كتاب الشفاء
الشيخ
الرئيس
الفهرست
الفصل
الأول: في
ابتداء طلب
موضوع
الفلسفة
الأولى
لتبيين
أبنيته في العلوم.
الفصل
الثاني: في تحصيل
موضوع هذا
العلم.
الفصل
الثالث: في منفعة
هذا العلم
ومرتبته
واسمه.
الفصل
الرابع: في
جملة ما يتكلم
فيه في هذا
العلم.
الفصل
الخامس: فصل
في جملة ما
يتكلم فيه في
هذا العلم.
الفصل
السادس: في ابتداء
القول في
الواجب
الوجود
والممكن الوجود...
الفصل
السابع: فصل في أن
واجب الوجود
واحد.
الفصل
الثامن: في
بيان الحق
والصدق والذب
عن أول
الأقاويل.
الفصل
الأول: في
تعريف
الجوهر
وأقسامه بقول كلي.
الفصل
الثاني: في تحقيق
الجوهر
الجسماني وما
يتركب منه
وأول ذلك معرفة
الجسم وتحقيق ماهيته.
الفصل
الثالث: في أن
المادة
الجسمانية لا
تتعرى عن
الصورة.
الفصل
الرابع: في
تقديم الصورة
على المادة في
مرتبة الوجود.
الفصل
الأول: حال المقولات
التسع في الإشارة
إلى ما ينبغي
أن يبحث عنه
من حال المقولات
التسع وفي عرضيتها.
الفصل
الثاني: في
الكلام في
الواحد.
الفصل
الثالث: في تحقيق
الواحد
والكثير وإبانة
أن العدد عرض
والذي يصعب علينا
تحقيقه الآن
ماهية الواحد.
الفصل
الرابع: في أن المقادير
أعراض وأما
الكميات
المتصلة فهي
مقادير المتصلات.
الفصل
الخامس: في تحقيق
ماهية العدد وتحديد
أنواعه،
وبيان أوائله.
الفصل
السادس: في
تقابل الواحد والكثير.
الفصل
السابع: في أن الكيفيات
أعراض.
الفصل
الثامن: في
العلم وأنه عرض.
الفصل
التاسع: في الكيفيات
التي في
الكميات
وإثباتها.
الفصل
العاشر: في
المضاف.
الفصل
الأول: في المتقدم
والمتأخر وفي
الحدوث.
الفصل
الثاني: في القوة والفعل والقدرة
والعجز
وإثبات المادة
لكل متكون.
الفصل
الثالث: في التام
والناقص وما فوق
التمام، وفي
الكل، وفي الجميع التام.
الفصل
الأول: في
الأمور العامة
وكيفية وجودها.
الفصل
الثاني: في كيفية
كون الكلية
للطبائع الكلية
وإتمام القول
في ذلك، وفي
الفرق بي الكل والجزء،
والكلي
والجزئي.
الفصل
الثالث: في الفصل بين
الجنس والمادة.
الفصل
الرابع: دخول
المعاني
الخارجة عن
الجنس على
طبيعة الجنس
في كيفية دخول
المعاني
الخارجة عن الجنس
على طبيعة
الجنس.
الفصل
الخامس: في النوع
وأما النوع
فإنه الطبيعة
المتحصلة في
الوجود وفي العقل
جميعاً.
الفصل
السادس: في تعريف الفصل
وتحقيقه.
الفصل
السابع: في تعريف مناسبة
الحد
والمحدود.
الفصل
الثامن: في الحد
الفصل
التاسع: في
مناسبة الحد
وأجزائه
الفصل
الأول: في أقسام العلل
وأحوالها.
الفصل
الثاني: في
كل علة هي مع
معلولها في حل
ما يتشكك به
على ما يذهب
إليه أهل الحق
من أن كل علة هي مع معلولها...
الفصل
الثالث: في
مناسبة ما
بين العلل
الفاعلية ومعلولاتها.
الفصل
الرابع: في العلل
الأخرى
العنصرية
والصورية
والغائبة.
الفصل
الخامس: في إثبات
الغاية وحل
شكوك قيلت في
إبطالها...
الفصل
الأول: في لواحق
الوحدة من الهوية
وأقسامها
ولواحق
الكثرة من
الغيرية والخلاف
وأصناف التقابل
المعروفة.
الفصل
الثاني: في مذاهب
الحكماء
الأقدمين...
الفصل
الثالث: في إبطال
القول
بالتعليميات
والمثل.
المقالة
الثامنة: في
معرفة المبدأ الأول
للوجود كله
ومعرفة صفاته:
الفصل
الأول: في تناهي
العطل
الفاعلية
والقابلية.
الفصل
الثاني: في شكوك
تلزم ما قيل
وحلها.
الفصل
الثالث: في
إبانة تناهي
العلل
الغائية
والصورية وإثبات
المبدأ الأول مطلقا...
الفصل
الرابع: في الصفات
الأولى
للمبدأ
الواجب
الوجود.
الفصل
الخامس: في توحيد
واجب الوجود
كأنه توكيد
وتكرار لما
سلف من توحيد واجب
الوجود وجميع
صفاته السلبية
على سبيل
الإنتاج.
الفصل
السادس: في إنه تام
بل فوق التام
وخير، ومفيد كل
شيء بعده،
وأنه حق، وأنه
عقل محض...
الفصل
السابع: في
نسبة
المعقولات
إليه وفي
إيضاح أن
صفاته الإيجابية والسلبية
لا توجب في
ذاته كثرة...
المقالة
التاسعة: في
صدور الأشياء
عن التدبير
الأول
والمعاد إليه:
الفصل
الأول: في صفة
فاعلية
المبدأ الأول.
الفصل
الثاني: في أن
المحرك
القريب للسماويات
لا طبيعة ولا
عقل، بل نفس،
والمبدأ الأ
بعد عقل.
الفصل
الثالث: في
كيفية صدور
الأفعال من
المبادئ
العالية.
الفصل
الرابع: في ترتيب
وجود العقل
والنفوس
السماوية
والأجرام
العلوية عن المبدأ
الأول.
الفصل
الخامس: في حال تكون
الإسطقسات عن
العلل
الأوائل.
الفصل
السادس: في العناية
وبيان كيفية
دخول الشر في
القضاء الإلهي.
الفصل
السابع: في المعاد.
الفصل
الأول: في المبدأ
والمعاد.
الفصل
الثاني: في إثبات
النبوة
وكيفية دعوة
النبي إلى
الله تعالى،
والمعاد إليه.
الفصل
الثالث: في
العبادات
ومنفعتها في
الدنيا
والآخرة.
الفصل
الرابع: في
عقد المدينة
وعقد البيت
وهو نكاح
والسنن الكلية في
ذلك.
الفصل
الخامس: في الخليفة
والإمام
ووجوب
طاعتهما،
والإشارة إلى السياسات والمعاملات
والأخلاق.
الصفحة :
1
وفيها ثمانية فصول
بسم الله
الرحمن
الرحيم
الحمد لله
ربّ
العالمين وصلاته
على النبي
المصطفى محمد
وآله الإكرمين
أجمعين.
الفن
الثالث عشر من كتاب الشفاء
في الإلهيات.
المقالة
الأولى وهي
ثمانية فصول
في ابتداء
طلب موضوع
الفلسفة
الأولى
لتبيين أبنيته
في العلوم.
وإذا
قد وفقنا الله ولي
الرحمة
والتوفيق،
فأوردنا ما
وجب إيراده من
معاني العلوم
المنطقية والطبيعية والرياضية،
فبالحري أن
نشرع في تعريف
المعاني
الحكمية،
ونبتدئ مستعينين
بالله فنقول: إن
العلوم
الفلسفية،
كما قد أشير
إليه في مواضع
أخرى من الكتب،
تنقسم إلى النظرية
وإلى
العملية، قد
أشير إلى
الفرق بينهما
وذُكر أن النظرية هي
التي نطلب فيها
استكمال
القوة
النظرية من
النفس بحصول العقل
بالفعل، وذلك بحصول
العلم التصوّري
والتصديقي
بأمور ليست
هي هي بأنها
من أعمالنا وأحوالنا،
فتكون الغاية فيها
حصول رأي
واعتقاد ليس
رأياً
واعتقاداً في
كيفية عمل أو
كيفية مبدأ
عمل من حيث هو مبدأ عمل.
وأن العملية
هي التي يتطلب
فيها أولاً
استكمال
القوة
النظرية
بحصول العلم
التصوّري
والتصديقي
بأمور هي هي
بأنها أعمالنا،
ليحصل منها
ثانياً
استكمال القوة
العملية
بالأخلاق.
وذكر أن
النظرية تنحصر في
أقسام ثلاثة
هي: الطبيعية، والتعليمية،
والإلهية. وأن
الطبيعية موضوعها
الأجسام من
جهة ما هي
متحركة
وساكنة، وبحثها عن
العوارض التي
تعرض لها بالذات من
هذه الجهة.
وأن
التعليمية
موضوعها إما ما هو كم
مجرد عن
المادة بالذات،
وإما هو ذو كم.
والمبحوث عنه
فيها أحوال
تعرض للكم بما هو
كم. ولا يؤخذ في
حدودها نوع
مادة، ولا قوة
حركة. وأن
الإلهية تبحث
عن
الأمور
المفارقة
للمادة بالقوام
والحد. وقد
سمعت أيضاً أن
الإلهي هو الذي
يبحث في الأسباب
الأولى للوجود
الطبيعي
والتعليمي
وما يتعلق
بهما، وعن
مسبب الأسباب
ومبدأ المبادئ
وهو
الصفحة :
2
الإله
تعالى جده.
فهذا هو قدر
ما يكون قد
وقفت عليه
فيما سلف لك من الكتب.
ولم
يتبين
لك من ذلك
الموضوع
للعلم افلهي
ما هو بالحقيقة
إلاّ إشارة جرت
في كتاب البرهان من
المنطق إن
تذكرتها. وذلك
أن في سائر
العلوم قد كان يكون لك
شيء هو موضوع،
وأشياء هي
المطلوبة،
ومبادئ مسلمة
منها تؤلف البراهين.
والآن، فلست
تحقق حق التحقيق ما
الموضوع لهذا
العلم، وهل هو
ذات
العلة
الأولى حتى
يكون المراد
معرفة صفاته
وأفعاله أو
معنى آخر.
وأيضاً قد كنت تسمع أن
ههنا فلسفة
بالحقيقة،
وفلسفة أولى،
وأنها تفيد
تصحيح مبادئ
سائر العلوم،
وأنها هي
الحكمة
بالحقيقة. وقد
كنت
تسمع
تارة أن
الحكمة هي
أفضل علم بأفضل
معلوم، وأخرى
أن الحكمة هي
المعرفة التي
هي
أصح
معرفة
واتقنها،
وأخرى أنها العلم
بالأسباب
الأولى للكل.
وكنت لا تعرف
ما هذه الفلسفة
الأولى، وما
هذه
الحكمة،
وهل الحدود
والصفات
الثلاث
لصناعة واحدة،
أو
لصناعات
مختلفة كل
واحدة منها تسمى
حكمة. ونحن
نبين لك الآن
أن هذا العلم
الذي نحن بسبيله هو
الفلسفة الأولى،
وأنه الحكمة
المطلقة، وأن
الصفات الثلاث
التي رُسم بها الحكمة
هي صفات صناعة
واحدة، وهذه
هي الصناعة.
وقد علم أن
لكل علم
موضوعاً
يخصه، فلنبحث
الأن عن الموضوع
لهذا العلم،
ما هو؟ ولننظر
هل الموضوع
لهذا العلم هو
إنية الله تعالى جده،
أو ليس كذلك،
بل هو شيء من
مطالب هذا
العلم؟ فنقول:
أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو
الموضوع،
وذلك لأن
موضوع كل علم
هو أمر مسلّم
الوجود في ذلك
العلم، وإنما يبحث
عن أحواله.
وقد عُلم هذا
في مواضع أخرى.
ووجود الإله
تعالى جده لا يجوز أن يكون
مسلّماً في
هذا العلم
كالموضوع، بل
هو مطلوب فيه.
وذلك لإنه إن
لم
يكن كذلك لم
يخل إما أن
يكون مسلّماً
في هذا العلم
أو مطلوباً في
علم آخر، وإما أن يكون مسلّماً
في هذا العلم
وغير مطلوب في
علم آخر. وكلا
الوجهين
باطلان. وذلك لأنه
لا
يجوز
أن يكون
مطلوباً في
علم آخر، لأن
العلوم الأخرى
إما خلقية أو سياسية،
وإما طبيعية،
ومارياضية،
وإما منطقية.
وليس في العلوم
الحكمية علم
خارج عن هذه
القسمة، وليس ولا في
شيء منها
يُبحث عن
إثبات الأله
تعالى جده،
ولا يجوز أن يكون
ذلك، وأنت تعرف هذا بأدنى
تأمل لأصول
كررت عليك.
ولا يجوز
أيضاً أن يكون غير
مطلوب في علم آخر
لأنه يكون
حينئذ غير
مطلوب في علك
البتّة. فيكون
إما
بيّناً
بنفسه، وإما مأيوساً
عن بيانه
بالنظر، وليس
بيّناً بنفسه
ولا مأيوساً
عن
بيانه،
فإن عليه
دليلاً. ثم المأيوس
عن بيانه كيف
يصح تسليم
وجوده؟ فبقي
أن
نبحث
عنه إنما هو
الصفحة :
3
في
هذا العلم.
ويكون البحث
عنه على
وجهين: أحدهما
البحث عنه من جهة
وجوده،
والآخر من جهة
صفاته. وإذا
كان البحث عن
وجوده في هذا العلم،
لم
يجز
أن يكون موضوع
هذا
العلم،
فإنه ليس على
علم من العلوم
إثبات موضوعه،
وسنبين لك عن قريب
أيضاً، أن البحث عن
وجوده لا يجوز
ان يكون إلاّ
في هذا العلم،
إذ قد تبين لك من
حال هذا العلم أنه
بحث عن
المفارقات
للمادة أصلاً.
وقد لاح لك في الطبيعيات
أن الإله غير جسم،
ولا قوة جسم،
بل هو واحد
بريئ عن
المادة، وعن مخالطة
الحركة من كل
جهة. فيجب أن يكون
البحث عنه
لهذا العلم.
والذي لاح لك
من
ذلك
في الطبيعيات
كان غريباً عن الطبيعيات،
ومستعملاً
فيها، منه ما
ليس منها، إلاّ أنه
أريد بذلك أن
يُعجَّل للإنسان
وقوف على إنية
المبدأ الأول
فتتمكن منه الرغبة
في اقتباس
العلوم، والإنسياق
إلى المقام
الذي هناك ليتوصل
إلى معرفته بالحقيقة.
ولما لك يكن
بد من أن يكون لهذا
العلم موضوع
وتبين لك أن
الذي يُظن أنه هو
موضوعه ليس
بموضوعه،
فلننظر: هل موضوعه
الأسباب
القصوى
للموجودات
كلها أربعتها
إلاّ واحداً
منها الذي لم
يكن
القول
به. فإن هذا
أيضاً قد يظنه
قوم.
لكن
النظر في الأسباب
كلها أيضاً لا
يخلو إما أن ينظر
فيها بما هي
موجودات أو بما هي
أسباب مطلقة،
أو بما هي كل
واحد من الأربعة
على النحو
الذي نحصه.
أعني أن يكون
النظر فيها من
جهة أن هذا
فاعل، وذلك قابل،
وذلك شيء آخر؛
أو من جهة ما هي
الجملة التي
تجمع منها.
فنقول: لا
يجوز أن يكون النظر
فيها بما هي
أسباب مطلقة، حتى
يكون الغرض من
هذا العلم هو
النظر في الأمور
التي تعرض
للأسباب بما هي
أسباب مطلقة.
ويظهر هذا من
وجوه: أحدهما،
من جهة أن هذا
العلم يبحث عن
معان ليست هي من
الأعراض
الخاصة
بالأسباب بما
هي أسباب، مثل الكلي
والجزئي،
والقوة والفعل،
والإمكان
والوجوب وغير
ذلك. ثم من البين
الواضح أن هذه الأمور
في
أنفسها
بحيث يجب أن
يبحث عنها، ثم
ليست من الأعراض
الخاصة
بالأمور الطبيعية والأمور
التعليمية.
ولا هي أيضاً
واقعة في الأعراض
الخاصة
بالعلوم العملية. فيبقى
أن يكون البحث
عنها للعلم
الباقي من
الأقسام وهو
هذا العلم.
وايضاً فأن العلم
بالأسباب
المطلقة حاصل
بعد العلم بإثبات
الأسباب
للأمور ذوات
الأسباب. فإنا ما لم
نثبت وجود
الأسباب
للمسبّبات من
الأمور
بإثبات أن
لوجودها
تعلقاً بما يتقدمها في
الوجود، لم
يلزم عند
العقل وجود السبب
المطلق، وأن
ههنا سبباً ما. وأما الحس
فلا يؤدي إلاّ
إلى الموافاة.
وليس إذا توافى
الصفحة :
4
شيئان،
وجب أن يكون
أحدهما سبباً
للآخر. والإقناع
الذي يقع للنفس
لكثرة ما
يورده الحس
والتجربة
فغير متأكد،
على ما علمت،
إلاّ بمعرفة
أن
الأمور
التي هي
موجودة في الأكثر هي
طبيعية
واختيارية.
وهذا في
الحقيقة
مستند إلى إثبات
العلل،
والإقرار بوجود
العلل
والأسباب.
وهذا ليس
بيّناً أولياً
بل هو مشهود، وقد
علمت الفرق
بينهما. وليس إذا
كان قريباً من
العقل، من
البين بنفسه أن
للحادثات
مبدأ ما يجب
أن يكون بيّناً
بنفسه مثل
كثير من
الأمور
الهندسية المبرهن
عليها في كتاب
أوقليدس. ثم البيان
البرهاني
لذلك ليس في
العلوم
الأخرى، فإذن يجب أن
يكون في هذا
العلم. فكيف يمكن أن
يكون الموضوع
للعلم
المبحوث عن أحواله
في المطالب
مطلوب الوجود
فيه؟ وإذا كان كذلك
فبيّن أيضاً
أنه ليس البحث عنها من
جهة الوجود
الذي يخص كل
واحد منها، لأن ذلك
مطلوب في هذا
العلم. ولا أيضاً من
جهة ما هي
جملة ما وكل،
لست أقول جملي وكلي.
فإن النظر في
أجزاء الجملة
أقدم من النظر
في الجملة،
وإن لم يكن كذلك
في
الجزيئيات
الكلي
باعتبار قد علمته،
فيجب أن يكون
النظر في
الأجزاء إما في
هذا
العلم
فتكون هي أولى
بأن
تكون
موضوعه، أو
يكون في علم
آخر، وليس علم
آخر يتضمن الكلام في
الأسباب
القصوى غير هذا
العلم. وأما
إن كان النظر
في الأسباب من
جهة ما هي موجودة
وما يلحقها من تلك
الجهة فيجب
إذن أن يكون
الموضوع
الأول هو
الموجود بما هو
موجود. فقد
بان
أيضاً
بطلان هذا
النظر، وهو أن
هذا العلم
موضوعه
الأسباب القصوى، بل
يجب أن يُعلم أن
هذا كماله
ومطلوبه.
الفصل
الثاني:
(ب) (الصفحة :
5 )
فصل
في تحصيل
موضوع هذا
العلم
فيجب
أن ندل على
الموضوع الذي
لهذا العلم لا
محالة حتى يتبين لنا
الغرض الذي هو
في هذا العلم،
فنقول: إن
العلم الطبيعي قد
كان موضوعه الجسم،
ولم يكن من
جهة ما هو
موجود، ولا من
جهة ما هو جوهر، ولا
من جهة ما هو
مؤلف من مبدئيه،
أعني الهيولي
والصورة،
ولكن من جهة
ما
هو
موضوع للحركة
والسكون. والعلوم
التي تحت
العلم
الطبيعي أبعد
من ذلك. وكذلك الخلقيات.
