه من ملكات مبدؤها البدن، فإذا فارق وفيه الملكة الحاصلة بسبب الاتصال به كان قريب الشيه من حله وهو فيه، فيما ينقص من ذلك تزول غفلته بمحل سعادته، ويحدث هناك من الحركات المشوشة ما يعظم أذاه. ثم أن تلك البدنية مضادة لجوهرها مؤذية له، وإنما كان يلهيها عنها أيضاً البدن وتمام انغماسها فيه، فإذا فارقت النفس البدن أحست بتلك المضادة العظيمة وتأذت بها أذى عظيماً، لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس

الصفحة    : 232

لأمر لازم، بل لأمر عارض غريب، والأمر العارض الغريب لا يدوم ولايبقى، ويزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكررها، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة، بل تزول وتنمحي قليلاً قليلاً حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها. وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات الردية صارت إلى سعة من رحمة الله تعالى ونوع من الراحة، وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية وليس لها عندها هيئة غير ذلك معنى تضاده وتنافيه فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذبت عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق إليه، لأن آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلق بالبدن قد بقي. ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقاً وهو أن هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لامثالهم على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور ذلك في أنفسهم من ذلك، فإنهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام، ولا منع من المواد السماوية من أن تكون موضوعة بفعل نفس فيها، قالوا فإنها تتخيل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخروية، وتكون الآلة التي يمكنها بها التخيل شيئاً من الأجرام السماوية فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الردية أيضاً تشاهد العقاب بحسب ذلك المصور لهم في الدنيا وتقاسيه، فإن الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد عليها تأثيراً وصفاء كما يشاهد في المنام، فربما كان المحلوم به أعظم شأناً في بابه من المحسوس، على أن الأخروي أشد استقراراً من الموجود في المنام بحسب قلة العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل، وليست الصورة التي ترى في المنام، بل ولا التي تحس في اليقظة،كما علمت. إلا المرتسمة في النفس. إلا أن أحدهما يبتدئ من باطن وينحدر إليه،والثانب يبتدئ من خارج ويرتفع إليه فإذا ارتسم في النفس تم هناك الإدراك المشاهد،وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود من خارج،فكلما ارتسم في النفس فعل فعله وأن لم يكن يسبب من خارج، فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم، والخارج هو السبب بالعرض أو سبب السبب. فهذه هي السعادة والشقاوة الخسيستان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة، وأما الأنفس المقدسة فإنها

الصفحة    : 233

تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل بكمالاتها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرأ من النظر إلى ما خلفها، وإلى المملكة التي لها، كل التبرئ. ولو كان بقي فيها من ذلك أثر اعتقادي أو خلقي تأذت به، وتخلفت لأجله عن درجة العليين إلى أن تنفسخ وتزول.

 

المقالة العاشرة

وفيها خمس فصول

الفصل الأول:   (ا)

فصل في المبدأ والمعاد بقول مجمل، وفي الإلهامات والمنامات، والدعوات المستجابة، والعقوبات السماوية، وفي الأحوال النبوة، وفي حال أحكام النجوم فالوجود إذا ابتدأ من عند الأول لم يزل كل تال منه أدون مرتبة من الأول، ولا يزال ينحط درجات؛ فأول ذلك درجة الملائكة الروحانية المجردة التي تسمى عقولاً، ثم مراتب الملائكة الروحانية التي تسمى نفوساً، وهي الملائكة العملة، ثم مراتب الأجرام السماوية، وبعضها أشرف من بعض إلى أن يبلغ آخرها، ثم بعدها يبتدئ وجود المادة القابلة للصورة الكائنة الفاسدة، فيلبس أول شيء صور العناصر ثم يتدرج يسيراً يسيراً فيكون أول الوجود فيها أخس وأدون مرتبة من الذي يتلوه، فيكون أخس ما فيه المادة ثم العناصر، ثم المركبات الجمادية، ثم النباتات، وأفضلها الإنسان، وبعده الحيوانات، ثم النبات، وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاثة ذكرناها: وهي أن يسمع كلام الله تعالى، ويرى ملائكته وقد تحولت له على صورة يراها. وقد بينا كيفية هذا، وبينا أن هذا هو الذي يوحي إليه تتشبح الملائكة له ويحدث له في سمعة صوت يسمعه يكون من قبل الله والملائكة، فيسمعه من غير أن يكون ذلك كلاماً من الناس والحيوان الأرضي، وهذا هو الموحى إليه؛ وكما أن أول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر كان عقلاً ثم نفساً ثم جرماً، فههنا يبتدئ الوجود من الأجرام، ثم تحدب المفوس، ثم عقول،وإنما تفيض هذه الصور لا محالة من عند تلك المبادئ، والأمور الحادثة في هذا العالم تحدث من مصادمات القوة الفاعلة السماوية، والمنفعلة الأرضية تابعة لمصادمات القوى الفعالة السماوية، وأما القوى الأرضية فيتم حدوث ما يحدث فيها بسبب شيئيين:

