بداية المجتهد ونهاية المقتصد. الإصدار 2.03

للإمام ابن رشد القرطبي

*1*الجزء الأول.

*2*مقدمة المؤلف.

@-بسم الله الرحمن الرحيم.

أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي (في نسخة فاس: التنبيه لنفسي بدل أن أثبت) (انظر ترجمة المؤلف آخر الكتاب) على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد.

وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك. فنقول:

إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة: إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار. وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس. وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له. ودليل العقل يشهد ثبوته [أي ثبوت القياس. دار الحديث]، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى.

وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه. أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوى؛ فمثال الأول قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك، مثل خنزير الماء، ومثال العام يراد به الخاص قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال، ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى {فلا تقل لهما أف} وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك، وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر، وكذلك المستدعي تركه، إما أن يأتي بصيغة النهي، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه، أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما، فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه، وكذلك الحال في صيغ النهي هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما، فيه الخلاف المذكور أيضا، والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان: إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل محتملا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان: من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم، ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين، هل أريد بها الكل أو البعض؟ ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي. وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء أو من نفى الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب، وهو أصل مختلف فيه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة، وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء، المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين قياس شبه، وقياس علة؛ والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام: أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص، فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس، وإنما هو من باب دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا، فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد والصداق بالنصاب في القطع، وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام، فتأمل هذا فإن فيه غموضا. والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب، وأما الفعل فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وقال قوم الأفعال: ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ، والذين قالوا إنها تتلقي منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه، فقال قوم: تدل على الوجوب، وقال قوم: تدل على الندب، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب؛ وإن لم تأت بيانا لمجمل، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة، وأما الإقرار فإنه يدل على الجواز فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط.

وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة. وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة: إما أمر بشيء وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه. والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا. والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا،وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمس: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح. وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة: أحدها تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع: أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له. والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى {إلا الذين تابوا} فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف. والثالث اختلاف الإعراب. والرابع تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، التي هي: إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة. والخامس إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة، وتقييدها بالإيمان تارة. والسادس التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات، أو تعارض القياسات أنفسها،أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة: أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس، ومعارضة الإقرار للقياس.

قال القاضي رضي الله عنه:

وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم.

*2*كتاب الطهارة من الحدث.

@-فنقول: إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث، واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك، فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء، فنقول:

*3*كتاب الوضوء.

@-إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب ومتى تجب. الثاني في معرفة أفعالها. الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء. الرابع في معرفة نواقضها. الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها.

*4*الباب الأول.

@-فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية. فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل. وأما الإجماع، فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف، ولو كان هناك خلاف لنقل، إذ العادات تقتضي ذلك. وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل، وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع. أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث، فذكر: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق" وأما الإجماع، فإنه لم ينقل في ذلك خلاف، واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا؟ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي. وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة، أو أراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه، وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت، أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، ومن شروط الصلاة دخول الوقت، وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها واختلاف الناس في ذلك.

*4*الباب الثاني.

@-وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} . وما ورد من ذلك أيضا في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار الثابتة، ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات، وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان وصفة الأفعال وأعدادها وتعيينها وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك.

@-(المسألة الأولى من الشروط):

اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} ولقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" الحديث المشهور. فذهب فريق منهم إلى أنها شرط، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور وداود. وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري. وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة: أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة، والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به.

@-(المسألة الثانية من الأحكام):

اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق، وإن تيقن طهارة اليد، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي. وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده؛ وهو أيضا مروي عن مالك. وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم، وبه قال داود وأصحابه. وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار، فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد، فتحصل في ذلك أربعة أقوال: قول إنه سنة بإطلاق، وقوله إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من نوم وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وفي بعض رواياته "فليغسلها ثلاثا" فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة، وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ههنا على ظاهره من الوجوب، وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء، ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب، ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن، ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها: أعني من يقول إن ذلك سنة، من يقول إنه ندب، ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط، ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك، لأنه في معنى النائم، والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة وأما من نقل من غسله صلى الله عليه وسلم يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء، أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر.

@-(المسألة الثالثة من الأركان):

اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال: قول إنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقول إنهما فرض فيه، وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود، وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر، وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك، هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك؛ فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية، إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب، ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق، ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر" خرجه مالك في موطئه، والبخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة.

@-(المسألة الرابعة من تحديد المحال):

اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى {فاغسلوا وجوهكم} واختلفوا منه في ثلاثة مواضع: في غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وفي غسل ما انسدل من اللحية، وفي تخليل اللحية، فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي فيكون في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو من الوجه. وأما ما انسدل من اللحية، فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة ولا الشافعي في أحد قوليه؛ وسبب اختلافهم في هاتين المسئلتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما وأما تخليل اللحية فمذهب مالك أنه ليس واجبا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل.

@-(المسألة الخامسة من التحديد):

اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى {وأيديكم إلى المرافق} واختلفوا في إدخال المرافق فيها؛ فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها، وذهب بعض أهل الظاهر وبعض متأخري أصحاب مالك والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل؛ والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى، وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية، ومرة يكون بمعنى مع، واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جعل "إلى" بمعنى مع (هنا في نسخة فاس بمعنى من)، أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل (فيها هنا زيادة لأن إلى عنده تكون بمعنى من ومبدأ الشيء من الشيء)، ومن فهم من "إلى" الغاية ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلهما في الغسل، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل، لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل، وإن كانت "إلى" في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى مع، وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى، وقد قال قوم: إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه.

@-(المسألة السادسة من التحديد):

اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه. وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا. وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى {تنبت بالدهن} على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل: أخذت بثوبه وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله؛ ومعنى الزائدة ههنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه، وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة "أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" خرجه مسلم. وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ههنا أيضا احتمال آخر، وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها.

@-(المسألة السابعة من الأعداد):

اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وإن الاثنين والثلاث مندوب إليهما، لما صح "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا" ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة، أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء، واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة. فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه توضأ ثلاثا ثلاثا من حديث عثمان وغيره لم ينقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط. في بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا، وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين، فإن صحت يجب المصير إليها، لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره. وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء. وروى عن ابن الماجشون أنه قال: إذا نفذ الماء مسح رأسه ببلل لحيته، وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي.

ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم رأسه فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت. وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس، وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ، إلا أنه لم يثبت في الصحيحين.

@-(المسألة الثامنة من تعيين المحال):

اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة، ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره "أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة" وقياسا على الخف، ولذلك اشترط أكثرهم لبسهما على طهارة، وهذا الحديث إنما رده من رده، إما لأنه لم يصح عنده، وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده، أعني الأمر فيه بمسح الرأس، وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل، وهو حديث خرجه مسلم، وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية، ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على العمامة المسح على الناصية، إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد.

@-(المسألة التاسعة من الأركان):

اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة، وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك (انظر هذا، فإن المقرر في مذهب أبي حنفية أن مسحهما سنة لا فرض) إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء. وقال بهذا القوم جماعة أيضا من أصحاب مالك؛ ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضصمضة؛ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك، أعني مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب، أم هي مبينة لمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب، فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة بذلك كثيرة، وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها. وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءا من الرأس. وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه، وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به. والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس.

@-(المسألة العاشرة من الصفات):

اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين: الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء: أعني قراءة من قرأ، وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول، وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده؛ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبري وداود. وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر:

لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوا في المحور والقطر.

بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر.

وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا.

وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء "ويل للأعقاب من النار" قال فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى "ويل للأعقاب من النار" وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع "إلى" زكاة النفس. وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى {وأرجلكم إلى الكعبين} وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى {إلى المرفقين} لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد، ومن اشتراك حرف إلى وهنا من قبل اشتراك حرف إلى فقط. وقد اختلفوا في الكعب ما هو، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل هما العظمان اللذان عند معقد الشراك وقيل هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم، لذلك قال قوم: إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه: أعني الشيء الذي يدل عليه حرف إلى، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى {ثم أتموا الصيام إلى الليل} .

@-(المسألة الحادية عشرة من الشروط):

اختلفوا في وجود ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية. فقال قوم: هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود. وقال قوم: هو فريضة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب؛ وقال أبو حنيفة هو سنة؛ وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب؛ فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه. والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة.

@-(المسألة الثانية عشرة من الشروط):

اختلفوا في الموالاة في أفعال الوضوء، فذهب مالك إلى أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء، والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض، وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض. وقد احتج قوم لسقوط الموالاة بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر، وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب، وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان، لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف، وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا وضوء لمن لم يسم الله" وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل، وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية، وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب، فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول، وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة، وإما بتحديد مواضعها، وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر، ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء.

*4*(والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل) بالنظر في جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفته: أعني صفة المحل، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه:

@-(المسألة الأولى): فأما الجواز، ففيه ثلاثة أقوال: القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار. والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر. والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها. والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخير آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار، وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى "أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" وقال المتأخرون القائلون بجوزاه: ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هي للابس الخف، وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين، وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر.

@-(المسألة الثانية): وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار، فقال قوم: إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف، وإن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب، ومالك أحد من رأى هذا والشافعي، ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك، ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة، وشذ أشهب فقال: إن الواجب مسح الباطن، أو الأعلى أيهما مسح (نسخة فاس: والأعلى مستحب)؛ وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه "أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف وباطنه" والآخر حديث علي "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة. ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند، والأسعد في هذه المسألة هو مالك. وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة، لأنه لا هذا الأثر اتبع، ولا هذا القياس استعمل، أعني قياس المسح على الغسل.

@-(المسألة الثالثة): وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين، واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين. واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين، وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلما وصححه الترمذي، ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان: إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز.

@-(المسألة الرابعة): وأما صفة الخف، فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح، واختلفوا في المخرق، فقال مالك وأصحابه: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا، وحدد أبو حنيفة بما يكون الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع. وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه، وممن روى عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين، أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين؟ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق، لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضهما من المسح إلى الغسل، ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا. وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج. وقال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم. قلت: هذه المسألة هي مسكوت عنها، فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} .

@-(المسألة الخامسة): وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه، فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة؛ وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث: أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم" خرجه مسلم. والثاني حديث أبي بن عمارة "أنه قال يارسول الله أأمسح على الخف؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: نعم، ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة؟ قال نعم حتى بلغ سبعا، ثم قال: امسح ما بدا لك" خرجه أبو داود والطحاوي. والثالث حديث صفوان بن عسال قال: كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من بول أو نوم أو غائط (هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي "ثلاثة أيام بلياليهن" من غائط وبول ونوم إلا من جنابة). قلت: أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم. وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم، ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي. وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم، وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي، وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال: إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت، وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت، لكن حديث أبي لم يثبت بعد، فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان، وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس، وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث.

@-(المسألة السادسة): وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية، واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما؟ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك، إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام "وهما طاهرتان" فأخبر عن الطهارة الشرعية. وفي بعض روايات المغيرة "إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما" وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى؛ فقال مالك: لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود: يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح، وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان. وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف، كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى؟ فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى، ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك.

@-(المسألة السابعة): فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم: إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب المولاة على الشرط الذي تقدم. وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى. وقال الحسن بن حي: إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها. وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين؟ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا إنه بدل، فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور. وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب.

*4*الباب الثالث في المياه.

@-والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به} وقوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا، وهم محجوبون بتناول اسم الماء المطلق له، وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته، فظاهر الشرع يعضده، وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا، روي في الماء الآجن عن ابن سيرين، وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له، واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور. واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر، فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب، واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب.

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه، فقال قوم: هو طاهر سواء كان كثيرا أو قليلا، وهي إحدى الروايات عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال قوم: بالفرق بين القليل والكثير، فقالوا إن كان قليلا كان نجسا، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا. وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من هجر، وذلك نحو قلال من خمسمائة رطل، ومنهم من لم يجد في ذلك حدا، ولكن قال: إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه، وهذا أيضا مروي عن مالك، وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال: قول إن النجاسة تفسده، وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول إنه مكروه. وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه" الحديث، يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك أيضا حديث أبي هريرة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء.

وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. وأما حديث أنس الثابت "أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ماء فصب على بوله" فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب. وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له "إنه يتسقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الماء لا ينسجه شيء" فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم؛ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء ينجس، حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت: لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما، أعني على الإجزاء. وأما الشافعي وأبو حنيفة، فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري، بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء، فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس.

وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل فناء ذلك الماء، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة، أعني في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة، ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن.

واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء. وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز، لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها، أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء؛ وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا، فقول لا معنى له، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء اللكثير لا تفسده النجاسة القليلة، فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة، أو يرد عليها جزءا بعد جزء، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض.

@-( المسألة الثانية) الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالبا متى غيرت أحد أوصافه، فإنه طاهر عند جميع العلماء غير مطهر عند مالك والشافعي، ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ. وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء، أعني هل يتناوله أو لا يتناوله؟ فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه فيقال ماء كذا لا ماء مطلق لم يجز الوضوء به، إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق، ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق أجاز به الوضوء، ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به، وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه إلا ما في كتاب ابن شعبان من أجازة طهر الجمعة بماء الورد. والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة، فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق مثل ما يقال ماء الغسل، وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط، ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأم عطية عند أمره إياها بغسل ابنته "اغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور" فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق، وقد روي عن مالك باعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما، فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف، ولم يجزه مع الكثرة.

@-(المسلئة الثالثة) الماء المستعمل في الطهارة. اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فقوم لم يجيزوا الطهارة به على كل حال، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وقوم كرهوه ولم يجيزوا التيمم مع وجوده، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقا، وبه قال أبو ثور وداود وأصحابه، وشذ أبو يوسف فقال إنه نجس. وسبب الخلاف في هذا أيضا ما يظن من أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق حتى إن بعضهم غلا فظن أن اسم الغسالة أحق به من اسم الماء، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يقتتلون على فضل وضوئه، ولا بد أن يقع من الماء المستعمل في الإناء الذي بقي فيه الفضل. وبالجملة فهو ماء مطلق لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تغسل به، فإن انتهى إلى ذلك، فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر، وإن كان هذا تعافه النفوس أكثر، وهذا لحظ من كرهه، وأما من زعم أنه نجس فلا دليل معه.

@-(المسألة الرابعة) اتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافا كثيرا، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط، وهذان القولان مرويان عن مالك، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب، وهو مذهب الشافعي ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة، وهو مذهب ابن القاسم، ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة. وأما سؤر المشرك فقيل إنه نجس، وقيل إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر، وهو مذهب ابن القاسم، وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج المخلاة والإبل الجلالة والكلاب المخلاة. وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء: أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب. والثاني معارضته لظاهر الآثار. والثالث معارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك. أما القياس فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان، وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين، وكل طاهر العين فسؤره طاهر. وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير {فإنه رجس} وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط، ومن لم يستثنه حمل قوله "رجس" على جهة الذم له. وأما المشرك ففي قوله تعالى {إنما المشركون نجس} فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين، ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه.

وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع. أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات" وفي بعض طرقه "أولاهن بالتراب" وفي بعضها "وعفروه الثامنة بالتراب" وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" وقرة ثقة عند أهل الحديث. وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا". وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه "أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال "لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا" ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله "يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا" وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك "أن كبشة سكبت له وضوء فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات"

فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال: إن هذا الغسل إنما هو عباده، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده. وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره، وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة. وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من هذه الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها، وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال: الأسآر تابعة للحوم الحيوان، وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك. وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر، فاستثنى من ذلك السباع فقط. أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله، ولمعارضة ظاهر الكتاب له ولمعارضة حديث أبي قتادة له، إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين والكلب طواف. وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين، وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر، وما ورد في معناه لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب؛ وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وهي السباع فأسآرها محرمة، وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم،

وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات، أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط، وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها. قال القاضي: فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا، أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول، وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث، فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس، وكذلك ظاهر الحديث، وعليه أكثر الفقهاء، أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب، فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه، أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها. قال القاضي: وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة. بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم. قال: ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل، وهذا طاهر بنفسه، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مباديها وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم. وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء، وإنما فيه ذكر الإناء، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة، أعني قبل أن يستحكم به الكلب، ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الخضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل، إلا أن يقول قائل: إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه.

@-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في أسآر الطهر على خمسة أقوال: فذهب قوم إلى أن أسآر الطهر طاهرة بإطلاق، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل، وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبا أو حائضا، وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معا. وقال قوم: لا يجوز وإن شرعا معا، وهو مذهب أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار، وذلك أن في ذلك أربعة آثار: أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد، والثاني حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها، والثالث حديث الحكم الغفاري أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، خرجه أبو داود والترمذي. والرابع حديث عبد الله بن سرجس قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان معا". فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض، أما من رجح حديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد على سائر الأحاديث، لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه، ولم يكن عنده فرق بين أن يغتسلا معا أو يغتسل كل منهما بفضل صاحبه، لأن المغتسلين معا كل واحد منهما مغتسل بفضل صاحبه، وصحح حديث ميمونة مع هذا الحديث ورجحه على حديث الغفاري فقال بطهر الأسآر على الإطلاق. وأما من رجح حديث الغفاري على حديث ميمونة وهو مذهب أبي محمد بن حزم. وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه من إناء واحد بأن فرق بين الاغتسال معا، وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر وعمل على هذين الحديثين فقط أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناء واحد، ولم يجز أن يتطهر هو من فضل طهرها، وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره. وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة، فإنه أخذ بحديث عبد الله بن سرجس، لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري، وحديث غسل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه من إناء واحد ويكون فيه زيادة، وهي أن لا تتوضأ المرأة أيضا بفضل الرجل، لكن يعارضه حديث ميمونة، وهو حديث خرجه مسلم، لكن قد علله كما قلنا بعض الناس من أن بعض رواته قال فيه: أكثر ظني أو أكثر علمي أن أبا الشعثاء حدثني، وأما من لم يجز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا، فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة. وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط، فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر.

@-(المسألة السادسة) صار أبو حنيفة من بين معظم أصحابه وفقهاء الأمصار إلى إجازة الوضوء بنبيذ التمر في السفر لحديث ابن عباس "أن ابن مسعود خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من ماء؟ فقال: معي نبيذ في إداوتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبب فتوضأ به، وقال: شراب وطهور" وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن مسعود بمثله، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثمرة طيبة وماء طهور" وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس، وأنه لا مخالف لهم من الصحابة، فكان كالإجماع عندهم. ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته، ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيموا صعيدا طيبا} قالوا فلم يجعل ههنا وسطا بين الماء والصعيد، وبقوله عليه الصلاة والسلام "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" ولهم أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء، والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب، لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ.

*4*الباب الرابع في نواقض الوضوء.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك إذا كان خروجها على وجه الصحة.

@-(ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل) تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب.

@-(المسألة الأولى) اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي جهة خرج، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وجماعة ولهم من الصحابة السلف فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء، ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد، واعتبر قوم آخرون المخرجين الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم أو حصا أو بلغم وعلى أي وجه خرج كان خروجه على سبيل الصحة أو على سبيل المرض، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ومحمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك. واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوءا ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه. والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك. تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات: أحدها أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. والاحتمال الثالث أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها إنما هو من باب الخاص أريد به العام ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه؛ فالشافعي وأبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو الذي قصد به؟ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك، والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان هذا تنبيها على أن الحكم للمخرج وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة، وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية، أعني طهارة النجس، وبحديث ثوبان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ" وبما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف وبما روي من أمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس، وإنما اتفق الشافعي وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها وإن خرجت على جهة المرض لأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء عند كل صلاة للمستحاضة والاستحاضة مرض. وأما مالك فرأى أن المرض له ههنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي أيضا من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط، وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته، ويختلف في هذه الزيادة فيه، أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر، قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب: فقوم رأوا أنه حدث، فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء، وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله، أعني هل يكون منه حدث أم لا؟ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور. ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض، وكذلك خروج الحدث اختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك: من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء، طويلا كان النوم أو قصيرا. ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به. واختلف القول في مذهبه في الراكع، فمرة قال حكمه حكم القائم، ومرة قال حكمه حكم الساجد. وأما الشافعي فقال: على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا من نام جالسا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا، وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أن ههنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا، كحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه" وما روي أيضا "أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون" وكلها آثار ثابتة وههنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال وذلك أنه قال "كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ولا ننزعها إلا من جنابة" فسوى بين البول والغائط والنوم، صححه الترمذي. ومنها حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه" فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع؛ فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله أو كثيره على ظاهر الأحاديث التي توجبه أيضا، أعني على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة، أو من الأحاديث المسقطة؛ ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير والمسقطة للوضوء على القليل، وهو كما قلنا مذهب الجمهور، والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين. وأما الشافعي فإنما حملها على أن استثنى من هيئات النائم الجلوس فقط لأنه قد صح ذلك عن الصحابة، أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضئون ويصلون. وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط لأن ذلك ورد في حديث مرفوع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "إنما الوضوء على من نام مضطجعا" والرواية بذلك ثابتة عن عمر. وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سبب للحدث راعى فيه ثلاثة أشياء: الاستثقال أو الطول أو الهيئة، فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا.

@-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينه وبينها حجاب ولا ستر فعليه الوضوء، وكذلك من قبلها لأن القبلة عندهم لمس ما، سواء التذ أم لم يلتذ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس، فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس، ومرة سوى بينهما، ومرة أيضا فرق بين ذوات المحارم والزوجة، فأوجب الوضوء من لمس الزوجة دون ذوات المحارم، ومرة سوى بينهما. وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة في تفصيل لهم في ذلك وقع بحائل أو بغير حائل بأي عضو اتفق ما عدا القبلة، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، ونفى قوم إيجاب الوضوء من لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة، ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى {أو لامستم النساء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص فاشترط فيه اللذة، ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه، ومن اشترط اللذه فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت من هي إلا أنت؟ فضحكت" قال أبو عمر هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون، وإلى تصحيحه مال أبو عمر بن عبد البر، قال: وروى هذا الحديث أيضا من طريق معبد بن نباتة، وقال الشافعي إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا. وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد وينطلق مجازا على الجماع، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز؛ ولأولئك أن يقولوا إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة. والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا، لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر. وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحد من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم.

@-(المسألة الرابعة) مس الذكر. اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب، فمنهم من رأى الوضوء فيه كيفما مسه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وداود، ومنهم من لم ير فيه وضوءا أصلا وهو أبو حنيفة وأصحابه، ولكلا الفريقين سلف من الصحابة والتابعين. وقوم فرقوا بين أن يمسه بحال أو لا يمسه بتلك الحال، وهؤلاء افترقوا فيه فرقا: فمنهم من فرق فيه بين أن يلتذ أو لا يلتذ. ومنهم من فرق بين أن يمسه بباطن الكف أو لا يمسه، فأوجبوا الوضوء مع اللذة ولم يوجبوه مع عدمها، وكذلك أوجبه قوم مع المس بباطن الكف ولم يوجبوه مع المس بظاهرها، وهذان الاعتباران مرويان عن أصحاب مالك، وكان اعتبار باطن الكف راجع إلى اعتبار سبب اللذة. وفرق قوم في ذلك بين العمد والنسيان، فأوجبوا الوضوء منه مع العمد ولم يوجبوه مع النسيان، وهو مروي عن مالك، وهو قول داود وأصحابه. ورأى قوم أن الوضوء من مسه سنة لا واجب، قال أبو عمر: وهذا الذي استقر من مذهب مالك عند أهل المغرب من أصحابه، والرواية عنه فيه مضطربة. وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين: أحدهما الحديث الوارد من طريق بسرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، خرجه مالك في الموطأ، وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وضعفه أهل الكوفة؛ وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة، وكان أحمد بن حنبل يصححه، وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة، وكان ابن السكن أيضا يصححه، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم. والحديث الثاني المعارض له حديث طلق بن علي قال "قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟" خرجه أيضا أبو داود والترمذي، وصححه كثير من أهل العلم الكوفيون وغيرهم؛ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين: إما مذهب الترجيح أو النسخ، وإما مذهب الجمع، فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر، ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه، ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال، أو حمل حديث بسرة على الندب، وحديث طلق بن علي نفى الوجوب والاحتجاجات التي يحتج بها كل واحد من الفريقين في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها، وهي موجودة في كتبهم، ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه.

@-(المسألة الخامسة) اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول على سقوطه، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، ولما ورد من حديث جابر أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" خرجه أبو داود. ولكن ذهب قوم من أهل الحديث أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام.

@-(المسألة السادسة): شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية، وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة. ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول، وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها في غير الصلاة وهو مرسل صحيح.

@-(المسألة السابعة) وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وينبغي أن تعلم أن جمهور العلماء أوجبوا الوضوء من زوال العقل بأي نوع كان من قبل إغماء أو جنون أو سكر، وهؤلاء كلهم قاسوه على النوم، أعني أنهم رأوا أنه إذا كان يوجب الوضوء في الحالة التي هي سبب للحدث غالبا وهو الاستثقال، فأحرى أن يكون ذهاب العقل سببا لذلك، فهذه هي مسائل هذا الباب المجمع عليها، والمشهورات من المختلف فيها، وينبغي أن نصير إلى الباب الخامس.

*4*الباب الخامس. وهو معرفة الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام "لايقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" فاتفق المسلمون على أن الطهارة شرط من شروط الصلاة لمكان هذا، وإن كانوا اختلفوا هل هي شرط من شروط الصحة أو من شروط الوجوب، ولم يختلفوا أن ذلك شرط في جميع الصلوات إلا في صلاة الجنازة وفي السجود، أعني سجود التلاوة، فإن فيه خلافا شاذا، والسبب في ذلك الاحتمال العارض في انطلاق اسم الصلاة على الصلاة على الجنائز وعلى السجود، فمن ذهب إلى أن اسم الصلاة ينطلق على صلاة الجنائز وعلى السجود نفسه وهم الجمهور اشترط هذه الطهارة فيهما: ومن ذهب إلى أنه لا ينطلق عليهما إذ كانت صلاة الجنائز ليس فيها ركوع ولا سجود، وكان السجود أيضا ليس فيه قيام ولا ركوع لم يشترطوا هذه الطهارة فيهما، ويتعلق بهذا الباب مع هذه المسألة أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) هل هذه الطهارة شرط في مس المصحف أم لا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنها شرط في مس المصحف، وذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بشرط في ذلك، والسبب في اختلافهم تردد مفهوم قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} بين أن يكون المطهرون هم بنو آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهمومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا، فمن فهم من المطهرون بني آدم، وفهم من الخبر النهي قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر، ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ المطهرون الملائكة قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة؛ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بحديث عمرو بن حزم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر" وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها مصحفة، ورأيت ابن المفوز يصححها إذا روتها الثقات لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأهل الظاهر يردونهما، ورخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين.

@-(المسألة الثانية) اختلف الناس في إيجاب الوضوء على الجنب في أحوال: أحدها إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه دون وجوبه وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر "أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ واغسل ذكرك ثم نم" وهو أيضا مروي عنه من طريق عائشة. وذهب الجهمور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبة وجوب الطهارة لإرادة النوم، أعني المناسبة الشرعية، وقد احتجوا أيضا لذلك بأحاديث أثبتها حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فأتي بطعام، فقالوا: ألا نأتيك بطهر؟ فقال: أأصلي فأتوضأ. وفي بعض رواياته: فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: ما أردت الصلاة فأتوضأ" والاستدلال به ضعيف، فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه، وقد احتجوا بحديث عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب لا يمس الماء" إلا أنه حديث ضعيف. وكذلك اختلفوا في وجوب الوضوء على الجنب الذي يريد أن يأكل أو يشرب وعلى الذي يريد أن يعاود أهله، فقال الجمهور في هذا كله بإسقاط الوجوب لعدم مناسبة الطهارة لهذه الأشياء، وذلك أن الطهارة إنما فرضت في الشرع لأحوال التعظيم كالصلاة، وأيضا فلمكان تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أمر الجنب إذا أراد أن يعاود أهله أن يتوضأ" وروي عنه أنه كان يجامع ثم يعاود ولا يتوضأ. وكذلك روي عنه منع الأكل والشرب للجنب حتى يتوضأ. وروي عنه إباحة ذلك.

@-(المسألة الثالثة) ذهب مالك والشافعي إلى اشتراط الوضوء في الطواف، وذهب أبو حنيفة إلى إسقاطه. وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة أو لا يلحق، وذلك أنه ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع الحائض الطواف كما منعها الصلاة" فأشبه الصلاة من هذه الجهة. وقد جاء في بعض الآثار تسمية الطواف صلاة، وحجة أبي حنيفة أنه ليس كل شيء منعه الحيض، فالطهارة شرط في فعله إذا ارتفع الحيض كالصوم عند الجمهور.

@-(المسألة الرابعة) ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لغير متوضئ أن يقرأ القرآن ويذكر الله، وقال قوم: لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ. وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي جهم قال "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام". والحديث الثاني حديث علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول، وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول.

*3*كتاب الغسل.

@-والأصل في هذه الطهارة قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} والكلام المحيط بقواعدها ينحصر بعد المعرفة بوجوبها وعلى من تجب، ومعرفة ما به تفعل، وهو الماء المطلق في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في معرفة العمل في هذه الطهارة. والثاني: في معرفة نواقض هذه الطهارة. والباب الثالث: في معرفة أحكام نواقض هذه الطهارة. فأما على من تجب؟ فعلى كل من لزمته الصلاة ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا خلاف في وجوبها ودلائل ذلك هي دلائل الوضوء بعينها، وقد ذكرناها، وكذلك أحكام المياه، وقد تقدم القول فيها.