وأما العلم
الرياضي فقد كان
موضوعه إما
مقداراً
مجرداً في
الذهن عن المادة،
وإما مقداراً
مأخوذاً في الذهن
مع مادة، وإما
عدداً مجرداً
عن المادة، وإما
عدداً في
مادة. ولم يكن
أيضاً ذلك البحث
متجهاً إلى
إثبات أنه
مقدار مجرد أو في
مادة أو عدد
مجرد أو في
مادة، بل كان من جهة
الأحوال التي
تعرض له بعد وضعه.
كذلك والعلوم
التي تحت
الرياضيات
أولى بان لا يكون
نظرها إلاّ في
العوارض التي يلحق
أوضاعاً أخص
من هذه
الأوضاع.
والعلم المنطقي،
كما علمت، فقد
كان
موضوعه
المعاني
المعقولة
الثانية التي
تستند إلى المعاني
المعقولة
الأولى من جهة كيفية
ما يتوصل بها
من معلوم إلى
مجهول، لا من
جهة
ما
هي معقولة
ولها الوجود
العقلي الذي
لا يتعلق
بمادة أصلاً
أو يتعلق
بمادة غير جسمانية.
ولم يكن غير هذه
العلوم علوم
أخرى. ثم
البحث عن حال
الجوهر بما هو
موجود وجوهر، وعن الجسم
بما هو جوهر،
وعن المقدار
والعدد بما هما
موجودان، وكيف
وجودهما، وعن الأمور
الصورية التي
ليست في مادة
أو هي مادة غير
مادة
الأجسام،
وأنها كيف تكون وأي نحو من
الوجود
يخصها، فما
يجب أن يجرد
له البحث.
وليس يجوز أن
يكون من جملة العلم
بالمحسوسات،
ولا من جملة
العلم بما وجوده
في
المحسوسات،
لكن التوهم والتحديد
يجرده من
المحسوسات.
فهو إذن من
جملة العلم
بما وجوده
مباين. أما الجوهر فبيّن أن
وجوده بما هو
جوهر فقط غير
متعلق بالمادة
وإلا لما كان
جوهر إلاّ
محسوساً. وأما العدد
فقد يقع على
المحسوسات
وغير المحسوسات،
فهو بما هو عدد غير
متعلق بالمحسوسات.
وأما المقدار
فلفظه أسم مشترك،
فيه ما يقال
له
مقدار،
ويعنى به
البعد المقوم
للجسم
الطبيعي،
ومنه ما يقال
مقدار، ويعنى
به
كمية
متصلة تقال
على الخط والسطح
والجسم
المحدود. وقد
عرفت الفرق
بينهما.
الصفحة :
6
وليس
ولا واحد
منهما
مفارقاً
للمادة، ولكن
المقدار
بالمعنى الأول وإن
كان لا يفارق المادة
فإنه أيضاً
مبدأ لوجود
الأجسام الطبيعية.
فإذا كان مبدأ
لوجودها لم
يجز أن يكون متعلق
القوام بها،
بمعنى أنه
يستفيد القوام
من
المحسوسات،
بل المحسوسات تستفيد
منه القوام.
فهو إذا أيضاً
متقدم بالذات
على
المحسوسات.
وليس الشكل
كذلك، فإن الشكل
عارض لازم للمادة
بعد تجوهرها
جسماً متناهياً
موجوداً
وحملها سطحاً متناهياً.
فإن الحدود
تجب للمقدار
من جهة استكمال
المادة به
وتلزمه من
بعد. فإذا كان كذلك لم
يكن الشكل
موجوداً إلاّ
في
المادة
ولا علة أولية
لخروج المادة
إلى
الفعل.
وأما المقدار
بالمعنى
الآخر فإن فيه نظراً من
جهة وجوده،
ونظراً من جهة عوارضه.
فأما النظر في
أن وجود أيّ أنحاء
الوجود هو،
ومن أي أقسام
الموجود، فليس هو
بحثاً أيضاً
عن معنى متعلق بالمادة.
فأما موضوع
المنطق من جهة
ذاته فظاهر
أنه
خارج
عن المحسوسات.
فبين أن هذه كلها
تقع في العلم
الذي يتعاطى
ما لا يتعلق
قوامه بالمحسوسات،
ولا يجوز أن يوضع
لها موضوع
مشترك تكون هي
كلها حالاته
وعوارضه إلاّ الموجود.
فإن بعضها جواهر،
وبعضها
كميات،
وبعضها
مقولات أخرى؛ وليس
يمكن أن
يعمهما معنى محقق
إلاّ حقيقة معنى
الوجود. وكذلك
قد يوجد أيضاً
أمور يجب أن
تتحدد وتتحقق في
النفس، وهي مشتركة
في العلوم.
وليس ولا واحد
من العلوم يتولّى
الكلام فيها
مثل
الواحد بما هو
واحد،
والكثير بما
هو كثير،
والموافق والمخالف،
والضد وغير
ذلك، فبعضها يستعملها
استعمالاً
فقط، وبعضها
إنما يأخذ حدودها،
ولا يتكلم في
نحو وجودها. وليست
عوارض خاصة
لشيء من
موضوعات هذه
العلوم
الجزئية.
وليست من
الأمور التي يكون وجودها
إلاّ وجود
الصفات
للذوات ولا
أيضاً هي من
الصفات التي
تكون لكل شيء. فيكون كل واحد
منها مشتركاً
لكل شيء ولا
يجوز ان يختص
أيضاً بمقولة
ولا
يمكن
أن يكون من عوارض شيء
إلاّ الموجود
بما هو موجود.
فظاهر لك من
هذه الجملة أن
الموجود بما
هو
موجود
أمر مشترك
لجميع هذه،
وأنه يجب أن
يجعل الموضوع
لهذه الصناعة
لما قلنا. ولأنه غني
عن تعليم
ماهيته وعن
إثباته، حتى يحتاج
إلى أن يتكفل علم
غير هذا العلن بإيضاح
الحال فيه
لإستحالة أن
يكون إثبات الموضوع وتحقيق
ماهيته في
العلم الذي هو موضوعه
بل تسليم
إنيته
وماهيته فقط.
فالموضوع الأول لهذا
العلم هو
الموجود بما
هو
موجود؛
ومطالبُه
الأمور التي
تلحقه بما هو موجود
من غير شرط.
وبعض هذه
الأمور هي له
كالأنواع:
كالجوهر
والكم
والكيف؛ فإنه ليس
يحتاج
الموجود في أن
ينقسم
الصفحة :
7
إليها،
إلى إنقسام
قبلها، حاجة
الجوهر إلى
انقسامات، حتى يلزمه
الإنقسام إلى الإنسان
وغير الإنسان.
وبعض هذه
كالعوارض الخاصة،
مثل
الواحد
والكثير،
والقوة والفعل،
والكلي
والجزئي،
والممكن
والواجب؛
فإنه ليس يحتاج
الموجود في
قبول هذه الأعراض
والاستعداد
لها إلى أن
يتخصص طبيعياً
أو
تعليمياً
أو خلقياً أو
غير ذلك. ولقائل أن
يقول، إنه إذا
جعل الموجود
هو
الموضوع
لهذا العلم لم
يجز أن يكون
إثبات مبادئ
الموجودات
فيه، لأن
البحث في كل علم هو
عن لواحق
موضوعه لا عن
مبادئه. فالجواب عن
هذا أن النظر
في المبادئ أيضاً
هو بحث عن
عوارض هذا
الموضوع، لأن الموجود
كونه مبدأ غير
مقوم له ولا ممتنع
فيه؛ بل هو
بالقياس إلى
طبيعة
الموجود أمر عارض
له، ومن
العوارض
الخاصة به. لأنه ليس
شيء أعم من
الموجود،
فيلحق غيره لحوقاً
أولياً. ولا
أيضاً يحتاج الموجود
إلى أن يصير
طبيعياً أو
تعليمياً أو شيئاً آخر حتى
يعرض له أن
يكون مبدأ. ثم
المبدأ ليس
المبدأ
للموجود كله،
ولو كان
المبدأ للموجود
كله لكان مبدأ لنفسه؛
بل الموجود
كله لا مبدأ
له، إنما المبدأ
للموجود المعلول.
فالمبدأ هو مبدأ
لبعض الموجود.
فلا يكون هذا
العلم يبحث عن
مبادئ
الموجود مطلقاً، بل
إنما يبحث عن
مبادئ بعض ما
فيه كسائر
العلوم
الجزئية؛
فإنها وإن
كانت لا تبرهن
على
وجود
مبادئها
المشتركة، إذ
لها مبادئ
يشترك فيها
جميع ما ينحوه
كل
واحد
منها، فإنها
تبرهن على
وجود ما هو
مبدأ لما
بعدها من
الأمور التي
فيها. ويلزم هذا العلم أن
ينقسم ضرورة
إلى أجزاء
منها: ما يبحث
عن الأسباب
القصوى،
فإنها الأسباب
لكل موجود
معلول من جهة
وجوده، ويبحث
عن السبب
الأول الذي
يفيض عنه كل موجود
معلول بما هو
موجود معلول
لا بل ما هو. وجود
متحرك فقط أو
متكمّم فقط. ومنها ما يبحث
عن العوارض
للموجود.
ومنها مايبحث
عن مبادئ
العلوم
الجزئية. ولأن مبادئ
كل
علم
أخص هي مسائل
العلم في
الأعلى، مثل
مبادئ الطب في
الطبيعي، والمساحة
في
الهندسة،
فيعرض إذن في
هذا العلم أن
يتضح فيه مبادئ
العلوم
الجزئية التي تبحث
عن
أحوال
الجزئيات
الموجودة.
فهذا العلم
يبحث عن أحوال
الموجود، والأمور
التي هي له كالأقسام
والأنواع،
حتى يبلغ إلى
تخصيص يحدث
معه موضوع العلم
الطبيعي
فيسلمه إليه، وتخصيص
يحدث معه
موضوع
الرياضي
فيسلمه إليه،
وكذلك في غير ذلك.
وما قبل ذلك التخصيص
كالمبدأ
فنبحث عنه
ونقرر
حاله.فتكون
إذن مسائل هذا العلم
في أسباب
الموجود المعلول
بما هو موجود
معلول،
وبعضها في
عوارض الموجود، وبعضها
في مبدئ
العلوم الجزئية.
الصفحة :
8
فهذا
هو العلم
المطلوب في
هذه الصناعة
وهو الفلسفة
الأولى، لأنه العلم
بأول الأمور في
الوجود، وهو
العلة الأولى
وأول الأمور
في العموم، وهو
الوجود
والوحدة. وهو أيضاً
الحكمة التي
هي أفضل علم
بافضل معلوم؛ فإنها أفضل علم
أي اليقين،
بأفضل المعلوم أي
الله تعالى
وبالأسباب من
بعده. وهو
أيضاً معرفة
الأسباب
القصوى للكل. وهو
أيضاً
المعرفة
بالله، وله حد
العلم الإلهي
الذي هو أنه علم
بالأمور
المفارقة للمادة في
الحد
والوجود.إذ
الموجود بما
هو موجود ومبادئه
وعوارضه ليس
شيء منها، كما اتضح،
إلاّ متقدم
الوجود على
المادة وغير متعلق
الوجود
بوجودها. وإن
البحث في هذا العلم
عما لا يتقدم
المادة،
فإنما يُبحث فيه
عن معنى. ذلك
المعنى غير
محتاج الوجود إلى
المادة، بل
الأمور
المبحوث عنها فيه هي
أقسام أربعة:
فبعضها بريئة
عن
المادة
وعلائق
المادة أصلاً.
وبعضها يخالط
المادة، ولكن
مخالطة السبب
المقوم المتقدم
وليست المادة
بمقوم له.
وبعضها قد يوجد في
المادة وقد
توجد لا في
المادة مثل العلية
والوحدة،
فيكون الذي
لها
بالشركة
بما هي هي أن
لا تكون
مفتقرة
التحقق إلى وجود
المادة،
وتشترك هذه الجملة
أيضاً في أنها
غير مادية
الوجود أي غير مستفادة
الوجود من
المادة. وبعضها
أمور مادية،
كالحركة
والسكون،
ولكن ليس
المبحوث عنه في هذا
العلم حالها في
المادة، بل
نحو الوجود
الذي لها.
فإذا أخذ هذا
القسم مع الأقسام
الأخرى اشتركت في
في أن نحو
البحث عنها هو
من جهة معنى
غير قائم
الوجود بالمادة.
وكما أن العلوم
الرياضية قد
كان يوضع فيها
ما هو متحدد
بالمادة، لكن
نحو
النظر والبحث
عنه كان من
جهة معنى غير
متحدد بالمادة،
وكان لا يخرجه
تعلق ما يبحث عنه بالمادة عن
أن يكون البحث
رياضياً،
كذلك الحال
ههنا. فقد ظهر
ولاح أن الغرض
في
هذا
العلم أي شيء
هو. وهذا
العلم يشارك
الجدل
والسفسطة من
وجه،
ويخالفهما من وجه، ويخالف
كل واحد منهما
من وجه. أما
مشاركتهما فلأن
ما يبحث عنه
في هذا العلم لا يتكلم
فيه صاحب علم
جزئي، ويتكلم
فيه الحدلي والسوفسطائي.
وأما المخالفة
فلأن الفيلسوف
الأول من حيث
هو فيلسوف أول
لا يتكلم في
مسائل العلوم الجزئية
وذانك يتكلمان.
وأما مخالفته
للجدل خاصة
فبالقوة، لأن
الكلام
الجدلي يفيد الظن
لا اليقين كما علمت في
صناعة المنطق.
وأما مخالفة
السوفسطائية فبالإرادة،
وذلك لأن هذا
يريد الحق نفسه،
وذلك يريد أن
يظن به انه
حكيم يقول الحق وإن لم
يكن حكيماً.
الصفحة :
9
فصل
في منفعة هذا
العلم
ومرتبته
واسمه
وأما
منفعة هذا
العلم، فيجب أن
تكون قد وقفت
في
العلوم
التي قبل هذا
على أن الفرق
بين النافع وبين الخير
ما هو، وأن
الفرق بين الضار وبين
الشر ما هو،
وأن النافع هو
السبب الموصل بذاته إلى
الخير،
والمنفعة هي المعنى
الذي يوصل به
الشر إلى
الخير. وإذ قد
تقرر هذا فقد
علمت أن
العلوم كلها تشترك
في منفعة
واحدة وهي:
تحصيل كمال
النفس الإنسانية
بالفعل مهيئة
إياها
للسعادة الأخروية.
ولكنه إذا
فُتش في رؤوس
الكتب عن منفعة
العلوم لم يكن
القصد متجهاً
إلى
هذا
المعنى، بل
إلى معونة
بعضها في بعض، حتى
تكون منفعة
علم ما هي
معنى يتوصل
منه
إلى
تحقيق علم آخر
غيره. وإذا كانت
المنفعة بهذا
المعنى فقد
يقال قولاً مطلقاً، وقد
يقال قولاً
متخصصاً. فأما المطلق
فهو أن يكون
النافع
موصلاً إلى
تحقيق علم آخر كيف
كان، وأما
المتخصص فأن يكون
النافع
موصلاً إلى ما
هو أجلّ منه،
وهو الغاية له إذ هو
لأجله بغير انعكاس.
فإذا أخذنا
المنفعة
بالمعنى
المطلق كان
لهذا العلم
منفعة. وإذا أخذنا المنفعة
بالمعنى
المتخصص كان
هذا العلم أجل
من أن ينفع في
علم غيره، بل سائر العلوم
تنتفع به. لكن
إذا قسمنا
المنفعة
المطلقة إلى
أقسامها كانت
ثلاثة أقسام: قسم يكون
الموصل منه
موصلاً إلى
معنى أجل منه؛
وقسم يكون
الموصل منه
موصلاً إلى معنى مساوٍ
له؛ وقسم يكون
الموصل منه
موصلاً إلى
معنى دونه،
وهو أن يفيد
في
كمال
دون ذاته.
وهذا إذا طلب
له أسم خاص
كان الأولى به
الإفاضة،
والإفادة، والعناية،
والرياسة، أو
شيء مما يشبه
هذا إذا
استقريت
الألفاظ
الصالحة في
هذا
الباب
عثرت عليه.
والمنفعة
المتخصصة
قريبة من
الخدمة. وأما
الإفادة التي
تحصل من الأشرف في
الأخس فليس
تشبه الخدمة.
وأنت تعلم أن
الخادم ينفع
المخدوم، والمخدوم أيضاً
ينفع الخادم،
أعني المنفعة
إذا أخذت
مطلقة ويكون نوع
كل منفعة ووجه الخاص نوعاً
آخر، فمنفعة
هذا العلم
الذي بيّنا
وحهها هي
إفادة اليقين بمبادئ
العلوم الجزئية،
والتحقق
لماهية
الأمور
المشترك فيها،
وإن لم تكن
مبادئ. فهذا إذن
منفعة الرئيس
للمرؤوس،
والمخدوم
للخادم، إذ نسبة
هذا العلم إلى
العلوم الجزئية
نسبة الشيء الذي
هو المقصود
معرفته في هذا
العلم إلى
الأشياء
المقصود معرفتها في
تلك
العلوم.
فكما أن ذلك
مبدأ لوجود
تلك، فكذلك العلم
به مبدأ لتحقق العلم
بتلك.
الصفحة :
10
وأما
مرتبة هذا
العلم فهي أن
يتعلم بعد
العلوم
الطبيعية والرياضية.
أما
الطبيعية، فلأن
كثيراً من
الأمور
المسلّمة في
هذا مما تبين
في
علم
الطبيعي مثل:
الكون، والفساد،
والتغير،
والمكان،
والزمان وتعلق
كل متحرك بمحرك،
وانتهاء
المتحركات
إلى
محرك
أول، وغير
ذلك. وأما
الرياضية،
فلأن الغرض الأقصى
في هذا العلم
هو تدبير الباري
تعالى،
ومعرفة
الملائكة
الروحانية وطبقاتها،
ومعرفة
النظام في
ترتيب الأفلاك،
ليس يمكن أن
يتوصل إلاّ
بعلم الهيئة،
وعلم الهيئة
لا يتوصل إليه
إلاّ بعلم
الحساب
والهندسة.
وأما
الموسيقى وجزئيات
الرياضيات
والخلقيات
والسياسة فهي نوافع
غير ضرورية في
هذا العلم. إلاّ أن
لسائل أن يسأل
فيقول: إنه
إذا كانت المبادئ في
علم الطبيعة
والتعاليم
إنما تبرهَن في
هذا العلم
وكانت مسائل
العلمين تُبرهن
بالمبادئ،
وكانت مسائل
ذينك العلمين
تصير مبادئ
لهذا العلم،
كان ذلك بياناً دورياً
ويصير آخر
الأمر بياناً للشيء
من نفسه،
والذي يجب أن
يقال في حل
هذه الشبهة هو ما قد
قيل وشرح في
كتاب البرهان.
وإنما نورد
منه مقدار
الكفاية في هذا
الموضوع فنقول: إن
المبدأ للعلم ليس
إنما يكون
مبدأ لأن جميع
المسائل
تستند في
براهينها إليه بفعل
أو بقوة، بل ربما
كان المبدأ
مأخوذاً في
براهين بعض
هذه المسائل،
ثم قد يجوز أن
تكون في العلوم
مسائل
براهينها لا
تستعمل وصفاً
البتة؛ بل
إنما تستعمل المقدمات
التي لا برهان
عليها. على
أنه إنما يكون
مبدأ العلم بالحقيقة
إذا كان يفيد أخذه
اليقين المكتسب من
العلة، وأما
إذا كان ليس
يفيد العلة،
فإنما يقال له مبدأ
العلم على نحوٍ آخر.