الصفحة    : 234

أحدهما القوى الفعالة فيها: إما الطبيعية وإما المادية. والثاني القوى الانفعالية: إما الطبيعية أو النفسانية. وأما القوى السماوية فتحدث عنها آثارها في هذه الأجرام التي تحتها على ثلاثة وجوه: أحدها من تلقائها بحيث لا تسبب فيها للأمور الأرضية بوحه من الوجوه، وتلك إما عن طبائع أجسامها وقواها الجسمانية بحسب التشكيلات الواقعة منها مع القوى الأرضية والمناسبات بينها، وإما عن طبائعها النفسانية. والوجه الثاني فيه شركة ما مع الأحوال الأرضية وتسبب بوجه من الوجوه على الوجه الذي أقول إنه قد اتضح لك، إن نفوس تلك الأجرام السماوية ضرباً من التصرف في المعاني الجزئية على سبيل الإدراك غير عقلي محض وأن لمثلها أن يتوصل إلى إدراك الحادثات الجزئية، وذلك يمكن بسبب إدراك تفاريق أسبابها الفاعلة والقابلة الحاصلة من حيث هي الأسباب وما يتأدى إليه، وإنها دائماً تنتهي إلى الطبيعة أو إرادية موجبة ليس إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة. ولا تنتهي إلى القسر، فإن القسرية إما قسر عن طبيعة، وإما قسر عن إرادة، واليها ينتهي التحليل في القسريات أجمع. ثم إن الإرادات كلها كائنة بعد لم تكن، فلها أسباب تتوافى فتوجبها، وليس توجد إرادة لإرادة وإلا لذهبت إلى غير نهاية، ولا عن طبيعة للمريد وإلا للزمت الإرادة ما دامت الطبيعة، بل الإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات، والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات، وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة، وأما الطبيعة فإن كانت ثابتة فهي أصل وأن كانت قد حدثت فلا محالة أنها تستند أيضاً إلى أمور سماوية وأرضية. عرفت جميع هذا فيما قبل وأن لازدحام هذه العلل وتصادمها واستمرار نظاماً ينجز بحسب الحركة السماوية، فإذا علمت الأوائل بما هي أوائل وهيئة إنجازها إلى الثواني، علمت الثواني ضرورة. فمن هذه الأشياء علمنا أن النفوس السماوية وما فوقها عالمة بالجزئيات، وأما ما فوقها فعلمها بالجزئيات على نحو كلي، وأما هي فعلى نحو جزئي كالمباشر أو المتأدي إلى المباشر أو المشاهد بالحواس، فلا محالة أنها تعلم ما يكون، لا محالة أنها تعلم في كثير منها على الوجه الذي هو أصوب والذي هو أصلح وأقرب إلى الخير من الأمرين الممكنين، وقد بينا أن التصورات التي لتلك العلل مبادئ لوجود تلك الصور ههنا إذا كانت ممكنة ولم تكن هناك أسباب سماوية، تكون أقوى من تلك التصورات مما هو أقدم ومما هو أحد القسمين من الثلاثة غير هذا الثالث. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل ذلك الأمر الممكن الوجود لا عن سبب أرضي ولا عن سبب طبيعي في السماء، بل عن تأثير بوجه ما لهذه الأمور

الصفحة    : 235

في الأمور السماوية. وليس هذا بالحقيقة تأثير، بل التأثير لمبادئ وجود ذلك في الأمور السماوية؛ فإنها إذا، عقلت الأوائل عقلت ذلك الأمر؛ وإذا، عقلت ذلك الأمر عقلت ما هو الأولى بأن يكون، وإذا عقلت ذلك مكان لا مانع فيه إلا عدم علة طبيعة أرضية أو وجود علة طبيعية أرضية، أما عدم العلة الطبيعية الأرضية، مثلاً أن يكون ذلك الشيء هو يوجد حرارة، فلا يكون قوة مسخنة طبيعية أرضية، فتلك السخونة تحدث للتصور السماوي بوجه كون الخير فيه، كما إنها تحدث هي في أبدان الناس عن أسباب من تصورات الناس وعلى ما عرفته فيما سلف. وأما أمثال الثاني فأن يكون ليس المانع عدم سبب التسخين فقط، بل وجود المبرد فالتصور السماوي للخير في وجود ضد ما يوجبه المبرد في ذلك أيضاً يقسر المبرد كما يقسر تصورنا المغضب السبب المبرد فينا فيكون الحر، فتكون أصناف هذا القسم إحالات لأمور طبيعية أو إلهامات تتصل بالمستدعي أو بغيره، أو اختلاط من ذلك يؤدي واحد منها أو جملة مجتمعة إلى الغاية النافعة؛ ونسبة التضرع إلى استدعاء هذه القوة نسبة التفكر إلى استدعاء البيان، وكل يفيض من فوق. وليس هذا يتبع التصورات السماوية، بل الأول الحق يعلم جميع ذلك على الوجه الذي قلنا: إنه يليق به ومن عنده يبتدئ التصورات كون ما يكون، ولكن بالتوسط، وعلى ذلك علمه. فبسبب هذه الأمور ما ينتفع بالدعوات والقرابين وخصوصاً في أمر الاستسقاء وفي أمور أخرى؛ ولهذا ما يجب أن يخاف المكافآت على الشر ويتوقع المكافآت على الخير؛ فإن غي ثبوت حقية مزجرة عن الشر، وثبوت حقية ذلك يكون بظهور آياته، وآياته هي وجود جزئياته، وهذه الحال معقولة عند المبادئ، فيجب أن يكون لها وجود، فإن لم يوجد فهناك شر وبسبب لا ندركه، أو سبب آخر يعاوقه؛ وذلك أولى بالوجود من هذا، ووجود ذلك ووجود هذا معاً من المحال؛ وإذا شئت أن تعلم أن الأمور التي عقلت نافعة مؤدية إلى المصالح قد أوجدت في الطبيعة على النحو من الإيجاد الذي علمته وتحققته فتأمل حال منافع الأعضاء في الحيوانات والنباتات، وان كل واحد كيف خلق. وليس هناك البتة سبب طبيعي، بل مبدوء لا محالة من العناية على الوجه الذي علمت للعناية. فكذلك يصدق بوجود هذه المعاني؛ فإنها متعلقة بالعناية على الوجه الذي علمت العناية تعلق تلك. واعلم أن أكثرها ما يقربه الجمهور ويفزع إليه، ويقول به، فهو حق وغنما يدفعه هؤلاء المتشبه بالفلاسفة جهلاً منهم بعلله وأسبابه، وقد علمنا في هذا الباب كتاب البر والإتمام فتأمل شرح هذه الأمور من هناك وصدق بما يحكي من العقوبات الإلهية النازلة على مدن فاسدة، وأشخاص ظالمة؛ وأنظر أن