*4*الباب الأول في معرفة العلم في هذه الطهارة. وهذا الباب يتعلق به أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه؛ فأكثر العلماء على أن إفاضة الماء كافية في ذلك. وذهب مالك وجل أصحابه والمزني من أصحاب الشافعي إلى أنه إن فات المتطهر موضع واحد من جسده لم يمر يده عليه أن طهره لم يكمل بعد. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث الواردة في صفة الغسل لقياس الغسل على ذلك في الوضوء، وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة وميمونة ليس فيها ذكر التدلك، وإنما فيها إفاضة الماء فقط. ففي حديث عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات، ثم يفيض الماء على جلده كله" والصفة الواردة في حديث ميمونة قريبة من هذا، إلا أنه أخر غسل رجليه من أعضاء الوضوء إلى آخر الطهر، وفي حديث أم سلمة أيضا، وقد سألته عليه الصلاة والسلام : "هل تنقض ضفر رأسها لغسل الجنابة، فقال عليه الصلاة والسلام : إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وهو أقوى في إسقاط التدلك من تلك الأحاديث الأخر، لأنه لا يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك، وأما ههنا فإنما حصر لها شروط الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن صفة الطهارة الواردة من حديث ميمونة وعائشة هي أكمل صفاتها، وأن ما ورد في حديث أم سلمة من ذلك فهو من أركانها الواجبة، وأن الوضوء في أول الطهر ليس من شرط الطهر إلا خلافا شاذا، روي عن الشافعي وفيه قوة من جهة الأحاديث، وفي قول الجمهور قوة من جهة النظر، لأن الطهارة ظاهر من أمرها أنها شرط في صحة الوضوء، لا أن الوضوء شرط في صحتها، فهو من باب معارضة القياس لظاهر الحديث، وطريقة الشافعي تغليب ظاهر الأحاديث على القياس؛ فذهب قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث وغلبوا ذلك على قياسها على الوضوء، فلم يوجبوا التدلك، وغلب آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر الأحاديث، فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء، فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك، ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى إسقاط التدلك، وأعني بالقياس: قياس الطهر على الوضوء. وأما الاحتجاج من طريق الاسم ففيه ضعف إذ كان اسم الطهر والغسل ينطلق في كلام العرب على المعنيين جميعا على حد سواء.

@-(المسألة الثانية) اختلفوا هل من شروط هذه الطهارة النية أم لا؟ كاختلافهم في الوضوء، فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأصحابه إلى أن النية من شروطها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنها تجزئ بغير نية كالحال في الوضوء عندهم. وسبب اختلافهم في الطهر هو بعينه سبب اختلافهم في الوضوء، وقد تقدم ذلك.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في هذه الطهارة أيضا كاختلافهم فيهما في الوضوء. أعني هل هما واجبان فيها أم لا؟ فذهب قوم إلى أنهما غير واجبين فيها، وذهب قوم إلى وجوبهما؛ وممن ذهب إلى عدم وجوبهما مالك والشافعي، وممن ذهب إلى وجوبهما أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أم سلمة للأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام في طهره وذلك أن الأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه في الطهر فيها المضمضة والاستنشاق، وحديث أم سلمة ليس فيه أمر لا بمضمضة ولا باستنشاق، فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} أوجب المضمضة والاستنشاق، ومن جعله معارضا جمع بينهما بأن حمل حديثي عائشة وميمونة على الندب، وحديث أم سلمة على الوجوب، ولهذا السبب بعينه اختلفوا في تخليل الرأس هل هو واجب في هذه الطهارة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مستحب، ومذهب غيره أنه واجب، وقد عضد مذهبه من أوجب التخليل بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " تحت كل شعرة جنابة فأنقوا البشرة وبلوا الشعر".

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا هل من شرط هذه الطهارة الفور والترتيب، أم ليسا من شروطهما كاختلافهم من ذلك في الوضوء؟. وسبب اختلافهم في ذلك هل فعله عليه الصلاة والسلام محمول على الوجوب أو على الندب؟ فإنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما توضأ قط إلا مرتبا متواليا، وقد ذهب قوم إلى أن الترتيب في هذه الطهارة أبين منها في الوضوء. وذلك بين الرأس وسائر الجسد، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي الماء على جسدك" وحرف ثم يقتضي الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة.

*4*الباب الثاني في معرفة نواقض هذه الطهارة.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وقوله {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} الآية. واتفق العلماء على وجوب هذه الطهارة من حدثين: أحدهما خروج المني على وجه الصحة في النوم أو اليقظة من ذكر كان أو أنثى، إلا ما روي عن النخعي من أنه كان لا يرى على المرأة غسلا من الاحتلام، وإنما اتفق الجمهور على مساواة المرأة في الاحتلام للرجل لحديث أم سلمة الثابت أنها قالت "يا رسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل هل عليها غسل؟ قال: نعم إذا رأت الماء". وأما الحديث الثاني الذي اتفقوا عليه فهو دم الحيض، أعني إذا انقطع، وذلك أيضا لقوله تعالى {ويسألونك عن المحيض} الآية، ولتعليمه الغسل من الحيض لعائشة وغيرها من النساء. واختلفوا في هذا الباب مما يجري مجرى الأصول في مسئلتين مشهورتين.

@-(المسألة الأولى) اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سبب إيجاب الطهر من الوطء، فمنهم من رأى الطهر واجبا في التقاء الختانين أنزل أم لم ينزل، وعليه أكثر فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وجماعة من أهل الظاهر، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى إيجاب الطهر مع الإنزال فقط والسبب في اختلافهم في ذلك تعارض الأحاديث في ذلك، لأنه ورد في ذلك حديثان ثابتان اتفق أهل الصحيح على تخريجهما. قال القاضي رضي الله عنه: ومتى قلت ثابت، فإنما أعني به ما أخرجه البخاري ومسلم، أو ما اجتمعا عليه: أحدهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد أوجب الغسل" والحديث الثاني حديث عثمان أنه سئل فقيل له "أرأيت الرجل إذا جامع أهله ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذهب العلماء في هذين الحديثين مذهبين: أحدهما مذهب النسخ، والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح. فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان، ومن الحجة لهم على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل، خرجه أبو داود. وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق، وهو وجوب الماء من الماء. وقد رحج الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس، قالوا: وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل، وحكموا أن هذا القياس مأخوذ عن الخلفاء الأربعة، ورجح الجمهور ذلك أيضا من حديث عائشة لأخبارها ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجه مسلم.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للطهر. فذهب مالك إلى اعتبار اللذة في ذلك. وذهب الشافعي إلى أن نفس خروجه هو الموجب للطهر سواء خرج بلذة أو بغير لذة. وسبب اختلافهم في ذلك هو شيئان: أحدهما هل اسم الجنب ينطلق على الذي أجنب على الجهة الغير المعتادة أم ليس ينطلق عليه؟ فمن رأى أنه إنما ينطلق على الذي أجنب على طريق العادة لم يوجب الطهر في خروجه من غير لذة، ومن رأى أنه ينطلق على خروج المني كيفما خرج أوجب منه الطهر وإن لم يخرج مع لذة. والسبب الثاني تشبيه خروجه بغير لذة بدم الاستحاضة، واختلافهم في خروج الدم على جهة الاستحاضة هل يوجب طهرا أم ليس يوجبه؟ فسنذكره في باب الحيض وإن كان من هذا الباب.

وفي المذهب في هذا الباب فرع، وهو إذا انتقل من أصل مجاريه بلذة ثم خرج في وقت آخر بغير لذة مثل أن يخرج من المجامع بعد أن يتطهر، فقيل يعيد الطهر، وقيل لا يعيده، وذلك أن هذا النوع من الخروج صحبته اللذة في بعض نقلته ولم تصحبه في بعض، فمن غلب حال اللذة قال: يجب الطهر، ومن غلب حال عدم اللذة قال: لا يجب عليه الطهر.

*4*الباب الثالث. في أحكام هذين الحدثين أعني الجنابة والحيض.

*5*أما أحكام الحدث الذي هو الجنابة، ففيه ثلاث مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال: فقوم منعوا ذلك بإطلاق، وهو مذهب مالك وأصحابه؛ وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه لا مقيم ومنهم الشافعي؛ وقوم أباحوا ذلك للجميع، ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب. وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية، بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هنالك محذوف مقدر وهو موضع الصلاة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة، وبين أن لا يكون هنالك محذوف أصلا وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب، فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث، واختلافهم في الحائض في هذا المعنى هو اختلافهم في الجنب.

@-(المسألة الثانية: مس الجنب المصحف) ذهب قوم إلى إجازته وذهب الجهمور إلى منعه، وهم الذين منعوا أن يمسه غير متوضئ. وسبب اختلافهم هو سبب اختلافهم في منع غير المتوضئ أن يمسه أعني قوله {لا يمسه إلا المطهرون} وقد ذكرنا سبب الاختلاف في الآية فيما تقدم، وهو بعينه سبب اختلافهم في منع الحائض مسه.

@-(المسألة الثالثة: قراءة القرآن للجنب) اختلف الناس في ذلك، فذهب الجمهور إلى منع ذلك، وذهب قوم إلى إباحته، والسبب في ذلك الاحتمال المتطرق إلى حديث علي أنه قال "كان عليه الصلاة والسلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" وذلك أن قوما قالوا: إن هذا لا يوجب شيئا، لأنه ظن من الراوي، ومن أين يعلم أحد أن ترك القراءة كان لموضع الجنابة إلا لو أخبره بذلك؟ والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن، وإنما قاله عن تحقق، وقوم جعلوا الحائض في هذا الاختلاف بمنزلة الجنب، وقوم فرقوا بينهما، فأجازوا للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا، وهو مذهب مالك، فهذه هي أحكام الجنابة.

@-(وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم) فالكلام المحيط بأصولها ينحصر في ثلاثة أبواب: الأول: معرفة أنواع الدماء الخارجة من الرحم. والثاني: معرفة العلامات التي تدل على انتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر أو الاستحاضة، والاستحاضة أيضا إلى الطهر. والثالث: معرفة أحكام الحيض والاستحاضة: أعني موانعهما وموجباتهما.

ونحن نذكر في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول لجميع ما في هذا الباب على ما قصدنا إليه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.

*4*الباب الأول.

@-اتفق المسلمون على أن الدماء التي تخرج من الرحم ثلاثة: دم حيض، وهو الخارج على جهة الصحة، ودم استحاضة، وهو الخارج على جهة المرض، وأنه غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة". ودم نفاس، وهو الخارج مع الولد.

*4*الباب الثاني.

@-أما معرفة علامات انتقال هذه الدماء بعضها إلى بعض، وانتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر، فإن معرفة ذلك في الأكثر تنبني على معرفة أيام الدماء المعتادة وأيام الأطهار، ونحن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول وهي سبع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر، فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام، وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك، بل قد تكون الدفعة الواحدة عنده حيضا، إلا أنه لا يعتد بها في الأقراء في الطلاق. وقال الشافعي: أقله يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وأما أقل الطهر فاضطربت فيه الروايات عن مالك، فروي عنه عشرة أيام، وروي عنه ثمانية أيام، وروي خمسة عشر يوما، وإلى هذه الرواية مال البغدايون من أصحابه، وبها قال الشافعي وأبو حنيفة، وقيل سبعة عشر يوما، وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب، وأما أكثر الطهر فليس له عندهم حد؛ وإذا كان هذا موضوعا من أوقاويلهم فمن كان لأقل الحيض عنده قدر معلوم وجب أن يكون ما كان أقل من ذلك القدر إذا ورد في سن الحيض عنده استحاضة، ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا، ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا وجب أن يكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة، ولكن محصل مذهب مالك في ذلك أن النساء على ضربين: مبتدأة ومعتادة؛ فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن لم ينقطع صلت وكانت مستحاضة، وبه قال الشافعي، إلا أن مالكا قال تصلي من حين تتيقن الاستحاضة، وعند الشافعي أنها تعيد صلاة ما سلف لها من الأيام، إلا أقل الحيض عنده وهو يوم وليلة. وقيل عن مالك بل تعتد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة ايام، فإن لم ينقطع الدم فهي مستحاضة. وأما المعتادة ففيها روايتان عن مالك: إحداهما بناؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام ما لم تتجاوز أكثر مدة الحيض. والثانية جلوسها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، أو تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز. وقال الشافعي: تعمل على أيام عادتها وهذه الأقاويل لها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر لا مستند لها إلا التجربة والعادة، وكل إنما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء، ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا وأجمعوا بالجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت لفاطمة بنت حبيش "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهبت قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" والمتجاوزة لأمد أكثر أيام الحيض قد ذهب عنها قدرها ضرورة وإنما صار الشافعي ومالك رحمه الله في المعتادة في إحدى الروايتين عنه إلى أنها تبني على عادتها لحديث أم سلمة الذي رواه في الموطأ "أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي" فألحقوا حكم الحائض التي تشك في الاستحاضة بحكم المستحاضة التي تشك في الحيض. وإنما رأى أيضا في المبتدأة أن يعتبر أيام لداتها، لأن أيام لداتها شبيهة بأيامها فجعل حكمهما واحدا. وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام، فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه رحمهم الله وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي، إذ لم يكن لذلك ذكر في الأحاديث الثابتة، وقد روي في ذلك أثر ضعيف.

@-(المسألة الثانية) ذهب مالك وأصحابه في الحائض التي تنقطع حيضتها، وذلك بأن تحيض يوما أو يومين، وتطهر يوما أو يومين إلى أنها تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل في كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي، فإنها لا تدري لعل ذلك طهر فإذا اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما فهي مستحاضة، وبهذا القول قال الشافعي. وروي عن مالك أيضا أنها تلفق أيام الدم وتعتبر ذلك أيام عادتها فإن ساوتها استظهرت بثلاثة أيام، فإن انقطع الدم وإلا فهي مستحاضة، وجعل الأيام التي لا تر فيها الدم غير معتبرة في العدد لا معنى له، فإنه لا تخلو تلك الأيام أن تكون أيام حيض أو أيام طهر، فإن كانت أيام حيض فيجب أن تلفقها إلى أيام الدم، وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم، إذ كان قد تخللها طهر، والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين فتدبر هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو أيام النفاس كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في أقل النفاس وأكثره؛ فذهب مالك إلى أنه لا حد لأقله، وبه قال الشافعي؛ وذهب أبو حنيفة وقوم إلى أنه محدود، فقال أبو حنيفة: هو خمسة وعشرون يوما، وقال أبو يوسف صاحبه: أحد عشر يوما، وقال الحسن البصري: عشرون يوما. وأما أكثره فقال مالك مرة: هو ستون يوما، ثم رجع عن ذلك فقال: يسأل عن ذلك النساء، وأصحابه ثابتون على القول الأول وبه قال الشافعي. وأكثر أهل العلم من الصحابة على أن أكثره أربعون يوما، وبه قال أبو حنيفة وقد قيل تعتبر المرأة في ذلك أيام أشباهها من النساء، فإذا جاوزتها فهي مستحاضة. وفرق قوم بين ولادة الذكر وولادة الأنثى، فقالوا: للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أبعون يوما وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر.

@-(المسألة الرابعة) اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة؟ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه وغيرهما إلى أن الحامل تحيض؛ وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن الحامل لا تحيض، وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة، إلا أن يصيبها الطلق، فأجمعوا على أنه دم نفاس، وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك من أحكامه، ولمالك وأصحابه في معرفة انتقال الحائض الحامل إذا تمادى بها الدم من حكم الحيض إلى حكم الاستحاضة أقوال مضطربة: أحدها أن حكمها حكم الحائض نفسها؛ أعني إما أن تقعد أكثر أيام الحيض ثم هي مستحاضة، وإما أن تستظهر على أيامها المعتادة بثلاثة أيام ما لم يكن مجموع ذلك أكثر من خمسة عشر يوما، وقيل إنها تقعد حائضا ضعف أكثر أيام الحيض، وقيل إنها تضعف أكثر أيام الحيض بعدد الشهور التي مرت لها ففي الشهر الثاني من حملها تضعف أيام أكثر الحيض مرتين، وفي الثالث ثلاث مرات وفي الرابع أربع مرات وكذلك ما زادت الأشهر. وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا، وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء، ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل لضعف الجنين ومرضه التابع لضعفها ومرضها في الأكثر، فيكون دم علة ومرض، وهو في الأكثر دم علة.

@-(المسألة الخامسة) اختلف الفقهاء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا؟ فرأت جماعة أنها حيض في أيام الحيض، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وروي مثل ذلك عن مالك. وفي المدونة عنه: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أم لم تره. وقال داود وأبو يوسف: إن الصفرة والكدرة لا تكون حيضة إلا بأثر الدم. والسبب في اختلافهم مخالفة ظاهر حديث أم عطية لحديث عائشة، وذلك أنه روي عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا، وروي عن عائشة: أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة؛ فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، فمن رجح حديث عائشة جعل الصفرة والكدرة حيضا، سواء ظهرت في أيام الحيض أو في غير أيامه مع الدم أو بلا دم، فإن حكم الشيء الواحد في نفسه ليس يختلف، ومن رام الجمع بين الحديثين قال: إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم، وحديث عائشة في أثر انقطاعه، أو إن حديث عائشة هو في أيام الحيض، وحديث أم عطية في غير أيام الحيض. وقد ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة ولا الكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها، ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "دم الحيض دم أسود يعرف" ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم، وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم، وهو مذهب أبي محمد بن حزم.

@-(المسألة السادسة) اختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء أو الجفوف، وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف أي ذلك رأت طهرت به. وفرق قوم فقالوا: إن كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وذلك في المدونة عن مالك. وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط، وقد قيل إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف وقد قيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك.

@-(المسألة السابعة) اختلف الفقهاء في المستحاضة إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم الحائض، كما اختلفوا في الحائض إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم المستحاضة، وقد تقدم ذلك، فقال مالك في المستحاضة أبدأ: حكمها حكم الطاهرة إلى أن يتغير الدم إلى صفة الحيض، وذلك إذا مضى لاستحاضتها من الأيام ما هو أكثر من أقل أيام الطهر، فحينئذ تكون حائضا: أعني إذا اجتمع لها هذان الشيئان تغير الدم وأن يمر لها في الاستحاضة من الأيام ما يمكن أن يكون طهرا، وإلا فهي مستحاضة أبدا. وقال أبو حنيفة تقعد أيام عادتها إن كانت لها عادة، وإن كانت مبتدأة قعدت أكثر الحيض وذلك عنده عشرة أيام. وقال الشافعي تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز، وإن كانت من أهل العادة عملت على العادة، وإن كانت من أهلهما معا فله في ذلك قولان: أحدهما تعمل على التمييز، والثاني على العادة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين مختلفين أحدهما حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها وكانت مستحاضة أن تدع الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم تغتسل وتصلي" وفي معناه أيضا حديث أم سلمة المتقدم الذي خرجه مالك، والحديث الثاني ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دم الحيضة أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق" وهذا الحديث صححه أبو محمد بن حزم، فمن هؤلاء من ذهب مذهب الترجيح، ومنهم من ذهب مذهب الجمع، فمن ذهب مذهب ترجيح حديث أم سلمة وما ورد في معناه قال باعتبار الأيام، ومالك رضي الله عنه اعتبر عدد الأيام فقط في الحائض التي تشك في الاستحاضة، ولم يعتبرها في المستحاضة التي تشك في الحيض، أعني لا عددها ولا موضعها من الشهر إذا كان عندها ذلك معلوما، والنص إنما جاء في المستحاضة التي تشك في الحيض، فاعتبر الحكم في الفرع، ولم يعتبره في الأصل وهذا غريب فتأمله. ومن رجح حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال باعتبار اللون، ومن هؤلاء من راعى مع اعتبار لون الدم مضي ما يمكن أن يكون طهرا من أيام الاستحاضة، وهو قول مالك فيما حكاه عبد الوهاب. ومنهم من لم يراع ذلك. ومن جمع بين الحديثين قال: الحديث الأول هو في التي تعرف عدد أيامها من الشهر وموضعها. والثاني في التي لا تعرف عددها ولا موضعها وتعرف لون الدم، ومنهم من رأى أنها إن لم تكن من أهل التمييز ولا تعرف موضع أيامها من الشهر وتعرف عددها أو لا تعرف عددها إنها تتحرى على حديث حمنة بنت جحش، صححه الترمذي، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسيأتي الحديث بكماله عند حكم المستحاضة في الطهر، فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب، وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع: أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض. والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر. والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة. والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض، وهو الذي وردت فيه الأحاديث. وأما الثلاثة فمسكوت عنها: أعني عن تحديدها، وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة.

*4*الباب الثالث. وهو معرفة أحكام الحيض والاستحاضة.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ويسئلونك عن المحيض} الآية، والأحاديث الواردة في ذلك التي سنذكرها. واتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء: أحدها فعل الصلاة ووجوبها، أعني أنه ليس يجب على الحائض قضاؤها بخلاف الصوم. والثاني أنه يمنع فعل الصوم لا قضاءه، وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج. والثالث فيما أحسب الطواف لحديث عائشة الثابت حين أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفعل كل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت. والرابع الجماع في الفرج لقوله تعالى {فاعتزلوا النساء في المحيض} الآية.

@-(واختلفوا من أحكامها في مسائل) نذكر منها مشهوراتها، وهي خمس:

@-(المسألة الأولى) اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: له منها ما فوق الإزار فقط. وقال سفيان الثوري وداود الظاهري: إنما يجب عليه أن يجتنب موضع الدم فقط. وسبب اختلافهم ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، والاحتمال الذي في مفهوم آية الحيض، وذلك أنه ورد في الأحاديث الصحاح عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر إذا كانت إحداهن حائضا أن تشد عليها إزارها ثم يباشرها، وورد أيضا من حديث ثابت بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح" وذكر أبو داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض "اكشفي عن فخذك، قالت: فكشفت، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ، وكان قد أوجعه البرد. وأما الاحتمال الذي في آية الحيض، فهو تردد قوله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} بين أن يحمل على عمومه إلا ما خصصه الدليل، أو أن يكون من باب العام أريد به الخاص، بدليل قوله تعالى فيه {قل هو أذى} والأذى إنما يكون في موضع الدم، فمن كان المفهوم منه عنده العموم، أعني أنه إذا كان الواجب عنده أن يحمل هذا القول على عمومه حتى يخصصه الدليل، استثنى من ذلك ما فوق الإزار بالسنة، إذ المشهور جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الأصوليين، ومن كان عنده من باب العام أريد به الخاص رجح هذه الآية على الآثار المانعة مما تحت الإزار، وقوي ذلك عنده بالآثار المعارضة للآثار المانعة مما تحت الإزار، ومن الناس من رام الجمع بين هذه الآثار، وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى، فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة، ومفهوم الآية على الجواز، ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة أنه ليس من جسم الحائض شيء نجس إلا موضع الدم وذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عائشة أن تناوله الخمرة وهي حائض، فقالت: إني حائض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك" وما ثبت أيضا من ترجيلها رأسه عليه الصلاة والسلام وهي حائض، وقوله عليه الصلاة والسلام "إن المؤمن لا ينجس".

@-(المسألة الثانية) اختلفوا في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال، فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدة الحيض وهو عنده عشرة أيام، وذهب الأوزاعي إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها، أعني كل حائض طهرت متى طهرت، وبه قال أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى {فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله} هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ ثم إن كان الطهر بالماء، فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج؟ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني، وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين، لا على ما يكون من فعل غيرهم، فيكون قوله تعالى {فإذا تطهرن} أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه، ورجح أو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى {حتى يطهرن} هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء. والمسألة كما ترى محتملة، ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى {حتى يطهرن} معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى {فإذا تطهرن} لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظه يطهرن النقاء، ويفهم من لفظ تطهرن الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك، فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، بل إنما يقولون وإذا دخل الدار فأعطه درهما، لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى. ومن تأول قوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} على أنه النقاء، وقوله {فإذا تطهرن} على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، وذلك غير مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون هنالك محذوف ويكون تقدير الكلام: ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، وفي تقدير هذا الحذف بعد أما ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل: ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية، فإن الحذف مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز، وكذلك فرض المجتهد هنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه، وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ تطهرن على ظاهره من النقاء، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه، أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على النقاء أو يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء، أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال وظهور يطهرن في النقاء، فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد، أعني إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء، وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله، وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال: كل مجتهد مصيب. وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف.

@-(المسألة الثالثة) اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه. وقال أحمد بن حنبل: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها، وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض أن يتصدق بدينار. وروي عنه بنصف دينار. وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وروي هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار، وبه قال الأوزاعي، فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها، ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل.

@-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في المستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط، وذلك عند ما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرا واحد فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا، وهو مروي عن علي. ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهرا واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. وقول إن عليها الطهر لكل صلاة.

وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها. أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت "جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: لا، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي بعض روايات هذا الحديث "وتوضئي لكل صلاة" وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث. والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف "أنها استحاضت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة" وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه: أنها استحيضت، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إنما هو عرق وليست بالحيضة" وأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه، لا أن ذلك منقول من لفظه عليه الصلاة والسلام ، ومن هذا الطريق خرجه البخاري، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس "أنها قالت: يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك" خرجه أبو داود، وصححه أبو محمد بن حزم.

وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش، وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عند ما ترى أنه قد انقطع دم الحيض، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر، فتأمل هذا، فإنه فرق بين.

أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة بنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره، أعني من أنه لم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد، ولا بشيء من تلك المذاهب، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها، وأما من ذهب مذهب البناء فقال: إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا؟ فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض؛ وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة، لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك، ويبعد أن يدعى مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض.

وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض، فمضمن في قوله" إنها ليست بالحيضة" لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة، هي الزيادة نسخ أم لا؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة "أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح" وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين. وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها" وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها. ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات. وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا.

@-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وقال قوم ليس يجوز وطؤها، وهو مروي عن عائشة، وبه قال النخعي والحكم. وقال قوم: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها، وبهذا القول قال أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة، أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر؟ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها، ومن رأى ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك، وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها. وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان.

*3*كتاب التيمم.

@-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب يشتمل بالجملة على سبعة أبواب: الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها. الثاني: معرفة من تجوز له هذه الطهارة. الثالث: في معرفة شروط جواز هذه الطهارة. الرابع: في صفة هذه الطهارة. الخامس: فيما تصنع به هذه الطهارة. السادس: في نواقض الطهارة. السابع: في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها.

*4*الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها.

@-اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من الطهارة الصغرى، واختلفوا في الكبرى، فروى عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى، وكان علي وغيره من الصحابة يرون أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى، وبه قال عامة الفقهاء. والسبب في اختلافهم الاحتمال الوارد في آية التيمم، وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب، أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} يحتمل أن يعود الضمير الذي فيه على المحدث حدثا أصغر فقط، ويحتمل أن يعود عليهما معا، لكن من كانت الملامسة عنده في الآية الجماع فالأظهر أنه عائد عليهما معا، و من كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد، أعني قوله تعالى {أو لامستم النساء} فالأظهر أنه إنما يعود الضمير عنده على المحدث حدثا أصغر فقط، إذ كانت الضمائر إنما يحمل أبدا عودها على أقرب مذكور إلا أن يقدر في الآية تقديما وتأخير حتى يكون تقديرها هكذا يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا: وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. ومثل هذا ليس ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل، فإن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، وقد يظن أن في الآية شيئا يقتضي تقديما وتأخيرا، وهو أن حملها على ترتيبها يوجب أن المرض والسفر حدثان، لكن هذا لا يحتاج إليه إذا قدرت أو ههنا بمعنى الواو، وذلك موجود في كلام العرب في مثل قول الشاعر:

وكان سيان أن لا يسرحوا نعما * أو يسرحوه بها واغبرت السرح

فإنه إنما يقال: سيان زيد وعمرو. وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة. وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم: أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال: أجنبت فلم أجد الماء، فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به" وفي بعض الروايات: أنه قال له عمر: نوليك ما توليت وخرج مسلم عن شقيق (1) قال: كنت جالسا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله لأبي موسى: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله ألم تسمع لقول عمار؟ وذكر له الحديث المتقدم، فقال له عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ لكن الجمهور رأوا أن ذلك قد ثبت من حديث عمار وعمران بن الحصين، خرجهما البخاري، وإن نسيان عمر ليس مؤثرا في وجوب العمل بحديث عمار، وأيضا فإنهم استدلوا بجواز التيمم للجنب والحائض بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وأما حديث عمران بن الحصين فهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال: يا فلان أما يكفيك أن تصلي مع القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ولموضع هذا الاحتمال اختلفوا: هل لمن ليس عنده ماء أن يطأ أهله أم لا يطؤها؟ أعني من يجوز للجنب التيمم.

----------

(1)"شقيق": الأصل غير واضح، والتصحيح من صحيح مسلم. دار الحديث]

----------

*4*الباب الثاني في معرفة من تجوز له الطهارة.

@-وأما من تجوز له هذه الطهارة، فأجمع العلماء أنها تجوز لاثنين: للمريض والمسافر إذا عدما الماء. واختلفوا في أربع: المريض يجد الماء ويخاف من استعماله، وفي الحاضر يعدم الماء، وفي الصحيح المسافر يجد الماء فيمنعه من الوصول إليه خوف، وفي الذي يخاف من استعماله من شدة البرد. فأما المريض الذي يجد الماء ويخاف من استعماله، فقال الجمهور: يجوز التيمم له؛ وكذلك الصحيح الذي يخاف الهلاك أو المرض الشديد من برد الماء، وكذلك الذي يخاف من الخروج إلى الماء، إلا أن معظمهم أوجب عليه الإعادة إذا وجد الماء، وقال عطاء: لا يتيمم المريض ولا غير المريض إذا وجد الماء. وأما الحاضر الصحيح الذي يعدم الماء، فذهب مالك والشافعي إلى جواز التيمم له، وقال أبو حنيفة: لا يجوز التيمم للحاضر الصحيح وإن عدم الماء، وسبب اختلافهم في هذه المسائل الأربع التي هي قواعد هذا الباب؛ أما في المريض الذي يخاف من استعمال الماء، فهو اختلافهم: هل في الآية محذوف مقدر في قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر} . فمن رأى أن في الآية حذفا وأن تقدير الكلام وإن كنتم مرضى لا تقدرون على استعمال الماء، وأن الضمير في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} إنما يعود على المسافر فقط أجاز التيمم للمريض الذي يخاف من استعمال الماء. ومن رأى أن الضمير في "فلم تجدوا ماء" يعود على المريض والمسافر معا وأنه ليس في الآية حذف لم يجز للمريض إذا وجد الماء التيمم. وأما سبب اختلافهم في الحاضر الذي يعدم الماء، فاحتمال الضمير الذي في قوله تعالى "فلم تجدوا ماء" أن يعود على أصناف المحدثين: أعني الحاضرين والمسافرين، أو على المسافرين فقط. فمن رآه عائدا على جميع أصناف المحدثين أجاز التيمم للحاضرين، ومن رآه عائدا على المسافرين فقط أو على المرضى والمسافرين لم يجز التيمم للحاضر الذي عدم الماء، وأما سبب اختلافهم في الخائف من الخروج إلى الماء، فاختلافهم في قياسه على من عدم الماء، وكذلك اختلافهم في الصحيح يخاف من برد الماء، السبب فيه هو اختلافهم في قياسه على المريض الذي يخاف من استعمال الماء، وقد رجح مذهبهم القائلون بجواز التيمم للمريض بحديث جابر في المجروح الذي اغتسل فمات، فأجاز عليه الصلاة والسلام المسح له وقال "قتلوه قتلهم الله" وكذلك رجحوا أيضا قياس الصحيح الذي يخاف من برد الماء على المريض بما روي أيضا في ذلك عن عمرو بن العاص أنه أجنب في ليلة باردة، فتيمم وتلا قول الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يعنف.