وبالحري أن
يقال له مبدأ
على حسب ما
يقال للحس
مبدأ، من جهة أن الحس بما هو
حس يفيد
الوجود فقط.
فقد ارتفع إذن
الشك، فإن
المبدأ
الطبيعي يجوز أن يكون
بيّناً
بنفسه، ويجوز
أن يكون بيانه
في الفلسفة
الأولى بما
ليس يتبين به فيما بعد،
ولكن أنما
تتبين به
مسائل أخرى حتى
يكون ما هو
مقدمة في
العلم الأعلى لإنتاج
ذلك المبدأ لا
يتعرض له في
انتاجه من ذلك
المبدأ، بل له
مقدمة أخرى.
وقد
يجوز
أن يكون العلم
الطبيعي أو
الرياضي أفادنا
برهان "أن"
وإن لم يفدنا
فيه
برهان "اللم"
ثم يفيدنا هذا
العلم فيه
برهان "لِمَ" خصوصاً
في العلل الغائية البعيدة. فقد
اتضح إنه إما
أن يكون ما هو
مبدأ بوجه ما
لهذا العلم من
المسائل التي في
العلوم الطبيعية
ليس في بيانه
من مبادئ
تتبين في هذا العلم،
بل من مبادئه
بيّنة
بنفسها؛ وإما أن
يكون بيانه من
مبادئ هي
مسائل في هذا العلم،
لكن
ليس
تعود فتصير
مبادئ لتلك المسائل
لعينها بل
لمسائل أخرى؛
وإما أن تكون
تلك
الصفحة :
11
المبادئ
لأمور من هذا
العلم لتدل
على وجود ما يراد
أن نبين في هذا
العلم لمّيته. ومعلوم
أن هذا الأمر
إذا كان على
هذا الوجه لم
يكن بيان دور البتة،
حتى يكون بياناً
يرجع إلى أخذ
الشيء في بيان
نفسه. ويجب أن
تعلم أن في نفس
الأمر طريقاً
إلى
أن
يكون الغرض من
هذا العلم
تحصيل مبدأ
إلاّ بعد علم آخر.
فإنه سيتضح لك
فيما بعد إشارة إلى
أن لنا سبيلاً
إلى إثبات
المبدأ الأول لا من
طريق
الإستدلال من
الأمور المحسوسة،
بل من طريق
مقدمات كلية
عقلية توجب للوجود
مبدأ واجب الوجود
وتمنع أن يكون
متغيراً أو
متكثرأ في
جهة، وتوجب أن يكون هو
مبدأ للكل،
وأن يكون الكل
يجب
عنه
على ترتيب
الكل. لكن
لعجز أنفسنا
لا
نقوى
على سلوك ذلك
الطريق
البرهاني
الذي هو سلوك عن
المبادئ إلى
الثواني، وعن العلة
إلى المعلول،
إلاّ في بعض
جمل مراتب الموجودات
منها دون
تفصيل. فإذن
من
حق
هذا العلم في
نفسه أن يكون
مقدماً على العلوم
كلها، إلاّ
أنه من جهتنا
يتأخر عن العلوم
كلها، فقد
تكلمنا على
مرتبة هذا العلم من
جملة العلوم.
وأما أسم هذا العلم
فهو أنه: "ما
بعد الطبيعة".
ويعني بالطبيعة
لا القوة التي
هي مبدأ حركة وسكون،
بل جملة الشيء
الحادث عن
المادة الجسمانية
وتلك القوة
والأعراض. فقد
قيل
أنه
قد يقال:
الطبيعة،
للجرم
الطبيعي الذي له
طبيعة. والجرم
الطبيعي هو
الجرم المحسوس
بما له من
الخواص
والأعراض.
ومعنى
"ما بعد
الطبيعة"
بعدية
بالقياس إلينا. فإن
أول ما نشاهد
الوجود، ونتعرف
عن أحواله نشاهد هذا
الوجود
الطبيعي. وأما الذي
يستحق أن يسمى
به هذا العلم
إذا اعتبر
بذاته، فهو أن يقال
له علم "ما قبل
الطبيعة"،
لأن الأمور
المبحوث عنها
في هذا العلم،
هي
بالذات
والعموم، قبل الطبيعة.
ولكنه لقائل
أن يقول: إن
الأمور الرياضية
المحضة التي ينظر
فيها في الحساب
والهندسة، هي
أيضاً "قبل
الطبيعة"، وخصوصاً
العدد فإنه لا تعلق
لوجوده بالطبيعة
البتة، لأنه
قد يوجد لا في
الطبيعة،
فيجب أن يكون
علم الحساب والهندسة علم "ما
قبل الطبيعة".
فالذي يجب أن
يقال في هذا
التشكيك هو
أنه: أما الهندسة فما كان
النظر فيه منها
إنما هو في
الخطوط
والسطوح
والمجسمات. فمعلوم
أن
موضوعه غير
مفارق
للطبيعة في
القوام،
فالأعراض اللازمة
له أولى بذلك.
وما كان موضوعه المقدار
المطلق فيؤخذ
فيه المقدار
المطلق على
أنه مستعد
لأية نسبة
اتفقت، وليس ذلك
للمقدار بما
هو مبدأ
للطبيعيات
وصورة؛ بل بما
هو مقدار
وعرض. وقد عرف
في
شرحنا
للمنطقيات
والطبيعيات
الفرق بين المقدار
الذي هو يعد
الهيولي
مطلقاً، وبين المقدار
الذي هو كم،
الصفحة :
12
وأن
أسم المقدار
يقع عليهما
بالإشتراك.
وإذا كان ذلك
فليس موضوع
الهندسة
بالحقيقة هوالمقدار
المعلوم
المقوم للجسم
الطبيعي، بل
المقدار المقول على
الخط والسطح والجسم.
وهذا هو
المستعد
للنسب
المختلفة. وأما
العدد فالشبهة
فيه آكد،
ويشبه في ظاهر النظر
أن يكون علم
العدد هو علم
"ما بعد الطبيعة".
إلاّ أن يكون
علم
"ما بعد
الطبيعة"
إنما يعنى به
شيء آخر، وهو
علم
"ما هو
مباين" من كل
الوجوه للطبيعة،
فيكون قد
سُمّي هذا
العلم بأشرف
ما فيه. كما يُسمى
هذا العلم
بالعلم الإلهي
أيضاً، لأن
المعرفة
بالله تعالى
هي غاية هذا العلم.
وكثيراً ما
تسمى الأشياء من
جهة المعنى
الأشرف،
والجزء الأشرف،
والجزء الذي هو
كالغاية.
فيكون كأن هذا العلم
هو العلم الذي
كماله، وأشرف
اجزاءه، ومقصوده
الأول، هو
معرفة ما
يفارق الطبيعة من
كل وجه.
وحينئذ إذا
كانت التسمية موضوعاً
بإزاء هذا
المعنى لا
يكون لعلم العدد
مشاركة له في
معنى هذا
الإسم، فهذا هذا.
ولكن البيان
المحقق لكون
علم
الحساب
خارجاً عن علم
"ما بعد
الطبيعة" هو أنه سيظهر
لك أن موضوعه
ليس هو العدد
كل
كل
وجه، فإن
العدد قد يوجد
في
الأمور
المفارقة،
وقد يوجد في
الأمور الطبيعية،
وقد
يعرض
له وضع في
الوهم مجرداً عن
كل شيء وهو
عارض له. وإن
كان لا يمكن أن
يكون العدد
موجوداً،
إلاّ عارضاً
لشيء في
الوجود.فما
كان من العدد
وجوده في الأمور المفارقة،
امتنع أن يكون
موضوعاً لأية
نسبة اتفقت من
الزيادة والنقصان،
بل إنما يثبت على ما
هو
عليه
فقط، بل إنما
يجب أن يوضع
بحيث يكون
قابلاً لأي
زيادة اتفقت، ولأي
نسبة اتفقت إذا
كان في هيولي
الأجسام التي
هي بالقوة كل
نحو من
المعدودات،
أو
كان
في
الوهم؛
وفي الحالين
جميعاً هو غير
مفارق
للطبيعة، فإذن
علم الحساب من
حيث
ينظر في
العدد إنما
ينظر فيه وقد
حصل له
الإعتبار الذي
إنما يكون له
عند كونه في الطبيعة،
ويشبه أن يكون
أول نظره فيه
هو في الوهم،
ويكون إنما هو
في الوهم بهذه الصفة،
لأنه وهم له
مأخوذ من
أحوال طبيعية
لها أن تجتمع
وتفترق
وتتحدد
وتنقسم. فالحساب
ليس نظراً في
ذات العدد،
ولا نظراً في
عوارض العدد
من حيث هو عدد مطلقاً؛ بل هو في
عوارضه من حيث
هو يصير بحال
تقبل ما أشير
إليه، وهو
حينئذ مادي أو
وهمي إنساني
يستند إلى
المادة. وأما
النظر في ذات
العدد، وفيما
يعرض له من حيث لا
يتعلق بالمادة
ولا يستند
إليها، فهو
لهذا العلم.
الصفحة :
13
فصل
في جملة ما
يتكلم فيه في
هذا العلم
فينبغي
لنا في هذه
الصناعة أن
نعرف حال نسبة الشيء
والموجودات
إلى
المقولات؛
وحال العدم؛
وحال الوجوب، أي
الوجود
الضروري وشرائطه؛
وحال الإمكان
وحقيقته، وهو
بعينه النظر
في
القوة
والفعل؛ وأن
ننظر في حال الذي
بالذات والذي
بالعرض؛ وفي
الحق والباطل؛ وفي حال
الجوهر، وكم
أقسام هو،
لأنه ليس يحتاج
الموجود في ان
يكون جوهراً موجوداً
إلى أن يصير
طبيعياً أو
تعليمياً، فإن
ههنا جواهر
خارجة عنهما،
فيجب أن نعرف حال
الجوهر الذي
هو كالهيولي،
وأنه كيف هو، وهل هو
مفارق أو غير
مفارق، ومتفق
النوع أو
مختلف، وما
نسبته إلى
الصورة، أن الجوهر
الصوري كيف
هو، وهل هو أيضاً
مفارق أو ليس
بمفارق، وما
حال المركب، وكيف حال كل
واحد منهما
عند
الحدود،
وكيف مناسبة
ما بين الحدود
والمحدودات.
ولأن مقابل الجوهر
بنوع ما هو العرض،
فينبغي أن
نتعرف في هذا
العلم طبيعة العرض،
وأصنافه، وكيفية
الحدود التي تحد بها
الأعراض،
ونتعرف حال
مقولة مقولة
من الأعراض،
وما أمكن فيه أن يظن
أنه
جوهر
وليس بجوهر،
فنبين
عرضيته،
ونعرف مراتب
الجواهر كلها
بعضها عن بعض في الوجود
بحسب التقدم
والتأخر،
ونعرف كذلك حال
الأعراض.
ويليق بهذا
الموضوع أن نتعرف حال
الكلي
والجزئي؛
والكل
والجزء؛ وكيف
وجود الطبائع
الكلية، وهل
لهاوجود في الأعيان
الجزئية؛
وكيف وجودها
في النفس، وهل
لها وجود
مفارق
للأعيان
والنفس. وهناك نتعرف
حال الجنس
والنوع، وما
يجري
مجراهما، ولأن
الموجود لا
يحتاج في كونه علة أو
معلولاً إلى
أن يكون
طبيعياً أو
تعليمياً أو
غير ذلك.
فبالحري أن نتبع
ذلك
الكلام
في العلل،
وأجناسها،
وأحوالها،
وأنها كيف
ينبغي أن تكون
الحال بينها وبين المعلولات،
وفي تعريف
الفرقان بين
المبدأ
الفاعلي،
وبين غيره.
وأن
نتكلم
في الفعل والإنفعال.
وفي تعريف
الفرقان بين
الصورة والغاية،
واثبات كل واحد
منهما،
وأنهما في كل طبقة
يذهب إلى علةٍ
أولى. ونبين
الكلام في
المبدأ والإبتداء،
ثم الكلام في التقدم
والتأخر
والحدوث،
وأصناف ذلك،
وأنواعه،
وخصوصية كل نوع منه،
وما يكون متقدماً في
الطبيعة
ومتقدماً عند
العقل، وتحقيق
الأشياء المتقدمة
عند العقل،
ووجه مخاطبة من
انكرها، فما
كان فيه من
هذه الأشياء
رأي
مشهور
مخالف للحق
نقضناه. فهذه وما
يجري مجراها
لواحق الوجود
بما هو وجود،
ولأن الواحد
مساوق للوجود
فيلزمنا أن ننظر
الصفحة :
14
أيضاً
في الواحد،
وإذا نظرنا في
الواحد وجب أن
ننظر في الكثير،
ونعرف
التقابل بينهما.
وهناك يجب أن
ننظر في
العدد، وما
نسبته إلى الموجودات،
وما نسبة الكم المتصل،
الذي يقابله
بوجه ما، إلى
الموجودات،
ونعد الآراء
الباطلة كلها
فيه، ونعرف أنه ليس
شيء من ذلك
مفارقاً ولا
مبدأ للموجودات،
ونثبت
العوارض التي
تعرض للأعداد، والكميات
المتصلة، مثل
الأشكال وغيرها،
ومن توابع
الواحد:
الشبيه،
والمساوي، والموافق،
والمجانس،
والمشاكل، والمماثل،
والهو هو.
فيجب أن نتكلم
في كل واحد من هذه
ومقابلاتها،
وأنها مناسبة للكثرة
مثل الغير
الشبيه، وغير
المساوي، وغير المجانس،
وغير
المشاكل،
والغير بالجملة،
والخلاف،
والتقابل،
وأصنافها، والتضاد بالحقيقة،
وماهيته. ثم
بعد ذلك ننتقل إلى
مبادئ
الموجودات
فنثبت المبدأ
الأول وأنه واحد حق
في غاية
الجلالة، ونعرف أنه
من كم وجه
"واحد"، ومن
كم وجه "حق"،
وأنه كيف يعلم كل
شيء، وكيف هو قادر
على كل شيء،
وما معنى أنه
يعلم وأنه
يقدر، وأنه
جواد، وأنه سلام
أي خير محض، معشوق
لذاته، وهو
اللذيذ الحق،
وعنده الجمال
الحق، ونَفسخ ما قيل
وظُن فيه من الآراء
المضادة
للحق، ثم نبين
كيف نسبته إلى
الموجودات عنه،
وما
أول
الأشياء التي توجد
عنه. ثم كيف
تترتب عنه
الموجودات مبتدئة
من الجواهر
الملكية العقلية، ثم
الجواهر
الملكية
النفسانية،
ثم الجواهر الفلكية
السماوية، ثم
هذه
العناصر، ثم
المكونات
عنها. ثم
الإنسان وكيف
تعود إليه هذه
الأشياء،
وكيف هو مبدأ لها فاعلي، وكيف
هو مبدأ لها
كمالي، وماذا
تكون حال
النفس الإنسانية
إذا انقطعت العلاقة
بينها وبين
الطبيعة، وأي
مرتبة تكون
مرتبة وجودها.
وندل فيما بين
ذلك
على جلالة
قدر النبوة،
ووجوب
طاعتها،
وأنها واجبة
من عند الله،
وعلى الأخلاق والأعمال التي
تحتاج إليها
النفوس
الإنسانية مع
الحكمة في أن
يكون لها
السعادة الأخروية. ونعرف
أصناف
السعادات.
فإذا بلغنا
هذا المبلغ
ختمنا كتابنا
هذا، والله
المستعان به على ذلك.
الصفحة :
15
فصل
في الدلالة
على الموجود
والشيء
وأقسامها
الأوَل،
بما يكون فيه تنبيه
على الغرض
فنقول:
إن الموجود،
والشيء،
والضروري،
معانيها
ترتسم في النفس
ارتساماً
أولياً، ليس ذلك
الارتسام مما
يُحتاج إلى أن
يُجلب بإشياء
أعرف منها. فأنه
كما أن في باب التصديق
مبادئ أولية،
يقع التصديق
لها لذاتها،
ويكون التصديق
بغيرها،
بسببها، وإذا لم يخطر
بالبال أو لم
يفهم اللفظ
الدال عليها،
لم
يمكن
التوصل إلى
معرفة ما يعرف بها،
وإن لم يكن
التعريف الذي
يحاول
أخطارها بالبال أو
تفهيم ما يدل
به عليها من الألفاظ
محاولاً
لإفادة علم
ليس في الغريزة؛
بل منبها على
تفهيم ما
يريده القائل ويذهب
إليه. وربما
كان ذلك
بأشياء هي في نفسها
أخفى من
المراد
تعريفه،
لكنها لعلة ما
وعبارة ما
صارت أعرف.
كذلك في
التصورات
أشياء هي
مبادئ
للتصور، وهي
متصورة لذواتها،
وإذا أريد أن
يدل
عليها
لم يكن ذلك
بالحقيقة
تعريفاً
لمجهول؛ بل
تنبيها وأخطاراً
بالبال،
بإسمٍ أو بعلامة،
ربما كانت في
نفسها أخفى
منه، لكنها
لعلة ما وحال ما
تكون أظهر دلالة. فإذا
استعملت تلك
العلامة
تنبهت النفس
على إخطار ذلك المعنى
بالبال، من حيث أنه
هو المراد لا
غيره، من غير
أن تكون العلامة
بالحقيقة معلمة
إياه، ولو كان كل تصور
يحتاج إلى أن
يسبقه تصور
قبله لذهب
الأمر في ذلك
إلى
غير
النهاية، أو لَدارَ.
وأولى
الأشياء بأن
تكون متصورة
لأنفسها
الأشياء
العامة للأمور
كلها، كالموجود،
والشيء
الواحد وغيره.
ولهذا ليس يمكن
أن يبيّن شيء
منها ببيان لا
دور
فيه
البتة، أو
بيان شيء أعرف
منها. ولذلك
من حاول أن
يقوم فيها
شيئاً وقع في إضطراب،
كمن يقول: إن
من الحقيقة
الموجود أن
يكون فاعلاً
أو منفعلاً؛
وهذا إن كان ولا بد
من أقسام
الموجود،
والموجود
أعرف من
الفاعل
والمنفعل.
وجمهور الناس يتصورون
حقيقة
الموجود ولا
يعرفون البتة
أه يجب ان
يكون فاعلاً
أو منفعلاً، وأنا إلى هذه
الغاية لم
يتضح لي ذلك
إلاّ بقياس لا
غير، فكيف يكون
حال من يروم أن يعرف حال
الشيء الظاهر
بصفة له،
تحتاج إلى
بيان حتى يثبت
وجودها له؟
وكذلك قول من قال: إن
الشيء هو الذي
يصح عنه
الخبر، فإن
"يصح" أخفى من
"الشيء" و "الخبر"
أخفى من "الشيء"،
فكيف يكون هذا
تعريفاً
للشيء؟ وإنما
تعرف الصحة
ويعرف الخبر بعد
أن
يستعمل
في بيان كل
واحد منهما
أنه "شيء" أو
أنه "أمر" أو
أنه "ما" أو أنه
"الذي"، وجميع ذلك
كالمرادفات
لأسم الشيء،
فكيف يصح أن
يعرف الشيء تعريفاً
حقيقياً بما
لم
يعرف
إلاّ به؟ نعم
ربما كان في
ذلك أو أمثاله
تنبيه ما. وأما
بالحقيقة
فإنك إذا قلت إن
الشيء هو ما
يصح عنه
الصفحة :
16
الخبر،
تكون كأنك
قلت: إن الشيء
هو الشيء الذي
يصح الخبر عنه، لأن
معنى "ما" و"الذي"
و"الشيء"
معنى واحد،
فتكون قد أخذت
الشيء في حد الشيء.
على أننا لا
ننكر أن يقع بهذا
أو ما يشبهه،
مع فساد
مأخذه، تنبيه
بوجه ما على
الشيء، ونقول:
إن معنى الوجود
ومعنى الشيء
متصوران في
الأنفس، وهما معنيان.