الصفحة    : 236

الحق كيف ينصر؛ واعلم أن السبب في الدعاء منا أيضاً وفي الصدفة وغير ذلك وكذلك حدوث الظلم والإثم إنما يكون من هناك فإن مبادئ جميع هذه الأمور تنتهي إلى الطبيعة والإرادة والاتفاق، والطبيعة مبدؤها من هناك، والإرادات التي لنا كائنة بعد ما لم تكن، وكل كائن بعد ما لم يكن فله علة، وكل إرادة لناقلها علة، وعلة تلك الإرادة ليست إرادة متسلسلة في ذلك إلى غير نهاية، بل أمور تعرض من خارج، أرضية وسماوية؛ والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة. وأما الاتفاق فهو الحادث عن مصادمات هذه، فإذا حللت الأمور كلها تستند إلى مبادئ إيجابها، تنزل من عند الله تعالى. والقضاء من الله تعالى هو الوضع الأول البسيط. والتقدير هو ما يتوجه إليه القضاء على التدريج كأنه موجب اجتماعات من الأمور البسيطة التي تسب من حيث هي بسيطة إلى القضاء والأمر الإلهي الأول. ولو أمكن إنساناً من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعها وطبائعها، لفهم كيفية جميع ما يحدث في المستقبل. وهذا المنجم القائل بالأحكام- مع أن أوضاعه الأولى ومقدماته ليست تستند إلى برهان، بل عسى أن يدعي فيها التجربة أو الوحي، وربما حاول قياسات شعرية أو خطابية في إثباتها- فإنه إنما يعول على دلائل جنس واحد من أسباب الكائنات وهي التي في السماء، على أنه لا يضمن من عنده الإحاطة بجميع الأحوال التي في السماء، ول ضم لنا ذلك ووفى به لم يمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميعها غي كل وقت، وإن كان جميعها من حيث فعله وطبعه معلوماً عنده؛ وذلك مما لا يكفي أن يعلم أنه وجد أو لم يوجد. وذلك لأنه لا يكفيك أن تعلم أن النار حارة مسخنة وفاعلة كذا وكذا، في أن تعلم أنها سخنت متا لم تعلم أنا حصلت، وأي طريق من الحساب يعطينا المعرفة بكل حدث وبدعة في الفلك، ولو أمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميع ذلك لم يتم لنا به الانتقال إلى المغيبات. فإن الأمور المغيبة التي في طريق الحدوث إنما تتم بالمخاطبات بين الأمور السماوية التي لنا تسامح أنا حصلناها بكمال عددها، وبن الأمور الأرضية المتقدمة واللاحقة، فاعلها ومنفعلها، طبيعتها وإراديها وليس تتم بالسماويات وحدها، فما لم يحط بجميع العناصر من الأمرين، وموجب كل واحد منهما خصوصاً ما كان متعلقاً بالمغيب، لم يتمكن من الانتقال إلى المغيب. فليس لنا إذن اعتماد على أقوالهم، وإن سلمنا متبرعين أن جميع ما يعطوننا من مقدماتهم الحكيمة صادقة.

الفصل الثاني: (ب)  

الصفحة    : 237

فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى، والمعاد إليه

ونقول الآن: إنه من المعدوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو أنفرد وحده شخصاً واحداً يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على الضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكيفاً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكيفاً به ونظيره، فيكون مثلاً هذا يبقل لذلك، وذاك يخبر لهذا، وهذا يخيط لآخر، والآخر يتحذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكيفاً. ولها ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات فمن كان منهم غير محتاط في عقد مدينته على شرائط المدينة وقد وقع منه ومن شركائه الاقتصار على اجتماع فقط فإنه يتحيل على جنس بعيد الشبه من الناس وعادم لكمالات الناس، ومع ذلك فلا بد لأمثاله من اجتماع ومن تشبه بالمدنين. فإذا كان هذا ظاهراً فلا بد من وجود إنسان وبقاؤه من مشاركته، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملته، كما لا بد من ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد من المعاملة من سنة عدل، ولا بد للسنة والعدل من سنانًّ ومُعِّدل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة. ولا بد من أن يكون هذا إنساناً، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل واحد منهم ما له عدلاً، وما عليه ظلماً؛ إلى هذا الإنسان في أن يبفى نوع الإنسان ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أنها تنفع في البقاء، ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف لنا ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها، ولا أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم ذلك ولا يعلم هذا، ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الخير الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد؛ بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجود مبنى على وجوده موجود؟ فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصيته ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به منهم، فتكون له المعجزات التي أخبرنا بها، وهذا الإنسان إذا وجد يجب أن يسن الناس في أمورهم سناً بإذن الله تعالى وأمره ووحيه وإنزاله الروح المقدس عليه، ويكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعاً واحداً قادراً، وأنه علام بالسر والعلانية، وإن من حقه أن يطاع أمره؛ فإنه يجب أن يكون الأمر لمن له