*4*الباب الثالث في معرفة شروط جواز هذه الطهارة.

@-وأما معرفة شروط هذه الطهارة، فيتعلق بها ثلاث مسائل قواعد: إحداها: هل النية من شرط هذه الطهارة أم لا؟. والثانية: هل الطلب شرط في جواز التيمم عند عدم الماء أم لا؟. والثالثة: هل دخول الوقت شرط في جواز التيمم أم لا؟.

@-(أما المسألة الأولى) فالجمهور على أن النية فيها شرط لكونها عبادة غير معقولة المعنى، وشذ زفر فقال: إن النية ليست بشرط فيها، وأنها لا تحتاج إلى نية، وقد روى ذلك أيضا عن الأوزاعي والحسن بن حي وهو ضعيف.

@-(وأما المسألة الثانية) فإن مالكا رضي الله عنه اشترط الطلب وكذلك الشافعي، ولم يشترطه أبو حنيفة. سبب اختلافهم في هذا هو هل يسمى من لم يجد الماء دون طلب غير واجد للماء أم ليس يسمى غير واجد للماء إلا إذا طلب الماء فلم يجده؟ لكن الحق في هذا أن يعتقد أن المتيقن لعدم الماء إما بطلب متقدم وإما بغير ذلك هو عادم للماء، وأما الظان فليس بعادم للماء، ولذلك يضعف القول بتكرر الطلب الذي في المذهب في المكان الواحد بعينه ويقوى اشتراطه ابتداء إذا لم يكن هنالك علم قطعي بعدم الماء.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهو اشتراط دخول الوقت فمنهم من اشترطه وهو مذهب الشافعي ومالك، ومنهم من لم يشترطه، وبه قال أبو حنيفة وأهل الظاهر وابن شعبان من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل ظاهر مفهوم آية الوضوء يقتضي أن لا يجوز التيمم والوضوء إلا عند دخول الوقت لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، فأوجب الوضوء والتيمم عند وجوب القيام إلى الصلاة، وذلك إذا دخل الوقت، فوجب لهذا أن يكون حكم الوضوء والتيمم في هذا حكم الصلاة، أعني أنه كما أن الصلاة من شرط صحتها الوقت، كذلك من شروط صحة الوضوء والتيمم الوقت، إلا أن الشرع خصص الوضوء من ذلك، فبقي التيمم على أصله أم ليس يقتضي هذا ظاهر مفهوم الآية، وأن تقدير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأيضا فإنه لو لم يكن هنالك محذوف لما كان يفهم من ذلك إلا إيجاب الوضوء والتيمم عند وجوب الصلاة فقط، لا أنه لا يجزئ إن وقع قبل الوقت إلا أن يقاسا على الصلاة، فلذلك الأولى أن يقال في هذا إن سبب الخلاف فيه هو قياس التيمم على الصلاة، لكن هذا يضعف، فإن قياسه على الوضوء أشبه، فتأمل هذه المسألة، فإنها ضعيفة، أعني من يشترط في صحته دخول الوقت ويجعله من العبادات المؤقتة، فإن التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي، وإنما يسوغ القول بهذا إذا كان على رجاء من وجود الماء قبل دخول الوقت فيكون هذا ليس من باب أن هذه العبادة مؤقتة، لكن من باب أنه ليس ينطلق اسم الغير واجد للماء إلا عند دخول وقت الصلاة، لأنه ما لم يدخل وقتها أمكن أن يطرأ هو على الماء، ولذلك اختلف المذهب متى يتيمم؟، هل في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره؟ لكن ههنا مواضع يعلم قطعا أن الإنسان ليس بطارئ على الماء فيها قبل دخول الوقت، ولا الماء بطارئ عليه. وأيضا فإن قدرنا طرو الماء فليس يجب عليه إلا نقض التيمم فقط لا منع صحته، وتقدير الطرو هو ممكن في الوقت وبعده، فلم جعل حكمه قبل دخول الوقت خلاف حكمه في الوقت أعني أنه قبل الوقت يمنع انعقاد التيمم، وبعد دخول الوقت لا يمنعه، وهذا كله لا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل سمعي، ويلزم على هذا أن لا يجوز التيمم إلا في آخر الوقت فتأمله.

*4*الباب الرابع في صفة هذه الطهارة

@-وأما صفة هذه الطهارة فيتعلق بها ثلاث مسائل هي قواعد هذا الباب.

@-(المسألة الأولى) اختلف الفقهاء في حد الأيدي التي أمر الله بمسحها في التيمم في قوله {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} على أربعة أقوال: القول الأول: أن الحد الواجب في ذلك هو الحد الواجب بعينه في الوضوء، وهو إلى المرافق، وهو مشهور المذهب، وبه قال فقهاء الأمصار. والقول الثاني: أن الفرض هو مسح الكف فقط، وبه قال أهل الظاهر وأهل الحديث. والقول الثالث: الاستحباب إلى المرفقين، والفرض الكفان، وهو مروي عن مالك. والقول الرابع: أن الفرض إلى المناكب، وهو شاذ روي عن الزهري ومحمد بن مسلمة. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم اليد في لسان العرب، وذلك أن اليد في كلام العرب يقال على ثلاثة معان: على الكف فقط وهو أظهرها استعمالا، ويقال على الكف والذراع، ويقال على الكف والساعد والعضد. والسبب الثاني اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن حديث عمار المشهور فيه من طرقه الثابتة "إنما يكفيك أن تضرب بيدك ثم تنفخ فيها ثم تمسح بها وجهك وكفيك". وورد في بعض طرقه أنه قال له عليه الصلاة والسلام "وأن تمسح بيديك إلى المرفقين". وروي أيضا عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" وروي أيضا من طريق ابن عباس ومن طريق غيره؛ فذهب الجمهور إلى ترجيح هذه الأحاديث على حديث عمار الثابت من جهة عضد القياس لها: أعني من جهة قياس التيمم على الوضوء وهو بعينه حملهم على أن عدلوا بلفظ اسم اليد عن الكف الذي هو فيه أظهر إلى الكف والساعد، ومن زعم أنه ينطلق عليهما بالسواء، وأنه ليس في أحدهما أظهر منه في الثاني فقط أخطأ، فإن اليد وإن كانت اسما مشتركا فهي في الكف حقيقة، وفيما فوق الكف مجاز، وليس كل اسم مشترك هو مجمل، وإنما المشترك المجمل الذي وضع من أول أمره مشتركا، وفي هذا قال الفقهاء إنه لا يصح الاستدلال به، ولذلك ما نقول إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط، وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء، فإن كان أظهر فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت، فأما أن يغلب القياس ههنا على الأثر فلا معنى له، ولا أن ترجح به أيضا أحاديث لم تثبت بعد، فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة فتأمله. وأما من ذهب إلى الآباط فإنما ذهب إلى ذلك، لأنه قد روي في بعض طرق حديث عمار أنه قال "تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب". ومن ذهب إلى أن يحمل تلك الأحاديث على الندب وحديث عمار على الوجوب فهو مذهب حسن إذ كان الجمع أولى من الترجيح عند أهل الكلام الفقهي، إلا أن هذا إنما ينبغي أن يصار إليه إن صحت تلك الأحاديث.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمنهم من قال واحدة، ومنهم من قال اثنتين، والذين قالوا اثنتين منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، وهم الجمهور، وإذا قلت الجمهور فالفقهاء الثلاثة معدودون فيهم: أعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة، ومنهم من قال: ضربتان لكل واحد منهما: أعني لليد ضربتان وللوجه ضربتان، والسبب في اختلافهم أن الآية مجملة في ذلك والأحاديث متعارضة، وقياس التيمم على الوضوء في جميع أحواله غير متفق عليه، والذي في حديث عمار الثابت من ذلك إنما هو ضربة واحدة للوجه والكفين معا، لكن ههنا أحاديث فيها ضربتان، فرجح الجمهور هذه الأحاديث لمكان قياس التيمم على الوضوء.

@-(المسألة الثالثة) اختلف الشافعي مع مالك وأبي حنيفة وغيرهما في وجوب توصيل التراب إلى أعضاء التيمم، فلم ير ذلك أبو حنيفة واجبا ولا مالك، ورأى ذلك الشافعي واجبا. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في حرف "من" في قوله تعالى {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وذلك أن من قد ترد للتبعيض، وقد ترد لتمييز الجنس، فمن ذهب إلى أنها ههنا للتبعيض أوجب نقل التراب إلى أعضاء التيمم. ومن رأى أنها لتمييز الجنس قال: ليس النقل واجبا. والشافعي إنما رجح حملها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء، لكن يعارضه حديث عمار المتقدم لأن فيه ثم تنفخ فيها، وتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحائط، وينبغي أن تعلم أن الاختلاف في وجوب الترتيب في التيمم ووجوب الفور فيه هو بعينه اختلافهم في ذلك في الوضوء وأسباب الخلاف هنالك هي أسبابه هنا فلا معنى لإعادته.

*4*الباب الخامس فيما تصنع به هذه الطهارة.

@-وفيه مسألة واحدة، وذلك أنهم اتفقوا على جوازها بتراب الحرث الطيب، واختلفوا في جواز فعلها بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولدة عنها كالحجارة، فذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وذهب مالك وأصحابه إلى أنه يجوز التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها في المشهور عنه الحصا والرمل والتراب. وزاد أبو حنيفة فقال: وبكل ما يتولد من الأرض من الحجارة مثل النورة والزرنيخ والجص والطين والرخام. ومنهم من شرط أن يكون التراب على وجه الأرض وهم الجمهور. وقال أحمد بن حنبل: يتمم بغبار الثوب واللبد. والسبب في اختلافهم شيئان: أحدهما اشتراك اسم ا لصعيد في لسان العرب، فإنه مرة يطلق على التراب الخالص، ومرة يطلق على جميع أجزاء الأرض الظاهرة، حتى إن مالكا وأصحابه حملهم دلالة اشتقاق هذا الاسم أعني الصعيد أن يجيزوا في إحدى الروايات عنهم التيمم على الحشيش وعلى الثلج، قالوا: لأنه يسمى صعيدا في أصل التسمية، أعني من جهة صعوده على الأرض، وهذا ضعيف. والسبب الثاني إطلاق اسم الأرض في جواز التيمم بها في بعض روايات الحديث المشهور، وتقييدها بالتراب في بعضها، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" فإن في بعض رواياته "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وفي بعضها "جعلت لي الأرض مسجد وجعلت لي تربتها طهورا" وقد اختلف أهل الكلام الفقهي هل يقضي بالمطلق على المقيد أو بالمقيد على المطلق؟ والمشهور عندهم أن يقضي بالمقيد على المطلق وفيه نظر، ومذهب أبي محمد بن حزم أن يقضي بالمطلق على المقيد، لأن المطلق فيه زيادة معنى، فمن كان رأيه القضاء بالمقيد على المطلق وحمل اسم الصعيد الطيب على التراب لم يجز التيمم إلا بالتراب، ومن قضى بالمطلق على المقيد وحمل اسم الصعيد على كل ما على وجه الأرض من أجزائها أجاز التيمم بالرمل والحصى. وأما إجازة التيمم بما يتولد منها فضعيف إذ كان لا يتناوله اسم الصعيد فإن أعم دلالة اسم الصعيد أن يدل على ما تدل عليه الأرض، لا أن يدل على الزرنيخ والنورة، ولا على الثلج والحشيش، والله الموفق للصواب، والاشتراك الذي في اسم الطيب أيضا من أحد دواعي الخلاف.

*4*الباب السادس في نواقض هذه الطهارة.

@-وأما نواقض هذه الطهارة فإنهم اتفقوا على أنه ينقضها ما ينقض الأصل الذي هو الوضوء أو الطهر، واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما هل ينقضها إرادة صلاة أخرى مفروضة غير المفروضة التي تيمم لها؟. والمسألة الثانية هل ينقضها وجود الماء أم لا؟.

@-(أما المسألة الأولى) فذهب مالك فيها إلى أن إرادة الصلاة الثانية تنقض طهارة الأولى، ومذهب غيره خلاف ذلك. وأصل هذا الخلاف يدور على شيئين: أحدهما هل في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} محذوف مقدر: أعني إذا قمتم من النوم، أو قمتم محدثين، أم ليس هنالك محذوف أصلا؟ فمن راى أن لا محذوف هنالك قال: ظاهر الآية وجوب الوضوء أو التيمم عند القيام لكل صلاة، لكن خصصت السنة من ذلك الوضوء فيبقي التيمم على أصله، لكن لا ينبغي أن يحتج بهذا لمالك فإن مالكا يرى أن في الآية محذوفا على ما رواه عن زيد بن أسلم في موطئه. وأما السبب الثاني فهو تكرار الطلب عند دخول وقت كل صلاة وهذا هو ألزم لأصول مالك أعني أن يحتج له بهذا، وقد تقدم القول في هذه المسألة، ومن لم يتكرر عنده الطلب وقدر في الآية محذوفا لم ير إرادة الصلاة الثانية ما لم ينقض التيمم.

@-(وأما المسألة الثانية) فإن الجمهور ذهبوا إلى أن وجود الماء ينقضها. وذهب قوم إلى أن الناقض لها هو الحدث، وأصل هذ الخلاف هل وجود الماء يرفع استصحاب الطهرة التي كانت بالتراب، أو يرفع ابتداء الطهارة به؟ فمن رى أنه يرفع ابتداء الطهارة به قال: لا ينقضها إلا الحدث. ومن رأى أنه يرفع استصحاب الطهارة قال: إنه ينقضها، فإن حد الناقض هو الرافع للاستصحاب، وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ما لم يجد الماء" والحديث محتمل، فإنه يمكن أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام "ما لم يجد الماء" يمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء انقطعت هذه الطهارة وارتفعت، ويمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء لم تصح ابتداء هذه الطهارة، والأقوى في عضد الجمهور هو حديث أبي سعيد الخدري، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" فإن الأمر محمول عند جمهور المتكلمين على الفور، وإن كان أيضا قد يتطرق إليه الاحتمال المتقدم فتأمل هذا. وقد حمل الشافعي تسليمه على أن وجود الماء يرفع هذه الطهارة أن قال: إن التيمم ليس رافعا للحدث: أي ليس مفيدا للمتيمم الطهارة الرافعة للحدث، وإنما هو مبيح للصلاة فقط مع بقاء الحدث، وهذا لا معنى له، فإن الله قد سماه طهارة، وقد ذهب قوم من أصحاب مالك هذا المذهب فقالوا: إن التيمم لا يرفع الحدث، لأنه لو رفعه لم ينقضه إلا الحدث. والجواب أن هذه الطهارة وجود الماء في حقها هو حدث خاص بها على القول بأن الماء ينقضها، واتفق القائلون بأن وجود الماء ينقضها على أنه ينقضها قبل الشروع في الصلاة وبعد الصلاة، واختلفوا هل ينقضها طروه في الصلاة؟ فذهب مالك والشافعي وداود إلى أنه لا ينقض الطهارة في الصلاة، وذهب أبو حنيفة وأحمد وغيرهما إلى أنه ينقض الطهارة في الصلاة وهم أحفظ للأصل، لأنه أمر غير مناسب الشرع أن يوجد شيء واحد لا ينقض الطهارة في الصلاة وينقضها في غير الصلاة، وبمثل هذا شنعوا على مذهب أبي حنيفة فيما يراه من أن الضحك في الصلاة ينقض الوضوء، مع أنه مستند في ذلك إلى الأثر فتأمل هذه المسألة فإنها بينة، ولا حجة في الظواهر التي يرام الاحتجاح بها بإرادته وإنما أبطلها طرو الماء كما لو أحدث.

*4*الباب السابع في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها

@-واتفق الجمهور على أن الأفعال التي هذه الطهارة شرط في صحتها هي الأفعال التي الوضوء شرط في صحتها من الصلاة ومس المصحف وغير ذلك، واختلفوا هل يستباح بها أكثر من صلاة واحدة فقط؟ فمشهور مذهب مالك أنه لا يستباح بها صلاتان مفروضتان أبدا، واختلف قوله في الصلاتين المقضيتين، والمشهور عنه أنه إذا كانت إحدى الصلاتين فرضا والأخرى نفلا أنه إذا قدم الفرض جمع بينهما، وإن قدم النفل لم يجمع بينهما. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز الجمع بين صلوات مفروضة بتيمم واحد. وأصل هذا الخلاف هو: هل التيمم يجب لكل صلاة أم لا؟ إما من قبل ظاهر الآية كما تقدم، وإما من قبل وجوب تكرار الطلب، وإما من كليهما.

*2*كتاب الطهارة من النجس.

@-والقول المحيط بأصول هذه الطهارة وقواعدها ينحصر في ستة أبواب. الباب الأول: في معرفة حكم هذه الطهارة: أعني في الوجوب أو في الندب إما مطلقا وإما من جهة أنها مشترطة في الصلاة. الباب الثاني: في معرفة أنواع النجاسات. الباب الثالث: في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها. الباب الرابع: في معرفة الشيء الذي تزال به. الباب الخامس: في صفة إزالتها في محل محل. الباب السادس: في آداب الإحداث.

*3*الباب الأول في معرفة حكم هذه الطهارة.

@-والأصل في هذا الباب إما من الكتاب، فقوله تعالى {وثيابك فطهر} وإما من السنة، فآثار كثيرة ثابتة، منها قوله عليه الصلاة والسلام "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر" ومنها "أمره صلى الله عليه وسلم بغسل دم الحيض من الثوب، وأمره بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي" وقوله عليه الصلاة والسلام في صاحبي القبر "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول" واتفق العلماء لمكان هذه المسموعات على أن إزالة النجاسة مأمور بها في الشرع واختلفوا: هل ذلك على الوجوب أو على الندب المذكور، وهو الذي يعبر عنه بالسنة؟ فقال قوم: إن إزالة النجاسات واجبة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال قوم: إزالتها سنة مؤكدة وليست بفرض. وقال قوم: هي فرض مع الذكر، ساقطة مع النسيان، وكلا هذين القولين عن مالك وأصحابه. وسبب اختلافهم في هذه المسألة راجع إلى ثلاثة أشياء: أحدها اختلافهم في قوله تبارك وتعالى {وثيابك فطهر} هل ذلك محمول على الحقيقة أو محمول على المجاز؟. والسبب الثاني تعارض ظواهر الآثار في وجوب ذلك، والسبب الثالث اختلافهم في الأمر والنهي الوارد لعلة معقولة المعنى، هل تلك العلة المفهومة من ذلك الأمر أو النهي، قرينة تنقل الأمر من الوجوب إلى الندب، والنهي من الحظر إلى الكراهة؟ أم ليست قرينة؟ وأنه لا فرق في ذلك بين العبادة المعقولة وغير المعقولة، وإنما صار من صار إلى الفرق في ذلك لأن الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها هي من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح، وهذه في الأكثر هي مندوب إليها، فمن حمل قوله تعالى {وثيابك فطهر} على الثياب المحسوسة قال: الطهارة من النجاسة واجبة، ومن حملها على الكناية عن طهارة القلب لم ير فيها حجة. وأما الآثار المتعارضة في ذلك، فمنها حديث صاحبي القبر المشهور، وقوله فيهما صلى الله عليه وسلم "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله" فظاهر هذا الحديث يقتضي الوجوب، لأن العذاب لا يتعلق إلا بالواجب، وأما المعارض لذلك فما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من أنه رمي عليه وهو في الصلاة سلا جزور بالدم والفرث فلم يقطع الصلاة. وظاهر هذا أنه لو كانت إزالة النجاسة واجبة كوجوب الطهارة من الحدث لقطع الصلاة ومنها ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صلاة من الصلوات يصلي في نعليه، فطرح نعليه، فطرح الناس لطرحه نعليه، فأنكر ذلك عليهم عليه الصلاة والسلام وقال "إنما خلعتها لأن جبريل أخبرني أن فيها قذرا" فظاهر هذا أنه لو كانت واجبة لما بني على ما مضى من الصلاة، فمن ذهب في هذه الآثار مذهب ترجيح الظواهر قال إما بالوجوب إن رجح ظاهر حديث الوجوب، أو بالندب إن رجح ظاهر حديث الندب، أعني الحديثين اللذين يقضيان أن إزالتها من باب الندب المؤكد. ومن ذهب مذهب الجمع، فمنهم من قال هي فرض مع الذكر والقدرة، ساقطة مع النسيان وعدم القدرة. ومنهم من قال هي فرض مطلقا وليست من شروط صحة الصلاة وهي قول رابع في المسألة وهو ضعيف، لأن النجاسة إنما تزال في الصلاة، وكذلك من فرق بين العبادة المعقولة المعنى والغير معقولته، أعني أنه جعل الغير معقولة آكد في باب الوجوب فرق بين الأمر الوارد في الطهارة من الحدث، وبين الأمر الوارد في الطهارة من النجس، لأن الطهارة من النجس معلوم أن المقصود بها النظافة، وذلك من محاسن الأخلاق. وأما الطهارة من الحدث فغير معقولة المعنى مع ما اقترن بذلك من صلاتهم في النعال مع أنها لا تنفك من أن يوطأ بها النجاسات غالبا، وما أجمعوا عليه من العفو عن اليسير في بعض النجاسات.

*3*الباب الثاني في معرفة أنواع النجاسات.

@-وأما أنواع النجاسات، فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا، أعني كثيرا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين، واختلفوا في غير ذلك، والقواعد من ذلك سبع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له، وفي ميتة الحيوان البحري، فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له طاهرة، وكذلك ميتة البحر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم والتي لا دم لها في النجاسة، واستثنوا من ذلك ميتة البحر، وهو مذهب الشافعي، إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة مثل دود الخل وما يتولد في المطعومات، وساوى قوم بين ميتة البر والبحر، واستثنوا ميتة ما لا دم له، وهو مذهب أبي حنيفة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وذلك أنهم فيما أحسب اتفقوا أنه من باب العام أريد به الخاص، واختلفوا أي خاص أريد به، فمنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر وما لا دم له، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة ما لا دم له فقط. وسبب اختلافهم في هذه المستثنيات هو سبب اختلافهم في الدليل المخصوص. أما من استثنى من ذلك ما لا دم له، فحجته مفهوم الأثر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من أمره بمقل الذباب إذا وقع في الطعام، قالوا: فهذا يدل على طهارة الذباب وليس لذلك علة إلا أنه غير ذي دم. وأما الشافعي فعنده أن هذا خاص بالذباب لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن في إحدى جناحية داء وفي الأخرى دواء" ووهن الشافعي هذا المفهوم من الحديث بأن ظاهر الكتاب يقتضي أن الميتة والدم نوعان من أنواع المحرمات: أحدهما تعمل فيه التذكية وهي الميتة، وذلك في الحيوان المباح الأكل باتفاق، والدم لا تعمل فيه التذكية فحكمهما مفترق، فكيف يجوز أن يجمع بينهما حتى يقال: إن الدم هو سبب تحريم الميتة؟ وهذا قوي كما ترى، فإنه لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتقع الحرمية عن الحيوان بالذكاة، وتبقى حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة، وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة، لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس له هو سببا، ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم. وأما من استثنى من ذلك ميتة البحر فإنه ذهب إلى الأثر الثابت في ذلك من حديث جابر، وفيه "أنهم أكلوا من الحوت الذي رماه البحر أياما وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن فعلهم، وسألهم: هل بقي منه شيء؟" وهو دليل على أنه لم يجوز لهم لمكان ضروة خروج الزاد عنهم. واحتجوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وأما أبو حنيفة فرجح عموم الآية على هذا الأثر، إما لأن الآية مقطوع بها، والأثر مظنون، وإما لأنه رأى أن ذلك رخصة لهم، أعني حديث جابر أو لأنه احتمل عنده أن يكون الحوت مات بسبب، وهو رمي البحر به إلى الساحل، لأن الميتة هو ما مات من تلقاء نفسه من غير سبب خارج، ولاختلافهم في هذا أيضا سبب آخر وهو احتمال عودة الضمير في قوله تعالى {وطعامه متاعا لكم وللسيارة} أعني أن يعود على البحر أو على الصيد نفسه، فمن أعاده على البحر قال طعامه هو الطافي، ومن أعاده على الصيد قال هو الذي أحل فقط من صيد البحر، مع أن الكوفيين أيضا تمسكوا في ذلك بأثر ورد فيه تحريم الطافي من السمك وهو عندهم ضعيف.

@-(المسألة الثانية) وكما اختلفوا في أنواع الميتات كذلك اختلفوا في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة، وذلك أنهم اتفقوا على أن اللحم من أجزاء الميتة ميتة. واختلفوا في العظام والشعر، فذهب الشافعي إلى أن العظم والشعر ميتة، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما ليسا بميتة، وذهب مالك للفرق بين الشعر والعظم فقال: إن العظم ميتة وليس الشعر ميتة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم فيما ينطلق عليه اسم الحياة من أفعال الأعضاء. فمن رأى أن النمو والتغذي هو من أفعال الحياة قال: إن الشعر والعظام إذا فقدت النمو والتغذي فهي ميتة. ومن رأى أنه لا ينطلق اسم الحياة إلا على الحس قال: إن الشعر والعظام ليست بميتة لأنها لا حس لها. ومن فرق بينهما أوجب للعظام الحس ولم يوجب للشعر. وفي حس العظام اختلاف، والأمر مختلف فيه بين الأطباء، ومما يدل على أن التغذي والنمو ليسا هما الحياة التي يطلق على عدمها اسم الميتة، أن الجميع قد اتفقوا على أن ما قطع من البهيمة وهي حية أنه ميتة لو زود ذلك في الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" واتفقوا على أن الشعر إذا قطع من الحي أنه طاهر، ولو انطلق اسم الميتة على من فقد التغذي والنمو لقيل في النبات المقلوع إنه ميتة، وذلك أن النبات فيه التغذي والنمو، وللشافعي أن يقول إن التغذي الذي ينطلق على عدمه اسم الموت هو التغذي الموجود في الحساس.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في الانتفاع بجلود الميتة، فذهب قوم إلى الانتفاع بجلودها مطلقا دبغت أو لم تدبغ، وذهب قوم إلى خلاف هذا، وهو ألا ينتفع به أصلا، وإن دبغت وذهب قوم إلى الفرق بين أن تدبغ وأن لا تدبغ، ورأوا أن الدباغ مطهر لها، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أن الدباغ لا يطهرها، ولكن تستعمل في اليابسات، والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان: أعني المباح الأكل، واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة، فذهب الشافعي إلى أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة فقط، وأنه بدل منها في إفادة الطهارة. وذهب أبو حنيفة إلى تأثير الدباغ في جميع ميتات الحيوان ما عدا الخنزير. وقال داود: تطهر حتى جلد الخنزير. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه أنه مر بميتة، فقال عليه الصلاة والسلام "هلا انتفعتم بجلدها؟" وفي حديث ابن عكيم منع الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" قال: وذلك قبل موته بعام. وفي بعضها الأمر بالاتنفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ، والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها، فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس، أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ. وذهب قوم مذهب النسخ، فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه موته بعام. وذهب قوم مذهب الترجيح لحديث ميمونة، ورأوا أنه يتضمن زيادة على ما في حديث ابن عباس، وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ، لأن الاتنفاع غير الطهارة، أعني كل طاهر ينتفع به، وليس يلزم عكس هذا المعنى، أعني أن كل ما ينتفع به هو طاهر.

@-(المسألة الرابعة) اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك، وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري، فقال قوم: دم السمك طاهر، وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة. وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه. وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور. والسبب في اختلافهم في دم السمك هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسا على الميتتة، وفي ذلك أثر ضعيف وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان الجراد والحوت، والكبد والطحال". وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق أو بالمطلق على المقيد، وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} وورد مقيدا في قوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} إلى قوله {أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} فمن قضى بالمقيد على المطلق وهم الجمهور قال المسفوح هو النجس المحرم فقط، ومن قضى بالمطلق على المقيد لأن فيه زيادة قال: المسفوح وهو الكثير، وغير المسفوح وهو القليل، كل ذلك حرام، وأيد هذا بأن كل ما هو نجس لعينه فلا يتبعض.

@-(المسألة الخامسة) اتفق العلماء على نجاسة بول ابن آدم ورجيعه إلا بول الصبي الرضيع، واختلفوا فيما سواه من الحيوان، فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها كلها نجسة. وذهب قوم إلى طهارتها بإطلاق، أعني فضلتي سائر الحيوان البول والرجيع. وقال قوم: أبوالها وأرواثها تابعة للحومها، فما كان منها لحومها محرمة فأبوالها وأرواثها نجسة محرمة، وما كان منها لحومها مأكولة فأبوالها وأوراثها طاهرة، ما عدا التي تأكل النجاسة، وما كان منها مكروهة فأبوالها وأوراثها مكروهة، وبهذا قال مالك كما قال أبو حنيفة بذلك في الأسآر. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في مفهوم الإباحة الواردة في الصلاة في مرابض الغنم، وإباحته عليه الصلاة والسلام للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، وفي مفهوم النهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والسبب الثاني اختلافهم في قياس سائر الحيوان في ذلك على الإنسان، فمن قاس سائر الحيوان على الإنسان ورأى أنه من باب قياس الأولى والأحرى لم يفهم من إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها جعل ذلك عبادة، ومن فهم من النهي عن الصلاة في أعطان الإبل النجاسة وجعل إباحته للعرنيين أبوال الإبل لمكان المداواة على أصله في إجازة ذلك قال: كل رجيع وبول فهو نجس، ومن فهم من حديث إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها وكذلك من حديث العرنيين وجعل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل عبادة أو لمعنى غير معنى النجاسة، وكان الفرق عنده بين الإنسان وبهيمة الأنعام أن فضلتي الإنسان مستقذرة بالطبع وفضلتي بهيمة الأنعام ليست كذلك جعل الفضلات تابعة للحوم والله أعلم. ومن قاس على بهيمة الأنعام غيرها جعل الفضلات كلها ما عدا فضلتي الإنسان غير نجسة ولا محرمة والمسألة محتملة، ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور، وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر، وكذلك المسك، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر.