فالموجود
والمثبت
والمحصل أسماء
مترادفة على
معنى واحد،
ولا نشك في أن معناها
قد حصل في نفس
من يقرأ هذا الكتاب.
والشيء وما
يقوم مقامه قد
يدل به على معنى آخر في
اللغات كلها،
فإن لكل أمر حقيقة
هو بها ما هو،
فالمثلث حقيقة
أنه
مثلث،
وللبياض
حقيقة أنه
بياض، وذلك هو الذي
ربما سميناه
الوجود
الخاص، ولم
نرد
به
معنى الوجود
الإثباتي. فإن
لفظ الوجود يدل به
أيضاً على
معاني كثيرة،
منها الحقيقة
التي عليها
الشيء، فكأنه
ما عليه يكون الوجود
الخاص للشيء.
ونرجع فنقول: أنه
من البين أن لكل
شيء حقيقة
خاصة هي
ماهيته، ومعلوم أن
حقيقة كل شيء الخاصة
به غير الوجود
الذي يرادف
الإثبات، وذلك
لأنك إذا قلت: حقيقة
كذا موجودة إما في
الأعيان، أو
في الأنفس، أو
مطلقاً يعمها
جميعاً، كان لهذا
معنى محصل مفهوم.
ولوقلت: إن
حقيقة كذا،
حقيقة كذا، أو
أن حقيقة كذا
حقيقة، لكان حشواً
من
الكلام
غير مفيد. ولو
قلت: إن حقيقة
كذا شيء، لكان
أيضاً قولاً
غير
مفيد
ما
يجهل؛
واقل إفادة
منه أن تقول:
إن الحقيقة
شيء، إلاّ أن
يعنى بالشيء، الموجود، كأنك
قلت: إن حقيقة
كذا حقيقة
موجودة. وأما
إذا قلت:
حقيقة أ شيء
ما، و حقيقة ب شيء آخر،
فإنما صح هذا
وأفاد. لأنك
تضمر في نفسك
أنه شيء آخر
مخصوص مخالف لذلك الشيء
الآخر، كما لو
قلنا: إن
حقيقة أ
وحقيقة ب
حقيقة أخرى.
ولولا هذا الإضمار وهذا
الإقتران
جميعاً لم
يفد، فالشيءئ
يراد به هذا
المعنى. ولا
يفارق لزوم معنى الوجود
إياه البتة،
بل معنى
الوجود يلزمه
دائماً، لأنه
إما موجوداً
في
الأعيان، أو
موجوداً في
الوهم
والعقل، فإن
لم يكن كذا لم
يكن شيئاً.
وأن ما يقال: إن الشيء هو
الذي يخبر
عنه، حق؛ ثم
الذي قال، مع هذا،
إن الشيء قد
يكون معدوماً على
الإطلاق، أمر
يجب أن ينظر
فيه. فإن عنى
بالمعدوم
المعدوم في
الأعيان، جاز أن يكون كذلك،
فيجوز أن يكون
الشيء ثابتاً
في الذهن
معدوماً في
الأشياء الخارجة.
وإن
عنى
غير ذلك كان
باطلاً، ولم
يكن عنه خبر
البتة، ولا
كان معلوماً إلاّ
على أنه متصور في
النفس فقط.
فأما أن يكون
متصوراً في النفس
صورة تشير إلى شيء
خارج فكلاّ.
الصفحة :
17
أما
الخبر، فلأن
الخبر يكون
دائماً عن شيء
متحقق في
الذهن. والمعدوم
المطلق لا يخبر عنه
بالإيجاب،
وإذا أخبر عنه
بالسلب أيضاً
فقد جعل له وجود بوجه
ما في الذهن. لأن
قولنا: "هو"،
يتضمن إشارة،
والإشارة إلى المعدوم
- الذي
لا صورة له
بوجه من الوجوه في
الذهن - محال.
فكيف يوجب على
المعدوم شيء؟ ومعنى
قولنا: إن
المعدوم "كذا"،
معناه أن وصف
"كذا" حاصل
للمعدوم، ولافرق
بين
الحاصل
والموجود.
فنكون كأنا قلنا: إن
هذا الوصف
موجود
للمعدوم. بل
نقول: إنه لا يخلو أن
ما يوصف به
المعدوم ويحمل عليه
إما أن يكون
موجوداً
وحاصلاً للمعدوم أو لا
يكون موجوداً
حاصلاً له؛ فإن كان
موجوداً
وحاصلاً
للمعدوم، فلا
يخلو إما أن يكون في
نفسه موجوداً
أو
معدوماً،
فإن كان
موجوداً
فيكون
للمعدوم صفة موجودة،
وإذا كانت
الصفة
موجودة، فالموصوف
بها موجود لا
محالة،
فالمعدوم موجود، وهذا
محال؛ وإن
كانت الصفة معدومة، فكيف
يكون المعدوم
في نفسه
موجوداً
لشيء؟ فإم ما لا
يكون موجوداً
في نفسه،
يستحيل ان يكون
موجوداً
للشيء. نعم قد
يكون الشيء
موجوداً في
نفسه ولا يكون
موجوداً لشيء آخر،
فأما إن لم
تكن الصفة
موجودة للمعدوم
فهي نفي الصفة
عن المعدوم،
فإنه إن لم يكن هذا هو النفي
للصفة عن المعدوم،
فإذا نفينا
الصفة عن
المعدوم، كان مقابل
هذا، فكان وجود
الصفة له؛ وهذا كله
باطل. وإنما
نقول: إن لنا
علماً بالمعدوم،
فلأن المعنى إذا
تحصل في النفس فقط
ولم يشر فيه
إلى خارج، كان
المعلوم نفس
ما في النفس فقط،
والتصديق الواقع بين
المتصور من
جزئيه هو أنه
جائز في طباع
هذا المعلوم
وقوع نسبة له معقولة إلى
خارج، وأما في
هذا الوقت فلا
نسبة له، فلا
معلوم غيره.
وعند القوم الذين يرون
هذا الرأي، أن
في جملة ما
يخبر عنه
ويعلم أموراً
لا شيئية لها
في
العدم،
ومن شاء أن
يقف على ذلك
فليرجع غلى ما
هذوا به من أقاويلهم
التي لا تستحق فضل
الإشتغال بها.
وإنما وقع
اولئك فيما
وقعوا فيه
بسبب جهلهم
بأن
الإخبار
إنما يكون عن
معان لها وجود
في النفس، وإن
كانت معدومة
في الأعيان، ويكون
معنى الإخبار عنها ان
لها نسبة ما
إلى الأعيان.
مثلاً إن قلت:
إن القيامة "تكون"
فهمت القيامة وفَهمت
تكون، وحملت
تكون التي في
النفس، على القيامة
التي في النفس،
بأن هذا المعنى
إنما يصح في
معنى آخر
معقول أيضاً،
وهو معقول في
وقت
مستقبل،
أن يوصف بمعنى ثالث
معقول، وهو
معقول الوجود.
وعلى هذا القياس
الأمر في الماضي.
فبين أن
المخبر عنه لا بد من
أن يكون موجوداً
وجوداً ما في
النفس. والإخبار
في الحقيقة هو
عن
الموجود
في النفس،
وبالعرض عن
الصفحة :
18
الموجود
في الخارج.
وقد فهمت الآن
أن الشيء بماذا
يخالف المفهوم
للموجود
والحاصل، وأنهما مع
ذلك متلازمان.
وعلى أنه قد
بلغني أن
قوماً يقولون: أن
الحاصل يكون حاصلاً،
وليس بموجود،
وقد تكون صفة
الشيء ليس
شيئاً لا موجوداً
ولا معدوماً،
وأن
"الذي"
و"ما" يدلان
على غير ما
يدل عليه
الشيء. فهؤلاء
ليسوا من جملة
المميّزين. وإذا
أخذا
بالتمييز بين
هذه الألفاظ
من حيث مفهوماتها
إنكشفوا.
فنقول الآن:
إنه
وإن
لم يكن
الموجود، كما
علمت، جنساً،
ولا
مقولاً
بالتساوي على
ما تحته، فإنه
معنى متفق فيه
على التقديم
والتأخير.
وأول ما يكون،
يكون للماهية
التي هي
الجوهر ثم يكون لما
بعده. وإذ هو
معنى واحد على النحو
الذي أومأنا
إليه فتلحقه
عوارض تخصه، كما قد
بيّنا من قبل.
فلذلك يكون له علم
واحد يتكفل به.
كما أن لجميع
ما هو صحي علماً
واحداً. وقد
يعسر علينا أن نعرف
حال الواجب
والممكن
والممتنع
بالتعريف المحقق
أيضاً، بل
بوجه العلامة. وجميع
ما قيل في
تعريف هذه مما
بلغك عن
الأولين قد يكاد
يقتضي دوراً.
وذلك لأنهم، على
ما مر لك في
فنون المنطق،
إذا أرادوا أن
يحدوا الممكن،
أخذوا في حده إما
الضروري وإما
المحال ولا
وجه غير ذلك.
وإذا أرادوا
أن
يحدوا
الضروري،
أخذوا في حده إما
الممكن وإما
المحال. وإذا
أرادوا أن
يحدوا المحال أخذوا
في حده إما الضروري
وإما الممكن.
مثلاً إذا
حدوا الممكن قالوا
مرة، إنه غير ضروري
أو إنه المعدوم،
في الحال الذي
ليس وجوده، في
أي وقت فرض من
المستقبل،
بمجال. ثم إذا احتاجوا
إلى أن يحدوا
الضروري
قالوا: إما
أنه الذي لا
يمكن أن يفرض معدوماً،
أو
إنه
الذي إذا فرض
بخلاف ما هو
عليه كان
محالاً. فقد
أخذوا الممكن
تارة في حده، والمحال
أخرى. وأما
الممكن فقد كانوا
أخذوا، قبل،
في حده إما
الضروري وإما المحال.
ثم المحال،
إذا ارادوا أن
يحدوه، أخذوا
في حده إما
الضروري بأن
يقولوا: إن المحال هو
ضروري العدم؛
وإما الممكن
بأن يقولوا:
إنه الذي لا
يمكن أن يوجد؛ أو لفظاً آخر
يذهب مذهب
هذين. وكذلك
ما يقال من أن
الممتنع هو
الذي لا يمكن
أن
يكون، أو هو
الذي لا يجب
أن يكون.
والواجب هو
الذي هو ممتنع
ومحال أن لا
يكون، أو ليس بممكن أن لا
يكون. والممكن
هوالذي ليس
يمتنع أن يكون
أو لا يكون،
أو
الذي
ليس
بواجب
أن يكون أو لا
يكون. وهذا
كله كما تراه
دور ظاهر.
وأما الكشف الحال
في ذلك فقد مرّ لك
في أنولوطيقا.
على أن أولى
هذه الثلاثة
في ان يتصور أولاً،
هو الواجب. وذلك لأن
الواجب يدل
على تأكد
الوجود،
الصفحة :
19
والوجود
أعرف من
العدم، لأن
الوجود يعرف
بذاته،
والعدم يعرف، بوجه
ما من الوجوه، بالوجود.
ومن تفهمنا
هذه الأشياء
يتضح لك بطلان
قول
من
يقول: إن
المعدوم يعاد
لأنه أول شيء
مخبر عنه
بالوجود. وذلك
أن المعدوم إذا أعيد
يجب أن يكون
بينه وبين ما
هو
مثله،
لو وجد بدله،
فرق. فإن كان
مثله إنما ليس هو لأنه
ليس الذي كان
عدم، وفي حال العدم
كان هذا غير
ذلك، فقد صار
المعدوم موجوداً
على النحو
الذي أومأنا إليه
فيما سلف آنفاً.
وعلى أن
المعدوم إذا
أعيد احتيج أن
تعاد جميع
الخواص التي
كان بها هو ما هو. ومن
خواصه وقته،
وإذا أعيد وقته كان
المعدوم غير
معاد، لأن
المعاد هو الذي يوجد في
وقت ثان. فإن
كان
المعدوم
تجوز إعادته
وإعادة جملة
المعلومات
التي كانت معه،
والوقت إما
شيء له حقيقة وجود
قد عدم، أو
موافقة موجود
لعرض من الأعراض،
على
ما
عرف من
مذاهبهم، جاز أن يعود
الوقت
والأحوال،
فلا يكون وقت
ووقت، فلا
يكون يعود. على أن
العقل يدفع هذا
دفعاً لا
يحتاج فيه إلى
بيان، وكل ما
يقال فيه فهو
خروج عن طريق التعليم.
الصفحة :
20
فصل
في ابتداء
القول في
الواجب
الوجود والممكن
الوجود، وأن الواجب
الوجود لا علة
له،
وأن
الممكن
الوجود
معلول، وأن
الواجب الوجود غير مكافئ
لغيره في
الوجود، ولا متعلق
بغيره فيه
ونعود
إلى ما كنا
فيه فنقول: إن لكل
واحد من
الواجب
الوجود، والممكن
الوجود، خواص.
فنقول: إن
الأمور التي تدخل في
الوجود تحتمل
في العقل الإنقسام
إلى قسمين،
فيكون منها ما
إذا اعتبر
بذاته لم يجب
وجوده، وظاهر
أنه لا يمتنع
أيضاً وجوده،
وإلاّ لم يدخل
في الوجود،
وهذا الشيء هو في
حيّز
الإمكان، ويكون منها
ما إذا اعتبر
بذاته وجب
وجوده. فنقول:
إن
الواجب
الوجود بذاته
لا علة له، وإن
الممكن
الوجود بذاته
له علة، وإن
الواجب الوجود
بذاته واجب
الوجود من
جميع جهاته، وإن
الواجب
الوجود لا
يمكن أن يكون وجوده
مكافئاً
لوجود آخر،
فيكمون كل واحد منهما
مساوياً
للآخر في وجوب
الوجود ويتلازمان.
وأن الواجب
الوجود لا
يجوز ان يجتمع
وجوده عن كثرة
البتة. وأن الواجب
الوجود لا
يجوز أن تكون
الحقيقة التي له مشتركاً
فيها بوجه من
الوجوه، حتى يلزم
تصحيحنا ذلك
أن يكون واجب
الوجود غير
مضاف، ولا متغير،
ولا متكثر،
ولا
مشارك
في وجوده الذي
يخصه. أما
الواجب
الوجود لا علة له،
فظاهر. لأنه
إن كان لواجب
الوجود علة في
وجوده، كان
وجوده بها. وكل
ما وجوده بشيء، فإذا
اعتبر بذاته دون
غيره لم يجب
له وجود، وكل
ما إذا اعتبر
بذاته دون غيره، ولم
يجب له وجود، فليس
واجب الوجود
بذاته. فبين
أنه إن كان
لواجب الوجود بذاته
علة لم يكن واجب الوجود
بذاته، فقد
ظهر أن الواجب
الوجود لا علة
له. وظهر من ذلك أنه
لا
يجوز
أن يكون شيء
واجب الوجود
بذاته، وواجب
الوجود
بغيره، لأنه
إن كان يجب وجوده
بغيره، فلا
يجوز أن يوجد
دون غيره، وكلما
لا يجوز أن
يوجد دون
غيره، فيستحيل
وجوده واجباً
بذاته. ولو
وجب بذاته، لحصل.
ولا تأثير
لإيجاب الغير
في
وجوده
الذي يؤثر
غيره في وجوده
فلا يكون واجباً
وجوده في
ذاته. وأيضاً
أن كل ما هو ممكن
الوجود
باعتبار
ذاته، فوجوده
وعدمه كلاهما
بعلة، لأنه
غذا وجد فقد
حصل
له الوجود
متميزاً من
العدم، وإذا
عدم حصل له العدم
متميزاً من
الوجود. فلا يخلو
إما
أن
يكون كل واحد
من الأمرين
يحصل له عن
غيره أو لا عن
غيره، فإن كان عن غيره فالغير
هو العلة؛ وإن
كان لا يحصل
عن غيره، ومن
البين أن كل
ما لم يوجد ثم وجد فقد تخصص
بأمر جائز
غيره. وكذلك
في العدم،
وذلك لأن هذا
التخصيص إما تكفي
فيه ماهية الأمر أو لا
تكفي فيه
ماهيته، فإن
كانت
الصفحة :
21
ماهيته
تكفي لأي
الأمرين كان،
حتى يكون حاصلاً،
فيكون ذلك الأمر واجب
الماهية لذاته، وقد
فرض غير واجب،
هذا خلف. وإن
كان لا يكفي
فيه
وجود
ماهيته، بل
أمر يضاف إليه وجود
ذاته، فيكون
وجوده لوجود
شيء آخر غير
ذاته لا بد منه فهو
علته، فله
علة.
وبالجملة
فإنما يصير
أحد الأمرين
واجباً له، لا لذاته،
بل لعلة. أما
المعنى الوجودي
فبعلّة، هي
علة وجودية.
وأما المعنى العدمي فبعلة،
هي عدم العلة
للمعنى الوجودي،
وعلى ما علمت.
فنقول: إنه
يجب أن يصير واجباً
بالعلة،
وبالقياس
إليها. فإنه إن لم يكن
واجباً، كان
عند وجود
العلة وبالقياس
إليها ممكناً
أيضاً، فكان يجوز أن
يوجد وأن لا
يوجد غير
متخصص باحد الأمرين،
وهذا محتاج من
رأس إلى وجود
شيء
ثالث
يتعين له به
الوجود من
العدم، أو العدم عن
الوجود عند
وجود العلة،
فيكون ذلك علة أخرى،
ويتمادى
الكلام إلى
غير
النهاية.
وإذا تمادى
إلى غير
النهاية لم
يكن، مع ذلك، قد
تخصص له
وجوده، وهذا محال. لا
لأنه ذاهب إلى
غير النهاية
في العلل فقط، فإن هذا
في هذا الموضع
بعد
مشكوك
في إحالته، بل
لأنه لم يوجد
بعد مل يتخصص
به وقد فرض
موجوداً. فقد
صح أن كل ما هو
ممكن الوجود
لا يوجد ما لم
يجب بالقياس
إلى علته. ونقول: ولا
يجوز أن يكون واجب
الوجود
مكافئاً
لواجب وجود
آخر، حتى يكون
هذا
موجوداً
مع ذلك، وذلك موجوداً
مع هذا، وليس
أحدهما علة
للاخر، بل هما
متكافئان في أمر
لزوم الوجود. لأنه لا
يخلو إذا
اعتبر ذات
أحدهما بذاته
دون الآخر،
إما ان يكون واجباً
بذاته أو لا يكون
واجباً
بذاته، فإن
كان واجباً
بذاته فلا
يخلو إما أن
يكون له وجوب أيضاً
باعتباره مع
الثاني،
فيكون الشيء
واجب الوجوب
بذاته، وواجب
الوجود لأجل غيره، وهذا
محال، كما قد
مضى. وإما أن
لا يكون له
وجوب بالآخر،
فلا يجب أن يتبع وجوده وجود
الآخر،
ويلزمه أن لا
يكون لوجوده
علاقة بالآخر،
حتى يكون إنما يوجد إذا وجد
الآخر هذا.
وأما إن لم
يكن واجباً
بذاته، فيجب
أن يكون
باعتبار ذاته ممكن
الوجود،
وباعتبار
الآخر واجب
الوجود. فلا
يخلو حينئذ
إما أن يكون
الآخر كذلك أو لا يكون،
فإن كان الآخر
كذلك فلا يخلو
حينئذ إما أن
يكون وجوب
الوجود لهذا من ذلك، وذلك
في حد إمكان
الوجود، أو في
حد وجوب الوجود.