الصفحة    : 238

الخلق، وأنه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد، ولمن عصاه المعاد المشقي، حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الإله والملائكة بالسمع والطاعة، ولا ينبغي أن يشغلهم بشيء من معرفة الله تعالى فوق معرف أنه واحد لا شبيه له. فأما أن يعدي بهم إلى أن يكلفهم أن يصدقوا بوجوده وهو غير مشار إليه في مكان، ولا خارج العالم ولا داخله، ولا شيئاً من هذا الجنس، فد عظم عليهم الشغل وشوش فيما بين أيديهم الدين، وأوقعهم فيما لا مخلص عنه، إلا لمن كان المعان الموفق الذي يشذ وجوده ويندر كونه، فإنه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلا بكد، وإنما يمكن القليل منهم أن يتصوروا حقيقة هذا التوحيد والتنزيه، فلا يلبثون أن يكذبوا بمثل هذه الوجوه، ويقعوا في تنازع وينصرفوا إلى المباحثات والمقايسات التي تصدهم عن أعمالهم المدنية. وربما أوقعهم في آراء مختلفة لصلاح المدنية، ومنافية لواجب الحق، وكثر فيهم الشكوك والشبه، وصعب الأمر على الإنسان في ضبطهم، فما كل بميسر له في الحكمة الإلهية، ولا إنسان يصلح له أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة، بل يجب أن لا يرخص في تعرض شيء من ذلك، بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته بروز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم جليلة وعظيمة، ويلقي إليهم مع هذا، هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شريك له ولا شبيه له، وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، وتسكن إليهم نفوسهم، ويضر للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه وتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً، وهو أن ذلك الشيء لا عين رأته ولا أذن سمعنه، وأن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم. واعلم أن الله تعالى يعلم أن وجه الخير في هذا، فيجب أن يوجد معلوم الله تعالى على وجهه على ما علمت، ولا بأس أن يشتمل خطابه به على رموز وإشارات تستدعي المستعدين بالجلبة للنظر إلى البحث الحكمي.

الفصل الثالث:   (ج)

الصفحة    : 239

فصل في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة   

ثم أن هذا الشخص هو النبي ليس مما يتكرر وجوده مثله في كل وقت؛ فإن المادة التي تقبل كمال مثاله تقع في القليل من الأمزجة؛ فيجب لا محالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد دبر لبقاء ما يسنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً. ولا شك أن القاعدة في ذلك هي استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد، وحسم بسبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدد متقاربة حتى يكون الذي ميقاته بطل مصاقباً للمنقضي منه، فيعود به التذكر من رأس؛ وقبل أن ينفسخ يلحق عقابه. ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكر الله والمعاد لا محالة، وإلا فلا فائدة فيها، والتذكير لا يكون بألفاظ تقال، أو نيات تنوي في الخيال، وان يقال لهم: إن هذه الأفعال تقرب إلى الله تعالى، وستوجب بها الجزاء الكريم، وأنت كون تلك الأفعال بالحقيقة على هذه الصفة، وهذه الأفعال مثل العبادات المفروضة على الناس؛ وبالجملة يجب أن تكون المنبهات، والمنبهات إما حركات وإما أعدام حركات تفضي إلى حركات؛ فإما الحركات فمثل الصلاة، وأما أعدام الحركات فمثل الصوم، وإن كان معنى عدمياً فإنه يحرك من الطبيعة تحريكاً شديداً ينبه صاحبه أنه على جملة من الأمر ليس هزلاً، فيتذكر سبباً ما ينويه من ذلك أنه القرب إلى الله تعالى، ويجب أن أمكن أن تخلط بهذه الأحوال مصالح أخرى في تقوية السنة وبسطها. والمنافع الدنيوية للناس أيضاً أن يفعل ذلك، وذلك مثل الجهاد والحج على أن يعين مواضع من البلاد بأنها أصلح المواضع لعبادة الله تعالى، وأنها خاصة لله تعالى، وتعين أفعال لا بد منها للناس وأنها في ذات الله تعالى مثل القرابين؛ فإنها مما يعين في هذا الباب معونة شديدة. والموضع الذي منفعته في هذا الباب هذه المنفعة إذا كان فيه المأوى الشارع ومسكنه فإنه يذكر به أيضاً، وذكراه في المنفعة المذكورة تالية لذكر الله تعالى، والمأوى الواحد ليس يجوز أن يكون نصب عين الأمة كافة. فبالأحرى أن يفرض إليه مهاجرة وسفرة، ويجب أن يكون أشرف هذه العبادات من وجه هو ما يفرض متوليه أنه مخاطب لله تعالى ومناج إياه وصائر إليه وماثل بين يديه، وهذا هو الصلاة. فيجب أن يسن للمصلي من الأحوال التي يستعد بها للصلاة ما جرت العادة بمؤاخذة الإنسان نفسه به عند لقاء الملك الإنساني من الطهارة والتنظيف، وأن بسن في الطهارة والتنظيف سننا بالغة، وان يسن عليها فيها ما جرت العادة بمؤاخذة نفسه به عند لقاء الملوك من الخشوع والسكون وغض