@-(المسألة السادسة) اختلف الناس في قليل النجاسات على ثلاثة أقوال: فقوم رأوا قليلها وكثيرها سواء، وممن قال بهذا القول الشافعي. وقوم رأوا أن قليل النجاسات معفو عنه، وحدوه بقدر الدرهم البغلي، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وشذ محمد بن الحسن فقال: إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة. وقال فريق ثالث: قليل النجاسات وكثيرها سواء إلا الدم على ما تقدم، وهو مذهب مالك، وعنه في دم الحيض روايتان والأشهر مساواته لسائر الدماء. وسبب اختلافهم اختلافهم في قياس قليل النجاسة على الرخصة الواردة في الاستجمار للعلم بأن النجاسة هناك باقية، فمن أجاز القياس على ذلك استجاز قليل النجاسة، ولذلك حدوه بالدرهم قياسا على قدر المخرج، ومن رأى أن تلك رخصة والرخص لا يقاس عليها منع ذلك. وأما سبب استثناء مالك من ذلك الدماء، فقد تقدم، وتفصيل مذهب أبي حنيفة أن النجاسات عنده تنقسم إلى مغلظة ومخففة، وأن المغلظة هي التي يعفى منها عن قدر الدرهم، والمخففة هي التي يعفى منها عن ربع الثوب، والمخففة عندهم مثل أرواث الدواب، وما لا تنفك منه الطرق غالبا، وتقسيمهم إياها إلى مغلظة ومخففة حسن جدا.

@-(المسألة السابعة) اختلفوا في المني: هل هو نجس أم لا؟ فذهبت طائفة منهم مالك وأبو حنيفة إلى أنه نجس، وذهبت طائفة إلى أنه طاهر، وبهذا قال الشافعي وأحمد وداود وسبب اختلافهم فيه شيئان: أحدهما اضطراب الرواية في حديث عائشة وذلك أن في بعضها "كنت أغسل ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المني فيخرج إلى الصلاة وإن فيه لبقع الماء" وفي بعضها "أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي بعضها "فيصلي فيه" خرج هذه الزيادة مسلم. والسبب الثاني تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة كاللبن وغيره، فمن جمع الأحاديث كلها بأن حمل الغسل على باب النظافة، واستدل من الفرك على الطهارة على أصله في أن الفرك لا يطهر نجاسة، وقاسه على اللبن وغيره من الفضلات الشريفة لم يره نجسا، ومن رجح حديث الغسل على الفرك وفهم منه النجاسة وكان بالأحداث عنده أشبه منه مما ليس بحدث قال: إنه نجس، وكذلك أيضا من اعتقد أن النجاسة تزول بالفرك قال: الفرك يدل على نجاسته كما يدل الغسل وهو مذهب أبي حنيفة، وعلى هذا فلا حجة لأولئك في قولها فيصلي فيه، بل فيه حجة لأبي حنيفة في أن النجاسة تزال بغير الماء وهو خلاف قول الماليكة.

*3*الباب الثالث في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها.

@-وأما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة ولا خلاف في ذلك: أحدها الأبدان، ثم الثياب، ثم المساجد ومواضع الصلاة. وإنما اتفق العلماء على هذه الثلاثة لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة. أما الثياب ففي قوله تعالى {وثيابك فطهر} على مذهب من حملها على الحقيقة، وفي الثابت من أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الثوب من دم الحيض وصبه الماء على بول الصبي الذي بال عليه. وأما المساجد فلأمره عليه الصلاة والسلام بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أمر بغسل المذي من البدن وغسل النجاسات من المخرجين" واختلف الفقهاء هل يغسل الذكر كله من المذي أم لا؟ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي المشهور، وقد سئل عن المذي فقال "يغسل ذكره ويتوضأ" وسبب الخلاف فيه هو: هل الواجب هو الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فمن رأى أنه بأواخرها: أعني بأكثر ما ينطلق عليه الاسم قال يغسل الذكر كله، ومن رأى الأخذ بأقل ما ينطلق عليه قال إنما يغسل موضع الأذى فقط قياسا على البول والمذي.

*3*الباب الرابع في الشيء الذي تزال به.

@-وأما الشيء الذي به تزال، فإن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطاهر المطهر يزيلها من هذه الثلاثة المحال، واتفقوا أيضا على أن الحجارة تزيلها من المخرجين، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها. فذهب قوم إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه، وبه قال مالك والشافعي. واختلفوا أيضا في إزالتها في الاستجمار بالعظم والروث، فمنع ذلك قوم، وأجازه بغير ذلك مما ينقي، واستثنى مالك من ذلك ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز، وقد قيل ذلك فيما في استعماله سرف كالذهب والياقوت. وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط، وهو مذهب أهل الظاهر. وقوم أجازوا الاستنجاء بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم. وشذ الطبري فأجاز الاستجمار بكل طاهر ونجس. وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء، فمن لم يظهر عنده للماء مزيد خصوص قال بإزالتها بسائر المائعات والجامدات الطاهرة، وأيد هذا المفهوم بالاتفاق على إزالتها من المخرجين بغير الماء، وبما ورد من حديث أم سلمة أنها قالت "إني أمرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده" وكذلك بالآثار التي خرجها أبو داود في هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب له طهور" إلى غير ذلك مما روي في هذا المعنى، ومن رأى أن للماء في ذلك مزيد خصوص منع ذلك إلا في موضع الرخصة فقط، وهو المخرجان، ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجئوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا، حتى أنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول، وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي، وطال الخطب والجدل بينهم: هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول خلفا عن سلف، واطرت الشافعية إلى أن تثبت أن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره، وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة، بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية أعني شرعية، ولذلك لم تحتج إلى نية ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره، ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء، ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في المذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. وأما اختلافهم في الروث فسببه اختلافهم في المفهوم من النهي الوارد في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام، أعني أمره عليه الصلاة والسلام أن لا يستنجي بعظم ولا روث، فمن دل عنده النهي على الفساد لم يجز ذلك، ومن لم ير ذلك إذ كانت النجاسة معنى معقولا حمل ذلك على الكراهية ولم يعده إلى إبطال الاستنجاء بذلك، ومن فرق بين العظام والروث فلأن الروث نجس عنده.

*3*الباب الخامس في صفة إزالتها.

@-وأما الصفة التي بها تزول فاتفق العلماء على أنها غسل ومسح ونضح لورود ذلك في الشرع وثبوته في الآثار. واتفقوا على أن الغسل عام لجميع أنواع النجاسات ولجميع محال النجاسات، وأن المسح بالأحجار يجوز في المخرجين ويجوز في الخفين وفي النعلين من العشب اليابس، وكذلك ذيل المرأة الطويل اتفقوا على أن طهارته هي على ظاهر حديث أم سلمة من العشب اليابس، واختلفوا من ذلك في ثلاث مواضع هي أصول هذا الباب: أحدها في النضح لأي نجاسة هو والثاني في المسح لأي محل هو ولأي نجاسة هو بعد أن اتفقوا على ما ذكرناه. والثالث اشتراط العدد في الغسل والمسح. أما النضح فإن قوما قالوا: هذا خاص بإزالة بول الطفل الذي لم يأكل الطعام. وقوم فرقوا بين بول الذكر في ذلك والأنثى، فقالوا: ينضح بول الذكر ويغسل بول الأنثى، وقوم قالوا: الغسل طهارة ما يتيقن بنجاسته، والنضح طهارة ما شك فيه، وهو مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، أعني اختلافهم في مفهومها، وذلك أن ههنا حديثين ثابتين في النضح: أحدهما حديث عائشة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتى بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله" وفي بعض رواياته "فنضحه ولم يغسله" خرجه البخاري والآخر حديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته قال: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبث، فنضحته بالماء. فمن الناس من صار إلى العمل بمقتضى حديث عائشة. وقال: هذا خاص ببول الصبي واستثناه من سائر البول. ومن الناس من رحج الآثار الواردة في الغسل على هذا الحديث، وهو مذهب مالك، ولم ير النضح إلا الذي في حديث أنس، وهو الثوب المشكوك فيه على ظاهر مفهومه. وأما الذي فرق في ذلك بين بول الذكر والأنثى، فإنه اعتمد على ما رواه أبو داود عن أبي السمح من قوله عليه الصلاة والسلام "يغسل بول الجارية ويرش بول الصبي" وأما من لم يفرق فإنما اعتمد قياس الأنثى على الذكر الذي ورد فيه الحديث الثابت. وأما المسح فإن قوما أجازوه في أي محل كانت النجاسة إذا ذهب عينها على مذهب أبي حنيفة، وكذلك الفرك على قياس من يرى أن كل ما أزال العين فقد طهر، وقوم لم يجيزوه إلا في المتفق عليه وهو المخرج وفي ذيل المرأة وفي الخف، وذلك من العشب اليابس لا من الأذى غير اليابس وهو مذهب مالك، وهؤلاء لم يعدوا المسح إلى غير المواضع التي جاءت في الشرع، وأما الفريق الآخر فإنهم عدوه. والسبب في اختلافهم في ذلك هل ما ورد من ذلك رخصة أو حكم؟ فمن قال رخصة لم يعدها إلى غيرها: أعني لم يقس عليها، ومن قال هو حكم من أحكام إزالة النجاسة كحكم الغسل عداه. وأما اختلافهم في العدد، فإن قوما اشترطوا الإبقاء فقط في الغسل والمسح، وقوم اشترطوا العدد في الاستجمار وفي الغسل، والذين اشترطوه في الغسل منهم من اقتصر على المحل الذي ورد فيه العدد في الغسل بطريق السمع، ومنهم من عداه إلى سائر النجاسات، أما من لم يشترط العدد لا في غسل ولا في مسح فمنهم مالك وأبو حنيفة، وأما من اشترط في الاستجمار العدد: أعني ثلاثة أحجار لا أقل من ذلك، فمنهم الشافعي وأهل الظاهر، وأما من اشترط العدد في الغسل واقتصر به على محله الذي ورد فيه وهو غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب، فالشافعي ومن قال بقوله. وأما من عداه واشترط السبع في غسل النجاسات ففي أغلب ظني أن أحمد بن حنبل منهم. وأبو حنيفة يشترط الثلاثة في إزالة النجاسة الغير محسوسة العين أعني الحكمية. وسبب اختلافهم في هذا تعارض المفهوم من هذه العبادة لظاهر اللفظ في الأحاديث التي ذكر فيها العدد، وذلك أن من كان المفهوم عنده من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها لم يشترط العدد أصلا، وجعل العدد الوارد من ذلك في الاستجمار في حديث سلمان الثابت الذي فيه الأمر أن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار على سبيل الاستحباب حتى يجمع بين المفهوم من الشرع والمسموع من هذه الأحاديث، وجعل العدد المشترط في غسل الإناء من ولوغ الكلب عبادة لا لنجاسة كما تقدم من مذهب مالك. وأما من صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم فاقتصر بالعدد على هذه المحال التي ورد العدد فيها، وأما من رجح الظاهر على المفهوم فإنه عدى ذلك إلى سائر النجاسات. وأما حجة أبي حنيفة في الثلاثة فقوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في إنائه".

*3*الباب السادس في آداب الاستنجاء.

@-وأما آداب الاستنجاء ودخول الخلاء فأكثرها محمولة عند الفقهاء على الندب، وهي معلومة من السنة كالبعد في المذهب إذا أراد الحاجة وترك الكلام عليها، والنهي عن الاستنجاء باليمين، وأن لا يمس ذكره بيمينه، وغير ذلك مما ورد في الآثار، وإنما اختلفوا من ذلك في مسألة واحدة مشهورة وهي استقبال القبلة للغائط والبول واستدبارها، فإن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أنه لا يجوز أن تستقبل القبلة لغائط ولا بول أصلا، ولا في موضع من المواضع، وقول إن ذلك يجوز بإطلاق. وقول إنه يجوز في المباني والمدن ولا يجوز ذلك في الصحراء وفي غير المباني والمدن. والسبب في اختلافهم هذا حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا". والحديث الثاني حديث عبد الله بن عمر أنه قال "ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة" فذهب الناس في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الجمع. والثاني مذهب الترجيح. والثالث مذهب الرجوع إلى البراءة الأصلية إذا وقع التعارض، وأعني بالبراءة الأصلية عدم الحكم، فمن ذهب مذهب الجمع حمل حديث أبي أيوب الأنصاري على الصحاري وحيث لا سترة، وحمل حديث ابن عمر على السترة، وهو مذهب مالك. ومن ذهب مذهب الترجيح رجح حديث أبي أيوب، لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع، والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع، لأنه قد وجب العمل بنقله من طريق العدول، وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم، ويمكن أن يكون بعده، فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن لم نؤمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده، فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع: أعني التي توجب رفعها أو إيجابها، وليست هي أي ظن اتفق، ولذلك يقولون إن العمل ما لم يجب بالظن وإنما وجب بالأصل المقطوع به، يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن، وهذه الطريقة التي قلناها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي، وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي، وهو راجع إلى أنه لا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي. وأما من ذهب مذهب الرجوع إلى الأصل عند التعارض فهو مبني على أن الشك يسقط الحكم ويرفعه وأنه كلا حكم، وهو مذهب داود الظاهري، ولكن خالفه أبو محمد بن حزم في هذا الأصل مع أنه من أصحابه. قال القاضي: فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول، وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك، أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به، إما تعلقا قريبا، أو قريبا من القريب، وإن تذكرنا لشيء من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب، وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار، وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه، والله المعين والموفق.

*2*كتاب الصلاة.

@-(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

الصلاة تنقسم أولا وبالجملة إلى فرض، وندب. والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل: الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به. والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاث: أعني شروط الوجوب وشروط الصحة وشروط التمام والكمال. والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال، وهي الأركان. والجملة الرابعة في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره، لأنه قضاء ما إذا كان استدراكا لما فات.

*3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها أربع مسائل هي في معنى أُصول هذا الباب.

@-المسألة الأولى: في بيان وجوبها. الثانية: في بيان عدد الواجبات منها. الثالثة: في بيان على من تجب. الرابعة: ما الواجب على من تركها متعمدا؟.

@-(المسألة الأولى) أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والإجماع، وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه.

@-(المسألة الثانية) وأما عدد الواجب منها ففيه قولان: أحدهما قول مالك والشافعي والأكثر، وهو أن الواجب هي الخمس صلوات فقط لا غير. والثاني قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو أن الوتر واجب مع الخمس، واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا أو فرضا لا معنى له؟. وسبب اختلافهم الأحاديث المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة، ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور "أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعته، فقال تعالى: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي" وحديث الأعرابي المشهور الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام فقال له: "خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع" وأما الأحاديث التي مفهومها وجوب الوتر، فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها" وحديث حارثة بن حذافة قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر وجعلها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا" فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة المشهورة رجح تلك الأحاديث، وأيضا فإنه ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء "إنه لا يبدل القول لدي" وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص منها وإن كان هو في النقصان أظهر، والخبر ليس يدخله النسخ، ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب العمل أوجب المصير الى هذه الزيادة، لا سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخا، لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة.

@-(المسألة الثالثة) وأما على من تجب فعلى المسلم البالغ ولا خلاف في ذلك.

@-(المسألة الرابعة) وأما ما الواجب على من تركها عمدا وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودا لفرضها، فإن قوما قالوا: يقتل، وقوما قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي. والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس بين العبد وبين الكفر {أو قال الشرك} إلا ترك الصلاة" فمن فهم من الكفر ههنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام "كفر بعد إيمان" ومن فهم ههنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" ولم ير قتله كفرا. وأما من قال يقتل حدا فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات.

وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا، فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقدا لتركها فقد كفر، وإما أن يحمل على اسم الكفر على غير موضوعه الأول، وذلك على أحد معنيين: إما على أن حكمه حكم الكافر: أعني في القتل وسائر أحكام الكفار وإن لم يكن مكذبا، وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذ كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه، فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده، وهو أنه لا يحل دمه إذ هو خارج عن الثلاث الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم. أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر، وإما أن نحمله على المعنى المستعار، وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرا أو حدا، ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب.

*3*(الجملة الثانية في الشروط)

@-وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب: الباب الأول: في معرفة الأوقات. الثاني: في معرفة الأذان والإقامة. الثالث: في معرفة القبلة. الرابع: في ستر العورة واللباس في الصلاة. الخامس: في اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة. السادس: في تعيين المواضع التي يصلي فيها من المواضع التي لا يصلي فيها. السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة. الثامن: في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة.

*3*الباب الأول في معرفة الأوقات.

@-وهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين: الأول في معرفة الأوقات المأمور بها. الثاني في معرفة الأوقات المنهي عنها.

*4*الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها.

@-وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا: القسم الأول في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني في أوقات أهل الضرورة.

@-القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية.

والأصل في هذا الباب قوله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة الصلاة، وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة، واختلفوا في حدود أوقات التوسعة والفضيلة، وفيه خمس مسائل:

@-(المسألة الأولى) اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال، إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس، وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي، واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب فيه. فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه، وهو عنده أول وقت العصر. وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر هو المثل، وأول وقت العصر المثلان، وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر، وبه قال صاحباه أبو يوسف ومحمد. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال: "الوقت ما بين هذين" وروي عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطينا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل، وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا، وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث، فواجب أن يكون العصر أكثر من قامة، وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر. وقال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر، وأظنه قال: وثلث حجة من قال باتصال الوقتين، أعني اتصالا لا بفصل غير منقسم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت أخرى" وهو حديث ثابت. وأما وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات. وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وروي مثل ذلك عن مالك. وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد، وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث، وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" والثاني "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة" وفي حديث خباب "أنهم شكوا إليه حر الرمضاء فلم يشكهم" خرجه مسلم. قال زهير رواي الحديث: قلت لأبي إسحاق شيخه أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجليها؟ قال: نعم، فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص، وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص. وقوم رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام "وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول ميقاتها" والحديث متفق عليه، وهذه الزيادة فيه، أعني "لأول ميقاتها" مختلف فيه.

@-(المسألة الثانية) اختلفوا من صلاة العصر في موضعين: أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صلاة الظهر. والثاني في آخر وقتها. فأما اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله، إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا: أعني بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات. وأما الشافعي وأبو ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر هو زمان غير منقسم. وقال أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر إلى أن يصير، ظل كل شيء مثليه، وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك. وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر، وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. وفي حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" خرجه مسلم. فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا، ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا، وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث عبد الله إلى حديث جبريل، لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين، وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي، وحديث ابن عمر خرجه مسلم. وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما: أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، وبه قال الشافعي. والثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وهذا قول أحمد بن حنبل. وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة: الظاهر أحدها حديث عبد الله بن عمر خرجه مسلم وفيه "فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس" وفي بعض رواياته "وقت العصر ما لم تصفر الشمس". والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل، وفيه "أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه". والثالث حديث أبي هريرة المشهور "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها المختار المثلين (ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها اصفرار الشمس) (ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس أثبتناه لأنه من الضروري) ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس، وهم أهل الظاهر كما قلنا. وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع، لأن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما، ولذلك قال مالك مرة بهذا، ومرة بذلك. وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت فقالوا: حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم لا؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير موسع، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي. وذهب قوم إلى أن وقتها موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، وفي حديث عبد الله "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق" فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحد، ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا، وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل: أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له: الوقت ما بين هذين، والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي، خرجه مسلم، وهو أصل في هذا الباب. قالوا: وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات، وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة.

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا من وقت العشاء الآخرة في موضعين: أحدهما في أوله، والثاني في آخره. أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان: أحمر، وأبيض. ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل (إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل: أعني الفجر الكاذب، وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة، فالطوالع إذا أربعة: الفجر الكاذب، والفجر الصادق، والأحمر والشمس، وكذلك يجب أن تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة (ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا هـ))، وذلك أنه لا خلاف بينهم أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة" ورجح أبو حنيفة مذهبة بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره وقوله "لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى نصف الليل" وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: قول إنه ثلث الليل. وقول إنه نصف الليل وقول إنه إلى طلوع الفجر، وبالأول: أعني ثلث الليل، قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب مالك، وروي عن مالك القول الثاني: أعني نصف الليل، وأما الثالث فقول داود. وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار، ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل. وفي حديث أنس أنه قال "أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل" خرجه البخاري. وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى. فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل، ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال شطر الليل. وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها، فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع، وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل، فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت، إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أنه به قال أبو حنيفة.

@-(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس، إلا ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها الإسفار. واختلفوا في وقتها المختار، فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل، وذهب مالك والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل، وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث المختلفة الظواهر في ذلك، وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام من طريق رافع بن خديج أنه قال "أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول ميقاتها" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب، فمن قال إن حديث رافع خاص وقوله "الصلاة لأول ميقاتها" عام، والمشهور أن الخاص يقضي عن العام إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل حديث عائشة محمولا على الجواز، وأنه إنما تضمن الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب أحواله صلى الله عليه وسلم قال: الإسفار أفضل من التغليس. ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له، ولأنه نص في ذلك أو ظاهر، وحديث رافع بن خديج محتمل، لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر وتحققه، فلا يكون بينه وبين حديث عائشة ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال: أفضل الوقت أوله. وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر. والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا ووافقوا أهل الظاهر، ولذلك لأهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك.

@-القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول.

فأما أوقات الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر، وقد تقدم سبب اختلافهم في ذلك. واختلف هؤلاء الذين أثبتوها في ثلاثة مواضع: أحدها لأي الصلوات توجد هذه الأوقات ولأيها لا؟ والثاني في حدود هذه الأوقات. والثالث في من هم أهل العذر الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في ذلك: أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها.

@-(المسألة الأولى) اتفق مالك والشافعي على أن هذا الوقت هو لأربع صلوات: للظهر والعصر مشتركا بينهما، والمغرب والعشاء كذلك، وإنما اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد، وخالفهم أبو حنيفة فقال: إن هذا الوقت إنما هو للعصر فقط، وأنه ليس ههنا وقت مشترك. وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما سيأتي بعد، فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة العصر أعني الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل مغيب الشمس فقد أدرك العصر" وفهم من هذا الرخصة، ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" ولما سنذكره بعد في باب الجمع من حجج الفريقين قال: إنه لا يكون هذا الوقت إلا لصلاة العصر فقط. ومن أجاز الاشتراك في الجمع في السفر قاس عليه أهل الضرورات، لأن المسافر أيضا صاحب ضرورة وعذر، فجعل هذا الوقت مشتركا للظهر والعصر والمغرب والعشاء.

@-(المسألة الثانية) اختلف مالك والشافعي في آخر الوقت المشترك لهما، فقال مالك: هو للظهر والعصر من بعد الزوال، بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر، إلى أن يبقى للنهار مقدار أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع ركعات للحاضر بعد الزوال، وإما ركعتان للمسافر، وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر: أعني أنه من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة قبل ذلك الوقت، ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب، وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء، إلا أن الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال: هو مقدار ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر، ومرة جعله للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو مقدار أربع ركعات وهو القياس، وجعل آخر هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر. وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس، وذلك للظهر والعصر معا، ومقدار ركعة أيضا قبل انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا، وقد قيل عنه بمقدار تكبيرة: أعني أنه من أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر معا. وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص. وسبب اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما وقتين: وقت خاص بهما ووقت مشترك؟ أم إنما يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط؟ وحجة الشافعي أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت خاص. وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة: أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع وقتان، وقت مشترك ووقت خاص، وجب أن يكون الأمر كذلك في أوقات الضرورة، والشافعي لا يوافقه على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة، فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله، فإنه بين والله أعلم.

@-(المسألة الثالثة) وأما هذه الأوقات: أعني أوقات الضرورة، فاتفقوا على أنها لأربع: للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه الأوقات وهي لم تصل، والمسافر يذكر الصلاة في هذه الأوقات وهو حاضر، أو الحاضر يذكرها فيها وهو مسافر، والصبي يبلغ فيها، والكافر يسلم. واختلفوا في المغمي عليه فقال مالك والشافعي: هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي عندهم الصلاة التي ذهب وقتها. وعند أبي حنيفة أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس، فإذا أفاق عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة. وعند الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته الصلاة التي أفاق في وقتها، وإذا لم يفق فيها لم تلزمه الصلاة، وستأتي مسألة المغمى عليه فيما بعد، واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت في وقتها، فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا. وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان معا كما قلنا، أو تكبيرة على القول الثاني له، وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي يحضر في هذه الأوقات، أو الحاضر يسافر، وكذلك الكافر يسلم في هذه الأوقات: أعني أنه تلزمهم الصلاة، وكذلك الصبي يبلغ، والسبب في أن جعل مالك الركعة جزءا لآخر الوقت، وجعل الشافعي جزء الركعة حدا مثل التكبيرة. منها أن قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو عند مالك من باب التنبيه بالأقل على الأكثر، وعند الشافعي من باب التنبيه بالأكثر على الأقل، وأيد هذا بما روي "من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" فإنه فهم من السجدة ههنا جزء من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه: من أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد أدرك الوقت. ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد بهذا الوقت بعد الفراغ من طهرها، وكذلك الصبي يبلغ. وأما الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ من الطهر وفيه خلاف. والمغمى عليه عند مالك كالحائض، وعند عبد الملك كالكافر يسلم. ومالك يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم تصل بعد أن القضاء ساقط عنها، والشافعي يرى أن القضاء واجب عليها، وهو لازم لمن يرى أن الصلاة تجب بدخول أول الوقت، لأنها إذا حاضت وقد مضى من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت عليها الصلاة، إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت، وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك، فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك.

*4*الفصل الثاني من الباب الأول في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

@-وهذه الأوقات اختلف العلماء منها في موضعين: أحدهما في عددها، والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها.

@-(المسألة الأولى) اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي: وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ومن لَدُن تصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. واختلفوا في وقتين: في وقت الزوال وفي الصلاة بعد العصر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة: الطلوع، والغروب، وبعد الصبح، وبعد العصر، وأجاز الصلاة عند الزوال. وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة. واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر. وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر، وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل: أعني عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس، فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه، وحيث ورد المعارض اختلفوا. أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر، وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب" خرجه مسلم، وحديث أبو عبد الله الصنابحي في معناه، ولكنه منقطع، خرجه مالك في موطئه. فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها. ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال، إما بإطلاق وهو مالك، وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي. وأما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث: أعني الزوال أباح الصلاة فيه، وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل. وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع، وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي، وهو الذي يدعى بأصول الفقه. وأما الشافعي فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع ما رواه أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" استثنى من ذلك النهي يوم الجمعة، وقوي هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك وإن كان الأثر عنده ضعيفا. وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك فبقي على أصله في النهي. وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أبي هريرة المتفق على صحته "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". والثاني حديث عائشة قالت "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر" فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع، ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه صلى الله عليه وسلم قال بالجواز، وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة، وفيه "أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد العصر، فسألته عن ذلك فقال: إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان".

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه، قالوا: فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه. واتفق مالك والشافعي أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات. وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب، وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات، ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح: أعني في السنن، وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد، فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح، ولا يجيز ذلك مالك، واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب. وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي ما عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: قول هي الصلوات بإطلاق. وقول إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا. وقول إنها النفل دون السنن. وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع، وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب. وسبب الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك أعني الواردة في السنة، وأي يخص بأي، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا ذكرها" يقتضي استغراق جميع الأوقات، وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها" يقتضي أيضا عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل، فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام والخاص، إما في الزمان، وإما في اسم الصلاة. فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان: أعني الاستثناء الخاص من العام منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات، ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات، وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة، لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها، ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور، والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح. وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة، وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضى في الوقت المنهي عنه، فإذا الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب الخاص أريد به الخاص أم من باب الخاص أريد به العام؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما فهو عنده من باب الخاص أريد به الخاص، ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط ولا الصبح بل هي جميع الصلاة المفروضة، فهو عنده من باب الخاص أريد به العام، وإذا كان ذلك كذلك فليس ها هنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة، كما أنه ليس ههنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي، وهذا بين، فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل: أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك من عام هذا، وذلك بين والله أعلم.

*3*الباب الثاني في معرفة الأذان والإقامة.

@-هذا الباب ينقسم أيضا إلى فصلين: الأول في الأذان. والثاني في الإقامة.

*4*الفصل الأول.

@-هذا الفصل ينحصر الكلام فيه في خمسة أقسام: الأول: صفته. الثاني: في حكمه. الثالث: في وقته. الرابع: في شروطه. الخامس: فيما يقوله السامع له.

@-القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني في صفة الأذان.

اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة: إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع، وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت. والصفة الثانية أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان، والصفة الثالثة أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح، ويبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية: أعني الأربع كلمات تبعا، ثم يعيدهن ثالثة، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين. والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله. أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز فروي من طرق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد الأنصاري، وتربيعه أيضا مروي عن أبي محذورة من طرق أخر وعن عبد الله بن زيد. قال الشافعي: وهي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة. وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك فروي من طريق أبي قدامة: قال أبو عمر: وأبو قدامة عندهم ضعيف. وأما الكوفيون فبحديث أبي ليلى وفيه "أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلا قام على خرم حائط وعليه بردان أخضران، فأذن مثنى وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بلال فأذن مثنى وأقام مثنى" والذي خرجه البخاري في هذا الباب إنما هو من حديث أنس فقط وهو "أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة، فإنه يثنيها" وخرج مسلم عن أبي محذورة على صفة أذان الحجازين ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير لا على إيجاب واحدة منها، وأن الإنسان مخير فيها، واختلفوا في قول المؤذن في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم هل يقال فيها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يقال ذلك فيها. وقال آخرون: إنه لا يقال لأنه ليس من الأذان المسنون، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم هل قيل ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو إنما قيل في زمان عمر؟.

@-القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني.

اختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واحب أو سنة مؤكدة، وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ فقيل عن مالك إن الأذان هو فرض على مساجد الجماعات، وقيل سنة مؤكدة، ولم يره على المنفرد لا فرضا ولا سنة. وقال بعض أهل الظاهر هو واجب على الأعيان. وقال بعضهم: على الجماعة كانت في سفر أو في حضر. وقال بعضهم: في السفر. واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة للمنفرد والجماعة إلا أنه آكد في حق الجماعة. قال أبو عمر: واتفق الكل على أنه سنة مؤكدة أو فرض على المصري لما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع النداء لم يغر، وإذا لم يسمعه أغار". والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظواهر الآثار، وذلك أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث ولصاحبه "إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما" وكذلك ما روي من اتصال عمله به صلى الله عليه وسلم في الجماعة، فمن فهم من هذا الوجوب مطلقا قال إنه فرض على الأعيان أو على الجماعة، وهو الذي حكاه ابن المغلس عن داود، ومن فهم منه الدعاء إلى الاجتماع للصلاة قال إنه سنة المساجد أو فرض في المواضع التي يجتمع إليها الجماعة. فسبب الخلاف هو تردده بين أن يكون قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون المقصود به هو الاجتماع.

@-القسم الثالث من الفصل الأول في وقته.

وأما وقت الأذان فاتفق الجميع على أنه لا يؤذن للصلاة قبل وقتها، ما عدا الصبح فإنه اختلفوا فيها، فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز أن يؤذن لها قبل الفجر، ومنع ذلك أبو حنيفة، وقال قوم: لا بد للصبح إذا أذن لها قبل الفجر من أذان بعد الفجر، لأن الواجب عندهم هو الأذان بعد الفجر. وقال أبو محمد بن حزم: لا بد لها من أذان بعد الوقت، وإن أذن قبل الوقت جاز إذا كان بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد الثاني. والسبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث المشهور الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. والثاني ما روي عن ابن عمر "أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام" وحديث الحجازين أثبت، وحديث الكوفيين أيضا خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم، فذهب الناس في هذين الحديثين إما مذهب الجمع، وإما مذهب الترجيح، فأما من ذهب مذهب الترجيح فالحجازيون، فإنهم قالوا: حديث بلال أثبت والمصير إليه أوجب. وأما من ذهب مذهب الجمع فالكوفيون، وذلك أنهم قالوا: يحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر، لأنه كان في بصره ضعف، ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يتيقن فيه طلوع الفجر، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت "لم يكن بين أذانيهما إلا بقدر ما يهبط هذا ويصعد هذا" وأما من قال إنه يجمع بينهما: أعني أن يؤذن قبل الفجر وبعده فعلى ظاهر ماروي من ذلك في صلاة الصبح خاصة أعني أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم.

@-القسم الرابع من الفصل الأول من الشروط.

وفي هذا القسم مسائل ثمانية: إحداها هل من شروط من أذن أن يكون هو الذي يقيم أم لا؟ والثانية هل من شرط الأذان أن لا يتكلم في أثنائه أم لا؟ والثالثة هل من شرطه أن يكون على طهارة أم لا؟ والرابعة هل من شرطه أن يكون متوجها إلى القبلة أم لا؟ والخامسة هل من شرطه أن يكون قائما أم لا؟ والسادسة هل يكره أذان الراكب أم ليس يكره؟ والسابعة هل من شرطه البلوغ أم لا؟ والثامنة هل من شرطه أن لا يأخذ على الأذان أجرا أم يجوز له أن يأخذه؟. فأما اختلافهم في الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر، فأكثر فقهاء الأمصار على إجازة ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز، والسبب في ذلك أنه ورد في هذا حديثان متعارضان: أحدهما حديث الصدائي قال "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أوان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال ليقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم". والحديث الثاني ما روي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن، ثم أمر عبد الله فأقام. فمن ذهب مذهب النسخ قال: حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي متأخر. ومن ذهب مذهب الترجيح قال: حديث عبد الله بن زيد أثبت، لأن حديث الصدائي انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم. وأما اختلافهم في الأجرة على الأذان فلمكان اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك: أعني حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال "إن من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" ومن منعه قاس الأذان في ذلك على الصلاة. وأما سائر الشروط الأخر فسبب الخلاف فيها هو قياسها على الصلاة، فمن قاسها على الصلاة أوجب تلك الشروط الموجودة في الصلاة، ومن لم يقسها لم يوجب ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر: قد روينا عن أبي وائل بن حجر قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم، ولا يؤذن إلا على طهر، قال: وأبو وائل هو من الصحابة، وقوله سنة يدخل في المسند وهو أولى من القياس. قال القاضي: وقد خرج الترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا يؤذن إلا متوضئ".

@-القسم الخامس.

اختلف العلماء فيما يقوله السامع للمؤذن، فذهب قوم إلى أنه يقول ما يقول المؤذن كلمة بكلمة إلى آخر النداء، وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. والسبب في الاختلاف في ذلك تعارض الآثار، وذلك أنه قد روي من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" وجاء من طريق عمر بن الخطاب وحديث معاوية أن السامع يقول عند حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بعموم حديث أبي سعيد الخدري، ومن بنى العام في ذلك على الخاص جمع بين الحديثين، وهو مذهب مالك بن أنس.

*4*الفصل الثاني من الباب الثاني من الجملة الثانية في الإقامة.

@-اختلفوا في الإقامة في موضعين في حكمها وفي صفتها. أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في حق الأعيان، والجماعات سنة مؤكدة أكثر من الأذان، وهي عند أهل الظاهر فرض ولا أدري هل هي فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة؟ والفرق بينهما أن على القول الأول لا تبطل الصلاة بتركها. وعلى الثاني تبطل. وقال ابن كنانة من أصحاب مالك: من تركها عامدا بطلت صلاته. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة فيحمل على الوجوب لقوله عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب؟ وظاهر حديث مالك بن الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما على المنفرد. وأما صفة الإقامة فإنها عند مالك والشافعي. إما التكبير الذي في أولها فمثنى. وأما ما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها عند مالك مرة واحدة، وعند الشافعي مرتين. وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى مثنى، وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية على رأيه في التخيير في النداء. وسبب الاختلاف تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث أبي ليلى المتقدم، وذلك أن في حديث أنس الثابت أمر بلال أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا قد قامت الصلاة. وفي حديث أبي ليلى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بلالا فأذن مثنى وأقام مثنى. والجمهور أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة. وقال مالك: إن أقمن فحسن، وقال الشافعي: إن أذن وأقمن فحسن، وقال إسحاق: إن عليهن الأذان والإقامة. وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم فيما ذكره ابن المنذر، والخلاف آيل إلى هل تؤم المرأة أو لا تؤم؟ وقيل الأصل أنها في معنى الرجل في كل عبادة، إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها، أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب الدليل؟.

*3*الباب الثالث من الجملة الثانية في القبلة.

@-اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من شروط صحة الصلاة لقوله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} أما إذا أبصر البيت، فالفرض عندهم هو التوجه إلى عين البيت، ولا خلاف في ذلك. وأما إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما هل الفرض هو العين أو الجهة؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد: أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين؟ فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين، وذهب آخرون إلى أنه الجهة. والسبب في اختلافهم هل في قوله تعالى {فول وجهك شطر المسجد الحرام} محذوف حتى يكون تقديره: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أم ليس ههنا محذوف أصلا وأن الكلام على حقيقته؟ فمن قدر هنالك محذوفا قال: الفرض الجهة، ومن لم يقدر هنالك محذوفا قال: الفرض العين، والواجب حمل الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز، وقد يقال إن الدليل على تقدير هذا المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه نحو البيت" قالوا: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة. والذي أوله إنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا، قد قال تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها.

@-(وأما المسألة الثانية) فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد فقط حتى يكون إذا قلنا إن فرضه الإصابة متى تبين له أنه أخطأ أعاد الصلاة. ومتى قلنا إن فرضه الاجتهاد لم يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ، وقد كان صلى قبل اجتهاده. أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبدا. وقال قوم: لا يعيد وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد، وبه قال مالك وأبو حنيفة، إلا أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت. وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح الأثر الوارد في ذلك. أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت: أعني بوقت الصلاة، وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوية الشفق ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت، وهذا ميقات جهة. وأما الأثر فحديث عامر بن ربيعة قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلَّمنا، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مضت صلاتكم، ونزلت {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة، وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة، والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان، ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته. وفي هذا الباب مسألة مشهورة، وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة. وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من منعه على الإطلاق، ومنهم من أجازه على الإطلاق، ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل يسمى مستقبلا للبيت كما يسمى من استقبله من خارج أم لا؟ أما الأثر فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث ابن عباس قال "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة" والثاني حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح، فأغلقها عليه ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ثم صلى" فمن ذهب مذهب الترجيح أو النسخ قال إما بمنع الصلاة مطلقا إن رجح حديث ابن عباس، وإما بإجازتها مطلقا إن رجح حديث ابن عمر، ومن ذهب مذهب الجمع بينهما حمل حديث ابن عباس على الفرض وحديث ابن عمر على النفل، والجمع بينهما فيه عسر، فإن الركعتين اللتين صلاهما عليه الصلاة والسلام خارج الكعبة وقال "هذه القبلة" هي نفل، ومن ذهب مذهب سقوط الأثر عند التعارض، فإن كان ممن يقول باستصحاب حكم الإجماع والاتفاق لم يجز الصلاة داخل البيت أصلا، وإن كان ممن لا يرى استصحاب حكم الإجماع عاد النظر في انطلاق اسم المستقبل للبيت على من صلى داخل الكعبة، فمن جوزه أجاز الصلاة، ومن لم يجوزه، وهو الأظهر، لم يجز الصلاة في البيت، واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى، منفردا كان أو إماما، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل" واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة، فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط. وقال أحمد بن حنبل: يخط خطا بين يديه. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط، والأثر رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يكن فلينصب عصا، فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه" خرجه أبو داود وكان أحمد بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي "أنه صلى الله عليه وسلم صلى لغير سترة" والحديث الثابت أنه كان يخرج له العنزة، فهذه جملة قواعد هذا الباب وهي أربع مسائل.

*3*الباب الرابع من الجملة الثانية.

@-وهذا الباب ينقسم إلى فصلين: أحدهما في ستر العورة والثاني فيما يجزئ من اللباس في الصلاة.

*4*الفصل الأول.

@-اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة، وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في مفهوم قوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله

فأنزلت هذه الآية "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس التي هي زينة، واحتج لذلك بما جاء في الحديث من أنه كان رجال يصلون مع النبي عليه الصلاة والسلام عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا قالوا: ولذلك من لم يجد ما به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي، واختلف فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا يصلي؟.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي حد العورة من الرجل فذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة منه ما بين السرة إلى الركبة، وكذلك قال أبو حنيفة وقال قوم: العورة هما السوأتان فقط من الرجل. وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث جرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الفخذ عورة". والثاني حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه" قال البخاري وحديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط، وقد قال بعضهم العورة الدبر والفرج والفخذ.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي حد العورة في المرأة، فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة ما خلى الوجه والكفين، وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة، وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة. وسبب الخلاف في ذلك احتمال قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة، أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة قال: بدنها كله عورة حتى ظهرها، واحتج لذلك بعموم قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} الآية، ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج.

*4*الفصل الثاني من الباب الرابع فيما يجزئ في اللباس في الصلاة.

@-أما اللباس فالأصل فيه قوله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} والنهي الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة، وذلك أنهم اتفقوا فيما أحسب على أن الهيئات من اللباس التي نهي عن الصلاة فيها مثل اشتمال الصماء، وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء، وسائر ما ورد من ذلك أن ذلك كله سد ذريعة ألا تنكشف عورته، ولا أعلم أن أحدا قال لا تجوز صلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشف عورته، وقد كان على أصول أهل الظاهر يجب ذلك واتفقوا على أنه يجزئ الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال "أو لكلكم ثوبان؟" واختلفوا في الرجل يصلي مكشوف الظهر والبطن، فالجمهور على جواز صلاته لكون الظهر والبطن من الرجل ليسا بعورة، وشذ قوم فقالوا: لا تجوز صلاته لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، وتمسك بوجوب قوله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} واتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في الصلاة هو درع وخمار، لما روي عن أم سلمة "أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تصلي فيه المرأة؟ فقال: في الخمار والدرع السابغ إذا غيبت ظهور قدميها" ولما روي أيضا عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو مروي عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنهم كانوا يفتون بذلك وكل هؤلاء يقولون إنها إن صلت مكشوفة أعادت في الوقت وبعده، إلا مالكا فإنه قال: إنها تعيد في الوقت فقط. والجمهور على أن الخادم لها أن تصلي مكشوفة الرأس والقدمين، وكان الحسن البصري يوجب عليها الخمار واستحبه عطاء. وسبب الخلاف الخطاب المتوجه إلى الجنس الواحد هل يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ واختلفوا في صلاة الرجل في الثوب الحرير فقال قوم: تجوز صلاته فيه. وقال قوم: لا تجوز. وقوم استحبوا له الإعادة في الوقت. وسبب اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقا اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا؟ فمن ذهب إلى أنه شرط: قال إن الصلاة لا تجوز به، ومن ذهب إلى أنه يكون بلباسه مأثوما والصلاة جائزة قال: ليس شرطا في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط، وهذه المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها مشهور.

*3*الباب الخامس.

@-وأما الطهارة من النجس فمن قال إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول إنها فرض في الصلاة أي من شروط صحتها. ومن قال إنها فرض بإطلاق فيجوز أن يقول إنها فرض في الصلاة، ويجوز أن لا يقول ذلك؛ وحكى عبد الوهاب عن المذهب في ذلك قولين: أحدهما إن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة والذكر، والقول الآخر إنها ليست شرطا. والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة، وإنما يتخرج على القول بأنها فرض مع الذكر والقدرة، وقد مضت هذه المسألة في كتاب الطهارة، وعرف هنالك أسباب الخلاف فيها، وإنما الذي يتعلق به ههنا الكلام من ذلك: هل ما هو فرض مطلق مما يقع في الصلاة يجب أن يكون فرضا في الصلاة أم لا؟ والحق أن الشيء المأمور به على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما (آخر مأمور به، وإن وقع فيه إلا بأمر آخر، وكذلك الأمر في الشيء المنهي عنه على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما) (ما بين القوسين غير موجود بالنسخة المصرية، لكنه مثبت في النسخة الفاسية اهـ) إلا بأمر آخر.

*3*الباب السادس.

@-وأما المواضع التي يصلي فيها، فإن من الناس من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة، ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله، ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط، ومنهم من استثنى المقبرة والحمام، ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما روي عن مالك، وقد روي عنه الجواز، وهذه رواية ابن القاسم. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أن ههنا حديثين متفق على صحتهما وحديثين مختلف فيهما. فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، وذكر فيها: وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت" وقوله عليه الصلاة والسلام "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" وأما الغير المتفق عليهما فأحدهما ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلي في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله" خرجه الترمذي. والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل" فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدهما مذهب الترجيح والنسخ، والثاني مذهب البناء: أعني بناء الخاص على العام، والثالث مذهب الجمع. فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال هذا ناسخ لغيره، لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام ، وذلك مما لا يجوز نسخه. وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على العام فقال: حديث الإباحة عام، وحديث النهي خاص، فيجب أن يبني الخاص على العام. فمن هؤلاء من استثنى السبعة مواضع، ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة والسلام لأنه قد روي أيضا النهي عنهما مفردين. ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم. وأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن خاصا من عام فقال أحاديث النهي محمولة على الكراهة، والأول على الجواز. واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس، فكرهها قوم، وأجازها قوم، وفرق قوم بين أن يكون فيها صور أو لا يكون، وهو مذهب ابن عباس لقول عمر: لا تدخل كنائسهم من أجل التماثيل، والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير، حملها على النجاسة، واتفقوا على الصلاة على الأرض، واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما يقعد عليه على الأرض، والجمهور على إباحة السجود على الحصير وما يشبهه مما تنبت الأرض، والكراهية بعد ذلك، وهو مذهب مالك بن أنس (لا يخفى ما في هذه العبارة فتدبر).

*3*الباب السابع. في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة.

@-وأما التروك المشترطة في الصلاة، فاتفق المسلمون على أن منها قولا، ومنها فعلا. فأما الأفعال فجميع الأفعال المباحة التي ليست من أفعال الصلاة، إلا قتل العقرب والحية في الصلاة، فإنهم اختلفوا في ذلك لمعارضة الأثر في ذلك للقياس، واتفقوا فيما أحسب على جواز الفعل الخفيف. وأما الأقوال فهي أيضا الأقوال التي ليست من أقاويل الصلاة، وهذه أيضا لم يختلفوا أنها تفسد الصلاة عمدا لقوله تعالى {وقوموا لله قانتين} ولما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "إن الله يحدث من أمره ما يشاء" ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، وهو حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم أنه قال "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وحديث معاوية بن الحكم السلمي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن" إلا أنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما إذا تكلم ساهيا، والآخر إذا تكلم عامدا لإصلاح الصلاة. وشذ الأوزاعي فقال: من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير، فإنه يبنى. والمشهور من مذهب مالك أن التكلم عمدا على جهة الإصلاح لا يفسدها. وقال الشافعي: يفسدها التكلم كيف كان إلا مع النسيان. وقال أبو حنيفة: يفسدها التكلم كيف كان. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، وذلك أن الأحاديث المتقدمة تقتضي تحريم الكلام على العموم، وحديث أبي هريرة المشهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم" ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم والناس معه، وأنهم بنوا بعد التكلم، ولم يقطع ذلك التكلم صلاتهم، فمن أخذ بهذا الظاهر، ورأى أن هذا شيء يخص الكلام لإصلاح الصلاة استثنى هذا من ذلك العموم، وهو مذهب مالك بن أنس، ومن ذهب إلى أنه ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمدا في الصلاة وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا وهم يظنون أن الصلاة قد قصرت، وتكلم النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن أن الصلاة قد تمت، ولم يصح عنده أن الناس قد تكلموا بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قصرت الصلاة وما نسيت" قال: إن المفهوم من الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد، فإذا السبب في اختلاف مالك والشافعي في المستثنى من ذلك العموم هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث مع أن الشافعي اعتمد أيضا في ذلك أصلا عاما، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها، ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها.

*3*الباب الثامن. في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة.

@-وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطا في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من المصالح المحسوسة، واختلفوا هل من شرط نية المأموم أن توافق نية الإمام في تعيين الصلاة وفي الوجوب حتى لا يجوز أن يصلي المأموم ظهرا بإمام يصلي عصرا؟ ولا يجوز أن يصلي الإمام ظهرا يكون في حقة نفلا، وفي حق المأموم فرضا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجب أن توافق نية المأموم نية الإمام، وذهب الشافعي إلى أنه ليس يجب. والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" لما جاء في حديث معاذ من أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يصلي بقومه، فمن رأى ذلك خاصا لمعاذ، وأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" يتناول النية اشترط موافقة الإمام للمأموم. ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال: لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال، فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ، وإما أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في ذلك العموم. وفي النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من الشرع رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق بالمنطوق به من الشرع.

*3*(الجملة الثالثة من كتاب الصلاة) وهي معرفة ما تشتمل عليه من الأقوال والأفعال، وهي الأركان والصلوات المفروضة تختلف في هذين بالزيادة والنقصان، إما من قبل الانفراد والجماعة، وإما من قبل الزمان، مثل مخالفة ظهر الجمعة لظهر سائر الأيام، وإما من قبل الحضر والسفر، وإما من قبل الأمن والخوف، وإما من قبل الصحة والمرض، فإذا أريد أن يكون القول في هذه صناعيا وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص واحدة واحدة منها، أو يقال في واحدة واحدة منها وهو الأسهل وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار ما، وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن نتبعهم في ذلك، فنجعل هذه الجملة منقسمة إلى ستة أبواب. الباب الأول: في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح. الباب الثاني: في صلاة الجماعة: أعني في أحكام الإمام والمأموم في الصلاة. الباب الثالث: في صلاة الجمعة. الباب الرابع: في صلاة السفر. الباب الخامس: في صلاة الخوف. الباب السادس: في صلاة المريض.

*3*الباب الأول في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح.

@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أقوال الصلاة. والفصل الثاني: في أفعال الصلاة.

*4*الفصل الأول في أقوال الصلاة. وفي هذا الفصل من قواعد المسائل تسع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: إن التكبير كله واجب في الصلاة. وقوم قالوا: إنه كله ليس بواجب وهو شاذ. وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط، وهم الجمهور، وسبب اختلاف من أوجبه كله ومن أوجب منه تكبيرة الإحرام فقط: معارضة ما نقل من قوله لما نقل من فعله عليه الصلاة والسلام، فأما ما نقل من قوله فحديث أبي هريرة المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي علمه الصلاة "إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ" فمفهوم هذا هو أن التكبيرة الأولى هي الفرض فقط، ولو كان ما عدا ذلك من التكبير فرضا لذكره له كما ذكر سائر فروض الصلاة. وأما ما نقل من فعله فمنها حديث أبي هريرة "أنه كان يصلي فيكبر كلما حفض ورفع، ثم يقول: إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومنها حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير قال "صليت أنا وعمران بن الحصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه من الركوع كبر، فلما قضى صلاته وانصرفنا أخذ عمران بيده، فقال: أذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم "فالقائلون بإيجابه تمسكوا بهذا العمل المنقول في هذه الأحاديث وقالوا: الأصل أن تكون كل أفعاله التي أتت بيانا لواجب، محمولة على الوجوب كما قال صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" وقالت الفرقة الأولى ما في هذه الآثار يدل على أن العمل عند الصحابة إنما كان على إتمام التكبير ولذلك كان أبو هريرة يقول: إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عمران: أذكرني هذا بصلاته صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما من جعل التكبير كله نفلا فضعيف، ولعله قاسه على سائر الأذكار التي في الصلاة مما ليست بواجب، إذ قاس تكبيرة الإحرام على سائر التكبيرات. قال أبو عمر بن عبد البر: ومما يؤيد مذهب الجمهور ما رواه شعبة بن الحجاج عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير، وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير. وما رواه أحمد بن حنبل عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده، وكأن هؤلاء رأوا أن التكبير إنما هو لمكان إشعار الإمام للمأمومين بقيامه وقعوده، ويشبه أن يكون إلى هذا ذهب من رآه نفلا.

@-(المسألة الثانية) قال مالك: لا يجزئ من لفظ التكبير إلا الله أكبر. وقال الشافعي: الله أكبر والله الأكبر اللفظان كلاهما يجزئ. وقال أبو حنيفة: يجزئ من لفظ التكبير كل لفظ في معناه مثل: الله الأعظم، والله الأجل. وسبب اختلافهم: هل اللفظ هو المتعبد به في الافتتاح أو المعنى، وقد استدل المالكيون والشافعيون بقوله عليه الصلاة والسلام "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" قالوا: والألف واللام ههنا للحصر، والحصر يدل على أن الحكم خاص بالمنطوق به، وأنه لا يجوز بغيره، وليس يوافقهم أبو حنيفة على هذا الأصل، فإن هذا المفهوم هو عنده من باب دليل الخطاب، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بضد حكم المنطوق به، ودليل الخطاب عند أبي حنيفة غير معمول به.

@-(المسألة الثالثة) ذهب قوم إلى أن التوجيه في الصلاة واجب، وهو أن يقول بعد التكبير: إما {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض} وهو مذهب الشافعي، وإما أن يسبح وهو مذهب أبي حنيفة، وإما أن يجمع بينهما وهو مذهب أبي يوسف وصاحبه. وقال مالك ليس التوجيه بواجب في الصلاة ولا بسنة. وسبب الاختلاف معارضة الآثار الواردة بالتوجيه للعمل عند مالك، أو الاختلاف في صحة الآثار الواردة بذلك. قال القاضي: قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، قال: فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي: إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب (1) الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" وقد ذهب قوم إلى استحسان سكتات كثيرة في الصلاة، منها حين يكبر، ومنها حين يفرغ من قراءة أم القرآن وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور والأوزاعي، وأنكر ذلك مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي هريرة أنه قال "كانت له عليه الصلاة والسلام في صلاته حين يكبر ويفتتح الصلاة وحين يقرأ فاتحة الكتاب، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع.

----------

(1) [في نسختنا "البرب" بدل "الثوب" وهو خطأ مطبعي!. وتصحيحنا موافق للروايات المشهورة لهذا الدعاء. دار الحديث]

----------

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة، فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة جهرا كانت أو سرا، لا في استفتاح أم القرآن ولا في غيرها من السور، وأجاز ذلك في النافلة. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرا، وقال الشافعي: يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب، وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد. واختلف قول الشافعي هل هي آية من كل سورة؟ أم إنما هي آية من سورة النمل فقط، ومن فاتحة الكتاب؟ فروي عنه القولان جميعا. وسبب الخلاف في هذا آيل إلى شيئين: أحدهما اختلاف الآثار في هذا الباب، والثاني اختلافهم: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب أم لا؟ فأما الآثار التي احتج بها من أسقط ذلك فمنها حديث ابن مغفل قال "سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يا بني إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع رجلا منهم يقرؤها "قال أبو عمر بن عبد البر: ابن مغفل رجل مجهول. ومنها ما رواه مالك من حديث أنس أنه قال: "قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كان لا يقرأ بسم الله إذا افتتحوا الصلاة" قال أبو عمر: وفي بعض الروايات أنه قال: "خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" فقال أبو عمر: إلا أن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا: إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة، وذلك أن مرة روي عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومرة لم يرفع، ومنهم من يذكر عثمان ومن لا يذكره، ومنهم من يقول: فكانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من يقول: فكانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم. ومنهم من يقول: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وأما الأحاديث المعارضة لهذا، فمنها حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة وكبر في الخفض والرفع وقال: أنا أشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها حديث ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" ومنها حديث أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين" فاختلاف هذه الآثار أحد ما أوجب اختلافهم في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة. والسبب الثاني كما قلنا هو: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من أم الكتاب وحدها أو من كل سورة أم ليست آية لا أم الكتاب ولا من كل سورة؟ فمن رأى أنها آية من أم الكتاب أوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة، ومن رأى أنها آية من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. وهذه المسألة قد كثر الاختلاف فيها والمسألة محتملة، ولكن من أعجب ما وقع في هذه المسألة أنهم يقولون: ربما اختلف فيه هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في غير سورة النمل؟ أم إنما هي آية من القرآن في سورة النمل فقط؟ ويحكون على جهة الرد على الشافعي أنها لو كانت من القرآن في غير سورة النمل لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القرآن نقل تواترا، هذا الذي قاله القاضي في الرد على الشافعي وظن أنه قاطع وأما أبو حامد فانتصر لهذا بأن قال إنه أيضا لو كانت من غير القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك، وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم، فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر، بل يقال إن بسم الله الرحمن الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت، وأنها آية من سورة النمل، وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها، مختلف فيه، والمسألة محتملة، وذلك أنها في سائر السور فاتحة، وهي جزء من سورة النمل، فتأمل هذا فإنه بين، والله أعلم.

@-(المسألة الخامسة) اتفق العلماء على أنه لا تجوز صلاة بغير قراءة لا عمدا ولا سهوا، إلا شيئا روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فنسي القراءة، فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ فقيل حسن، فقال: لا بأس إذا، وهو حديث غريب عندهم، أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات وإلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر وأنه قال "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلوات وسكت في أخرى" فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت. وسئل هل في الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا، وأخذ الجمهور بحديث خباب "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر، قيل فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضطراب لحيته" وتعلق الكوفيون بحديث ابن عباس في ترك وجوب القراءة في الركعتين الأخيرتين من الصلاة لاستواء صلاة الجهر والسر في سكوت النبي صلى الله عليه وسلم في هاتين الركعتين. واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة، فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن لمن حفظها، وأن ما عداها ليس فيه توقيت، ومن هؤلاء من أوجبها في كل ركعة، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة، وبالأول قال الشافعي، وهي أشهر الروايات عن مالك، وقد روي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته.

وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة. وأما أبو حنيفة فالواجب عنده إنما هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ، وحد أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين، وهذا في الركعتين الأوليين. وأما في الأخيرتين فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة، وبه قال الكوفيون. والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها. والسبب في هذا الاختلاف تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة ظاهر الكتاب للأثر. أما الآثار المتعارضة في ذلك، فأحدها حديث أبي هريرة الثابت "ان رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فصلى ثم أمره بالرجوع، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"

وأما المعارض لهذا فحديثان ثابتان متفق عليهما: أحدهما حديث عبادة بن الصامت أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج ثلاثا" وحديث أبي هريرة المتقدم ظاهره أنه يجزئ من القراءة في الصلاة ما تيسر من القرآن، وحديث عبادة وحديث أبي هريرة الثاني يقتضيان أن أم القرآن شرط في الصلاة، وظاهر قوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر منه} يعضد حديث أبي هريرة المتقدم:، والعلماء المختلفون في هذه المسألة إما أن يكونوا ذهبوا في تأويل هذه الأحاديث مذهب الجمع، وإما أن يكونوا ذهبوا مذهب الترجيح، وعلى كلا القولين يتصور هذا المعنى، وذلك أنه من ذهب مذهب من أوجب قراءة ما تيسر من القرآن له أن يقول هذا أرجح، لأن ظاهر الكتاب يوافقه، وله أن يقول على طريق الجمع أنه يمكن أن يكون حديث عبادة المقصود به نفي الكمال لا نفي الإجزاء، وحديث أبي هريرة المقصود منه الإعلام بالمجزئ من القراءة، إذا كان المقصود منه تعليم فرائض الصلاة، ولأولئك أيضا أن يذهبوا هذين المذهبين بأن يقولوا هذه الأحاديث أوضح لأنها أكثر، وأيضا فإن حديث أبي هريرة المشهور يعضده، وهو الحديث الذي فيه يقول تعالى "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد الحمد لله رب العالمين، يقول الله حمدني عبدي" الحديث، ولهم أن يقولوا أيضا إن قوله عليه الصلاة والسلام "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" مبهم والأحاديث الأخر معينة، والمعين يقضي على المبهم، وهذا فيه عسر، فإن معنى حرف "ما" ههنا إنما هو معنى أي شيء تيسر، وإنما يسوغ هذا إن دلت "ما" في كلام العرب على ما تدل عليه لام العهد، فكان يكون تقدير الكلام: اقرأ الذي تيسر معك من القرآن ويكون المفهوم منه أم الكتاب، إذا كانت الألف واللام في الذي تدل على العهد، فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب، فإن وجدت العرب تفعل هذا أعني تتجوز في موطن ما، فتدل بما على شيء معين فليسغ هذا التأويل، وإلا فلا وجه له، فالمسألة كما ترى محتملة، وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ.