فإن كان وجوب الوجود
لهذا من ذلك، وذلك
هو في حد وجوب
الوجود، وليس
من نفسه، أو
من ثالث سابق، كما
قلناه في وجه سلف، بل
من الذي يكون
منه، كان وجوب
وجود شرطاً
فيه
وجوب
وجود ما يحصل
بعد وجوب وجوده،
بعدية بالذات
فلا يحصل له
وجوب وجود البتة. وإن كان
وجوب الوجود
لهذا من ذلك، وذلك
في حد
الإمكان،
فيكون وجوب
وجود هذا بالذات ذلك
هو في حد
الإمكان،
الصفحة :
22
ويكون
ذات ذلك في حد
الإمكان
مفيداً لهذا
وجوب الوجود،
وليس له حد الإمكان مستفاداً
من هذا، بل
الوجوب. فتكون
العلة لهذا
إمكان وجود
ذلك، وإمكان
وجود ذلك ليس علته
هذا، فيكونان
غير
متكافئين،
أعني ما هو علته
بالذات ومعلول
بالذات. ثم
يعرض شيء آخر
وهو، إنه إذا
كان إمكان
وجود ذلك هو علة
إيجاب وجود هذا،
لم يتعلق وجود هذا
بوجوبه؛ بل بإمكانه.
فوجب أن يجوز
وجوبه مع عدمه وقد
فرضا
متكافئين،
هذا خلف، فإذن ليس
يمكن أن يكونا
متكافئي
الوجود، في حال ما، لا
يتعلقان بعلة
خارجة، بل يجب أن يكون
أحدهما هو
الأول
بالذات، أو
يكون هناك سبب
خارج آخر
يوجبهما
جميعاًبإيجاب العلاقة
التي بينهما
أو يوجب
العلاقة بإيجابهما.
والمضافان
ليس أحدهما
واجباً بالآخر، بل
مع الآخر،
والموجب لهما العلة
التي
جمعتهما،
وأيضاً
المادتان والموضوعان
أو الموصوفان
بهما. وليس
يكفي وجود
المادتين أو
الموضوعين
لهما وحدهما،بل
وجود ثالث
يجمع بينهما.
وذلك لأنه لا يخلو إما
أن يكون وجود
كل واحد من الأمرين
وحقيقته هو أن
يكون مع
الآخر، فوجوده
بذاته يكون
غير واجب،
فيصير
ممكناً، فيصير
معلولاً،
ويكون كما
قلنا ليس علته
مكافئة في
الوجود،
فتكون إذن
علته أمر آخر، فلا
يكون هو
والآخر علة للعلاقة
التي بينهما،
بل ذلك الآخر.
وأما أن لا
يكون، فتكون
المعية طارئة
على
وجوده
الخاص لاحقة
له. وأيضاً
فإن الوجود
الذي يخصه لا يكون عن
مكافئيه من
حيث
هو
مكافيه؛ بل عن
علة متقدمة إن
كان معلولاً. فحينئذ
إما أن يكون وجوده
ذلك عن صاحبه، لا
من حيث
يكافيه، بل من
حيث وجود صاحبه
الذي يخصه،
فلا
يكونان متكافئين،
بل علة
ومعلولاً. ويكون
صاحبه أيضاً
علة للعلاقة
الوهمية
بينهما كالأب
والابن. وإما
أن يكونا
متكافئين من
جملة ما يكون
الأمران ليس
أحدهما علة للآخر،
وتكون
العلاقة
لازمة
لوجودهما،
فتكون العلة
الأولى
للعلاقة هي
أمر خارج موجد
لذاتيهما على
ما علمت،
والعلاقة
عرضية، فيكون
لا تكافؤ هناك
إلاّ بالعرض المباين
أو اللازم.
وهذا غير ما
نحن فيه، ويكون
للذي بالعرض
علة لا محالة، فيكونان من حيث
التكافؤ
معلولين.
الصفحة :
23
فصل
في أن واجب
الوجود واحد
ونقول
ايضاً: إن
واجب الوجود
يجب أن يكون ذاتاً
واحدة، وإلاّ
فليكن كثرة
ويكون كل واحد
منها واجب
الوجود، فلا
يخلو إما أن يكون
كل واحد منها في
المعنى الذي
هو حقيقته، لا
يخالف الآخر
البتة أو يخالفه. فإن
كان لا يخالف الآخر
في المعنى
الذي لذاته
بالذات،
ويخالفه بأنه
ليس
هو،
وهذا خلاف لا
محالة، فيخالفه في
غير المعنى.
وذلك لأن
المعنى الذي
هو فيهما غير مختلف،
وقد قارنه شيء به صار
هذا أو في
هذا، أو قارنه
نفسه أنه هذا
أو في هذا، ولم
يقارنه هذا
المقارن في الآخر،
بل ما به صار
ذاك ذاك، أو
نفس أن ذاك ذاك، وهذا
تخصيص ما قارن
ذلك المعنى، وبينهما
به مباينة.
فإذن كل واحد
منها يباين
الآخر به،
وليس يخالفه
في نفس
المعنى، فيخالفه في
غير المعنى.
والأشياء التي هي غير
المعنى
وتقارن
المعنى هي
الأعراض واللواحق
الغير
الذاتية. وهذه اللواحق
فإما أن تعرض
لوجود الشيء
بما هو ذلك الوجود فيجب أن
يتفق الكل فيه
وقد
فرض
أنها مختلفة
فيه، وهذا
خلف. وإما أن
تعرض له عن أسباب
خارجة لا عن
نفس
ماهيته،
فيكون لولا
تلك العلة لم
يختلف، فيكون
لولا تلك العلة
لكانت الذوات واحدة
أو لم تكن،
فيكون أولاً
تلك العلة ليس
هذا بانفراده
واجب الوجود،
وذلك بانفراد،
واجب الوجود
لا من حيث
الوجود، بل من
حيث الأعراض،
فيكون وجوب وجود
كل
واحد
منهما الخاص
به، المنفرد
له، مستفاداً
من غيره. وقد
قيل إن كل ما هو واجب الوجود
بغيره فليس
واجب الوجود
بذاته، بل هو في
حد ذاته ممكن
الوجود، فتكون كل واحدة
من هذه، مع
أنها واجبة
الوجود
بذاتها، ممكنة
الوجود في حد
ذاتها وهذا محال.
ولنفرض الآن
أنه يخالفه في
معنى أصلي، بعد
ما يوافقه في
المعنى، فلا يخلو ذلك
المعنى إما أن
يكون شرطاً في
وجوب الوجود،
أو لا يكون.
فإن كان شرطاً
في
وجوب
الوجود،
فظاهر أنه يجب
أن يتفق فيه
كل ما هو واجب
الوجود، وإن
لم يكن شرطاً في وجوب
الوجود،
فوجوب الوجود
متقرر دونه وجوب
وجود، وهو
داخل عليه، عارض، مضاف إليه،
بعد ما تم ذلك
وجوب وجود،
وقد منعنا هذا
وبيّنا فساده.
فإذن لا يجوز أن يخالفه
في المعنى. بل
يجب أن نزيد
لهذا بياناً
من وجه آخر
وهو: أن انقسام
معنى وجوب
الوجود في
الكثرة لا
يخلو من
وجهين: إما أن
يكون على سبيل انقسامه
بالفصول وإما على
سبيل انقسامه
بالعوارض. ثم
من المعلوم أن
الفصول لا تدخل في حد
ما يقام مقام الجنس.
فهي لا تفيد
الجنس
حقيقته،
وإنما تفيده
القوام بالفعل،
وذلك
كالناطق، فإن الناطق
لا يفيد
الحيوان معنى
الحيوانية،
بل يفيده القوام
بالفعل ذاتاً
موجودة خاصة.
الصفحة :
24
فيجب
ايضاً أن تكون
فصول وجوب
الوجود، إن
صحت، بحيث لا
تفيد وجوب
الوجود حقيقة وجوب
الوجود، بل
يفيده الوجود
بالفعل. وهذا
محال من
وجهين: أحدهما،
أنه ليس حقيقة وجوب
الوجود إلاّ
نفس تأكد
الوجود، لا
كحقيقة
الحيوانية التي هي
معنى غير تأكد الوجود،
والوجود لازم
لها، أو داخل
عليها، كما علمت. فإذن
إفادة الوجود
لوجوب الوجود، هي
إفادة شرط من
حقيقته
ضرورة، وقد منع
جواز هذا ما بين
الجنس والفصل. والوجه
الثاني، أنه
يلزم أن تكون
حقيقة وجوب الوجود متعلقة
في أن تحصل
بالفعل الموجب له،
فيكون المعنى
الذي به يكون
الشيء واجب الوجود
يجب وجوده
بغيره، وإنما كلامنا
في وجوب
الوجود
بالذات،
فيكون الشيء الواجب
الوجود بذاته
واجب الوجود بغيره،
وقد أبطلنا
هذا. فقد ظهر
أن انقسام وجوب
الوجود إلى
تلك الأمور،
لا يكون انقسام
المعنى
الجنسي إلى
فصول. فتبيّن
أن
المعنى
الذي يقتضي
وجوب الوجود
لا يجوز أن يكون
معنى جنسياً
ينقسم بفصول وأعراض،
فبقي أن يكون
معنى نوعياً.
فنقول: ولا يجوز أن
تكون نوعيته
محمولة على كثيرين،
لأن أشخاص
النوع
الواحد، كما
بينا، إذا لم تختلف
في المعنى
الذاتي، وجب أن تكون
إنما تختلف
بالعوارض،
وقد منعنا إمكان
هذا في وجوب
الوجود، وقد
يمكن أن نبين هذا
بنوع من الإختصار،
ويكون الغرض
راجعاً إلى ما أردناه.
فنقول: إن
وجوب الوجود إذا
كان صفة للشيء
وموجوداً له،
فإما أن يكون واجباً
في هذه الصفة،
أي
في
وجوب الوجود،
أن تكون عين
تلك الصفة
موجودة لهذا الموصوف،
فيمتنع
الواحد منها أن
يوجد وجوداً
لا يكون صفة
له، فيمتنع أن
يوجد لغيره،
فيجب أن يوجد
له
وحده؛
وإما أن يكون
وجودها له
ممكناً غير
واجب. فيجوز
أن
يكون
هذا الشيء غير واجب
الوجود بذاته
وهو واجب
الوجود
بذاته، هذا
خلف. فوجوب الوجود لا
يكون إلاّ لواحد فقط.
فإن قال قائل:
إن وجوده لهذا
لا يمنع وجوده
صفة
للآخر
فكونه صفة للآخر لا يبطل
وجوب كونه صفة
له. فنقول:
كلامنا في
تعيين وجوب الوجود
صفة له، من حيث هو
له، من حيث لا
يلتفت فيه إلى
الآخر، فذلك
ليس صفة للآخر بعينه؛
بل
مثلها
الواجب فيها
ما يجب في تلك
بعينها. وبعبارة
أخرى نقول: إن
كون
الواحد منها
واجب الوجود،
وكونه هو
بعينه، إما أن
يكون واحداً،
فيكون كل ما
هو
واجب الوجود
فهو بعينه
وليس غيره.
وإن كان كونه
واجب الوجود،
غير كونه هو
بعينه، فمقارنة
واجب الوجود
لأنه هو
بعينه، إما أن
يكون أمراً
لذاته، أو
لعلةٍ وسبب موجب غيره.
فإن كان
لذاته،
الصفحة :
25
ولأنه
واجب الوجود،
فيكون كل ما
هو واجب
الوجود هذا
بعينه. وإن كان
لعلة وسبب
موجب غيره،
فلكونه هذا
بعينه سبب،
فلخصوصية
وجوده
المنفرد سبب، فهو
معلول. فإذن
واجب الوجود
واحد بالكلية
ليس كأنواع
تحت جنس، وواحد بالعدد
ليس كأشخاص
تحت نوع، بل معنى
شرح أسمه له
فقط، ووجوه
غير مشترك
فيه.
وسنزيد
هذا إيضاحاً
في موضع آخر.
فهذه الخواص
التي يختص بها
واجب الوجود.
وأما الممكن
الوجود، فقد
تبين من ذلك
خاصيته وهو أنه
يحتاج ضرورة
إلى شيء آخر
يجعله بالفعل
موجوداً. وكل
ما هو ممكن
الوجود فهو دائماً،
باعتبار
ذاته، ممكن
الوجود، لكنه ربما
عرض أن يجب
وجوده بغيره،
وذلك إما أن يعرض له
دائماً، وإما
أن يكون وجوب وجوده
عن غيره ليس
دائماً، بل في
وقت دون وقت. فهذا
يجب أن يكون
له مادة تتقدم
وجوده
بالزمان، كما
سنوضحه. والذي
يجب وجوده
بغيره دائماً،
فهو أيضاً غير بسيط
الحقيقة، لأن
الذي له
باعتبار
ذاته، غير
الذي له من غيره، وهو
حاصل الهوية منهما
جميعاً في
الوجود،
فلذلك لا شيء
غير واجب
الوجود تعرّى عن
ملا بسة ما بالقوة
والإمكان
باعتبار
نفسه، وهو
الفرد، وغيره
زوج تركيبي.
الصفحة :
26
فصل
في بيان الحق
والصدق والذب
عن أول الأقاويل،
في المقدمات الحقة أما
الحق فيفهم منه
الوجود في
العيان
مطلقاً،
ويفهم منه الوجود
الدائم ويفهم منه
حال القول أو العقد
الذي يدل على
حال الشيء في
الخارج إذا كان مطابقاً
له، فنقول:
هذا قول حق، وهذا
إعتقاد حق.
فيكون الواجب
الوجود هو
الحق بذاته
دائماً،
والممكن
الوجود حق بغيره،
باطل في نفسه.
فكل ما سوى
الواجب الوجود
الواحد باطل
في نفسه. وأما
الحق من قبل
المطابقة فهو
كالصادق،
إلاّ أنه صادق فيما
أحسب باعتبار
نسبته إلى
الأمر، وحق باعتبار
نسبة الأمر
إليه. وأحق الأقاويل
أن يكون حقاً
ما كان قد
صدقه دائماً،
وأحق ذلك ما كان
صدقه أولياً
ليس
لعلة.
وأول كل الأقاويل
الصادقة الذي
يتنهي إليه كل شيء في
التحليل، حتى
أنه
يكون
مقبولاً
بالقوة أو
بالفعل في كل
شيء يُبين أو
يتبين به، مكا
بيناه في كتاب البرهان،
هو أنه: لا
واسطة بين
الإيجاب
والسلب. وهذه
الخاصة ليست من
عوارض شيء إلاّ من
عوارض
الموجود بما
هو موجود،
لعمومه في كل
موجود. والسوفسطائي
إذا أنكر هذا، فليس
ينكره إلاّ
بلسانه
معانداً. أو
يكون قد عرض
له
شبهة
في أشياء فسد عليه
عنده فيها
طرفا النقيض
لغلط جرى عليه
مثلاً، لأنه
لا يكون حصل له حال التناقض
وشرائطه. ثم
إن تبكيت
السوفسطائي،
وتنبيه
المتحير
أبداً، إنما هو في كل حال على
الفيلسوف،
ويكون لا
محالة بضرب من
المحاورة. ولا
شك أن تلك المحاورة تكون
ضرباً من
القياس الذي
يلزم مقتضاه،
إلاّ أنه لا
يكون في نفسه
قياساً يلزم مقتضاه،
ولكن يكون
قياساً
بالقياس. وذلك
لأن القياس
الذي يلزم
مقتضاه على وجهين:
قياس في نفسه،
وهو الذي تكون
مقدماته
صادقة في
أنفسها،
وأعرف عند العقلاء من
النتيجة،
ويكون تأليفه
تاليفاً
منتجاً، وقياس
كذلك
بالقياس، وهو
أن
تكون
حال
المقدمات
كذلك عند
المحاور حتى
يسلم الشيء وإن
لم يكن صدقاً،
وإن كان صدقاً لم
يكن
أعرف
من النتيجة
التي يسلمها،
فيؤلف عليه بتأليف
صخيح مطلق أو عنده.
وبالجملة فقد كان
القياس ما إذا
سلمت مقدماته
لزم منه شيء، فيكون
ذلك
قياساً
من حيث كذا.
ولكنه ليس يلزم أن
يكون كل قياس
قياساً يلزم
مقتضاه، لأن مقتضاه
يلزم إذا سلم،
فإذا لم يسلم كان
قياساً. لأنه
قد أورد فيه
ما إذا وضع وسلم لزمه،
ولكن لما لم
يسلم بعد لم يلزم
مقتضاه،
فيكون القياس
قياساً، أعم
من
كونه
قياساً يلزم
مقتضاه.
الصفحة :
27
وكونه
قياساً يلزم
مقتضاه، هو
أيضاً على قسمين،
على ما علمت،
فالقياس الذي
يلزم مقتضاه
بحسب الأمر في
نفسه، هو الذي
مقدماته مسلمة
في
أنفسها،
وأقدم من
النتيجة. وأما الذي
هو بالقياس،
فالذي قد سلم
المخاطب مقدماته،
فتلزمه
النتيجة. ومن
العجائب أن
السوفسطائي
الذي غرضه
المماراة
يضظر إلى أحد
الأمرين: إما
إلى السكوت
والإعراض، وإما
إلى الإعتراف
لا محالة
بأشياء، والإعتراف
بأنها تنتج
عليه. وأما
المتحير فعلاجه حل
شبهة، وذلك
لأن المتحير
لا
محالة
إنما وقع فيما
وقع فيه إما
لما يراه من تخالف
الأفاضل
الأكثرين،
ويشاهده من كون رأي
كل واحد منهم
مقابلاً لرأي
الآخر الذي يجده
قرنا له،
لايقصر عنه، فلا يجب
عنده أن يكون
أحد القولين
أولى بالتصديق
من
الآخر؛
وإما لأنه سمع
من
المذكورين
المشهورين
المشهود لهم
بالفضيلة
أقاويل لم يقلها عقله
بالبديهة،
كقول من قال: إن
الشيء لا
يمكنك أن تراه
مرتين، بل ولا
مرة
واحدة،
وإن لا وجود
لشيء في نفسه، بل
بالإضافة.
فإذا كان قائل
مثل هذا القول مشهوراً
بالحكمة لم
يكن
بعيداً
أن يتحير
الشادي لقوله.
وإما لأنه قد
اجتمع عنده قياسات متقابلة
النتائج ليس يقدر
على أن يختار
واحد منها
ويزيف الآخر.
فالفيلسوف يتدارك
ما عرض لأمثال هؤلاء
من وجهين:
أحدهما حل ما
وقع فيه من
الشك؛
والثاني التنبيه
التام على أنه لا يمكن
أن يكون بين
النقيضين
واسطة. أما حل
ما وقع فيه
فمن
ذلك
أن يعترفه أن الناس
ناس لا ملائكة.
ومع ذلك فليس
يجب أن يكونوا
متكافئين في الإصابة،
ولا يجب إذا كان
واحد أكثر
صواباً في شيء
من آخر، أن لا
يكون الآخر
أكثر صواباً منه
في
شيء
آخر. وأن يعرف
أن أكثر
المتفلسفين
يتعلم المنطق
وليس
يستعمله، بل يعود آخر الأمر
فيه إلى
القريحة
فيركبها ركوب
الراكض من غير
كف عنان أوجذب
خطام. وأن من الفضلاء من
يرمز أيضاً
برموز، ويقول
ألفاظاً
ظاهرة
مستشنعة أو
خطأ وله فيها غرض خفي، بل
أكثر
الحكماء، بل
الأنبياء
الذين لا يؤتون
من جهة غلطاً
أو سهواً هذه وتيرتهم.
فهذا يزيل شغل
قلبه من جهة
ما استنكر من
العلماء. ثم
يعرفه فيقول:
إنك
إذا
تكلمت فلا
يخلو إما أن
تقصد بلفظك
نحو شيء من
الأشياء
بعينه، أو لا
تقصد، فإن قال إذا
تكلمت لم أفهم
شيئاً، فقد
خرج هذا من جملة
المسترشدين
المتحيرين، وناقض الحال
في نفسه، وليس
الكلام معه
هذا الضرب من الكلام.