الصفحة    : 240

البصر وقبض الأطراف وترك الالتفات والاضطراب، وكذلك يسن له في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة؛ فهذه الأفعال ينتفع بها العامة من رسوخ ذكر الله تعالى والمعاد أنفسهم، فيدوم لهم التثبت بالسنن والشرائع بسبب ذلك؛ فإن لم يكن لهم مثل هذه المذكرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرن أو قرنين، وينفعهم أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فيما تنزه به أنفسهم على معرفته. وأما الخاصة فأكثر منفعة هذه الأشياء إياهم في المعاد، وقد قررنا حال المعاد الحقيقي وأثبتنا أن السعادة في الآخرة بتنزيه مكتسبة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس يبعدها عن اكتساب الهيئات المضادة لأسباب السعادة، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات، والأخلاق والملكات تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس وتديم تذكيرها للمعدن الذي لها؛ فإن كانت كثير الرجوع إلى ذاتها لم تنفعل من الأحوال البدنية، ومما يذكرها ذلك وبعينها عليه أفعال متعبة خارجة عن عادة الفطرة بل هي إلى التكلف أقرب؛ فإنها تتعب البدن والقوى الحيوانية وتهزم إرادتها من الاستراحة والكسل ورفض العناء وإخماد الحرارة العزيزية واجتذاب الارتياض إلا في اكتساب أغراض من اللذات البهيمية، ويفرض على النفس المحاولة لتلك الحركات وذكر الله تعالى واللائكة وعالم السعادة شاءت أم أبت، فيتقرر لذلك فيها هيئة الانزعاج عن هذا البدن وتأثيراته، وملكة التسلط على البدن، فلا تنفعل عنه، فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وملكة التسلط على البدن، فلا تنفعل عنه، فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم تؤثر فيها هيئة وكملكة تأثيرها لو كانت مخلدة إليها منقادة لها من كل وجه. ولذلك قال قائل الحق: "إن الحسنات يذهبن السيئات" فإن دام هذا الفعل من الإنسان استفاد ملكة التفات إلى جهة الحق وإعراض عن الباطل، وصار شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية. وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله، وكان مع اعتقاده ذلك يلزم في كل فعل أن يتذكر الله ويعرض عن غيره، لكان جديراً أن يفوز من هذا ذكاء بخط؛ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله تعالى وبإرسال الله تعالى، وواجب فبي الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه هو مما وجب من عند الله أن يسنه، وأن جميع ما يسنه عن عند الله تعالى. فالنبي فرض عليه من عند الله أن يفرض عباداته، وتكون الفائدة في العبادات فيما يبقى به فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم، وفيما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بذكائهم؛ ثم هذا الإنسان هو المليء بتدبير أحوال الناس على ما تنظيم به أسبابه معايشهم ومصالحهم معادهم، وهو إنسان متميز عن سائر الناس بتألهه.

الفصل الرابع: (د)   

الصفحة    : 241

فصل في عقد المدينة وعقد البيت وهو نكاح والسنن الكلية في ذلك

فيجب أن يكون القصد الأول للسان في وضع السنن وترتيب المدينة على أجزاء ثلاثة: المدبرون، والصناع، والحفظة؛ وأن يرتب كل جنس منهم رئيساً يترتب تحته رؤساء يلونه، يترتب رؤساء يلونه، إلى أن تنتهي إلى إفناء الناس. فلا يكون في المدينة إنسان معطل ليس له مقام بل يكون لكل واحد منهم منفعة في المدينة، وأن تحرم البطالة والتعطل، وأن لا يجعل لأحد سبيلاً إلى أن يكون له من غيره الحظ الذي لا بد منه الإنسان، وتكون جنبته معافاة ليس يلزمها كلفة؛ فإن هؤلاء يجب أن يردعهم كل الردع؛ فإن لم يرتدعوا نفاهم من الأرض؛ فإن كان السبب في ذلك مرض أو آفة أفرد لهم موضعاً يكون فيه أمثالهم، ويكون عليهم قيم، ويجب أن يكون في المدينة وجه مال مشترك، بعضه من حقوق تفرض على الأرباح المكتسبة والطبيعية، كالثمرات والنتاج؛ وبعضه يفرض عقوبة، وبعضه يكون من أموال المعاندين للسنة، وهو الغنائم. ويكون ذلك عدة لمصالح مشتركة، وإزاحة لعلة الحفظة الذين لا يشتغلون بصناعة، ونفقة على الذين حيل بينهم وبين الكسب بأمراض وزمانات، ومن الناس من رأى قتل الميئوس من صلاحه منهم، وذلك قبيح، فإن مئونتهم لا تجحف بالمدينة؛ فإن كان لأمثال هؤلاء من قرابته من يرجع إلى فضل استظهار من قوته فرض عليه كفايته. والغرامات كلها لا تسن على صاحب جناية ما، بل يجب أن يسن بعضها على أوليائه وذويه الذين لا يزجرونه ولا يحرسونه، ويكون ما يسن من ذلك عليهم مخففاً في المهلة للمطالبة، ويكون ذلك في الجنايات تقع خطأ فلا يجوز إهمال مع وقوعها خطأ. وكما أنه يجب أن تحرم البطالة كذلك يجب أن تحرم الصناعات التي يقع فيها انتقالات الأملاك أو المنافع من غير مصالح تكون بإزائها؛ وذلك مثل القمار فإن المقامر يأخذ من غير أن يعطى منفعة البتة، بل يجب أن يكون الآخذ أخذ من صناعة يعطى بها فائدة تكون عوضاً؛ إما عوض عن جوهر، أو عوضاً هو منفعة، أو عوضاً هو ذكر جميل، أو غير ذلك مما هي معدودة في الخيرات والبشرية؛ وكذلك يجب أن تحرم الصناعات التي تدعو إلى أضداد المصالح أو المنافع، مثل تعلم السرقة واللصوصية والقيادة وغير ذلك. وتحرم أيضاً الحرف التي تغني الناس عن تعلم الصناعات الداخلة في الشركة، مثل المراباة؛ فإنها طلب