وأما الاختلاف من أوجب أم الكتاب في الصلاة في كل ركعة أو في بعض الصلاة فسببه احتمال عودة الضمير الذي في قوله عليه الصلاة والسلام "لم يقرأ فيها بأم القرآن" على كل أجزاء الصلاة أو على بعضها، وذلك أن من قرأ في الكل منها أو في الجزء: أعني في ركعة أو ركعتين لم يدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام "لم يقرأ فيها" وهذا الاحتمال بعينه هو الذي أصار أبا حنيفة إلى أن يترك القراءة أيضا في بعض الصلاة: أعني في الركعتين الأخرتين، واختار مالك أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الرباعية بالحمد وسورة، وفي الأخرتين بالحمد فقط، فاختار الشافعي أن تقرأ في الأربع من الظهر بالحمد وسورة إلا أن السورة التي تكون في الأوليين تكون أطول، فذهب مالك إلى حديث أبي قتادة الثابت "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين منها بفاتحة الكتاب فقط. وذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابي سعيد الثابت أيضا أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية، ولم يختلفوا في العصر لاتفاق الحديثين فيها، وذلك أن في حديث أبي سعيد هذا "أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك".

@-(المسألة السادسة) اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث علي في ذلك قال "نهاني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا" قال الطبري: وهو حديث صحيح، وبه أخذ فقهاء الأمصار، وصار قوم من التابعين إلى جواز ذلك، وهو مذهب البخاري لأنه لم يصح الحديث عنده، والله أعلم. واختلفوا: هل الركوع والسجود قول محدود يقوله المصلي أم لا؟ فقال مالك: ليس في ذلك قول محدود. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة غيرهم إلى أن المصلي يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا، وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا على ما جاء في حديث عقبة بن عامر. وقال الثوري: أحب إلى أن يقولها الإمام خمسا في صلاته حتى يدرك الذي خلفه ثلاثة تسبيحات. والسبب في هذا الاختلاف معارضة حديث ابن عباس في هذا الباب لحديث عقبة بن عامر، وذلك أن في حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" وفي حديث عقبة بن عامر أنه قال "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم" وكذلك اختلفوا في الدعاء في الركوع بعد اتفاقهم على جواز الثناء على الله، فكره ذلك مالك لحديث علي أنه قال عليه الصلاة والسلام: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء" وقالت طائفة يجوز الدعاء في الركوع، واحتجوا بأحاديث جاء فيها أنه عليه الصلاة والسلام دعا في الركوع وهو مذهب البخاري، واحتج بحديث عائشة قالت "كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وأبو حنيفة لا يجيز الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن (وكذا ما ورد من السنة ا هـ مصححه)، ومالك والشافعي يجيزان ذلك. والسبب في ذلك اختلافهم فيه، هل هو كلام أم لا؟.

@-(المسألة السابعة) اختلفوا في وجوب التشهد وفي المختار منه، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التشهد ليس بواجب، وذهبت طائفة إلى وجوبه، وبه قال الشافعي وأحمد وداود. وسبب اختلافهم معارضة القياس لظاهر الآثار، وذلك أن القياس يقتضي إلحاقه بسائر الأركان التي ليست بواجبة في الصلاة، لاتفاقهم على وجوب القرآن، وأن التشهد ليس بقرآن فيجب. وحديث ابن عباس أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" يقتضي وجوبه مع أن الأصل عند هؤلاء أن أفعاله وأقواله في الصلاة يجب أن تكون محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على خلاف ذلك، والأصل عند غيرهم على خلاف هذا، وهو أن ما ثبت وجوبه في الصلاة مما اتفق عليه أو صرح بوجوبه فلا يجب أن يلحق به إلا ما صرح به ونص عليه، فهما كما ترى أصلان متعارضان. وأما المختار من التشهد، فإن مالكا رحمه الله اختار تشهد عمر رضي الله عنه الذي كان يعلمه الناس على المنبر، وهو: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. واختار أهل الكوفة أبو حنيفة وغيره تشهد عبد الله بن مسعود. قال أبو عمر: وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث، لثبوت نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" واختار الشافعي وأصحابه تشهد عبد الله بن عباس الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وسبب اختلافهم اختلاف ظنونهم في الأرجح منها، فمن غلب على ظنه رجحان حديث ما من هذه الأحاديث الثلاثة مال إليه، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن هذا كله على التخيير كالأذان والتكبير على الجنائز وفي العيدين وفي غير ذلك مما تواتر نقله، وهو الصواب والله أعلم. وقد اشترط الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد وقال: إنها فرض لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ذهب إلى أن هذا التسليم هو التسليم من الصلاة، وذهب الجمهور إلى أنه التسليم الذي يؤتى به عقب الصلاة عليه، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى أنه واجب أن يتعوذ المتشهد من الأربع التي جاءت في الحديث من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات، لأنه ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منها في آخر تشهده" وفي بعض طرقه "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ من أربع" الحديث خرجه مسلم.

@-(المسألة الثامنة) اختلفوا في التسليم من الصلاة، فقال الجمهور بوجوبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بواجب، والذين أوجبوه منهم من قال الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة، ومنهم من قال اثنتان، فذهب الجمهور مذهب ظاهر حديث علي، وهو قوله عليه الصلاة والسلام فيه "وتحليلها التسليم" ومن ذهب إلى أن الواجب من ذلك تسليمتان، فلما ثبت من "أنه عليه الصلاة والسلام كان يسلم تسليمتين" وذلك عند من حمل فعله على الوجوب. واختار مالك للمأموم تسليمتين والإمام واحدة، وقد قيل عنه إن المأموم يسلم ثلاثا: الواحدة للتحليل، والثانية للإمام، والثالثة لمن هو عن يساره. وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته" قال أبو عمر بن عبد البر: وحديث علي المتقدم أثبت عند أهل النقل، لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انفرد به الإفريقي، وهو عند أهل النقل ضعيف. قال القاضي: إن كان أثبت من طريق النقل فإنه محتمل من طريق اللفظ، وذلك أنه ليس يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون بغير التسليم إلا بضرب من دليل الخطاب وهو مفهوم ضعيف عند الأكثر، ولكن للجمهور أن يقولوا إن الألف واللام التي للحصر أقوى من دليل الخطاب في كون حكم المسكوت عنه بضد حكم المنطوق به.

@-(المسألة التاسعة) اختلفوا في القنوت، فذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب. وذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح، وأن القنوت إنما موضعه الوتر. وقال قوم: بل يقنت في كل صلاة. وقال قوم: لا قنوت إلا في رمضان. وقال قوم: بل في النصف الأخير منه. وقال قوم: بل في النصف الأول منه. والسبب في ذلك اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقياس بعض الصلوات في ذلك على بعض: أعني التي قنت فيها على التي لم يقنت فيها. قال أبو عمر بن عبد البر: والقنوت بلعن الكفرة في رمضان مستفيض في الصدر الأول اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه على رعل وذكوان، والنفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة. وقال الليث بن سعد: ما قنت منذ أربعين عاما أو خمسة وأربعين عاما إلا وراء إمام يقنت. قال الليث: وأخذت في ذلك بالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت شهرا أو أربعين يدعو لقوم ويدعو على آخرين، حتى أنزل الله تبارك وتعالى معاتبا {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القنوت فما قنت بعدها حتى لقي الله، قال: فمنذ حملت هذا الحديث لم أقنت، وهو مذهب يحيى بن يحيى. قال القاضي: ولقد حدثني الأشياخ أنه كان العمل عليه بمسجده عندنا بقرطبة، وأنه استمر إلى زماننا أو قريب من زماننا. وخرج مسلم عن أبي هريرة "أن النبي عليه الصلاة والسلام قنت في صلاة الصبح، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} وخرج عن أبي هريرة أنه قنت في الظهر والعشاء الأخيرة وصلاة الصبح. وخرج عنه عليه الصلاة والسلام "أنه قنت شهرا في صلاة الصبح يدعو على بني عصية" واختلفوا فيما يقنت به، فاستحب مالك القنوت بـ "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق" ويسميها أهل العراق السورتين، ويروى أنها في مصحف أبي بن كعب. وقال الشافعي وإسحاق بل يقنت "باللهم اهدنا فيمن هديت وعافينا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، تباركت ربنا وتعاليت" وهذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه هذا الدعاء يقنت به في الصلاة. وقال عبد الله بن داود: من لم يقنت بالسورتين فلا يصلي خلفه. وقال قوم: ليس في القنوت شيء موقوت.

*4*الفصل الثاني في الأفعال التي هي أركان وفي هذا الفصل من قواعد المسائل ثماني مسائل

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة في ثلاثة مواضع: أحدها في حكمه. والثاني في المواضع التي يرفع فيها من الصلاة. والثالث إلى أن ينتهي برفعها. فأما الحكم، فذهب الجمهور إلى أنه سنة في الصلاة، وذهب داود وجماعة من أصحابه إلى أن ذلك فرض، وهؤلاء انقسموا أقساما فمنهم من أوجب ذلك في تكبيرة الإحرام فقط. ومنهم من أوجب ذلك في الاستفتاح وعند الركوع: أعني عند الانحطاط فيه وعند الارتفاع منه، ومنهم من أوجب ذلك في هذين الموضعين وعند السجود، وذلك بحسب اختلافهم في المواضع التي يرفع فيها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أبي هريرة الذي فيه تعليم فرائض الصلاة لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن حديث أبي هريرة إنما فيه أنه قال له وكبر ولم يأمره برفع يديه، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر وغيره "أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة" وأما اختلافهم في المواضع التي ترفع فيها فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر فقهائهم إلى أنه لا يرفع المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام فقط، وهي رواية ابن القاسم عن مالك،

وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور، وجمهور أهل الحديث وأهل الظاهر إلى الرفع عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع وهو مروى عن مالك إلا أنه عند بعض أولئك فرض وعند مالك سنة. وذهب بعض أهل الحديث إلى رفعها عند السجود وعند الرفع منه. والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل بالمدينة لبعضها، وذلك أن في ذلك أحاديث أحدها حديث عبد الله بن مسعود، وحديث البراء بن عازب "أنه كان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها، والحديث الثاني حديث ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" كان لا يفعل ذلك في السجود، وهو حديث متفق على صحته وزعموا أنه روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا من أصحابه. والحديث الثالث حديث وائل بن حجر، وفيه زيادة على ما في حديث عبد الله بن عمر "أنه كان يرفع يديه عند السجود" فمن حمل الرفع ههنا على أنه ندب أو فريضة، فمنهم من اقتصر به على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك لموافقة العمل به، ومنهم من رجح حديث عبد الله بن عمر، فرأى الرفع في الموضعين أعني في الركوع وفي الافتتاح لشهرته، واتفق الجميع عليه ومن كان رأيه من هؤلاء أن الرفع فريضة حمل ذلك على الفريضة، ومن كان رأيه أنه ندب حمل ذلك على الندب، ومنهم من ذهب مذهب الجمع وقال: إنه يجب أن تجمع هذه الزيادات بعضها إلى بعض على ما في حديث وائل بن حجر، فإذا العلماء ذهبوا في هذه الآثار مذهبين: إما مذهب الترجيح، وإما مذهب الجمع. والسبب في اختلافهم في حمل رفع اليدين في الصلاة: هل هو على الندب أو على الفرض؟ هو السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، ومنهم من يرى أن الأصل لا يزاد فيما صح بدليل واضح من قول ثابت أو إجماع أنه من فرائض الصلاة إلا بدليل واضح، وقد تقدم هذا من قولنا، ولا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة، وأما الحد الذي ترفع إليه اليدان، فذهب بعضهم إلى أنه المنكبان، وبه قال مالك والشافعي وجماعة، وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الأذنين، وبه قال أبو حنيفة، وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الصدر، وكل ذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن أثبت ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه الجمهور، والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى الصدر وأشهر.

@-(المسألة الثانية) ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من الركوع وفي الركوع غير واجب. وقال الشافعي: هو واجب. واختلف أصحاب مالك: هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في ذلك: والسبب في اختلافهم: هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم، فمن كان الواجب عنده الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط الاعتدال في الركوع، ومن كان الواجب عنده الأخذ بالكل اشترط الاعتدال، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتقدم للرجل الذي علمه فروض الصلاة "اركع حتى تطمئن راكعا، وارفع حتى تطمئن رافعا" فالواجب اعتقاد كونه فرضا، وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن الأصل لا تحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا الحديث على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك، ومن قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضا ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في الصلاة فتأمل هذا، فإنه أصل مناقض للأصل الأول وهو سبب الخلاف في أكثر هذه المسائل.

@-(المسألة الثالثة) اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس، فقال مالك وأصحابه يقضي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى، وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينصب الرجل اليمنى ويقعد على اليسرى. وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة، فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة، وفي الأخيرة بمثل قول مالك. وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار، وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته عليه الصلاة والسلام، وفيه "وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته". والثاني حديث وائل بن حجر، وفيه "أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى". والثالث ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، وهو يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة. وفي روايته عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد ، فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك، فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث، وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل. وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد. وذهب الطبري مذهب التخيير. وقال: هذه الهيئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول حسن، فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض، وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر ذلك في الفعل مع القول أو في القول مع القول.

@-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في الجلسة الوسطى والأخيرة، فذهب الأكثر في الوسطى إلى أنها سنة وليست بفرض، وشذ قوم وقالوا: إنها فرض، وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخرى إلى أنها فرض وشذ قوم فقالوا: إنها ليست بفرض. والسبب في اختلافهم هو تعارض مفهوم الأحاديث، وقياس إحدى الجلستين على الثانية، وذلك أن في حديث أبي هريرة المتقدم "اجلس حتى تطمئن جالسا" فوجب الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها، فمن أخذ بهذا قال: إن الجلوس كله فرض، ولما جاء في حديث ابن بحينة الثابت "أنه عليه الصلاة والسلام أسقط الجلسة الوسطى ولم يجبرها وسجد لها" وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرهما، وكذلك ركعة. فهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم الجلسة الوسطى وحكم الركعة، وكانت عندهم الركعة فرضا بإجماع، فوجب أن لا تكون الجلسة الوسطى فرضا، فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين الجلستين، ورأوا أن سجود السهو إنما يكون للسنن دون الفروض، ومن رأى أنها فرض قال: السجود للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض، وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض، وأما من ذهب إلى أنهما كليهما سنة فقاس الجلسة الأخيرة على الوسطى بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة، فإذا السبب في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة الاستدلال لظاهر القول أو ظاهر الفعل، فإن من الناس أيضا من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض من جهة أن أفعاله عليه الصلاة عنده الأصل فيها أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك على ما تقدم، فإذاً الأصلان جميعا يقتضيان ههنا أن الجلوس الأخير فرض، ولذلك عليه أكثر الجمهور من غير أن يكون له معارض إلا القياس، وأعني بالأصلين القول والعمل، ولذلك أضعف الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى ويشير بإصبعه" واتفق العلماء على أن هذه الهيئة من هيئة الجلوس المستحسنة في الصلاة، واختلفوا في تحريك الأصابع لاختلاف الأثر في ذلك، والثابت أنه كان يشير فقط.

@-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، فكره ذلك مالك في الفرض، وأجازه في النفل. ورأى قوم أن هذا الفعل من سنن الصلاة وهم الجمهور. والسبب في اختلافهم أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى، وثبت أيضا أن الناس كانوا يؤمرون بذلك. وورد ذلك أيضا من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام في حديث أبي حميد فرأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة وأن الزيادة يجب أن يصار إليها. ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة، لأنها أكثر، ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما هي من باب الاستعانة، ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض، وقد يظهر من أمرها أنها هيئة تقتضي الخضوع، وهو الأولى بها.

@-(المسألة السادسة) اختار قوم إذا كان الرجل في وتر من صلاته أن لا ينهض حتى يستوي قاعدا، واختار آخرون أن ينهض من سجوده نفسه، وبالأول قال الشافعي وجماعة، وبالثاني قال مالك وجماعة. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين مختلفين: أحدهما حديث مالك بن الحويرث الثابت "أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا وفي حديث أبي حميد في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك" فأخذ بالحديث الأول الشافعي، وأخذ بالثاني مالك، وكذلك اختلفوا إذا سجد، هل يضع يديه قبل ركبتيه، أو ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب مالك وضع الركبتين قبل اليدين. وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. وقال بعض أهل الحديث: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة.

@-(المسألة السابعة) اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، لقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" واختلفوا فيمن سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك الأعضاء هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال قوم: لا تبطل صلاته لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه فقط. وقال قوم: تبطل إن لم يسجد على السبعة الأعضاء للحديث الثابت، ولم يختلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه، واختلفوا فيمن سجد على أحدهما، فقال مالك: إن سجد على جبهته دون أنفه جاز، وإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجز. وقال أبو حنيفة: بل يجوز ذلك. وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يسجد عليهما جميعا. وسبب اختلافهم: هل الواجب هو امتثال بعض ما ينطلق عليه الاسم أم كله، وذلك أن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عن ابن عباس "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" فذكر منها الوجه، فمن رأى أن الواجب هو بعض ما ينطلق عليه الاسم، قال: إن سجد على الجبهة أو الأنف أجزأه. ومن رأى أن اسم السجود يتناول من سجد على الجبهة ولا يتناول من سجد على الأنف أجاز السجود على الجبهة دون الأنف، وهذا كأنه تحديد للبعض الذي هو امتثاله، هو الواجب مما ينطلق عليه الاسم، وكان هذا على مذهب من يفرق بين أبعاض الشيء، فرأى أن بعضها يقوم في امتثاله مقام الوجوب وبعضها لا يقوم مقامه فتأمل هذا فإنه أصل في هذا الباب، وإلا جاز لقائل أن يقول: إنه إن مس من أنفه الأرض مثقال خردلة تم سجوده، وأما من رأى أن الواجب هو امتثال كل ما ينطلق عليه الاسم، فالواجب عنده أن يسجد على الجبهة والأنف. والشافعي يقول: إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله فعله عليه الصلاة والسلام وبينه، فإنه كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء، فوجب أن يكون فعله مفسرا للحديث المجمل. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه الأنف والجبهة. قال القاضي أبو الوليد: وذكر بعضهم الجبهة فقط، وكلا الروايتين في كتاب مسلم، وذلك حجة لمالك. واختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليها الوجه أم ليس ذلك من شروطه؟ فقال مالك: ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود. ومن هذا الباب اختلافهم في السجود على طاقات العمامة، وللناس فيه ثلاثة مذاهب: قول بالمنع، وقول بالجواز، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها شيء، وهذا الاختلاف كله موجود في المذهب وعند فقهاء الأمصار، وفي البخاري وكانوا يسجدون على القلانس والعمائم. واحتج من لم ير إبراز اليدين في السجود بقول ابن عباس "أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكفت ثوبا ولا شعرا" وقياسا على الركبتين وعلى الصلاة في الخفين يمكن أن يحتج بهذا العموم في السجود على العمامة.

@-(المسألة الثامنة) اتفق العلماء على كراهية الإقعاء في الصلاة لما جاء في الحديث من النهي أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب إلا أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم، فبعضهم رأى أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على أليتيه في الصلاة ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من هيئات الصلاة. وقوم رأوا أن معنى الإقعاء الذي نهي عنه هو أن يجعل أليته على عقيبه بين السجدتين وأن يجلس على صدور قدميه، وهو مذهب مالك لما روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إنما كان يفعل ذلك لأنه كان يشتكي قدميه. وأما ابن عباس فكان يقول: الإقعاء على القدمين في السجود على هذه الصفة هو سنة نبيكم، خرجه مسلم. وسبب اختلافهم هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل على معنى شرعي: أعني على هيئة خصها الشرع بهذا الاسم، فمن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال: هو إقعاء الكلب. ومن رأى أنه يدل على معنى شرعي قال: إنما أريد بذلك إحدى هيئات الصلاة المنهي عنها، ولما ثبت عن ابن عمر أن قعود الرجل على صدور قدميه ليس من سنة الصلاة، سبق إلى اعتقاده أن هذه الهيئة هي التي أريد بالإقعاء المنهي عنه، وهذا ضعيف، فإن الأسماء التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي، بخلاف الأمر في الأسماء التي ثبت لها معان شرعية: أعني أنه يجب أن يحمل على المعاني الشرعية حتى يدل الدليل على المعنى اللغوي، مع أنه قد عارض حديث ابن عمر في ذلك حديث ابن عباس.

*3*الباب الثاني من الجملة الثالثة.

@-وهذا الباب الكلام المحيط بقواعده فيه فصول سبعة: أحدها: في معرفة حكم صلاة الجماعة. والثاني في معرفة شروط الإمامة، ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به. الثالث: في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين. الرابع: في معرفة ما يتبع فيه المأموم الإمام مما ليس يتبعه. الخامس: في صفة الاتباع. السادس: فيما يحمله الإمام عن المأمومين. السابع: في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.

*4*الفصل الأول في معرفة حكم صلاة الجماعة.

@-في هذا الفصل مسئلتان: إحداهما: هل صلاة الجماعة واجبة على من سمع النداء أم ليست بواجبة. المسألة الثانية إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى، هل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أم لا؟.

@-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا فيها، فذهب الجمهور إلى أنها سنة أو فرض على الكفاية. وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف. والسبب في اختلافهم تعارض مفهومات الآثار في ذلك وذلك أن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة" يعني أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد. والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء، وحديث الأعمى المشهور حين استأذنه في التخلف عن صلاة الجماعة لأنه لا قائد له، فرخص له في ذلك، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة" هو كالنص في وجوبها مع عدم العذر، خرجه مسلم. ومما يقوي هذا حديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" وحديث ابن مسعود، وقال فيه "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه" وفي بعض رواياته "ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم" فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك الجمع بتأويل حديث مخالفه، وصرفه إلى ظاهر الحديث الذي تمسك به. فأما أهل الظاهر فإنهم قالوا: إن المفاضلة لا يمتنع أن تقع في الواجبات أنفسها: أي إن صلاة الجماعة في حق من فرضه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في حق من سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك الدرجات المذكورة. قالوا: وعلى هذا فلا تعارض بين الحديثين واحتجوا لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" وأما أولئك فزعموا أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم الجمعة، إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه الإتيان إليه باتفاق وهذا فيه بعد والله أعلم، لأن نص الحديث هو أن أبا هريرة قال "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة. قال: نعم، قال: فأجب" وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة، مع أن الإتيان إلى صلاة الجمعة واجب على كل من كان في المصر وإن لم يسمع النداء، ولا أعرف في ذلك خلافا. وعارض هذا الحديث أيضا حديث عتبان بن مالك المذكور في الموطأ، وفيه أن عتبان بن مالك كان يؤم وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه تكون الظلمة المطر والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

@-(وأما المسألة الثانية) فإن الذي دخل المسجد وقد صلى لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون صلى منفردا، وإما أن يكون صلى في جماعة. فإن كان صلى منفردا فقال قوم: يعيد معهم كل الصلوات إلا المغرب فقط، وممن قال بهذا القول مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر. وقال الأوزاعي: إلا المغرب والصبح. وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر. وقال الشافعي: يعيد الصلوات كلها، وإنما اتفقوا على إيجاب إعادة الصلاة عليه بالجملة لحديث بشر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين دخل المسجد ولم يصل معه: مالك لم تصل مع الناس: ألست برجل مسلم؟ فقال بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" فاختلف الناس لاحتمال تخصيص هذا العموم بالقياس أو بالدليل، فمن حمله على عمومه أوجب عليه إعادة الصلوات كلها وهو مذهب الشافعي. وأما من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك رحمه الله، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب هي وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع التي ليست بوتر، لأنها كانت تكون بمجموع ذلك ست ركعات، فكأنها كانت تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى وذلك مبطل لها، وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار والتمسك بالعموم أقوى من الاستثناء بهذا النوع من القياس، وأقوى من هذا ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون قد أوتر مرتين، وقد جاء في الأثر " لا وتران في ليلة" وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الصلاة الثانية تكون له نفلا، فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد العصر، وقد جاء النهي عن ذلك، فخصص العصر بهذا القياس والمغرب بأنها وتر، والوتر لا يعاد، وهذا قياس جديد إن سلم لهم الشافعي أن الصلاة الأخيرة لهم نفل. وأما من فرق بين العصر والصبح في ذلك فلأنه لم تختلف الأثار في النهي عن الصلاة بعد الصبح، واختلف في الصلاة بعد العصر كما تقدم، وهو قول الأوزاعي. وأما إذا صلى في جماعة فهل يعيد في جماعة أخرى؟ فأكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبو حنيفة، وقال بعضهم: بل يعيد، وممن قال بهذا القول أحمد وداود وأهل الظاهر. والسبب في اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" وروي عنه "أنه أمر الذين صلوا في جماعة أن يعيدوا مع الجماعة الثانية" وأيضا فإن ظاهر حديث بشر يوجب الإعادة على كل مصل إذا جاء المسجد، فإن قوته قوة العموم، والأكثر على أنه إذا ورد العام على سبب خاص لا يقتصر به على سببه، وصلاة معاذ مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم كان يؤم قومه في تلك الصلاة فيه دليل على جواز إعادة الصلاة في الجماعة، فذهب الناس في هذه الأثار مذهب الجمع ومذهب الترجيح. أما من ذهب مذهب الترجيح فإنه أخذ بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" ولم يستثن من ذلك إلا صلاة المنفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها. وأما من ذهب مذهب الجمع فقالوا إن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" إنما ذلك أن لا يصلي الرجل الصلاة الواحدة بعينها مرتين، يعتقد في كل واحدة منهما أنها فرض، بل يعتقد في الثانية أنها زائدة على الفرض ولكنه مأمور بها. وقال قوم: بل معنى هذا الحديث إنما هو للمنفرد: أعني أن لا يصلي الرجل المنفرد صلاة واحدة بعينها مرتين.

*4*الفصل الثاني. في معرفة شروط الإمامة، ومن أولى بالتقديم، وأحكام الإمام الخاصة به. وفي هذا الفصل مسائل أربع:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا فيمن أولى بالإمامة، فقال مالك: يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: يؤم القوم أقرؤهم. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف العلماء في مفهومه، فمنهم من حمله على ظاهره وهو أبو حنيفة. ومنهم من فهم من الأقرأ ههنا الأفقه. لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة، وأيضا فإن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، وذلك بخلاف ما عليه الناس اليوم.

@-(المسألة الثانية) اختلف الناس في إمامة الصبي الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا، فأجاز ذلك لعموم (هذا الأثر) {ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع أنه لم يذكر أثرا، فلهذا نبهنا على زيادته} ولحديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو صبي. ومنع ذلك قوم مطلقا، وأجازه قوم في النفل، ولم يجيزوه في الفريضة، وهو مروي عن مالك. وسبب الخلاف في ذلك هل يؤم أحد في صلاة غير واجبة عليه من وجبت عليه؟، وذلك لاختلاف نية الإمام والمأموم؟.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في إمامة الفاسق، فردها قوم بإطلاق، وأجازها قوم بإطلاق، وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، فقالوا: إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا، وإن كان مظنونا استحبت له الإعادة في الوقت، وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق، فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول. وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع، والقياس فيه متعارض. فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن من يحتاج المأموم إمامه إلا صحة صلاته فقط على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز إمامة الفاسق، ومن قاس الإمامة على الشهادة واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته، ولذلك فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير تأويل، وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، لأنه إذا كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله، وقد رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "يؤم القوم أقرؤهم" قالوا: فلم يستثن من ذلك فاسقا من غير فاسق، والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة، أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة.

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق، وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال، لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول، ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام "أخروهن حيث أخرهن الله" ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة، مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول، ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها" وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من اختلافهم في الصفات المشترطة في الإمام تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع. قال القاضي: وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة أو ماله تعلق قريب بالمسموع.

@-(وأما أحكام الإمام الخاصة به) فإن في ذلك أربعة مسائل متعلقة بالسمع: إحداها هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن؟ أم المأموم هو الذي يؤمن فقط. والثانية متى يكبر تكبيرة الإحرام؟ والثالثة إذا أرتج عليه هل يفتح عليه أم لا؟ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين. فأما هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب، فإن مالكا ذهب في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء، وهي رواية المدنيين عن مالك، وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر: أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أمن الإمام فأمنوا" والحديث الثاني ما خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا أمين" فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن، وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام، لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام: أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله، فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين، ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط، لكن الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي، وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا، ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام، وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا. ويمكن أيضا أن يتأول الحديث الأول بأن يقال: إن معنى قوله "فإذا أمن فأمنوا" أي إذا بلغ موضع التأمين، وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا عدول عن الظاهر لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس: أعني أن يفهم من قوله "فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا" أنه لا يؤمن الإمام. وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا: لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف، وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة. وقوم قالوا: إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة، واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر. وسبب الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال. أما حديث أنس فقال: "أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة، مثل ما روي عن عمر أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ يكبر. وأما حديث بلال فإنه روى "أنه كان يقيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول له: يا رسول الله لا تسبقني بآمين" خرجه الطحاوي. قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر والإقامة لم تتم. وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا أرتج عليه، فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه، ومنع ذلك الكوفيون. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار، وذلك "أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد في آية، فلما انصرف قال: أين أبي ألم يكن في القوم؟" أي يريد الفتح عليه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يفتح على الإمام" والخلاف في ذلك في الصدر الأول، والمنع مشهور عن علي، والجواز عن ابن عمر مشهور. وأما موضع الإمام فإن قوما أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين، وقوم منعوا ذلك، وقوم استحبوا من ذلك اليسير، وهو مذهب مالك. وسبب الخلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث الثابت: "أنه عليه الصلاة والسلام أم الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة، وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر"والثاني ما رواه أبو داود أن حذيفة أم الناس على دكان، فأخذ ابن مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك، أو ينهى عن ذلك؟. وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه أقام إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة، ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين، وهذا على مذهب من يرى أن الإمام يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين.

*4*الفصل الثالث. في مقام المأموم من الإمام، والأحكام الخاصة بالمأمومين. وفي هذا الباب خمس مسائل:

@-(المسألة الأولى) اتفق جمهور العلماء على أن سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره، وأنهم إن كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه، واختلفوا إذا كانا اثنين سوى الإمام، فذهب مالك والشافعي إلى أنهما يقومان خلف الإمام. وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: بل يقوم الإمام بينهما. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال: "قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعا، فدفعنا حتى قمنا خلفه" والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام وسطهما، وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: واختلف رواة هذا الحديث، فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده، والصحيح أنه موقوف، وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام، أو خلف الإمام إن كانت وحدها، فلا أعلم في ذلك خلافا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا" والذي خرجه عنه أيضا مالك أنه قال "فصففت أنا واليتيم وراءه عليه الصلاة والسلام، والعجوز من ورائنا" وسنة الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة. وقال قوم: بل عن يساره، ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام، وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه.