وإن قال: إذا
تكلمت فهمت باللفظ كل
شيء فقد خرج
عن الإسترشاد.
فإن قال: إذا
تكلمت فهمت به
شيئاً بعينه، أو أشياء
كثيرة محدودة.
فعلى كل حال
فقد جعل للفظ
دلالة على
أشياء بعينها لا
يدخل في تلك
الصفحة :
28
الدلالة
غيرها. فإن
كانت تلك
الكثرة تتفق
في معنى واحد
فقد
دل
أيضاً على
معنى واحد، وإن
لم يكن كذلك
فالإسم
مشترك، ويمكن
لا محالة أن
يفرد لكل واحد من
تلك
الجملة
إسماً؛ فهذا
يسلمه من قام
مقام المسترشدين
المتحيرين. وإذا
كان الإسن
دليلاً على شيء
واحد
كالإنسان
مثلاً فالا
إنسان، أعني
ما هو مباين
للإنسان لا
يدل عليه ذلك الإسم
بوجه من
الوجوه. فالذي
يدل عليه إسم الإنسان
لا يكون الذي
يدل عليه إسم اللا
إنسان، فإن
كان الإنسان
يدل على اللا إنسان،
فيكون لا
محالة
الإنسان،
والحجر، والزورق،
والفيل شيئاً
واحداً؛ بل
يدل
على
الأبيض،
والأسود،
والثقيل،
والخفيف، وجميع ما هو
خارج مما دل
عليه إسم الإنسان.
وكذلك حال
المفهوم من
الألفاظ هذه، فيلزم
من هذا أن
يكون كل شيء
وأن
يكون
ولا شيء من
الأشياء
نفسه، وأن
لايكون للكلام مفهوم.
ثم لا يخلو
إما أن يكون هذا
حكم كل لفظ،
وحكم كل مدلول
عليه باللفظ،
أو
يكون
بعض هذه
الأشياء بهذه الصفة،
وبعضها
بخلافها. فإن
كان هذا في كل
شيء فقد عرض أن لا خطاب
ولا كلام، بل لا شبهة
ولا حجة
أيضاً. وإن
كان في بعض
الأشياء قد
تتميز الموجبة عن
السالبة، وفي بعضها
لا تتميز،
فحيث تتميز
يكون لا محالة
ما يدل عليه الإنسان
غير ما يدل عليه باللا
إنسان؛ وحيث
لا يتميز
كالأبيض واللا
أبيض يكون مدلولهما
واحد، فيكون كل شيء
هو لا أبيض
فهو أبيض، وكل
شيء هو أبيض
فهو لا أبيض، فالإنسان
إذا كان له مفهوم
متميز فإن كان
الأبيض فهو
أيضاً لا أبيض
الذي هو والأبيض
واحد، واللا إنسان
كذلك؛ فيعرض
مرة أخرى أن
يكون الإنسان واللا
إنسان غير متميزين.
فهذا ومثاله قد
يزيح علة
المتحير
المسترشد في
أن يعرف أن
الإيجاب
والسلب لا
يجتمعان، ولا يصدقان
معاً. وكذلك
أيضاً قد تبين
له أنهما لا
يرتفعان ولا
يكذبان معاً، فإنه إذا
كذبا معاً في
شيء، كان ذلك
الشيء ليس
بإنسان
مثلاً، وليس
أيضاً بلا إنسان.
فيكون قد
اجتمع الشيء
الذي هو اللا
إنسان وسالبه
الذي هو لا لا
إنسان، وقد نبه على
بطلانه. فهذه
الأشياء وما
يشبهها مما لا
يحتاج أن نطول
فيه، وبحل الشبه المتقابلة
من قياسات
المتحير
يمكننا أن نهديه.
وأما المتعنت
فينبغي أن يكلف شروع النار،
إذ النار
واللاّ نار
واحد؛ وأن
يؤلم ضرباً،
إذا الوجع
واللا وجع واحد؛
وأن
يمنع
الطعام
والشراب، إذ
الأكل والشرب
وتركهما واحد.
فهذا المبدأ الذي
ذببنا عنه من
يكذبه،هو أول
مبادئ
البراهين،
وعلى الفيلسوف
الأول أن يذب عنه.
ومبادئ
البراهين تنتفع في
البراهين.
والبراهين
تنتفع في معرفة
الأغراض الذاتية
لموضوعاتها.
لكن
معرفة
جوهر
الموضوعات
الذي كان فيما
سلف يعرف
بالحد فقط، فما
يلزم
الفيلسوف
ههنا أن يحصله،
الصفحة :
29
فيكون
لهذا العلم
الواحد أن
يتكلم في
الأمرين
جميعاً. لكن قد
يتشكك على هذا
أنه إن تكلم فيها،
على سبيل
التحديد
والتصور، فهو
ذاك الذي يتكلم فيه
صاحب العلم
الجزئي، وإن تكلم
فيها في
التصديق صار
الكلام فيها برهانياً.
فنقول: إن هذه
التي كانت موضوعات في
علوم أخرى
تصير عوارض في
هذا
العلم،
لأنها أحوال
تعرض
للموجود،
وأقسام له، فيكون
ما لا يبرهن
عليه في علم آخر،
يبرهن عليه
ههنا. وأيضاً
إذا لم يلتفت
إلى
علم
آخر وقسم
موضوع هذا
العلم نفسه إلى
جوهر وعوارض
تكون خاصة له،
فيكون ذلك الجوهر
الذي هو موضوع
لعلم ما أو الجوهر
مطلقاً، ليس
موضوع هذا
العلم، بل قسماً
من
موضوعه،
فيكون ذلك
بنحو ما عارضاً
لطبيعة
موضوعه، الذي
هو موجود، إن
صار ذلك الجوهر دون
شيء آخر
لطبيعة الموجود أن
تقارنه أو
يكون هو. فإن
الموجود طبيعة
يصح
حملها
على كل شيء،
كان
ذلك
الجوهر أو
غيره، فإنه
ليس لأنه
موجود هو جوهر،
أو جوهر ما، وموضوع
ما، على ما فهمت،
قبل هذا، فيما
سلف. ومع هذا
كله فليس البحث
عن مبادئ التصور
والحد حداً ولا
تصوراً، ولا
البحث عن
مبادئ البرهان
برهاناً، حتى
يصير البحثان المتخالفان
بحدثاً واحداً.
الصفحة :
30
فصل
في
تعريف
الجوهر
وأقسامه بقول كلي
فنقول:
إن الوجود
للشيء قد يكون
بالذات مثل وجود
الإنسان
إنساناً، وقد يكون
بالعرض مثل
وجود زيد
أبيض. والأمور
التي بالعرض لا تحد.
فلنترك الآن
ذلك
ولنشتغل
بالموجود،
والوجود الذي
بالذات. فأقدم
أقسام الموجودات
بالذات هو
الجوهر، وذلك لأن
الموجود
قسمين:
أحدهما،
الموجود في شيء آخر،
ذلك الشيء
الآخر متحصل القوام
والنوع في
نفسه، وجوداً
لا كوجود جزء منه، من غير
أن تتضح
مفارقته لذلك الشيء،
وهو الموجود
في موضوع؛
والثاني،
الموجود من غير أن
يكون في شيء
من الأشياء بهذه
الصفة، فلا
يكون في موضوع
البتة، وهو الجوهر.
وإن كان ما
أشير إليه في
القسم الأول
موجوداً في
موضوع، فلذلك
الموضوع لا يخلو
أيضاً من أحد
هذين
الوصفين؛ فإن كان
الموضوع
جوهراً فقوام
العرض في الجوهر،
وإن لم يكن
جوهراً كان
أيضاً في
موضوع ورجع البحث
إلى
الإبتداء، واستحال
ذهاب ذلك إلى
غير النهاية،
كما سنبين في
مثل هذا المعنى
خاصة. فيكون
لا
محالة
آخره فيما ليس
في موضوع،
فيكون في جوهره،
فيكون الجوهر
مقوم العرض موجوداً،
وغير متقوم
بالعرض،
فيكون الجوهر هو
المقدم في
الوجود. وأما أنه هل يكون
عرض في عرض،
فليس
بمستنكر، فإن
السرعة في
الحركة،
والإستقامة
في
الخط، والشكل
المسطح في
البسيط،
وأيضاً فإن
الأعراض تنسب
إلى الوحدة
والكثرة، وهذه، كما سنبين
لك، كلها
أعراض. والعرض
وإن كان في عرض
فهماً جميعاً
معاً في موضوع، والموضوع بالحقيقة
هو الذي
يقيمها
جميعاً، وهو
قائم بنفسه.
ثم قد يجوز
كثير ممن يدعي
المعرفة أن
يكون شيء من
الأشياء
جوهراً وعرضاً
معا بالقياس
إلى شيئين، فيقول:
إن الحرارة
عرض في غير
جسم النار،
لكنها في جملة
النار ليست
بعرض لأنها موجودة
فيه كجزء،
وأيضاً ليس
يجوز رفعها عن
النار،
والنار تبقى،
فإذن وجودها
في
النار
ليس وجود
العرض فيها،
فإذ لم يكن
وجودها فيها
وجود العرض،
فوجودها فيها وجود الجوهر.
وهذا غلط
كبير، وقد
أشبعنا
الصفحة :
31
القول
فيه في أوائل
المنطق، وإن
لم يكن ذلك موضعه،
فإنهم إنما غلطوا
فيه هناك. فنقول: قد
علم، فيما
سلف، أن بين
المحل
والموضوع
فرقاً، وأن
الموضوع يعنى
به ما صار بنفسه
ونوعه قاماً،
ثم صار سبباً
لأن يقوم به
شيء
فيه
ليس كجزء منه.
وأن المحل كل شيء يحله
شيء فيصير
بذلك الشيء
بحال ما، فلا يبعد أن
يكون شيء
موجوداً في
محل
ويكون
ذلك المحل لم
يصر بنفسه
نوعاً قائماً كاملاً
بالفعل، بل
إنما تحصل
قوامه من ذلك الذي
حله وحده، أو
مع شيء آخر،
أو
أشياء
أخرى اجتمعت،
فصيرت ذلك
الشيء موجوداً بالفعل،
أو صيرته
نوعاً بعينه. وهذا
الذي يحل هذا
المحل يكون لا
محالة موجوداً
لا
في
الموضوع. وذلك
لأنه ليس يصلح أن
يقال: إنه في
شيء، إلاّ في
الجملة، أو في المحل،
وهو في الجملة
كجزء، وكان
الموضوع ما
يكون فيه
الشيء، وليس
كجزءمنه، وهو
في
المحل
ليس كشيء حصل
في
شيء،
ذلك الشيء
قائم بالفعل
نوعاً، ثم
يقيم الحال
فيه؛ بل هذا المحل
جعلناه إنما يقوم
بالفعل
بتقويم ما
حله، وجعلنا
إنما يتم له
به نوعيته إذا كانت
نوعيته إنما تحصل
أو تصير له
نوعية
باجتماع
أشياء جملتها
يكون ذلك
النوع. فبين أن بعض ما في
المحل ليس في
الموضوع. وأما
إثبات هذا الشيء
الذي هو في
محل دون موضوع، فذلك علينا
إلى قريب.
وإذا
أثبتناه، فهو
الشيء الذي
يخصه في مثل
هذا
الموضوع بإسم
الصورة، وإن
كنا قد نقول
لغيره أيضاً
صورة باشتراك
الأسم. وإذا
كان
الموجود
لا في الموضوع
هو المسمى
جوهراً، فالصورة
أيضاً جوهر.
فأما المحل
الذي لا يكون في محل
آخر فلا يكون
في موضوع لا
محالة، لأن كل
موجود في
موضوع فهو موجود في محل ولا
ينعكس. فالمحل
الحقيقي
أيضاً جوهر،
وهذا المجتمع
أيضاً جوهر. وقد
عرفت من الخواص
التي لواجب
الوجود أن
واجب الوجود
لا يكون إلاّ
واحداً، وأن ذا
الأجزاء أو المكافئ
لوجوده لا
يكون واجب
الوجود، فمن
هذا يعرف أن
هذا مركب، وهذه
الأجزاء كلها في
أنفسها،
ممكنة
الوجود، وأن
لها لا محالة
سبباً يوجب وجودها.
فنقول أولاً:
إن كل جوهر فإما
أن يكون
جسماً، وإما
أن يكون غير
جسم، فإن كان غير
جسم فإما أن
يكون جزء جسم، وإما
أن لا يكون
جزء جسم، بل
يكون مفارقاً
للأجسام
بالجملة. فإن
كل جزء جسم فإما أن
يكون صورته،
وإما أن يكون مادته.
وإن كان
مفارقاً ليس
جزء جسم فإما
أن
تكون
له علاقة تصرف
ما في الأجسام بالتحريك
ويسمى نفساً،
أو يكون
متبرئاً عن المواد من كل
جهة ويسمى
عقلاً. ونحن نتكلم
في إثبات كل
واحد من هذه
الأقسام.
الصفحة :
32
فصل
في تحقيق
الجوهر
الجسماني وما
يتركب منه وأول
ذلك
معرفة
الجسم وتحقيق ماهيته.
أما
البيان أن
الجسم جوهر
واحد متصل
وليس مؤلفاً من
أجزاء لا
تتجزأ، فقد فرغنا
منه، وأما
تحقيقه
وتعريفه فقد
جرت العادة
بأن
يقال:
إن الجسم جوهر
طويل عريض عميق، فيجب
أن ينظر في
كيفية ذلك.
لكن كل واحد من
ألفاظ الطول
والعرض
والعمق يفهم منه
أشياء مختلفة.
فتارة يقال:
طول للخط كيفما كان،
وتارة يقال
طول لأعظم
الخطين المحيطين
بالسطح
مقداراً،
وتارة يقال طول
لأعظم
الأبعاد
المختلفة
الممتدة المتقاطعة
كيف كانت خطاً
أو غير خط،
وتارة يقال طول
للبعد
المفروض بين
الرأس ومقابله من
القدم أو
الذنب من
الحيوان. واما العرض
فيقال للسطح
نفسه، ويقال
لأنقص البعدين
مقداراً،
ويقال للبعد
الواصل بين اليمين
واليسار.
والعمق أيضاً
قد يقال لمثل البعد
الواصل بين
سطحين، وقد
يقال له مأخوذاً
ابتداء من
فوق، حتى إن
ابتدأ من أسفل سمي
سمكاً. فهذه
هي الوجوه المشورة في
هذا. وليس يجب
أن يكون في كل
جسم خط بالفعل،
فإن الكرة ليس
فيها خط بالفعل
البتة ولا
يتعين فيها
المحور ما لم
تتحرك؛ وليس من شرط
الكرة في أن
تصير جسماً أن
تكون متحركة
حتى يظهر فيها
محوراً أو خط آخر.
فإنها تتحقق
جسماً بما يحقق
الجسمية، ثم
يعرض لها أو
يلزمها
الحركة. وأيضاً الجسم
ليس يجب أن يكون
فيه
من
حيث هو جسم
سطح، فإنه
إنما يجب فيه
من حيث يكون متناهياً،
وليس يحتاج في تحققه
جسماً
ومعرفتنا
إياه جسماً
إلى أن يكون
متناهياً، بل
التناهي عارض
لازم له، ولذلك
لا يحتاج إلى
تصوره جسم حين
يتصور الجسم.
ومن تصور جسماً غير
متناه فلم يتصور
جسماً لا
جسماً، ولا
يتصور عدم
المتناهي
إلاّ المتصور جسماً.
لكنه أخطأ كمن
قال: إن الجسم
آلة، فقد أخطأ
في التصديق
ولم يخطئ في
تصور بسيطة وهما الموضوع
والمحمول. ثم
إن كان لا بد
للجسم في تحققه
جسماً أن تكون
له
سطوح،
فقد
يكون
جسم محيط به
سطح واحد وهو
الكرة. وليس
أيضاً من شرط الجسم
في أن يكون جسماً أن
تكون له أبعاد
متفاضلة، فإن
المكعب أيضاً
جسم مع أنه
محاط بحدود ستة، ومع ذلك
ليس فيه أبعاد
متفاضلة حتى
يكون له طول
وعرض وعمق
بأحد المعاني.
ولا
أيضاً
يتعلق كونه
جسماً بأن
يكون موضوعاً
تحت السماء،
حتى تعرض له
الجهات لأجل جهات
العالم، ويكون
له طول وعرض
وعمق بمعنى
آخر، وإن كان
لا بد من أن
يكون إما سماء وإما في
الصفحة :
33
سماء.
فبين من هذا
أنه ليس يجب
أن يكون في
الجسم ثلاثة أبعاد
بالفعل على
الوجوه المفهومة
من البعاد
الثلاثة حتى
يكون جسماً بالفعل. فإذا
كان الأمر على
هذا، فكيف يمكننا أن
نضطر أنفسنا
إلى فرض أبعاد
ثلاثة بالفعل،
موجودة في
الجسم، حتى
يكون جسماً، بل
معنى هذا
الرسم للجسم
أن الجسم هو الجوهر
الذي يمكنك أن
تفرض فيه
بعداً كيف شئت
ابتداء،
فيكون ذلك
المبتدأ هو الطول،
ثم يمكنك أن
تفرض أيضاً
بعداً آخر مقاطعاً
لذلك البعد
على قوائم، فيكون ذلك
البعد الثاني
هو العرض،
ويمكنك أن
تفرض فيه بعداً
ثالثاً
مقاطعاً
لهذين البعدين
على قوائم
تتلاقى
الثلاثة على
موضع واحد، ولا
يمكنك أن تفرض
بعداً عمودياً
بهذه الصفة
غير هذه
الثلاثة. وكون
الجسم بهذه الصفة
هو الذي يشار
لأجله إلى الجسم
بأنه طويل
عريض عميق،
كما يقال: إن
الجسم هو المنقسم في
جميع الأبعاد.
وليس يعني أنه
منقسم بالفعل
مفروغ عنه، بل
على أنه من شأنه أن
يفرض فيه هذا
القسم. فهكذا
يجب أن يعرف
الجسم، وهو أنه
الجوهر الذي
كذا
صورته،
وهو
بها
هو ما هو، ثم
سائر الأبعاد
المفروضة فيه
بين نهاياته
ونهاياته أيضاً وأشكاله
وأوضاعه أمور
ليست مقومة
له، بل هي تابعة
لجوهره. وربما
لزم بعض الأجسام
شيء منها أو
كلها، وربما
لم يلزم بعض الأجسام
شيء منها أو
بعضها. ولو أنك أخذت شمعة
فشكّلتها
بشكل افترض
لها ابعاد بالفعل
بين تلك
النهايات
معدودة مقدرة محدودة، ثم
إذا غيرت ذلك
الشكل لم يبق
شيء منها
بالفعل
واحداً
بالشخص بذلك الحد وبذلك
القدر، بل
حدثت أبعاد
أخرى مخالفة
لتلك بالعدد،
فهذه الأبعاد هي التي
من باب الكم. فإن
اتفق أن كان
جسماً،
كالفلك
مثلاً، تلزمه
أبعاد واحدة، فليس
ذلك له بما هو جسم، بل
لطبيعة أخرى
حافظة
لكمالاته
الثانية. فالجسمية بالحقيقة
صورة الإتصال القابل
لما قلناه من
فرض الأبعاد
الثلاثة. وهذا
المعنى غير
المقدار وغير
الجسمية التعليمية.
فإن هذا الجسم
من حيث له هذه
الصورة لا يخالف
جسماً آخر
بأنه أكبر أو أصغر،
ولا يناسبه
بأنه مساوٍ أو
معدود به وعاد
له
أو
مشارك أو
مباين، وإنما
ذلك له من حيث هو
مقدّر ومن حيث
جزء منه يعده.
وهذا الإعتبار
له غير اعتبار
الجسمية التي ذكرنا.