الصفحة    : 242

زيادة الكسب من غير حرفة تحصله، وإن كانت بإزاء منفعة. وتحرم أيضاً الأفعال التي إن وقع فيها ترخيص أدى إلى ضد ما عليه بناء أمر المدينة، ممثل الزنا واللواط، الذي يدعو إلى استغناء عن أفضل أركان المدينة وهو التزوج. ثم أول ما يجب أن يشرع فيه هو أمر التزوج المؤدي إلى التناسل وأن يدعو إليه ويحرض عليه، فإن به بقاء الأنواع التي بقاؤها دليل وجود الله تعالى، وان يدبر في أن يقع ذلك وقوعاً ظاهراً يقع ريبة في النسب ذلك خلل في انتقال المواريث التي هي أصول الأموال؛ لأن المال لا بد منه من المعيشة، والمال منه اصل، ومنه فرع؛ والأصل موروث، أو ملقوط أو موهوب؛ وأصح الأصول من هذه الثلاثة الموروث فإنه ليس عن بخت واتفاق، بل على مذهب كالطبيعي. وقد يقع ذي ذلك- أعني خفاء المناكحات- أيضاً خلل في وجوه أخرى مثل وجه وجوب نفقة بعض على بعض، ومعاونة بعض لبعض، وغير ذلك مما إذا تأمله العاقل عرفه، ويجب أن يؤكد الأمر أيضاً في ثبوت هذه الوصلة، حتى لا يقع في كل نزق فرقة؛ فيؤدي ذلك إلى شتت الشمل الجامع للأولاد ووالديهم؛ وإلى تجدد احتياج كل إنسان إلى المزاوجة؛ وفي أنواع من الضرر كثيرة؛ ولأن أكثر أسباب المصلحة هي المحبة، والمحبة لا تنعقد إلا بالألفة، واللفة لا تحصل إلا بالعادة، والعادة لا تحصل إلا بطول المخالطة. وهذا التأكد يحصل من جهة المرأة؛ بأن لا يكون في يديها إيقاع هذه الفرقة، فإنها الحقيقة واهية العقل، مبادرة إلى طاعة الهوى والغضب، ويجب أن يكون إلى الفرقة سبيل ما، وأن لا يسد ذلك من كل وجه؛ لأن سحم أسباب التوصل إلى الفرقة بالكلية يقتضي وجوهاً من الضرر والخلل، منها أن من الطبائع ما لا يؤلف بعض الطبائع، فكلما اجتهد في الجمع بينهما زاد الشر والتنبؤ ونغصت المعايش. ومنها أن سن الناس من يمن بزوج غير كفؤ، ولا حسن المذاهب في العشرة، أو بغيض تعافة الطبيعة، فيصير فيصير ذلك داعية إلى الرغبة في غيره، إذ الشهوة طبيعية؛ وربما أدى ذلك إلى وجوه من الفساد، وربما كان المتزوجان لا يتعاونان على لنسل؛ فإذا بدل الزوجين آخرين تعاونا؛ فيجب أن أيضاً أن يكون إلى المفارقة سبيل، ولكن يجب أن يكون مشدداً فيه. فأما انقص الشخصين عقلاً، وأكثرهماً اختلافاً واختلاطاً وتلويناً، فلا يجعل في يديه من ذلك الشيء، بل يجعل إلى الحكام، حتى إذا عرفوا سوء صحبة تلحقها من الزوج الآخر فرقوا. وأما من جهة الرجل فإنه يلزمه في ذلك غرامة لا يقدم عليه إلا بعد التثبت واستصابة ذلك لنفسه من كل