@-(المسألة الثانية) أجمع العلماء على أن الصف الأول مرغب فيه، وكذلك تراص الصفوف وتسويتها لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده، فالجمهور على أن صلاته تجزئ. وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل له، وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا صلاة لقائم خلف الصف" وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس. وكان أحمد يقول: ليس في ذلك حجة، لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال. وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة. وقال غيره: هو مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة. واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعادة وقال له "زادك الله حرصا ولا تعد" ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض: أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة.

@-(المسألة الثالثة) اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة؟ فروي عن عمرو وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة. وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي، بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة، وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت "إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة" ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} وقوله {السابقون السابقون أولئك المقربون} وقوله {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} .

وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير، لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال القرب.

@-(المسألة الرابعة) متى يستحب أن يقام إلى الصلاة، فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة، وبعض عند قوله: قد قامت الصلاة، وبعضهم عند حي على الفلاح، وبعضهم قال: حتى يروا الإمام، وبعضهم لم يحد في ذلك حدا كمالك رضي الله عنه، فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس، وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فإن صح هذا وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه: أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل فحسن.

@-(المسألة الخامسة) ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له أن يركع دون الصف الأول ثم يدب راكعا، وكره ذلك الشافعي، وفرق أبو حنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة، وهو "أنه دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهم ركوع، فركع ثم سعى إلى الصف، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الساعي؟ قال أبو بكرة أنا، قال: زادك الله حرصا ولا تعد".

*3*الفصل الرابع. في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام.

@-وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله إلا في قوله: سمع الله لمن حمده، وفي جلوسه إذا صلى جالسا لمرض عند من أجاز إمامة الجالس. وأما اختلافهم في قوله سمع الله لمن حمده، فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده فقط، ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد فقط، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وغيرهما. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وإن المأموم يتبع فيهما معا الإمام كسائر التكبير سواء. وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا، ولا خلاف في المنفرد: أعني أنه يقولهما جميعا. وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" والحديث الثاني حديث ابن عمر "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" فمن رجح مفهوم حديث أنس قال: لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا الإمام ربنا ولك الحمد، وهو من باب دليل الخطاب، لأنه جعل حكم المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به. ومن رجح حديث ابن عمر قال: يقول الإمام ربنا ولك الحمد، ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم. والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد، وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده. وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد، فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب. وحديث أنس يقتضي بعمومه أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده بعموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وبدليل خطابه أن لا يقولها، فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب، ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب، لكن العموم يختلف أيضا في القوة والضعف، ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوى من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية: أعني في المأموم.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى {وقوموا لله قانتين} واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا، وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق، والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما. قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء. وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع، والأول هو المشهور عنه. وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار: أعني عمل أهل المدينة عند مالك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أنس، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وحديث عائشة في معناه، وهو "أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" والحديث الثاني حديث عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر" فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح. فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث عائشة وهو "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعا" لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياما، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا، فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم. وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر؟. وأما مالك فليس له مستند من السماع، لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه. قال أبو عمر: وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم الناس أحد قاعدا، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحد بعدي قاعدا" قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال: ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته" وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث.

*4*الفصل الخامس في صفة الاتباع.

@-وفيه مسئلتان: إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم، والثانية في حكم من رفع رأسه قبل الإمام. أما اختلافهم في وقت تكبير المأموم، فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام، قال: وإن كبر معه أجزأه، وقد قيل إنه لا يجزئه، وأما إن كبر قبله فلا يجزئه. وقال أبو حنيفة: وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام، فإن فرغ قبله لم يجزه. وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر. والثانية أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا كبر فكبروا" والثاني ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء" فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم الطهارة، وهو أيضا مبني على أصله أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، والحديث ليس فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أو لم يستأنفوه، فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف، والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه. وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع فيتبع الإمام. وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار"؟.

*4*الفصل السادس فيما حمله الإمام عن المأمومين.

@-واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر به. والثاني أنه لا يقرأ معه أصلا. والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغيرها، وفيما جهر أم الكتاب فقط، وبعضهم فرق في الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع، فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع، ونهاه عنها إذا سمع، وبالأول قال مالك، إلا أنه يستحسن له القراءة فيما أسر فيه الإمام. وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال الشافعي، والتفرقة بين أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل. والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الباب وبناء بعضها على بعض، وذلك أن في ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وما ورد من الأحاديث في هذا المعنى مما ذكرناه في باب وجوب القراءة. والثاني ما روى مالك عن أبي هريرة؟ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي منكم أحد آنفا، فقال رجل: نعم أنا يا رسول الله، فقال رسول الله: إني أقول مالي أنازع القرآن" فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث حديث عبادة بن الصامت قال "صلى بنا رسول الله صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة. فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرءون وراء الإمام، قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن" قال أبو عمر، وحديث عبادة بن الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند صحيح. والحديث الرابع حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "من كان له إمام فقراءته له قراءة" وفي هذا أيضا حديث خامس صححه أحمد بن حنبل، وهو ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا قرأ الإمام فأنصتوا" فاختلف الناس في وجه جمع هذه الأحاديث. فمن الناس من استثنى من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن الصامت. ومنهم من استثنى من عموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة، وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قالوا: وهذا إنما ورد في الصلاة. ومنهم من استثنى القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا، وجعل الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط مصيرا إلى حديث جابر، وهو مذهب أبي حنيفة، فصار عنده حديث جابر مخصصا لقوله عليه الصلاة والسلام "واقرأ ما تيسر معك فقط" لأنه لا يرى وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة، وإنما يرى وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم، وحديث جابر لم يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي، ولا حجة في شيء مما ينفرد به. قال أبو عمر: وهو حديث لا يصح إلا مرفوعا عن جابر.

*4*الفصل السابع. في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.

@-واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد. واختلفوا إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة، فقال قوم: صلاتهم صحيحة، وقال قوم: صلاتهم فاسدة، وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو ناسيا لها، فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم، وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم، وبالأول قال الشافعي، وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال مالك. وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست مرتبطة؟ فمن لم يرها مرتبطة قال: صلاتهم جائزة، ومن رآها مرتبطة قال: صلاتهم فاسدة، ومن فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو "أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا، فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء" فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم والشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة مرتبطة للزم أن يبدءوا بالصلاة مرة ثانية.

*3*الباب الثالث من الجملة الثالثة.

@-والكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في وجوب الجمعة وعلى من تجب. الثاني: في شروط الجمعة. الثالث: في أركان الجمعة. الرابع: في أحكام الجمعة.

*4*الفصل الأول في وجوب الجمعة ومن تجب عليه.

@-أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر، ولظاهر قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} والأمر على الوجوب، ولقوله عليه الصلاة والسلام "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم" وذهب قوم إلى أنها من فروض الكفايات. وعن مالك رواية شاذة أنها سنة. والسبب في هذا الاختلاف تشبيهها بصلاة العيد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن هذا يوم جعله الله عيدا" وأما على من تجب فعلى من وجدت فيه شروط وجوب الصلاة المتقدمة ووجد فيها زائدا عليها أربعة شروط اثنان باتفاق واثنان مختلف فيهما. أما المتفق عليهما فالذكورة والصحة، فلا تجب على امرأة ولا على مريض باتفاق، ولكن إن حضروا كانوا من أهل الجمعة. وأما المختلف فيهما فهما المسافر والعبد، فالجمهور على أنه لا تجب عليهما الجمعة، وداود وأصحابه على أنه تجب عليهما الجمعة. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك. أو امرأة. أو صبي أو مريض" وفي أخرى "إلا خمسة"وفيه "أو مسافر" والحديث لم يصح عند أكثر العلماء.

*4*الفصل الثاني في شروط الجمعة.

@-وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها: أعني الثمانية المتقدمة ما عدا الوقت والأذان، فإنهم اختلفوا فيهما، وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها. أما الوقت فإن الجمهور على أن وقتها وقت الظهر بعينه: أعني وقت الزوال، وأنها لا تجوز قبل الزوال، وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن حنبل. والسبب في هذا الاختلاف في مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا نتغدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقيل إلا بعد الجمعة. ومثل ما روي أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال، فمن فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك، ومن لم يفهم منها إلا التكبير فقط لم يجز ذلك لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب، وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن مالك "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" وأيضا فإنها لما كانت بدلا من الظهر وجب أن يكون وقتها وقت الظهر، فوجب من طريق الجمع بين هذه الآثار أن تحمل تلك على التبكير، إذ ليست نصا في الصلاة قبل الزوال، وهو الذي عليه الجمهور.

وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر واختلفوا هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد؟ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط، وهو الذي يحرم به البيع والشراء. وقال آخرون: بل يؤذن اثنان فقط. وقال قوم: بل إنما يؤذن ثلاثة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى البخاري عن السائب ابن يزيد أنه قال "كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء" وروي أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال "لم يكن يوم الجمعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد" وروي أيضا عن سعيد بن المسيب أنه قال "كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان زمان عثمان وكثر الناس فزاد الأذان الأول ليتهيأ الناس للجمعة" ورى ابن حبيب "أن المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة" فذهب قوم إلى ظاهر ما رواه البخاري، وقالوا: يؤذن يوم الجمعة مؤذنان. وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد فقالوا: إن معنى قوله: فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث أن النداء الثاني هو الإقامة.

وأخذ آخرون بما رواه ابن حبيب، وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة ولا سيما بما انفرد به. وأما شروط الوجوب والصحة المختصة ليوم الجمعة فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال: واحد مع الإمام وهو الطبري. ومنهم من قال اثنان سوى الإمام. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم ثلاثين. ومنهم من لم يشترط عددا، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهو مذهب مالك، وحدهم بأنهم الذين يمكن أن تتقرى بهم قرية.

وسبب اختلافهم في هذا اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان، وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة، فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان، فإن كان ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك قال تقوم الجمعة باثنين الإمام وواحد ثان، وإن كان ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال تقوم باثنين سوى الإمام، ومن كان أيضا عنده أن أقل الجمع ثلاثة، فإن كان لا يعد الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام، وإن كان ممن يعد الإمام في جملتهم وافق قول من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم. وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع قال لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة ولم يحد في ذلك حدا، ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس وهو مالك رحمه الله. وأما من اشترط الأربعين فمصيرا إلى ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة: أعني شروط الوجوب وشروط الصحة فإن من الشروط ما هي شروط وجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين جميعا: أعني أنها شروط وجوب وشروط صحة. وأما الشرط الثاني وهو الاستيطان، فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على مسافر، وخالف في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم الجمعة على المسافر.

واشترط أبو حنيفة المصر والسلطان مع هذا، ولم يشترط العدد. وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها صلى الله عليه وسلم هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم يصلها صلى الله عليه وسلم إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع، فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها، ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره كاشتراط مالك المسجد وتركه اشتراط المصر والسلطان، ومن هذا الوضع اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب مثل اختلافهم هل تقام جمعتان في مصر واحد أو لا تقام؟ والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض، ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة، إذ كان معلوما من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة، ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة ورأى أن المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟ وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر. ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} ولقوله تعالى {لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} والله المرشد للصواب.

*4*الفصل الثالث في الأركان. اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا في ذلك في خمس مسائل هي قواعد هذا الباب.

@-(المسألة الأولى) في الخطبة، هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال قوم: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون. وسبب اختلافهم هو هل الأصل المتقدم من احتمال كل ما اقترن بهذه الصلاة أن يكون من شروطها أو لا يكون. فمن رأى أن الخطبة حال من الأحوال المختصة بهذه الصلاة، وبخاصة إذا توهم أنها عوض من الركعتين اللتين نقصتا من هذه الصلاة قال: إنها ركن من أركان هذه الصلاة وشرط في صحتها، ومن رأى أن المقصود منها هو الموعظة المقصودة من سائر الخطب رأى أنها ليست شرطا من شروط الصلاة، وإنما وقع خلاف في هذه الخطبة هل هي فرض أم لا؟ لكونها راتبة من سائر الخطب، وقد احتج قوم لوجوبها بقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} وقالوا هو الخطبة.

@-(المسألة الثانية) واختلف الذين قالوا بوجوبها في القدر المجزئ منها فقال ابن القاسم: هو أقل ما ينطلق اسم خطبة في كلام العرب من الكلام المؤلف المبتدأ بحمد الله. وقال الشافعي: أقل ما يجزئ من ذلك خطبتان اثنتان يكون في كل واحدة منهما قائما يفصل إحداهما من الأخرى بجلسة خفيفة يحمد الله في كل واحدة منهما في أولها ويصلي على النبي ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة والسبب في اختلافهم هو هل يجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي أو الاسم الشرعي، فمن رأى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئا من الأقوال التي نقلت عنه صلى الله عليه وسلم فيها. ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم الشرعي اشترط فيها أصول الأقوال التي نقلت من خطبه صلى الله عليه وسلم: أعني الأقوال الراتبة الغير مبتذلة. والسبب في هذا الاختلاف أن الخطبة التي نقلت عنه فيها أقوال راتبة وغير راتبة، فمن اعتبر الأقوال الغير راتبة وغلب حكمها قال: يكفي من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي: أعني اسم خطبة عند العرب. ومن اعتبر الأقوال الراتبة وغلب حكمها قال: لا يجزئ من ذلك إلا أقل ما ينطلق عليه اسم الخطبة في عرف الشرع واستعماله، وليس من شرط الخطبة عند مالك الجلوس، وهو شرط كما قلنا عند الشافعي، وذلك أنه من اعتبر المعنى المعقول منه من كونه استراحة للخطيب لم يجعله شرطا، ومن جعل ذلك عبادة جعله شرطا.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب على ثلاثة أقوال: فمنهم من رأى أن الإنصات واجب على كل حال وأنه حكم لازم من أحكام الخطبة، وهم الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجميع فقهاء الأمصار، وهؤلاء انقسموا ثلاثة أقسام، فبعضهم أجاز التشميت ورد السلام في وقت الخطبة، وبه قال الثوري والأوزاعي وغيرهم وبعضهم لم يجز رد السلام ولا التشميت، وبعض فرق بين السلام والتشميت فقالوا يرد السلام ولا يشمت، والقول الثاني مقابل القول الأول، وهو أن الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حين قراءة القرآن فيها، وهو مروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والقول الثالث الفرق بين أن يسمع الخطبة أو لا يسمعها، فإن سمعها أنصت وإن لم يسمع جاز له أن يسبح أو يتكلم في مسألة من العلم، وبه قال أحمد وعطاء وجماعة، والجمهور على أنه إن تكلم لم تفسد صلاته. وروي عن ابن وهب أنه قال: من لغا فصلاته ظهر أربع وإنما صار الجمهور لوجوب الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" وأما من لم يوجبه فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أي أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات، وهذا فيه ضعف والله أعلم. والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم. وأما اختلافهم في رد السلام وتشميث العاطس، فالسبب فيه تعارض عموم الأمر بذلك لعموم الأمر بالإنصات، واحتمال أن يكون كل واحد منهما مستثنى من صاحبه، فمن استثنى من عموم الأمر بالصمت يوم الجمعة الأمر بالسلام وتشميت العاطس أجازهما، ومن استثنى من عموم الأمر برد السلام والتشميت الأمر بالصمت في حين الخطبة لم يجز ذلك، ومن فرق فإنه استثنى رد السلام من النهي عن التكلم في الخطبة، واستثنى من عموم الأمر التشميت وقت الخطبة، وإنما ذهب واحد واحد من هؤلاء إلى واحد واحد من المستثنيات لما غلب على ظنه من قوة العموم في أحدها وضعفه في الآخر، وذلك أن الأمر بالصمت هو عام في الكلام خاص في الوقت، والأمر برد السلام والتشميت هو عام في الوقت خاص في الكلام، فمن استثنى الزمان الخاص من الكلام العام لم يجز رد السلام ولا التشميت في وقت الخطبة، ومن استثنى الكلام الخاص من النهي عن الكلام العام أجاز ذلك. والصواب أن لا يصار لاستثناء أحد العمومين بأحد الخصوصين إلا بدليل، فإن عسر ذلك فبالنظر في ترجيح العمومات والخصوصات، وترجيح تأكيد الأوامر بها والقول في تفصيل ذلك يطول، ولكن معرفة ذلك بإيجاز أنه إن كانت الأوامر قوتها واحدة والعمومات والخصوصات قوتها واحدة ولم يكن هنالك دليل على أي يستثنى من أي وقع التمانع ضرورة، وهذا يقل وجوده، وإن لم يكن فوجه الترجيح في العمومات والخصوصات الواقعة في أمثال هذه المواضع هو النظر إلى جميع أقسام النسب الواقعة بين الخصوصين والعمومين، وهي أربع: عمومان في مرتبة واحدة من القوة، وخصوصان في مرتبة واحدة من القوة، فهذا لا يصار لإستثناء أحدهما إلا بدليل، والثاني مقابل هذا، وهو خصوص في نهاية القوة وعموم في نهاية الضعف، فهذا يجب أن يصار إليه ولا بد أعني أن يستثنى من العموم الخصوص، الثالث خصوصان في مرتبة واحدة، وأحد العمومين أضعف من الثاني، فهذا ينبغي أن يخصص فيه العموم الضعيف، الرابع عمومان في مرتبة واحدة وأحد الخصوصين أقوى من الثاني، فهذا يجب أن يكون الحكم فيه للخصوص القوي، وهذا كله إذا تساوت الأوامر فيها في مفهوم التأكيد، فإن اختلفت حدثت من ذلك تراكيب مختلفة ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ وقوة الأوامر، ولعسر انضباط هذه الأشياء قيل إن كل مجتهد مصيب أو أقل ذلك غير مأثوم.

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا فيمن جاء يوم الجمعة والإمام على المنبر: هل يركع أم لا؟ فذهب بعض إلى أنه لا يركع وهو مذهب مالك، وذهب بعضهم إلى أنه يركع. والسبب في اختلافهم معارضة القياس لعموم الأثر، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" يوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب، والأمر بالإنصات إلى الخطيب يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن الإنصات وإن كان عبادة، ويؤيد عموم هذا الأثر ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين" خرجه مسلم في بعض رواياته، وأكثر رواياته "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الداخل أن يركع، ولم يقل إذا جاء أحدكم" الحديث. فيتطرق إلى هذا الخلاف في هل تقبل زيادة الراوي الواحد إذا خالفه أصحابه عن الشيخ الأول الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا؟ فإن صحت الزيادة وجب العمل بها، فإنها نص في موضع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس، لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل.

@-(المسألة الخامسة) أكثر الفقهاء على أن من سنة القراءة في صلاة الجمعة قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى لما تكرر ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بإذا جاءك المنافقون" وروى مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة قال "كان يقرأ بهل أتاك حديث الغاشية" واستحب مالك العمل على هذا الحديث وإن قرأ عنده بسبح اسم ربك الأعلى كان حسنا، لأنه مروي عن عمر بن عبد العزيز وأما أبو حنيفة فلم يقف فيها شيئا. والسبب في اختلافهم معارضة حال الفعل للقياس، وذلك أن القياس يوجب أن لا يكون لها سورة راتبة كالحال في سائر الصلوات، ودليل الفعل يقتضي أن يكون لها سورة راتبة. وقال القاضي: خرج مسلم عن النعمان ابن بشير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية" قال فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين، وهذا يدل على أنه ليس هناك سورة راتبة وأن الجمعة ليس كان يقرأ بها دائما.

*4*الفصل الرابع في أحكام الجمعة.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل. الأولى: في حكم طهر الجمعة. الثانية: على من تجب ممن خارج المصر. الثالثة: في وقت الرواح المرغب فيه إلى الجمعة. الرابعة: في جواز البيع يوم الجمعة بعد النداء.

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في طهر الجمعة؛ فذهب الجمهور إلى أنه سنة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض ولا خلاف فيما أعلم أنه ليس شرطا في صحة الصلاة، والسبب في اختلافهم تعارض الآثار وذلك أن في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة" وفيه حديث عائشة قالت: "كان الناس عمال أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لو اغتسلتم؟ والأول صحيح باتفاق، والثاني خرجه أبو داود ومسلم. وظاهر حديث أبي سعيد يقتضي وجوب الغسل، وظاهر حديث عاشة أن ذلك كان لموضع النظافة وأنه ليس عبادة، وقد روي "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" وهو نص في سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف. وأما وجوب الجمعة على من هو خارج المصر، فإن قوما قالوا: لا تجب على من خارج المصر، وقوم قالوا: بل تجب، وهؤلاء اختلفوا اختلافا كثيرا، فمنهم من قال: من كان بينه وبين الجمعة مسيرة يوم وجب عليه الإتيان إليها وهو شاذ، ومنهم من قال يجب عليه الإتيان إليها على ثلاثة أميال، ومنهم من قال: يجب عليه الإتيان من حيث يسمع النداء في الأغلب، وذلك من ثلاثة أميال من موضع النداء، وهذان القولان عن مالك، وهذه المسألة ثبتت في شروط الوجوب. وسبب اختلافهم في هذا الباب اختلاف الآثار، وذلك أنه ورد أن الناس كانوا يأتون الجمعة من العوالي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ثلاثة أميال من المدينة. وروى أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "الجمعة على من سمع النداء" وروي "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله" وهو أثر ضعيف وأما اختلافهم في الساعات التي وردت في فضل الرواح، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" فإن الشافعي وجماعة من العلماء اعتقدوا أن هذه الساعات هي ساعات النهار فندبوا إلى الرواح من أول النهار، وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده، وقال قوم: هي أجزاء ساعة قبل الزوال وهو الأظهر لوجوب السعي بعد الزوال إلا على مذهب من يرى أن الواجب يدخله الفضيلة. وأما اختلافهم في البيع والشراء وقت النداء فإن قوما قالوا: يفسخ البيع إذا وقع النداء، وقوما قالوا لا يفسخ. وسبب اختلافهم هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه أم لا؟. وآداب الجمعة ثلاث الطيب والسواك واللباس الحسن، ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك.

*3*الباب الرابع في صلاة السفر.

@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول في القصر. الفصل الثاني في الجمع.

*4*الفصل الأول في القصر.

@-والسفر له تأثير في القصر باتفاق، وفي الجمع باختلاف. أما القصر فإنه اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ، وهو قول عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قصر لأنه كان خائفا، واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر، والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر، والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر، والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير، والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا أقام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر والإتمام كلاهما فرض مخير له كالخيار في واجب الكفارة. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة وأن الإتمام أفضل، وبالقول الأول قال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم: أعني أنه فرض متعين، وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي وبالثالث "أعني أنه سنة" قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالرابع "أعني أنه رخصة" قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول لصيغة اللفظ المنقول ومعارضة دليل الفعل أيضا للمعنى المعقول ولصيغة اللفظ المنقول، وذلك أن المفهوم من قصر الصلاة للمسافر إنما هو الرخصة لموضع المشقة كما رخص له في الفطر وفي أشياء كثيرة

ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال "قلت لعمر: إنما قال الله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} يريد في قصر الصلاة في السفر، فقال عمر "عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" فمفهوم هذا الرخصة. وحديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" وهما في الصحيح، وهذا كله يدل على التخفيف والرخصة ورفع الحرج، لا أن القصر هو الواجب ولا أنه سنة. وأما الأثر الذي يعارض بصيغته المعنى المعقول ومفهوم هذه الآثار فحديث عائشة الثابت باتفاق قالت "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر" وأما دليل الفعل الذي يعارض المعنى المعقول ومفهوم الأثر المنقول فإنه ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام من قصر الصلاة في كل أسفاره، وأنه لم يصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أتم الصلاة قط فمن ذهب إلى أنه سنة أو واجب مخير فإنما حمله على ذلك أنه لم يصح عنده "أن النبي عليه الصلاة والسلام أتم الصلاة وما هذا شأنه"

فقد يجب أن يكون أحد الوجهين: أعني إما واجبا مخيرا، وإما أن يكون سنة، وإما أن يكون فرضا معينا، لكن كونه فرضا معينا يعارضه المعنى المعقول، وكونه رخصة يعارضه اللفظ المنقول، فوجب أن يكون واجبا مخيرا أو سنة، وكان هذا نوعا من طريق الجمع، وقد اعتلوا لحديث عائشة بالمشهور عنها من أنها كانت تتم، وروى عطاء "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء" ومما يعارضه أيضا حديث أنس وأبي نجيح المكي قال: اصطحبت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، ولم يختلف في إتمام الصلاة عن عثمان وعائشة، فهذا هو اختلافهم في الموضع الأول. وأما اختلافهم في الموضع الثاني وهي المسافة التي يجوز فيها القصر، فإن العلماء اختلفوا في ذلك أيضا اختلافا كثيرا، فذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد، وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق. وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة. وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط، فقالوا: قد قال النبي عليه الصلاة والسلام "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" فكل من انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلا" وذهب قوم إلى خامس كما قلنا وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وقد قيل إنه مذهب عائشة وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه كان خائفا.

وأما اختلاف أولئك الذين اعتبروا المشقة فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة برد مروي عن ابن عمر وابن عباس، ورواه مالك، ومذهب الثلاثة أيام مروي أيضا عن ابن مسعود وعثمان وغيرهما. وأما الموضع الثالث وهو اختلافهم في نوع السفر الذي تقتصر فيه الصلاة، فرأى بعضهم أن ذلك مقصور على السفر المتقرب به كالحج والعمرة والجهاد، وممن قال بهذا القول أحمد. ومنهم من أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية، وبهذا القول قال مالك والشافعي. ومنهم من أجازه في كل سفر قربة كان أو مباحا أو معصية وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر. وأما من اعتبر دليل الفعل قال: إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به. وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ،

والأصل فيه: هل تجوز الرخص للعصاة أم لا؟ وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى، فاختلف الناس فيها لذلك. وأما الموضع الرابع وهو اختلافهم في الموضع الذي منه يبدأ المسافر بقصر الصلاة، فإن مالكا قال في الموطأ: لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخل أول بيوتها. وقد روي عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وذلك عنده أقصى ما تجب فيه الجمعة على من كان خارج المصر في إحدى الروايتين عنه، وبالقول الأول قال الجمهور. والسبب في هذا الاختلاف معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل، وذلك أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم مسافر فمن راعى مفهوم الاسم قال: إذل خرج من بيوت القرية قصر. ومن راعى دليل الفعل: أعني فعله عليه الصلاة والسلام قال: لا يقصر إلا إذا خرج من بيوت القرية بثلاثة أميال لما صح من حديث أنس قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ {شعبة الشاك} صلى ركعتين" وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا قام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي إنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم. والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل لها حكم المسافر. فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روى "أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته" وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير،

وإنما فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها. والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة مقصرا وذلك نحوا من خمسة عشر يوما في بعض الروايات وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق. والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجة بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقام بعد قضاء نسكه" فدل هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا، وإن أقام ما شاء الله. ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة؛ فقالت المالكية مثلا إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه، والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون أقامه لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون أقامه بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق، فعرض له أن قام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم السفر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر.

*4*الفصل الثاني في الجمع.

@-وأما الجمع فإنه يتعلق به ثلاث مسائل: إحداها جوازه. والثانية في صفة الجمع. والثالثة في مبيحات الجمع. أما جوازه فإنهم أجمعوا على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة سنة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنة أيضا. واختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين، فأجازه الجمهور على اختلاف بينهم في المواضع التي يجوز فيها من التي لا يجوز، ومنعه أبو حنيفة وأصحابه بإطلاق. وسبب اختلافهم أولا اختلافهم في تأويل الآثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها على جواز الجمع لأنها كلها أفعال وليست أقوالا، والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من تطرقه إلى اللفظ. وثانيا اختلافهم أيضا في تصحيح بعضها، وثالثا اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى. أما الآثار التي اختلفوا في تأويلها، فمنها حديث أنس الثابت باتفاق أخرجه البخاري ومسلم قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" ومنها حديث ابن عمر أخرجه الشيخان أيضا قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" والحديث الثالث حديث ابن عباس خرجه مالك ومسلم قال "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر" فذهب القائلون بجواز الجمع في تأويل هذه الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر المختص بها وجمع بينهما. وذهب الكوفيون إلى أنه إنما أوقع صلاة الظهر في آخر وقتها وصلاة العصر في أول وقتها على ما جاء في حديث إمامة جبريل قالوا: وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس لأنه قد انعقد الإجماع أنه لا يجوز هذا في الحضر لغير عذر: أعني أن تصلى الصلاتان معا في وقت إحداهما، واحتجوا لتأويلهم أيضا بحديث ابن مسعود قال "والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع" قالوا: وأيضا فهذه الآثار محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن أو ما تأولتموه أنتم. وقد صح توقيت الصلاة وتبيانها في الأوقات، فلا يجوز أن تنتقل عن أصل ثابت بأمر محتمل. وأما الأثر الذي اختلفوا في تصحيحه، فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل "أنهم أخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا" وهذا الحديث لو صح لكان أظهر من تلك الأحاديث في إجازة الجمع

لأن ظاهره أنه قدم العشاء إلى وقت المغرب، وإن كان لهم أن يقولوا إنه أخر المغرب إلى آخر وقتها وصلى العشاء في أول وقتها لأنه ليس في الحديث أمر مقطوع به على ذلك، بل لفظ الراوي محتمل. وأما اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق سائر الصلوات في السفر بصلاة عرفة والمزدلفة، أعني أن يجاز الجمع قياسا على تلك، فيقال مثلا: صلاة وجبت في سفر، فجاز أن تجمع أصله جمع الناس بعرفة والمزدلفة، وهو مذهب سالم بن عبد الله: أعني جواز هذا القياس، لكن القياس في العبادات يضعف، فهذه هي أسباب الخلاف الواقع في جواز الجمع.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي صورة الجمع فاختلف فيه أيضا القائلون بالجمع أعني في السفر. فمنهم من رأى الاختيار أن تؤخر الصلاة الأولى وتصلى مع الثانية وإن جمعتا معا في أول وقت الأولى جاز، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومنهم من سوى بين الأمرين: أعني أن يقدم الآخرة إلى وقت الأولى أو يعكس الأمر وهو مذهب الشافعي وهي رواية أهل المدينة عن مالك، والأولى رواية ابن القاسم عنه، وإنما كان الاختيار عند مالك هذا النوع من الجمع لأنه الثابت من حديث أنس، ومن سوى بينهما فمصيرا إلى أنه لا يرجح بالعدالة: أعني أنه لا تفضل عدالة عدالة في وجوب العمل بها، ومعنى هذا أنه إذا صح حديث معاذ وجب العمل به كما وجب بحديث أنس إذا كان رواة الحديثين عدولا، وإن كان رواة أحد الحديثين أعدل.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي الأسباب المبيحة للجمع، فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها، واختلفوا في الجمع في الحضر وفي شروط السفر المبيح له، وذلك أن السفر منهم من جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة كان، ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير، ونوعا من أنواع السفر، فأما الذي اشترط فيه ضربا من السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه، وذلك أنه قال: لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير، ومنهم من لم يشترط ذلك وهو الشافعي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومن ذهب هذا المذهب فإنما راعى قول ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير" الحديث. ومن لم يذهب هذا المذهب فإنما راعى ظاهر حديث أنس وغيره، وكذلك اختلفوا كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع. فمنهم من قال: هو سفر القربة كالحج والغزو، وهو ظاهر رواية ابن القاسم. ومنهم من قال: هو السفر المباح دون سفر المعصية، وهو قول الشافعي وظاهر رواية المدنيين عن مالك. والسبب في اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وإن كان هنالك التعميم، لأن القصر نقل قولا وفعلا، والجمع إنما نقل فعلا فقط، فمن اقتصر به على نوع السفر الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزه في غيره، ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من الأسفار. وأما الجمع في الحضر لغير عذر، فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه. وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال مالك. ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا. وقد خرج مسلم زيادة في حديثه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في غير خوف ولا سفر ولا مطر" وبهذا تمسك أهل الظاهر. وأما الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل، وقد عدل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل، لأنه روى الحديث وتأوله: أعني خصص عمومه من جهة القياس، وذلك أنه قال في قول ابن عباس "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر" أرى ذلك كان في مطر قال: فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله: أعني تخصيصه، بل رد بعضه وتأول بعضه، وذلك شيء لا يجوز بإجماع، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه "جمع بين الظهر والعصر" وأخذ بقوله "والمغرب والعشاء" وتأوله وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل، وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روى أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر، فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع، وذلك لا وجه له، فإن إجماع البعض لا يحتج به، وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر، ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف، والعمل إنما هو فعل والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقة الخبر لا العمل، وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع، والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل، وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن وإن خالفته أفادت به ضعف ظن، فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر، وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها، وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف، وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين: إما أنها منسوخة، وإما أن النقل فيه اختلال، وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره. وأما الجمع في الحضر للمريض فإن مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك الشافعي. والسبب في اختلافهم هو اختلافهم في تعدي علة الجمع في السفر: أعني المشقة، فمن طرد العلة رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى، وذلك أن المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها على المسافر، ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما يقولون قاصرة: أي خاصة بذلك الحكم دون غيره لم يجز ذلك.