وهذه الأشياء
قد شرحناها لك
بوجه أبسط في
موضع آخر
يحتاج أن
تستعين به.
الصفحة :
34
ولهذا
ما يكون الجسم
الواحد
يتخلخل
ويتكاثف بالتسخين والتبريد،
فيختلف مقدار جسميته.
وجسميته التي
ذكرناها لا
تختلف ولا تتغير، فالجسم
الطبيعي جوهر
بهذه الصفة. وأما
قولنا: الجسم
التعليمي.
فإما أن يقصد
به
صورة
هذا من حيث هو
محدد، مقدّر، مأخوذ
في النفس، ليس
في الوجود، أو
يقصد به مقدار ما ذو
اتصال أيضاً
بهذه الصفة من حيث له
اتصال محدود
مقدر كان في
نقش أو في مادة.
فالجسم
التعليمي
كأنه عارض في ذاته
لهذا الجسم
الذي بيناه،
والسطح نهايته،
والخط نهاية
نهايته.
وسنوضح القول
فيما بعد فيها،
وننظر في أن
الإتصال كيف يكون
لها وكيف يكون
للجسم
الطبيعي.
فنقول أولاً: إن
منطباع
الأجسام أن تنقسم
ولا يكفي في إثبات
ذلك
المشاهدات؛
فإن لقائل أن يقول: إن
الأجسام المشاهدة
ليس شيء منها
هو جسم واحد
صرفاً، بل هي
مؤلفة من
أجسام، وإن
الأجسام الوحدانية
غير محسوسة،
وأنها لا يمكن
أن تنقسم بوجه
من الوجوه.
وقد
تكلمنا
على
إبطال
هذا
بالبيانات
الطبيعية،
وخصوصاً على
أسهل المذاهب
نقضاً، وهو مذهب من خالف
بينها
بالأشكال. فإن
قال قائل: إن
طبائعها و
أشكالها
متشاكلة.
فحينئذ يجب أن يبطل
مذهبه ورأيه
بما أقول.
فنقول: إن جعل
أصغر الأجسام
لا قسمة فيه
لا
بالقوة
ولا بالفعل
حتى كان
كالنقطة
جملة، فإن ذلك
الجسم يكون لا
محالة حكمه
حكم
النقطة
في امتناع
تأليف الجسم
المحسوس عنه،
وإن لم يكن كذلك،
بل كان في
ذاته بحيث يمكن أن
يفرد منه قسم
عن قسم. لكنه
ليس يطيع الفصل المفرق
بين القسمين اللذين
يمكن فرضهما فيه
توهماً.
فنقول: لا
يخلو إما أن
يكون حال ما
بين القسم والقسم
مخالفة لحال ما بين
الجزء والجزء
في أن الجزئين
لا يلتحمان
وأن القسمين لا
يفترقان،
أمراً لطبيعة
الشيء
وجوهره، أو من
سبب من خارج
الطبيعة
والجوهر. فإن كان
سبباً من خارج عن
الطبيعة
والجوهر فإما
أن يكون سبباً
يتقوم به
الطبيعة والجوهر
بالفعل
كالصورة للمادة
والمحل
للعرض، أو
سبباً لا
يتقوم به. فإن
كان
سبباً
لا يتقوم به
فجائز من حيث
الطبيعة
والجوهر أن
يكون بينهما
إلتئام عن افتراق
وافتراق عن
إلتئام،
فتكون هذه
الطبيعة
الجسمية
باعتبار
نفسها قابلة للإنقسام
و إنا لا
تنقسم بسبب من
خارج. وهذا القدر
يكفينا فيما
نحن بسبيله. وأما إن
كان ذلك السبب
يقوم به كل
واحد من الأجزاء
إما تقوماً
داخلاً في
طبيعته وماهيته،
أو تقوماً في
وجوده بالفعل
غير داخل في ماهيته
مختلفاً فيه
فيعرض أول ذلك أن هذه
الأجسام
مختلفة
الجواهر.
الصفحة :
35
وهؤلاء
لا يقولون به.
وثانياً أن
طبيعة الجسمية
التي لها لا يكون
مستحيلاً
عليها ذلك وإنما
يستحيل ذلك
عليها من حيث
صورة تنوعها،
ونحن لا نمنع ذلك،
ويجوز أن
يقارن الجسمية
شيء يجعل ذلك
الجسم قائماً
نوعاً لا يقبل القسمة
ولا الإتصال
بغيره؛ وهذا قولنا
في الفلك.
والذي يحتاج
إليه ههنا هو
أن
تكون
طبيعة
الجسمية لا
تمنع ذلك بما هي
طبيعة
الجسمية.
فنقول أولاً: قد
تحققنا أن الجسمية
من حيث هي
جسمية ليست
غير
قابلة
للإنقسام،
ففي كلطباع
الجسمية أن تقبل
الإنقسام.
فيظهر من هذا
أن صورة الجسم والأبعاد
قائمة في شيء.
وذلك أن هذه الأبعاد
هي الإتصالات
أنفسها أو شيء
يعرض للإتصال،
على ما
سنحققها،
وليست أشياء يعرض
لها الإتصال. فإن
لفظ الأبعاد
إسم لنفس الكميات
المتصل لا
للأشياء التي تعرض
لها الإتصال.
والشيء الذي
هو الإتصال نفسه
أو
المتصل
بذاته
فمستحيل أن يبقى هو
بعينه، وقد
يظل الإتصال.
فكل إتصال بُعد
إذا
انفصل
بطل ذلك البعد
وحصل بعدان
آخران. وكذلك
إذا حصل
إتصال، أعني
الإتصال بالمعنى الذي هو
فصل لا عروض، وقد
بينا هذا في
موضع آخر. فقد
حدث بعد آخر
وبطل كل واحد
مما
كان
بخاصيته. ففي الأجسام
إذن شيء موضوع
للإتصال
والإنفصال، ولما
يعرض للإتصال
من
المقادير المحدودة.
وأيضاً فإن
الجسم من حيث
هو جسم له صورة
الجسمية، فهو
شيء
بالفعل؛ ومن حيث
هو مستعد أي
استعداد شئت
فهو بالقوة؛
ولا يكون الشيء
من حيث هو بالقوة شيئاً هو من
حيث هو بالفعل
شيئاً آخر،
فتكون القوة
للجسم لا من
حيث له الفعل. فصورة
الجسم تقارن
شيئاً آخر غير
له في أنه صورة،
فيكون الجسم
جوهراً
مركباً من شيء عنه له
القوة، ومن
شيء عنه له
الفعل. فالذي
له به الفعل
هو صورته،
والذي عنه بالقوة
هو مادته، وهو
الهيولي.
ولسائل أن يسأل
ويقول:
فالهيولي
أيضاً مركبة، وذلك لأنها
في نفسها
هيولي وجوهر
بالفعل، وهي
مستعدة أيضاً.
فنقول: إن جوهر الهيولي
وكونها
بالفعل هيولي
ليس شيئاً آخر
إلاّ أنه جوهر
مستعد لكذا، والجوهرية التي
لها تجعلها
بالفعل شيئاً
من الأشياء، بل
تُعدها لأن
تكون بالفعل شيئاً بالصورة.
وليس معنى
جوهريتها
إلاّ أنها أمر
ليس في موضوع.
فالإثبات
ههنا هو أنه أمر، وأما
أنه ليس في
موضوع فهو
سلب، "وأنه
أمر" ليس يلزم
منه أن يكون شيئاً
معيناً بالفعل لأن
هذا عام، ولا
يصير الشيء
بالفعل شيئاً
بالأمر العام
ما
لم
يكون له فصل يخصه
وفصله أنه
مستعد لكل
شيء، فصورته
التي تظن له
هي أنه مستعد قابل.
الصفحة :
36
فإذن
ليس ههنا
حقيقة
للهيولي تكون
بها بالفعل،
وحقيقة أخرى بالقوة؛
إلاّ أن يطرأ عليه
حقيقة من
خارج، فيصير
بذلك الفعل
وتكون، في
نفسها واعتبار
وجود ذاتها،
بالقوة. وهذخ
الحقيقة هي
الصورة. ونسبة
الهيولي إلى هذين المعنيين
أشبه بنسبة
البسيط إلى ما هو
جنس وفصل من
نسبة المركب
إلى ما هو
هيولي وصورة. فقد
بان من هذا أن
صورة الجسمية من
حيث هي صورة
الجسمية
محتاجة إلى مادة،
ولأن طبيعة
الصورة
الجسمية في نفسها
من حيث هي
صورة جسمية لا
تختلف. فإنها
طبيعية واحدة
بسيطة، ليس
يجوز أن تتنوع
بفصول تدخل
عليها بما هي
جسمية، فإن دخلتها
فصول تكون
أموراً تنضاف
إليها من خارج،
وتكون أيضاً
إحدى الصور المقارنة
للمادة، ولا
يكون حكمها
معها حكم الفصول الحقيقية.
وبيان هذا هو
أن
الجسمية
إذا خالفت
جسمية الأخرى
فيكون لأجل أن
هذه حارة وتلك
باردة، أو هذه
لها
طبيعة
فلكية وتلك
لها طبيعة
أرضية. وليس
هذا كالمقدار
الذي ليس هو في
نفسه شيئاً
محصلاً ما لم
يتنوع بأن
يكون خطاً أو
سطحاً أو
جسماً، وكالعدد
الذي هو ليس شيئاً
محصلاً ما لم
يتنوع أثنين
أو ثلاثة أو
أربعة. ثم إذا تحصل لا
يكون تحصيله بأن
ينضاف إليه
شيء من خارج،
وتكون الطبيعة
الجنسية
كالمقدارية أو العددية
دونها طبيعة
قائمة مشار
إليها تنضاف
إليها طبيعة
أخرى فتتنوع
بها؛ بل تكون طبيعة
الإثنينية
نفسها هي
العددية التي
تحمل على
الإثنينية
وتختص بها، والطولية
نفسها هي
المقدارية
التي تحمل عليها
وتختص بها.
وأما ههنا فلا
يكون كذلك، بل الجسمية
إذا أضيف
إليها صورة
أخرى لا تكون تلك
الصورة التي
تظن فصلاً والجسمية باجتماعها
جسمية، بل
تكون الجسمية
أحدهما متحصلة
في نفسها
متحققة. فإنا نعني
ههنا بالجسمية
التي كالصورة
لا التي
كالجنس، وقد عرفت
الفرق بينهما في كتاب
البرهان، وسيأتيك
ههنا إيضاح
وبيان لذلك.
على أنك قد تحققت
فيما تبين لك الفرق
بينهما، ما كان
كالمقدار
يجوز أن تكون
أنواعه تختلف
بأمور لها في ذاتها؛
والمقدار
المطلق لا يكون له في
ذاته شيء
منها، وذلك
لأن المقدار
المطلق لا تتحصل له
ذات متقررة
إلاّ أن تكون
خطاً أو
سطحاً، فإذا
تحصل خطاً أو
سطحاً جاز أن يكون
للخط لذاته،
مخالفة للسطح بفصل
هو محصل
لطبيعة
المقدارية،
خطاً أو سطحاً. وأما
الجسمية التي
نتكلم فيها فهي في
نفسها طبيعة
محصلة، ليس
تحصل نوعيتها
بشيء ينضم
إليها، حتى لو
توهمنا أنه لم ينضم
إلى الجسمية
معنى، بل كانت جسمية
لم يكون
متحصلاً في
أنفسنا إلاّ
مادة
الصفحة :
37
وإتصال
فقط. وكذا إذا
أثبتنا مع
الإتصال شيئاً
آخر فليس لأن الإتصال
نفسه لا يتحصل لنا
إلاّ بإضافته
إليه وقرنه
به، بل بحجج
أخرى تبين أن الإتصال
لا يوجد
بالفعل وحده. فليس
أن لا يوجد
الشيء بالفعل
موجوداً هو أن
لا
تتحصل
طبيعته، فإن
البياض والسواد كل
شيء منهما
متحصل
الطبيعة معنى
متخصصاً، أتم تخصيصه
الذي هو في
ذاته؛ ثم لا يجوز أن
يوجد بالفعل
إلاّ في مادة.
وأما المقدار
مطلقاً فيستحيل
أن يتحصل
طبيعة مشاراً
إليها إلاّ أن
يتحصل
بالضرورة خطاً أو
سطحاً، حتى
يصير جائزاً
أن يوجد، لا أن
المقدار يجوز
أن يوجد
مقداراً، ثم يتبعه أن
يكون خطاً أو
سطحاً على
سبيل أن ذلك شيء لا
يوجد الأمر
دونه بالفعل. وإن
كان متحصل
الذات، فإن
هذا ليس كذلك،
بل
الجسمية
تتصور أنها
وجدت بالأسباب
التي لها أن
توجد بها
وفيها وهي جسمية
فقط بلا زيادة،
والمقدار لا يتصور
أنه وجد
بالأسباب
التي له أن
يوجد بها وفيها
وهو مقدار فقط بلا
زيادة. فذلك
المقدار
لذاته يحتاج
إلى فصول حتى
يوجد شيئاً
متحصلاً،
وتلك الفصول
ذاتيات له لا تحوجه
إلى أن يصير
لحصولها غير
المقدار.
فيجوز أن يكون مقداراً
يخالف مقداراً في
أمر له
بالذات. وأما
صورة الجسمية من
حيث هي جسمية
فهي
طبيعة
واحدة بسيطة
محصلة لا
اختلاف فيها،
ولا تخالف
مجرد صورة
جسمية لمجرد
صورة جسمية بفصل داخل في
الجسمية، وما
يلحقها إنما
يلحقها على
أنها شيء خارج
عن طبيعتها. فلا يجوز إذن أن
تكون جسمية
محتاجة إلى
مادة، وجسمية
غير محتاجة
إلى مادة. واللواحق الخارجية
لا تغنيها عن
الحاجة إلى
المادة بوجه
من الوجوه،
لأن الحاجة
إلى
المادة
إنما تكون
للجسمية ولكل
ذي مادة لأجل ذاته،
وللجسمية من
حيث هي جسمية
لا
من حيث هي
جسمية مع
لاحق. فقد بان
أن الأجسام
مؤلفة من مادة
وصورة.
الصفحة :
38
فصل
في أن المادة
الجسمانية لا
تتعرى عن الصورة.
ونقول
الآن إن هذه المادة
الجسمانية يستحيل
أن توجد
بالفعل
متعرية عن
الصورة. ومما
يوضح ذلك بسرعة أنا
بينا أن كل
وجود يوجد فيه
شيء بالفعل
محصل قائم،
وأيضاً استعداد لقبول
شيء آخر، فذلك
الوجود مركب من مادة
وصورة،
والمادة
الأخيرة غير
مركبة من مادة وصورة.
وأيضاً إنها
فارقت الصورة الجسمية
فلا يخلو إما
أن يكون لها
وضع
وحيز
في الوجود
الذي لها
حينئذ، أو لا
يكون، فإن كان لها
وضع وحيز وكان
يمكن أن تنقسم فهي
لا محالة ذات
مقدار وقد فرض
لا مقدار لها، وإن لم
يمكن أن تنقسم
ولها وضع فهي لا
محالة نقطة
ويمكن أن
ينتهي إليها خط، ولا
يجوز أن تكون
مفردة الذات منحازة،
على ما علمت
في مواضع.
وأنا إن كان
هذا
الجوهر
لا ضع له ولا
إليه إشارة، بل
هو كالجواهر
المعقولة، لم
يخل إما أن يحل
فيه
البُعد
المحصل بأسره دفعة،
أو يتحرك هو
إلى كمال
مقداره
تحركاً على
الإتصال. فإن حل فيه
المقدار دفعة وحصل
لا محالة مع
تقدره في حيز
مخصوص فيكون
قد صادفه
المقدار مختصاً
بحيز، وإلاّ لم
يكن حيز أولى
به من حيز،
فقد صادفه
المقدار حيث
انضاف إليه، فيكون
لا
محالة
قد صادفه وهو
في الحيز الذي
هو فيه، فيكون
ذلك الجوهر
متحيزاً، إلاّ أنه عساه أة
لا يكون
محسوساً، وقد
قد فرض غير
متحيز البتة،
هذا خلف. ولا
يجوز أن يكون
التحيز قد حصل
له دفعة من
قبول
المقدار، لأن
المقدار إن
وافاه وليس هو
في
حيز
كان المقدار
يقترن به لا
في حيز، ولم
يكن يوافيه في
حيز مخصوص من
الأحياز المختلفة
المحتملة له،
فيكون حينئذ
لا حيز له،
وهذا محال؛ أو
يكون في كل
حيز
يمكن أن يكون
له لا يخصصه
ببعضه، وهذا
أيضاً محال. وهذا
يظهر ظهوراً
أكثر في توهمنا الهيولي
مدرة ما قد
تجردت ثم حصل
حصل فيها صورة
تلك المدرة،
فلا يجوز أن تحصل
فيها وليست في
حيز، ولا يجوز
أن تكون تلك
المدرة تحصل
في كل حيز هو
بالقوة حيز طبيعي للمدرة،
فإن المدرية
لا تجعلها
شاغلة لكل حيز
لنوعها، ولا
تجعلها أولى بجهة
من
حيزها
دون جهة، ولا
يجوز أن توجد
إلاّ في جهة
مخصوصة من
جملة كلية الحيز، ولا
يجوز أن تتحصل في
جهة مخصوصة،
ولا مخصص له
بها من الأحوال.
إذ ليس إلاّ
اقتران صورة بمادة،
وذلك مشترك
الإحتمال
للحصول في أي
جهة كانت من
الجهات الطبيعية
لأجزاء الأرض. وقد
علمت أن مثل
هذا الحصول في
جهة من الحيز
إنما يكون فيما يكون
بسبب وقوعه بالقرب
منه بقسر قاسر
خصص ذلك القرب
باتجاهه إلى
ذلك
المكان
بعينه
بالحركة المستقيمة
أو حدوثه في
الإبتداء
هناك. وبذلك القرب
الصفحة :
39
أو
وقوعه فيه
بنقل ناقل
لذلك تخصص،
وقد أشبع لك
الكلام في هذا.
فالهيولي
التي للمدرة لا
تختص بعد
التجريد، لم
ليس صورة
للمدرية بجهة
إلاّ أن يكون لها
مناسبة مع تلك الجهة
لتلك
المناسبة لا
ليس لكونها
هيولي أولاً؛
ولا
لنفس
إكتسابها
بالصورة ثانياً
تخصصت بها؛
وتلك
المناسبة وضع
ما. وكذلك إن
كان
قبوله
المقدار
بكمله لا دفعة، بل هو
على انبساط،
وعلى أن كل ما
من شأنه أن ينبسط، فله
جهات، وكل ما
له
جهات
فهو ذو وضع
فيكون ذلك
الجوهر ذا وضع
وحيز، وقيل لا وضع
له ولا حيز،
وهذا خلف. والذي أوجب
هذا كله
فَرضُنا أنه
يفارق الصورة
الجسمية،
فيمتنع أن
يوجد بالفعل
إلاّ متقوماً
بالصورة
الجسمية،
وكيف تكون ذاتٌ
لا حيز لها في
القوة ولا في
الفعل تقبل الكم؟
فتبين أن
المادة لا تبقى
مفارقة.
وأيضاً فإنها
لا تخلو إما
أن يكون
وجودها وجود قابل،
فيكون دائماً قابلاً
لشيء لا يعرى
عن قبوله لها،
وإما أن يكون
لها وجود خاص متقوم،
ثم يلحق به أن يقبل
بوجودها
الخاص
المتقوم غير
ذي كم وغير ذي
حيز، فيكون
المقدار الجسماني
هو الذي عرض
له وصير ذاته
بحيث له بالقوة
أجزاء بعد ما
آن
لذاته
أن
تقوّم
جوهراً في
نفسه غير ذي
حيز ولا كمية
ولا قبول
قسمة. فإن كان
قبوله الخاص الذي يتقوم
به لا يبقى
عند التكثر
أصلاً، فيكون
ما هو متقوم
بأنه لا حيز
له،
ولا
ينقسم
بالوهم،
والعرض يعرض
له أن يبطل
عنه ما يتقوم
به الفعل
لورود عارض عليه، وإن
كانت تلك
الوحدانية لا
لما تقوّم به
الهيولي؛ بل
لأمر آخر.