الصفحة    : 243

وجه، ومع ذلك فالأحسن أن يترك للصلح وجه من غير أن يمعن في توجيهه، فيصير سبباً إلى طاعة الطيش، بل يغلظ الأمر في المعاودة أشد من التغليظ في الابتداء، فنعم ما الأمر به أفضل الشارعين أنها لا تحل له بعد الثالثة إلا بعد أن يوطن نفسه على تجرع لا مضض فوقه، وهو تمكين رجل آخر من حليلته أن يتزوجها بنكاح صحيح، ويطأها بوطئ صريح؛ فإنه إذا كان بين عينيه مثل هذا الخطب لم يقدم على الفرقة بالجزاف إلا أن يصمم على الفرقة التامة، أو يكون هناك وكالة فلا يرى بأساً بفضيحة تصحبها لذة، وأمثال هؤلاء خارجون عن استحقاق طلب المصلحة لهم. ولما كان من حق المرأة أن تصان، لأنها مشتركة في شهوتها، وداعية جداً إلى نفسها، زهي مع ذلك أشد انخداعاً، وأقل للعقل طاعة، والاشتراك فيها يوقع أنفة وعاراً عظيماً، وهي من المضار المشهورة، والاشتراك في الرجل لا يوقع عاراً بل حسداً، والحسد غير ملتفت إليه، فإنه طاعة للشيطان. فبالأحرى أن يسن عليها في بابها التستر والتخدر؛ فلذلك ينبغي أن لا تكون المرأة من أهل الكسب كالرجل؛ فلذلك يجب أن يسن لها أن تكفي من جهة الرجل، فيلزم الرجل تفقتها، لكن الرجل يجب أن يعوض من ذلك عوضاً، وهو أن يملكها وهي لا تملكه، فلا يكون لها أن تنكح غيره. وأما الرجل فلا يحجر عليه في هذا الباب، وإن حرم عليه تجاوز عدد لا يكفي بإرضاء ما وراء ويعوله، فيكون البضع المملوك من المرأة بازاء ذلك. ولست أعني بالبضع المملوك الجماع، فإن الانتفاع بالجماع مشترك بينهما، وحظها أكثر من حظه. والاغتباط والاستمتاع بالولد كذلك، بل أن لا يكون إلى استعمالها لغيره سبيل، ويسن في الولد أن يتولاه كل واحد من الولدين بالتربية، أما الوالدة فيما يخصها، وأما الوالد فالنفقة، وكذلك الولد أيضاً يسن عليه خدمتها وطاعتها وإكبارهما وإجلالهما، فهما سبب وجود، ومع ذلك فقد احتملا مئونته التي لا حاجة إلى شرحها لظهورها.

الفصل الخامس:   (ه)

الصفحة    : 244

فصل في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما، والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق

 ثم يجب أن يفرض الانسانُّ طاعة من يخلفه، وان لا يكون الاستخلاف إلا من جهته، أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه أصيل العقل حاصل الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه، تصحيحاً يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع، ويسن عليهم أنهم إذا افترقوا أو تنازعوا للهوى والليل، أو أجمعوا على غير من وجد الفضل فيه والاستحقاق له فقد كفروا بالله. والاستخلاف بالنص أصوب فإن ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف، ثم يجب أن يحكم في سنته أن من خرج فادعى خلافته بفضل قوة أو مال، فعلى الكافة من أهل المدينة قتاله وقتله، فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به، ويحل دم من قعد على ذلك وهو متمكن بعد أن يصحح على رأس الملأ ذلك منه، ويجب أن يسن أنه لا قربة عند الله تعالى بعد الإيمان بالنبي أعظم من إتلاف هذا المتغلب، فإن صحح الخارجي أن المتولى للخلافة غير أهل لها، وأنه ممنو بنقص، وإن ذلك لانقص غير موجود في الخارجي، فالأولى أن يطابقه أهل المدينة. والمعول عليه الأعظم العقل، وحسن الإيالة، فمن كان متوسطاً في الباقي ومتقدماً في هذين بعد أن لا يكون فريباً في البواقي وصائراً إلى أضدادها، فهو أولى ممن يكون متقدماً في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين. فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما، ويعاضده، ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه؛ مثل ما فعل عمرو وعلي؛ ثم يجب أن يفرض في العبادات أمور لا تتم إلا بالخليفة تنويهاً به وجذبا إلى تعظيمه؛ وتلك المور هي الأمور الجامعة، مثل الأعياد. فإنه يجب أن يفرض اجتماعات مثل هذه، فإن فيها دعاء للناس إلى التمسك بالجماعة، وإلى استعمال عدد الشجاعة، وإلى المنافسة؛ وبالمنافسة تدرك الفضائل، وفي الاجتماعات استجابة الدعوات، ونزول البركات على الأحوال التي عرفت من أقاويلنا. وكذلك يجب أن يكون في المعاملات يشترك فيها الإمام، وهي المعاملات التي تؤدي إلى ابتناء أركان المدينة، مثل المناكحات والمشاركات الكلية. ثم يجب أن يفرض أيضاً في المعاملات المؤدية إلى الأخذ والإعطاء سننا تمنع وقوع الغدر والحيف، وأن يحرم المعاملات التي فيها غرر، والتي تتغير فيها الأعواض قبل الفراغ من الإيفاء والاستيفاء؛ كالصرف، والنسيئة، وغير ذلك، وأن يسن على الناس معاونة الناس والذب عنهم ووقاية أموالهم وأنفسهم، من غير

الصفحة    : 245

أن يغرم فيما يلحق بتبرعه. وأما الأعداء المخالفون للسنة فيحب أن يسن مقاتلهم وإفنائهم بعد أن يدعوا إلى الحق، وان تباح أموالهم وفروجهم؛ فإن تلك الموال والفروج إن لم تكن مدبرة بتدبير المدينة الفاضلة لم تكن عائدة بالمصلحة التي يطلب والفروج لها، بل معينة على الفساد والشر. وإذ لا بد من ناس يخدمون الناس فيجب أن يكون أمثال هؤلاء يجبرون على خدمة أهل المدينة العادلة، وكذلك من كان م الناس بعيداً عن تلقي الفضيلة فهم عبيد بالطبع، مثل الترك والزنج، وبالجملة الذي نشأوا من غير الأقاليم الشريفة التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها أمم حسنة الأمزجة صحيحة القرائح والعقول. وإذا كانت غير مدينة ولها سنة حميدة لم يتعرض لها إلا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنة غير السنة النازلة، فإن الأمم والمدن إذا ضلت فسنت عليها سنت؛ فإنه يجب أن يؤكد إلزامها، وإذا أوجب إلزامها، فربما أوجب توكيدها أن يحمل عليها العالم بأسره، وإذا كان أهل المدينة الحسنة السيرة تجد هذه السنة أيضاً حسنة محمودة، ويرى تجددها إعادة أحوال مدن فاسدة إلى الصلاح، ثم صرحت بأن هذه السنة ليس من حقها أن تقبل، وكذبت السانُّ في دعواه أنها نازلة على المدن كلها؛ كان في ذلك وهن عظيم يستولي على السنة، ويكون المخالفين أن يحتجوا في ردها بامتناع أهل تلك المدينة عنها، فحينئذ يجب أن يؤدب هؤلاء أيضاً ويجاهدوا، ولكن مجاهدة دون مجاهدة أهل الضلال الصرف، أو يلزمها غرامة على ما يؤثرونه، ويصحح عليهم أنهم مبطلون، وكيف لا يكونون مبطلين وقد امتنعوا عن طاعة الشريعة التي أنزلها الله تعالى، فإن أهلكوا فهم لها أهل، فإن في هلاكهم فساداً لأشخاصهم، وصلاحاً باقياً، وخصوصاً إذا كانت السنة الجديدة أتم وأفضل. ويسن في بابها أيضاً في أنهم إن أريدت مسامحتهم على فداء أو جزية فعل. وبالجملة يجب ألا يجريهم وهؤلاء الآخرين مجرى واحد، ويجب أن يفرض عقوبات وحدوداً ومزاجر ليمنع بذلك عن معصية الشريعة، فليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة. ويجب أن يكون أكثر ذلك في الأفعال المخالفة للسنة الداعية إلى فساد نظام المدينة، مثل الزنا، والسرقة، وموطأة أعداء المدينة وغير ذلك. فأما ما يكون من ذلك مما يضر الشخص في نفسه فيجب أن يكون فيه تأديب لا يبلغ به المفروضات، ويجب أن تكون السنة في العبادات والمزوجات، والمزاجر معتدلة لا تشدد فيها ولا تساهل، ويجب أن يفوض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد؛ فإن الأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط، وإما ضبط المدينة بعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل

الصفحة    : 246

والخرج وإعداد أهب الأسلحة والحقوق والتغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السايس من حيث هو الخليفة، ولا يفرض فيها أحكاماً جزئية؛ فإن في فرض فساداً؛ لأنها تتغير مع تغير الأوقات وفرض الكليات فيها مع تمام الاحتراز غير الممكن. فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة، ويجب أن يكون السان يسن أيضاً في الأخلاق والعادات سنناً تدعو إلى العدالة التي هي الواسطة، والواسطة تطلب في الأخلاق والعادات بجبهتين: فأما ما فيها م كسر غلبة القوى، فلأجل زكاء النفس خاصة، واستفادتها الهيئة الاستعلائية، وان يكون تخلصها من البدن تخلصاً نقياً. وأما ما فيها عن استعمال هذه القوى فلمصلح دنيوية، وأما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل، وأما الشجاعة فلبقاء المدينة. والرذائل الإفراطية تجتنب لضررها في المصالح الإنسانية، والتفريطية لضررها في المدينة. والحكمة الفضيلية التي هي ثالثة العفة والشجاعة فليس يعني بهاالحكمة النظرية، فإنها لا يكلف فيها التوسط البتة، بل الحكة العلمية التي في الأفعال الدنيوية والتصرفات الدنيوية؛ فإن الإمعان في تعريفها والحرص على التفنن في توجيه الفوائد من كل جهة منها، واجتناب أسباب المضار من كل وجه، حتى يتبع ذلك أصول أضداد ما يطلبه لنفسه إلى شركائه، أو يشغله عن اكتساب الفضائل الأخرى، فهو الجزيرة، وجعل اليد مغلولة إلى العنق هو إضاعة من الإنسان نفسه وعمره وآلة صلاحه وبقائه إلى وقت استكماله؛ ولأن الدواعي الشهوانية، وغضبية، وتدبيرية، فالفضائل ثلاثة: هيئة التوسط في الشهوانية مثل لذة المنكوح، والمطعوم والملبوس والراحة وغير ذلك من الذات الحسية والوهمية، وهيئة التوسط في الغضبيات كلها مثل الخوف والغضب والغم والأنفة والحقد والحسد وغير ذلك، وهيئة التوسط في التدبيرية. ورؤوس هذه الفضائل عفة وحكمة وشجاعة، ومجموعها العدالة، وهي خارجة عن الفضيلة النظرية؛ ومن اجتمعت له معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد أن يصير رباً إنسانياً وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى، وهو سلطان العالم الأرضي وخليفة الله فيه.

 

مع تحيات موقع الفلسفة الإسلامية

وموقع ابن سينا

تصويب وتبويب محمد اسماعيل حزين