ويكون ما فرضناه وجوداً
خاصاً به
يتقوم، فيكون
حينئذ للمادة صورة
عارضة بها
تكون واحدة بالقوة والفعل،
وصورة أخرى
عارضة بها
تكون تكون غير
واحدة بالقوة
والفعل. فيكون بين الأمرين
شيء مشترك، هو
قابل
للأمرين، من
شأنه أن يصير
مرة وليس في
قوته أن ينقسم ومرة أخرى
وفي قوته أن
ينقسم أعني
القوة القريبة
التي لا واسطة
لها.
فلنفرض
الآن هذا الجوهر
وقد صار
بالفعل
اثنين، وكل
واحد منهما
بالعدد غير الآخر،
وحكمه أنه يفارق الصورة
الجسمانية،
فليفارق كل
واحد منهما الصورة الجسمانية،
فيبقى كل واحد منهما
جوهراً
واحداً
بالقوة
والفعل.
ولنفرضه
بعينه أنه لم
ينقسم إلاّ
أنه أزيل عنه الصورة
الجسمانية
حتى يبقى
جوهراً
واحداً بالقوة
والفعل، فلا
يخلو إما أن
يكون بعينه هذا
الذي يبقى
جوهراً وهو
غير جسم، هو بعينه
مثل الذي هو
كجزئه الذي
بقي
كذلك
مجرداً أو
يخالفه؛ فإم
خالفه فلا يخلو إما أن
يكون لأن هذا
بقي وذلك
الصفحة :
40
عُدم،
أو بالعكس، أو
يكون كلاهما
قد بقيا - ولكن
تختص بهذا كيفية أو
صورة لا توجد إلاّ
لذلك - أو
يختلفان
بالتفاوت بعد
الإتفاق في
المقدار أو الكيفية
أو غير ذلك. فإن بقي
أحدهما وعُدم
الآخر،
والطبيعة
واحدة،
متشابهة، وإنما
أعدَم أحدهما
رَفعُ الصورة
الجسمانية
فيجب أن يعدم
الآخر ذلك بعينه.
وإن
اختص
بهذا كيفية،
والطبيعة واحدة ولم
تحدث حالة
إلاّ مفارقة
للصورة الجسمانية، ولم
يحدث مع هذه حالة
إلاّ ما يلزم هذه
الحالة، فيجب
أن يكون حال
الآخر كذلك. فإن قيل:
إن الأولين
وهما اثنان متحدان
فيصيران
واحداً؛
فنقول: ومحال
أن يتحد جوهران،
لأنهما إن
اتحدا وكل
منهما موجود فهما
اثنان لا
واحد، وإن
اتحدا وأحدهما
معدوم والآخر
موجود
فالمعدوم كيف يتحد
بالموجود؟
وإن عدما
جميعاً باالإتحاد
وحدث شيء ثالث
منهما فهما
غير متحدين بل فاسدين،
وبينهما وبين
الثالث مادة
مشتركة،
وكلامنا في
نفس المادة لا
في شيء ذي مادة. وأما
إن إختلفا بالتفاوت
في المقدار أو
غير ذلك، فيجب
أن يكونا وليس
لهما صورة جسمانية
ولهما صورة
مقدارية، وهذا
خلف. وأما إن
لا يختلفا
بوجه من
الوجوه، فيكون حينئذ
حكم
الشيء
لو لم ينفصل
عنه ما هو
غيره، هو حكمه
بعينه وقد
انفصل عنه
غيره، وحكمه مع غيره
وحكمه وحده
ومن كل جهة
حكماً
واحداً، هذا
خلف. أعني أن
يكون حكم بعض الموضوع
وحكم كله
واحداً من كل
جهة، أعني أن
يكون لو كان
الشيء لن ينقص
بأن
يؤخذ منه شيء
كما إذا أخذ
منه شيء،
وحكمه ولم يضف
إليه شيء حكمه
وقد أضيف إليه شيء. وبالجملة
كل شيء يجوز
في وقت من
الأوقات أن يصير
اثنين، ففي
طباع ذاته استعداد للإنقسام
لا يجوز أن
يفارقه،
وربما يمتنع
عنه بعارض غير
استعداد
الذات، وذلك الاستعداد
محال إلاّ
بمقارنة
المقدار
للذات. فبقي
أن المادة لا
تتعرى عن الصورة الجسمية.
ولأن هذا
الجوهر إنما
صار كمّاً بمقدار
حله،فليس بكم
ذاته، فليس يجب أن تختص
ذاته بقبول
قطر بعينه دون
قطر وقدر دون
قدر، وإن كانت
الصورة الجسمية
واحدة ونسبة ما هو
غير مجتزئ ولا
مكمّم في
ذاته، بل إنما
يتجزأ ويتكمم بغيره
إلى أي مقدار يجوز
وجوده نسبة
واحدة، وإلاّ
فله مقدار في
ذاته يطابق ما يساويه
دون ما يفضل عليه.
فبين من هذا
أنه يمكن أن
تصغر المادة
بالتكاثف
وتكبر بالتخلخل،
وهذا محسوس بل يجب
أن يكون
الصفحة :
41
تعين
المقدار عليها
بسبب يقتضي في
الوجود ذلك
المقدار. وذلك لسبب
لايخلو إما أن يكون
أحد الصور
والأعراض
التي تكون في
المادة، أو
سبباً من خارج. فإن
كان سبباً من خارج
فإما أن يفيد
ذلك المقدار
المقدر بتوسط أمر
آخر أو بسبب
استعداد خاص.
فيكون حكم هذا
وحكم القسم
الأول واحداً
يرجع إلى أن
الأجسام لإختلاف
أحوالها
تختلف مقاديرها.
وإما أن لا
تكون الإفادة
بسبب ذلك وبتوسطه، فتكون
الأجسام
متساوية الإستحقاق
للكم
ومتساوية
الأحجام،
وهذا كاذب.
ومع ذلك أيضاً فليس
يجب أن يصدر
عن
ذلك
السبب حجم
بعينه دون حجم
إلاّ لأمر،
وأعني بذلك الأمر
شرطاً ينضاف
إلى المادة به
تستحق
المقدار
المعين لا
لنفس كونها
مادة ولا أيضاً
لكونها مادة
لها مصور بالكمية،
بل يكون
للمادة شيء
لأجله تستحق
أن يصورها المصور
بذلك الحجم
والكمية. ويجوز أن
تختلف بالنوع
مطلقاً،
ويجوز أن تختلف بالأشد
والأضعف ليس
بالنوع
مطلقاً، وإن كان
الأشد والأضعف
قد يقارب
الإختلاف في النوع،
لكن بين
الإختلاف
بالنوع مطلقاً
وبين
الإختلاف
بالأشد
والأضعف مخالفة معلومة
عند
المعتبرين
فقد علم ان الهيولي قد
تتهيأ بعينها
لمقادير
مختلفة وهذا أيضاً
مبدأ
للطبيعيات.
وأيضاً فإن كل جسم
يختص لا محالة
بحيز من
الأحياز، و
ليس
له
الحيز الخاص
به بما هو
جسم، وإلاّ لكان كل
جسم كذلك، فهو
إذن لا محالة
مختص به لصورة ما
في ذاته، وهذا
بين. فإنه إما أن يكون
غير قابل
للتشكيلات والتفصيلات
فيكون بصورة
ما صار كذلك
لأنه بما هو
جسم
قابل
له، وإما أن
يكون قابلاً لها
بسهولة أو
بعسر. وكيف ما
كان، فهو على
إحدى الصور
المذكورة في الطبيعيات.
فإذن المادة
الجسمية لا
توجد مفارقة
للصورة.
فالمادة إذن إنما
تتقوم بالفعل
بالصورة،
فإذن المادة
إذا جردت في
التوهم، فقد
فعل بها ما لا يثبت معه في
الوجود.
الصفحة :
42
فصل
في تقديم
الصورة على المادة
في مرتبة
الوجود.
فقد
صح أن المادة
الجسمانية
إنما تقوم بالفعل عند
وجود الصورة،
وأيضاً فإن
الصورة المادية ليست
توجد مفارقة
للمادة. فلا يخلو
إما أن تكون
بينهما علاقة
المضاف فلا تعقل ماهية
كل واحد منهما
إلاّ مقولة بالقياس
إلى الآخر.
وليس كذلك،
فإنا نعقل
كثيرأ من الصورة
الجسمانية،
ونحتاج إلى تكلف
شديد حتى نثبت
أن لها مادة،
وكذلك هذه المادة
نعقلها
الجوهر
المستعد، ولا نعلم من
ذلك أن ما
تستعد له يجب
أن يكون فيه منه شيء
بالفعل إلاّ
يبحث وينظر.
نعم
هي
من حيث هي
مستعدة مضافة
إلى مستعد له وبينهما
علاقة
الإضافة، لكن
كلامنا في مقايسة ما
بين ذاتيهما
دون ما يعرض
لهما من إضافة أو
يلزمهما، وقد
عرفت كيف هذا. وأيضاً
فإن كلامنا في
الحال بين
المادة وبين
الصورة من حيث
هي موجودة.
والإستعداد لا يوجب
علاقة مع شيء
هو موجود لا محالة،
وإن كان يجوز
ذلك فلا يخلو
إما أن تكون العلاقة
بينهما علاقة
ما بين العلة
والمعلول،
وإما أن تكون
العلاقة بينهما
علاقة أمرين
متكافئي
الوجود ليس أحدهما
علة ولا
معلولاً
للآخر، ولكن
لا يوجد أحدهما
إلاّ والآخر
يوجد. وكل شيئين ليس
أحدهما علة
للآخر ولا
معلولاً له ثم
بينهما هذه العلاقة
فلا يجوز أن يكون
رفع أحدهما
علة لرفع علة
الآخر من حيث
هو ذات، بل يكون أمراً
معه، أعني يكون رفعاً
لا يخلو عن أن
يكون مع رفع،
لا رفعاً موجب
رفع، إن كان ولا بد.
وقد
عرفت
الفرق بين
الوجهين، فقد
عرفت أن الشيء
الذي رفعه
علتة لرفع شيء آخر فهو علته،
فقد بان هذا
لك قبل في
مواضع على
التفصيل
وسيزداد
إيضاحاً في
خلل ما نفهمه. وأما
الآن فقد
علمت، ههنا،
أنه فرق بين
أن يقال في
الشيء: إن
رفعه علة لرفع شيء؛ وبين
أن يقال: لا بد
من أن يكون مع
رفعه رفع شيء.
فإن كان ليس
رفع
أحد
هذين الشيئين
المذكورين
علة لرفع
الآخر، بل لا
بد من أن يكون
مع رفعه إرتفاع الآخر،
فلا
يخلو
إما أن يكون
رفع المرفوع
منهما يوجب
رفع شيء ثالث غيرهما،
أو يجب عن رفع
شيء
ثالث،
حتى أنه لولا
رفع عَرض لذلك
الثالث لم يمكن رفع
هذا، أو لا
يكون شيء من
ذلك.
فإن
لم يمكن، بل
كان ليس يرتفع
هذا إلاّ مع ذلك،
وذلك إلاّ مع
هذا من غير
سبب ثالث غير طبيعتهما،
فطبيعة كل
واحد منهما متعلقة
في الوجود،
بالفعل،
بالآخر. فإما
أن
يكون
ذلك
لماهيتهما
فتكون مضافة، وقد بان
أنها ليست
مضافة؛ وإما
أن يكون في وجودهما.
وبين أن مثل
هذا لا يكون واجب
الوجود فيكون
في ماهيته
ممكن الوجود،
لكنه يصير بغيره
واجب الوجود
الصفحة :
43
فلا
يجوز البتة أن
يصير واجب
الوجود بذلك
الآخر؛ فقد
بينا هذا. فيجب أن
يصير واجب الوجود هو
وصاحبه معه في
آخر الأمر،
إذا ارتقينا
إلى
العلل
بشيء ثالث،
ويكون ذلك الشيء
الثالث، من
حيث هو علة
بالفعل لوجوب
أحدهما، لا يصح رفع
أحدهما إلاّ
برفع كونه علة
بالفعل. فيكون
هذان إنما
يرتفعان برفع سبب
ثالث، وقد
قلنا ليس
كذلك، هذا خلف. فقد بطل
هذا، وبقي
الحق أحد
القسمين الآخرين.
فإن كان
رفعهما بسبب
رفع شيء ثالث حتى
يكونا هما
معلولاه،
فلننظر كيف يمكن أن
تكون ذات كل
واحد منهما
تتعلق بمقارنة
ذات الآخر.
فإنه لا يخلو
إما أن يكون كل
واحد منهما
يجب وجوده من
العلة بواسطة
صاحبه، فيكون
كل واحد منهما
هو
العلة
القريبة
لوجوب وجود
صاحبه، وهذا
محال، فقد بان أن
هذا مستحيل
فيما سلف من أقاويلنا؛
وإما أن يكون
أحدهما بعينه
أقرب إلى هذا
الثالث،
فيصير هو
العلة الواسطة،
والثاني هو
المعلول،
ويكون الحق هو
القسم الذي قلنا:
إن العلاقة بينهما
علاقة يكون
بها أحدهما
علة الآخر والآخر
معلولاً. فأما إن كان
رفع
أحدهما
يوجب رفع ثالث
يجب عن رفعه
رفع الثاني منهما،
فقد صار أحدهما علة
العلة، وعلة العلة
علة. والأمر
يتقرر في آخره
على أن يكون
أحدهما معلولاً
والآخر علة. فلننظر
الآن أيهما
ينبغي أن تكون
العلة منهما.
فأما المادة
فلا
يجوز
أن تكون هي العلة
لوجود
الصورة، أما
أولاً: فلأن
المادة إنما
هي مادة، لأن لها قوة
القبول والاستعداد،
والمستعد بما
هو مستعد لا
يكون سبباً
لوجود ما هو
مستعد له، ولو كان سبباً
لوجب أن يوجد ذلك
دائماً له من
غير استعداد.
وأما ثانياً:
فإنه من المستحيل
أن تكون ذات
الشيء سبباً
لشيء بالفعل
وهو بعد
بالقوة؛ بل
يجب أن تكون ذاته قد
صارت بالفعل،
ثم صار سبباً
لشيء آخر، سواء
كان هذا
التقدم
بالزمان أو بالذات،
أعني ولو لم
يكن البتة
موجوداً إلاّ وهو
سبب للثاني،
وإلاّ أن يقوم
به
الثاني
بالذات،
ولذلك يكون
متقدماً
بالذات. وسواء
كان ما هو سبب
له يقارن ذاته أو يكون
مفارقاً
ذاته، فإنه
يجوز أن يكون
بعض أسباب
وجود الشيء
إنما يكون عنه وجود شيء
يكون مقارناً
لذاته، وبعض
أسباب وجود الشيء
إنما يكون عنه
وجود شيء مباين لذاته، فإن
العقل ليس
ينقبض عن
تجويز هذا. ثم
البحث يوجب
وجود القسمين جميعاً،
فإن
كانت
المادة سبباً
للصورة فيجب
أن تكون لها ذات
بالفعل أقدم
من
الصورة،
وقد منعنا هذا منعاً
ليس بناؤه على
أن ذاته لا
يمكن أن يوجد
إلاّ ملتزماً
لمقارنة
الصورة؛ بل على أن
ذاته يستحيل وجودها
أن يكون
بالفعل إلاّ بالصورة؛
وبين الأمرين
فرق. وأما ثالثاً
فإنه إذا كانت
المادة هي
العلة القريبة للصورة،
والمادة لا
اختلاف لها في ذاتها،
وما يلزم عن
الصفحة :
44
الشيء
الذي لا
اختلاف فيه لا
اختلاف فيه
البتة، فكان
يجب أن تكون
الصورة
المادية لا اختلاف
فيها. فإن كان
اختلافها
لأمور تختلف
من أحوال للمادة،
فتكون تلك
الأمور هي الصور
الأولى في
المادة،
ويعود الكلام
بأصله جذعاً. فإن
كان علة وجود
هذه الصور المختلفة
المادة وشيء
آخر مع المادة
ليس في المادة،
حتى لا تكون
المادة وحدها
هي
العلة
القريبة، بل
المادة وشيء
آخر فيكون ذلك الشيء
الآخر
والمادة إذا
اجتمعا جميعاً حصل
صورة ما معينة
في المادة.
وإن
كان
شيء غير ذلك
الآخر واجتمع
مع المادة حصلت صورة
غير تلك
الصورة
المعينة، فتكون
المادة في
الحقيقة لها
قبول الصورة.
وأما خاصية كل
صورة فإنما
تكون عن تلك العلل.
وإنما تكون كل
صورة هي هي
بخاصيتها
فتكون علة وجود كل
صورة
بخاصيتها هي الشيء
الخارج، ولا
يكون للمادة
في تلك الخاصية
صنع، وإنما كانت
تلك الصورة موجودة
وجودها بتلك
الخاصية،
فيكون لا صنع
للمادة في
خصوصية وجود كل
صورة، إلاّ أنها لا
بد منها في أن
توجد لصورة
فيها، وهذه خاصية
العلة القابلية،
فيبقى لها القبول فقط.
فقد بطل أن
تكون المادة
علة للصورة
بوجه من الوجوه. وقد
بقي أن تكون
الصورة وحدها
هي التي بها
يجب وجود المادة.
فلننظر هل
يمكن أن تكون
الصورة وحدها هي
التي بها يجب
وجود المادة.
فنقول: أما
الصورة التي
لا
تفارقها
مادتها فذلك جائز
فيها، وأما
الصورة التي
تفارق المادة،
وتبقى المادة موجودة
بصورة أخرى، فلا
يجوز ذلك
فيها. وذلك
لأن هذه
الصورة، لو
كانت وحدها
لذاتها علة، لكانت
المادة تعدم
بعد عدمها،
وتكون للصورة المستأنفة
مادة أخرى
توجد عنها، ولكانت
تلك المادة
حادثة، ولكان
يحتاج لها إلى
مادة أخرى.
فيجب إذن أن
تكون علة وجود
المادة شيئاً
مع الصورة،
حتى تكون المادة
إنما يفيض
وجودها عن ذلك
الشيء. لكن يستحيل أن
يكمل فيضانه
عنه بلا صورة
البتة، بل
إنما يتم
الأمر بهما
جميعاً. فيكون تعلق
المادة في
وجودها بذلك
الشيء وبصورة
كيف كانت تصدر
عنه فيها، فلا تعدم
بعدم الصورة، إذ
الصورة لا
تفارقها إلاّ
لصورة أخرى
تفعل مع العلة
- التي عنها مبدأ وجود
المادة - ما
كانت تفعله
الصورة
الأولى. فيما
أن هذا الثاني يشارك
الأول في أنه صورة،
يشاركه في أنه
يعاونه على
إقامة هذه المادة،
وبما يخالفه
يجعل المادة
بالفعل جوهراً غير
الجوهر الذي
كان يفعله
الأول. فكثير
من
الأمور
الموجودة
إنما تتم
بوجود شيئين، فإن
الإضاءة
والإنارة
إنما تحصل بسبب مضيء،
ومن كيفية لا
بعينها تجعل
الجسم منير
قابلاً لأن
ينفذ فيه
الشعاع ولا ينعكس
ثم تكون تلك
الكيفية تقيم
الشعاع على خاصية
غير الخاصية التي
تقيمه كيفية أخرى من
الألوان.
الصفحة :
45
ويجب أن لا تناقش فيما لَفَظنا به من نفوذ الشعاع و انعكاسه، بعد أنك با&