*3*الباب الخامس من الجملة الثالثة، وهو القول في صلاة الخوف.

@-اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي عليه الصلاة والسلام وفي صفتها، فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا} الآية. ولما ثبت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك، وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد، وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت. والسبب في اختلافهم هل صلاة النبي بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي صلى الله عليه وسلم فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، ومن رآها لمكان فضل النبي عليه الصلاة والسلام رآها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس على إمامين، وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي عليه الصلاة والسلام وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية. ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم،

وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها. وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب: أعني المنقولة من فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، والمشهور من ذلك سبع صفات. فمن ذلك ما أخرجه مالك ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم، وبهذا الحديث قال الشافعي، وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا كمثل حديث يزيد بن رومان أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة، واختار مالك هذه الصفة، فالشافعي آثر المسند على الموقوف، ومالك آثر الموقوف لأنه أشبه بالأصول: أعني أنه لا يجلس (قوله يجلس لعله يسلم كما يظهر من سابقه اهـ مصححه) الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه. والصفة الثالثة ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلوا العدو، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو، ثم جاء الأخرون فقاموا معه فصلى بهم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا "وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم". والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف واحد وصف بعد ذلك صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم بهم جميعا" وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم.

قال أبو داود: وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد، وعن أبي موسى وعن هشام ابن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة، وقال بهذه الصفة جملة من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وخرجها مسلم عن جابر، وقال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم. والصفة الخامسة الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا"

وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة. وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال "الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة" وأجاز هذه الصفة الثوري. والصفة السادسة الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين، وبه كان يفتي الحسن، وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما، وهم مقصرون، خرجه مسلم عن جابر.

والصفة السابعة الواردة في حديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة. وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين، فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة. وقال أبو عمر: الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم، وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات، وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وإيماء من غير ركوع ولا سجود. وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة، ولا يصلي أحد في حال المسايفة. وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول، وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة، وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن.

*3*الباب السادس من الجملة الثالثة في صلاة المريض.

@-أجمع العلماء على أن المريض مخاطب بأداء الصلاة، وأنه يسقط عنه فرض القيام إذا لم يستطعه ويصلي جالسا، وكذلك يسقط عنه فرض الركوع والسجود إذا لم يستطعهما أو أحدهما ويومئ مكانهما. واختلفوا فيمن له أن يصلي جالسا وفي هيئة الجلوس وفي هيئة الذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام، فأما من له أن يصلي جالسا فإن قوما قالوا: هذا الذي لا يستطيع القيام أصلا، وقوم قالوا هو الذي يشق عليه القيام من المرض، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل يسقط فرض القيام مع المشقة أو مع عدم القدرة؟ وليس في ذلك نص. وأما صفة الجلوس فإن قوما قالوا: يجلس متربعا: أعني الجلوس الذي هو بدل من القيام، وكره ابن مسعود الجلوس متربعا، فمن ذهب إلى التربيع فلا فرق بينه وبين جلوس التشهد، ومن كره فلأنه ليس من جلوس الصلاة. وأما صفة صلاة الذي لا يقدر على القيام ولا على الجلوس، فإن قوما قالوا يصلي مضطجعا، وقوم قالوا: يصلي كيفما تيسر له، وقوم قالوا: يصلي مستقبلا رجلاه إلى الكعبة، وقوم قالوا: إن لم يستطع الجلوس صلى على جنبه، فإن لم يستطع على جنبه صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على قدر طاقته، وهو الذي اختاره ابن المنذر.

*3*(الجملة الرابعة) وهذه الجملة تشمل من أفعال الصلاة على التي ليست أداء، وهذه هي إما إعادة وإما قضاء وإما جبر لما زاد أو نقص بالسجود ففي هذه الجملة إذا ثلاثة أبواب. الباب الأول: في الإعادة. الباب الثاني: في القضاء. الباب الثالث: في الجبران الذي يكون بالسجود.

*3*الباب الأول في الإعادة.

@-وهذا الباب الكلام فيه في الأسباب التي تقتضي الإعادة، وهي مفسدات الصلاة. واتفقوا على أن من صلى بغير طهارة أنه يجب عليه الإعادة عمدا أو نسيانا، وكذلك من صلى لغير القبلة عمدا كان ذلك أو نسيانا.

وبالجملة فكل من أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وجبت عليه الإعادة وإنما يختلفون من أجل اختلافهم في الشروط المصححة.

(وها هنا مسائل تتعلق بهذا الباب خارجة عما ذكر من فروض الصلاة اختلفوا فيها) فمنها أنهم اتفقوا على أن الحدث يقطع الصلاة، واختلفوا هل يقتضي الإعادة من أولها إذا كان قد ذهب منها ركعة أو ركعتان قبل طرو الحدث أم يبني على ما قد مضى من الصلاة، فذهب الجمهور إلى أنه لا يبني لا في حدث ولا في غيره مما يقطع الصلاة إلا في الرعاف فقط. ومنهم من رأى أنه لا يبني لا في الحدث ولا في الرعاف، وهو الشافعي، وذهب الكوفيون إلى أنه يبني في الأحداث كلها. وسبب اختلافهم أنه لم يرد في جواز ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما صح عن ابن عمر أنه رعف في الصلاة فبنى ولم يتوضأ، فمن رأى أن هذا الفعل من الصحابي يجري مجرى التوقيف إذ ليس يمكن أن يفعل مثل هذا بقياس أجاز هذا الفعل، ومن كان عنده من هؤلاء أن الرعاف ليس بحدث أجاز البناء في الرعاف فقط ولم يعده لغيره، وهو مذهب مالك، ومن كان عنده أنه حدث أجاز البناء في سائر الأحداث قياسا على الرعاف، ومن رأى أن مثل هذا لا يجب أن يصار إليه إلا بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام إذ قد انعقد الإجماع على أن المصلي إذا انصرف إلى غير القبلة أنه قد خرج من الصلاة، وكذلك إذا فعل فيها فعلا كثيرا لم يجز البناء لا في الحدث ولا في في الرعاف.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء هل يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي إذا صلى لغير سترة أو مر بينه وبين السترة؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع الصلاة شيء، وأنه ليس عليه الإعادة، وذهبت طائفة إلى أنه يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب الأسود. وسبب هذا الخلاف معارضة القول للفعل، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي ذر أنه عليه الصلاة والسلام قال "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود" وخرج مسلم والبخاري عن عائشة أنها قالت "لقد رأيتني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي" وروي مثل قول الجمهور عن علي وعن أبي، ولا خلاف بينهم في كراهية المرور بين يدي المنفرد والإمام إذا صلى لغير سترة أو مر بينه وبين السترة، ولم يروا بأسا أن يمر خلف السترة وكذلك لم يروا بأسا أن يمر بين يدي المأموم لثبوت حديث ابن عباس وغيره قال "لقد أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فمررت بين يدي بعض الصفوف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر علي ذلك أحد" وهذا عندهم يجري مجرى المسند، وفيه نظر، وإنما اتفق الجمهور على كراهية المرور بين يدي المصلي، لما جاء فيه من الوعيد في ذلك، ولقوله عليه الصلاة والسلام فيه "فليقاتله فإنما هو شيطان".

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في النفخ في الصلاة على ثلاثة أقوال: فقوم كرهوه ولم يروا الإعادة على من فعله، وقوم أوجبوا الإعادة على من نفخ، وقوم فرقوا بين أن يسمع أو لا يسمع. وسبب اختلافهم تردد النفخ بين أن يكون كلاما أو لا يكون كلاما.

@-(المسألة الرابعة) اتفقوا على أن الضحك يقطع الصلاة، واختلفوا في التبسم وسبب اختلافهم تردد التبسم بين أن يلحق بالضحك أو لا يلحق به.

@-(المسألة الخامسة) اختلفوا في صلاة الحاقن، فأكثر العلماء يكرهون أن يصلي الرجل وهو حاقن، لما روي من حديث زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" ولما روي عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثان" يعني الغائط والبول. ولما ورد من النهي عن ذلك عن عمر أيضا، وذهب قوم إلى أن صلاته فاسدة، وأنه يعيد. وروى ابن القاسم عن مالك ما يدل على أن صلاة الحاقن فاسدة، وذلك أنه روي عنه أنه أمره بالإعادة في الوقت وبعد الوقت. والسبب في اختلافهم اختلافهم في النهي، هل يدل على فساد المنهى عنه أم ليس يدل على فساده؟ وإنما يدل على تأثيم من فعله فقط إذا كان أصل الفعل الذي تعلق النهي به واجبا أو جائزا، وقد تمسك القائلون بفساد صلاته بحديث رواه الشاميون، منهم من يجعله عن ثوبان، ومنهم من يجعله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدا" قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ضعيف السند لا حجة فيه.

@-(المسألة السادسة) اختلفوا في رد سلام المصلي على من سلم عليه، فرخصت فيه طائفة منهم سعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن البصري وقتادة. ومنع ذلك قوم بالقول وأجازوا الرد بالإشارة، وهو مذهب مالك والشافعي، ومنع آخرون رده بالقول والإشارة، وهو مذهب النعمان، وأجاز قوم الرد في نفسه، وقوم قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة. والسبب في اختلافهم: هل رد السلام نوع من التكلم في الصلاة المنهى عنه أم لا؟ فمن رأى أنه من نوع الكلام المنهى عنه، وخصص الأمر برد السلام في قوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} الآية بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة قال: لا يجوز الرد في الصلاة، ومن رأى أنه ليس داخلا في الكلام المنهى عنه، أو خصص أحاديث النهي بالأمر برد السلام أجازه في الصلاة. قال أبو بكر بن المنذر، ومن قال لا يرد ولا يصير فقد خالف السنة، فإنه قد أخبر حبيب أن النبي عليه الصلاة والسلام رد على الذين سلموا عليه وهو في الصلاة بإشارة.

*3*الباب الثاني في القضاء.

@-والكلام في هذا الباب على من يجب القضاء، وفي صفة أنواع القضاء وفي شروطه، فأما على من يجب القضاء؟ فاتفق المسلمون على أنه يجب على الناسي والنائم، واختلفوا في العامد والمغمى عليه، وإنما اتفق المسلمون على وجوب القضاء على الناسي والنائم لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام وفعله: وأعني بقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث" فذكر النائم وقوله "إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وما روي أنه نام عن الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها. وأما تاركها عمدا حتى يخرج الوقت، فإن الجمهور على أنه آثم، وأن القضاء عليه واجب وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه لا يقضي وأنه آثم، وأحد من ذهب إلى ذلك أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم اختلافهم في شيئين: أحدهما في جواز القياس في الشرع. والثاني في قياس العامد على الناسي إذا سلم جواز القياس. فمن رأى أنه إذا وجب القضاء على الناسي الذي قد عذره الشرع في أشياء كثيرة، فالمتعمد أحرى أن يجب عليه لأنه غير معذور أوجب القضاء عليه، ومن رأى أن الناسي والعامد ضدان: والأضداد لا يقاس بعضها على بعض إذ أحكامها مختلفة، وإنما تقاس الأشباه، لم يجز قياس العامد على الناسي، والحق في هذا أنه إذا جعل الوجوب من باب التغليظ كان القياس سائغا. وأما إن جعل من باب الرفق بالناسي والعذر له وأن لا يفوته ذلك الخير، فالعامد في هذا ضد الناسي، والقياس غير سائغ لأن الناسي معذور والعامد غير معذور، الأصل أن القضاء لا يجب بأمر الأداء، وإنما يجب بأمر مجدد على ما قال المتكلمون، لأن القاضي قد فاته أحد شروط التمكن من وقوع الفعل على صحته، وهو الوقت إذ كان شرطا من شروط الصحة والتأخير عن الوقت في قياس التقديم عليه، لكن قد ورد الأثر بالناسي والنائم وتردد العامد بين أن يكون شبيها أو غير شبيه، والله الموفق للحق. وأما المغمى عليه، فإن قوما أسقطوا عنه القضاء فيما ذهب وقته، وقوم أوجبوا عليه القضاء. ومن هؤلاء من اشترط القضاء في عدد معلوم، وقالوا: يقضي في الخمس فما دونها. والسبب في اختلافهم تردده بين النائم والمجنون، فمن شبهه بالنائم أوجب عليه القضاء، ومن شبهه بالمجنون أسقط عنه الوجوب. وأما صفة القضاء، فإن القضاء نوعان: قضاء لجملة الصلاة، وقضاء لبعضها. أما قضاء الجملة فالنظر فيه في صفة القضاء وشروطه ووقته. فأما صفة القضاء فهي بعينها صفة الأداء إذا كانت الصلاتان في صفة واحدة من الفرضية وأما إذا كانت في أحوال مختلفة مثل أن يذكر صلاة حضرية في سفر أو صلاة سفرية في حضر، فاختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقوم قالوا: إنما يقضي مثل الذي عليه ولم يراعوا الوقت الحاضر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم قالوا: إنما يقضي أبدا أربعا سفرية كانت منسية أو حضرية، فعلى رأي هؤلاء إن ذكر في السفر حضرية صلاها حضرية، وإن ذكر في الحضر سفرية صلاها حضرية وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: إنما يقضي أبدا فرض الحال التي هو فيها فيقضي الحضرية في السفر سفرية، والسفرية في الحضر حضرية، فمن شبه القضاء بالأداء راعى الحال الحاضرة وجعل الحكم لها قياسا على المريض يتذكر صلاة نسيها في الصحة أو الصحيح يتذكر صلاة نسيها في المرض: أعني أن فرضه هو فرض الصلاة في الحال الحاضرة، ومن شبه القضاء بالديون أوجب للمقضية صفة المنسية. وأما من أوجب أن يقضي أبدا حضرية، فراعى الصفة في إحداهما والحال في الأخرى، أعني أنه إذا ذكر الحضرية في السفر راعى صفة المقضية، وإذا ذكر السفرية في الحضر راعى الحال؛ وذلك اضطراب جار على غير قياس إلا أن يذهب مذهب الاحتياط، وذلك بتصور فيمن يرى القصر رخصة.

@-(وأما شروط القضاء ووقته) فإن من شروطه الذي اختلفوا فيه الترتيب وذلك أنهم اختلفوا في وجوب الترتيب في قضاء المنسيات: أعني بوجوب ترتيب المنسيات مع الصلاة الحاضرة الوقت، وترتيب المنسيات بعضها مع بعض إذا كانت أكثر من صلاة واحدة، فذهب مالك إلى أن الترتيب واجب فيها في الخمس صلوات فما دونها، وأنه يبدأ بالمنسية وإن فات وقت الحاضرة حتى أنه قال: إن ذكر المنسية وهو في الحاضرة فسدت الحاضرة عليه، وبمثل ذلك قال أبو حنيفة والثوري إلا أنهم رأوا الترتيب واجبا مع اتساع وقت الحاضرة، واتفق هؤلاء على سقوط وجوب الترتيب مع النسيان. وقال الشافعي لا يجب الترتيب، وإن فعل ذلك إذا كان في الوقت متسع فحسن يعني في وقت الحاضرة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب واختلافهم في تشبيه القضاء بالأداء. فأما الآثار فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "من نسي صلاة وهو مع الإمام في أخرى فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلى مع الإمام" وأصحاب الشافعي يضعفون هذا الحديث ويصححون حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليتم التي هو فيها، فإذا فرغ منها قضى التي نسي" والحديث الصحيح في هذا الباب هو ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام، إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها" الحديث. وأما اختلافهم في جهة تشبيه القضاء بالأداء فإن من رأى أن الترتيب في الأداء إنما لزم من أجل أن أوقاتها المختصة بصلاة منها هي مرتبة في نفسها إذ كان الزمان لا يعقل إلا مرتبا لم يلحق بها القضاء، لأنه ليس للقضاء وقت مخصوص ومن رأى أن الترتيب في الصلوات المؤداة هو في الفعل وإن كان الزمان واحدا مثل الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، شبه القضاء بالأداء: وقد رأت المالكية أن توجب الترتيب للمقضية من جهة الوقت لا من جهة الفعل لقوله عليه الصلاة والسلام: "فليصلها إذا ذكرها" قالوا: فوقت المنسية وهو وقت الذكر، ولذلك وجب أن تفسد عليه الصلاة التي هو فيها في ذلك الوقت، وهذا لا معنى له لأنه إن كان وقت الذكر وقتا للمنسية فهو بعينه أيضا وقت للحاضرة أو وقت للمنسيات إذا كانت أكثر من صلاة واحدة، وإذا كان الوقت واحدا فلم يبق أن يكون الفساد الواقع فيها إلا من قبل الترتيب بينها كالترتيب الذي يوجد في أجزاء الصلاة الواحدة فإنه ليس إحدى الصلاتين أحق بالوقت من صاحبتها إذ كان وقتا لكليهما إلا أن يقوم دليل الترتيب، وليس ههنا عندي شيء يمكن أن يجعل أصلا في هذا الباب لترتيب المنسيات إلا الجمع عند من سلمه، فإن الصلوات المؤداة أوقاتها مختلفة والترتيب في القضاء إنما يتصور في الوقت الواحد بعينه للصلاتين معا، فافهم هذا فإن فيه غموضا، وأظن مالكا رحمه الله إنما قاس ذلك على الجمع وإنما صار الجميع إلى استحسان الترتيب في المنسيات إذا لم يخف فوات الحاضرة لصلاته عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس يوم الخندق مرتبة، وقد احتج بهذا من أوجب القضاء على العامد، ولا معنى لهذا، فإن هذا منسوخ، وأيضا فإنه كان تركا لعذر وأما التحديد في الخمس فما دونها فليس له وجه إلا أن يقال: إنه إجماع، فهذا حكم القضاء الذي يكون في فوات جملة الصلاة، وأما القضاء الذي يكون في فوات بعض الصلوات، فمنه ما يكون سببه النسيان، ومنه ما يكون سببه سبق الإمام للمأموم: أعني أن يفوت المأموم بعض صلاة الإمام، فأما إذا فات المأموم بعض الصلاة، فإن فيه مسائل ثلاثا قواعد: إحداها متى تفوت الركعة. والثانية هل إتيانه بما فاته بعد صلاة الإمام أداء أو قضاء. والثالثة متى يلزمه حكم صلاة الإمام ومتى لا يلزمه ذلك. أما متى تفوته الركعة، فإن في ذلك مسألتين: إحداهما إذا دخل والإمام قد أهوى إلى الركوع، والثانية إذا كان مع الإمام في الصلاة فسها أن يتبعه في الركوع أو منعه ذلك ما وقع من زحام أو غيره.

@-(وأما المسألة الأولى) فإن فيها ثلاثة أقوال: أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه إذا أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع وركع معه فهو مدرك للركعة وليس عليه قضاؤها، وهؤلاء اختلفوا: هل من شرط هذا الداخل أن يكبر تكبيرتين تكبيرة للإحرام وتكبيرة للركوع أو يجزيه تكبيرة الركوع؟. وإن كانت تجزيه فهل من شرطها أن ينوي بها تكبيرة الإحرام أم ليس ذلك من شرطها؟ فقال بعضهم: بل تكبيرة واحدة تجزيه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح، وهو مذهب مالك والشافعي، والاختيار عندهم تكبيرتان، وقال قوم: لا بد من تكبيرتين، وقال قوم: تجزى واحدة وإن لم ينو بها تكبيرة الافتتاح. والقول الثاني أنه إذا ركع الإمام فقد فاتته الركعة، وأنه لا يدركها ما لم يدركه قائما وهو منسوب إلى أبي هريرة. والقول الثالث أنه إذا انتهى إلى الصف الآخر وقد رفع الإمام رأسه ولم يرفع بعضهم، فأدرك ذلك أنه يجزيه لأن بعضهم أئمة لبعض، وبه قال الشعبي. وسبب هذا الاختلاف تردد اسم الركعة بين أن يدل على الفعل نفسه الذي هو الانحناء فقط، أو على الانحناء والوقوف معا، وذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة" قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان اسم الركعة ينطلق عنده على القيام والانحناء معا قال: إذا فاته قيام الإمام فقد فاتته الركعة، ومن كان اسم الركعة ينطلق عنده على الانحناء نفسه جعل إدراك الانحناء إدراكا للركعة، والاشتراك الذي عرض لهذا الاسم إنما هو من قبل تردده بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، وذلك أن اسم الركعة ينطلق لغة على الانحناء، وينطلق شرعا على القيام والركوع والسجود فمن رأى أن اسم الركعة ينطلق في قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة" على الركعة الشرعية ولم يذهب مذهب الآخذ ببعض ما تدل عليه الأسماء قال: لابد أن يدرك مع الإمام الثلاثة الأحوال أعني: القيام، والانحناء، والسجود، ويحتمل أن يكون من ذهب إلى اعتبار الانحناء فقط أن يكون اعتبر أكثر ما يدل عليه الاسم ههنا لأن من أدرك الانحناء فقد أدرك منها جزأين، ومن فاته الانحناء إنما هو أدرك منها جزءا واحدا فقط، فعلى هذا يكون الخلاف آيلا إلى اختلافهم في الأخذ ببعض دلالة الأسماء أو بكلها، فالخلاف يتصور فيها من الوجهين جميعا. وأما من اعتبر الركوع من في الصف من المأمومين فلأن الركعة من الصلاة قد تضاف إلى الإمام فقط، وقد تضاف إلى الإمام والمأمومين. فسبب الاختلاف هو الاحتمال في هذه الإضافة: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصلاة" وما عليه الجمهور أظهر. وأما اختلافهم في: هل تجزيه تكبيرة واحدة أو تكبيرتان؟ أعني المأموم إذا دخل في الصلاة والإمام راكع. فسببه هل من شرط تكبيرة الإحرام أن يأتي بها واقفا أم لا؟ فمن رأى أن من شرطها الموضع الذي تفعل فيه تعلقا بالفعل أعني فعله عليه الصلاة والسلام، وكان يرى أن التكبير كله فرض قال: لابد من تكبيرتين. ومن رأى أنه ليس من شرطها الموضع تعلقا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "وتحريمها التكبير" وكان عنده أن تكبيرة الإحرام هي فقط الفرض قال: يجزيه أن يأتي بها وحدها. وأما من أجاز أن يأتي بتكبيرة واحدة ولم ينوبها تكبيرة الإحرام، فقيل يبني على مذهب من يرى أن تكبيرة الإحرام ليست بفرض، وقيل إنما يبني على مذهب من يجوز تأخير نية الصلاة عن تكبيرة الإحرام، لأنه ليس معنى أن ينوي تكبيرة الإحرام إلا مقارنة النية للدخول في الصلاة، لأن تكبيرة الإحرام لها وصفان: النية المقارنة، والأولية: أعني وقوعها في أول الصلاة، فمن اشترط الوصفين قال: لابد من النية المقارنة، ومن اكتفى بالصفة الواحدة اكتفى بتكبيرة واحدة، وإن لم تقارنها النية.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي إذا سها عن اتباع الإمام في الركوع حتى سجد الإمام، فإن قوما قالوا: إذا فاته إدراك الركوع معه، فقد فاتته الركعة ووجب عليه قضاؤها، وقوم قالوا: يعتد بالركعة إذا أمكنه أن يتم من الركوع قبل أن يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، وقوم قالوا: يتبعه ويعتد بالركعة ما لم يرفع الإمام رأسه من الانحناء في الركعة الثانية، وهذا الاختلاف موجود لأصحاب مالك، وفيه تفصيل واختلاف بينهم بين أن يكون عن نسيان أو أن يكون عن زحام، وبين أن يكون في جمعة أو في غير جمعة، وبين اعتبار أن يكون المأموم عرض له في هذا الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وليس قصدنا تفصيل المذهب ولا تخريجه، وإنما الغرض الإشارة إلى قواعد المسائل وأصولها، فنقول: إن سبب الاختلاف في هذه المسألة هو: هل من شرط فعل المأموم أن يقارن فعل الإمام، أو ليس من شرطه ذلك؟ وهل هذا الشرط هو في جميع أجزاء الركعة الثلاثة؟ أعني القيام والانحناء والسجود أم إنما هو شرط في بعضها؟ ومتى يكون إذا لم يقارن فعله فعل الإمام اختلافا عليه: أعني أن يفعل هو فعلا والإمام فعلا ثانيا، فمن رأى أنه شرط في كل جزء من أجزاء الركعة الواحدة: أعني أن يقارن فعل المأموم فعل الإمام، وإلا كان اختلافا عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام "فلا تختلفوا عليه" قال: متى لم يدرك معه من الركوع ولو جزأ يسيرا لم يعتد بالركعة، ومن اعتبره في بعضها قال: هو مدرك للركعة إذا أدرك فعل الركعة قبل أن يقوم إلى الركعة الثانية، وليس ذلك اختلافا عليه، فإذا قام إلى الركعة الثانية فإن اتبعه فقد اختلف عليه في الركعه الأولى وأما من قال إنه يتبعه ما لم ينحن في الركعه الثانية فإنه رأى أنه ليس من شرط فعل المأموم أن يقارن بعضه بعض فعل الإمام ولا كله، وإنما من شرطه أن يكون بعده فقط، وإنما اتفقوا على أنه إذا قام من الانحناء في الركعة الثانية أنه لا يعتد بتلك الركعة إن اتبعه فيها، لأنه يكون في حكم الأولى والإمام في حكم الثانية، وذلك غاية الاختلاف عليه.

@-(وأما المسألة الثانية) من المسائل الثلاث الأول التي هي أصول هذا الباب وهي: هل إتيان المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام أداء أو قضاء؟ فإن في ذلك ثلاثة مذاهب، قوم قالوا: إن ما يأتي به بعد سلام الإمام هو قضاء وإن ما أدرك ليس هو أول صلاته. وقوم قالوا: إن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو أداء، وإن ما أدرك هو أول صلاته. وقوم فرقوا بين الأقوال والأفعال فقالوا: يقضي في الأقوال يعنون في القراءة، ويبني في الأفعال يعنون الأداء، فمن أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول: أعني مذهب القضاء قام إذا سلم الإمام إلى ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من غير أن يجلس بينهما، وعلى المذهب الثاني: أعني على البناء قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس، ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط، وعلى المذهب الثالث يقوم إلى ركعة فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يجلس ثم يقوم إلى ركعة ثانية يقرأ فيها أيضا بأم القرآن وسورة، وقد نسبت الأقاويل الثلاثة إلى المذهب، والصحيح عن مالك أنه يقضي في الأقوال ويبني في الأفعال لأنه لم يختلف قوله في المغرب إنه إذا أدرك منها ركعة أنه يقوم إلى الركعة الثانية ثم يجلس، ولا اختلاف في قوله إنه يقضي بأم القرآن وسورة وسبب اختلافهم أنه ورد في بعض روايات الحديث المشهور "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول صلاته وفي بعض رواياته "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" والقضاء يوجب أن ما أدرك هو آخر صلاته؛ فمن ذهب مذهب الإتمام قال: ما أدرك هو أول صلاته؛ ومن ذهب مذهب القضاء قال: ما أدرك هو آخر صلاته، ومن ذهب مذهب الجمع جعل القضاء في الأقوال والأداء في الأفعال، وهو ضعيف: أعني أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها قضاء، واتفاقهم على وجوب الترتيب في أجزاء الصلاة، وعلى أن موضع تكبيرة الإحرام هو افتتاح الصلاة، ففيه دليل واضح على أن ما أدرك هو أول صلاته لكن تختلف نية المأموم والإمام في الترتيب فتأمل هذا، ويشبه أن يكون هذا هو أحد ما راعاه من قال: ما أدرك فهو آخر صلاته.

@-(وأما المسألة الثالثة) من المسائل الأول، وهي متى يلزم المأموم حكم صلاة الإمام في الاتباع؟ فإن فيها مسائل: إحداها متى يكون مدركا لصلاة الجمعة. والثانية: متى يكون مدركا معه لحكم سجود السهو: أعني سهو الإمام. والثالثة: متى يلزم المسافر الداخل وراء إمام يتم الإتمام إذا أدرك من صلاة الإمام بعضها.

@-(فأما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: إذا أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة، ويقضي ركعة ثانية، وهو مذهب مالك والشافعي، فإن أدرك أقل صلى ظهرا أربعا. وقوم قالوا: بل يقضي ركعتين أدرك منها ما أدرك، وهو مذهب أبي حنيفة، وسبب الخلاف في هذا هو ما يظن من التعارض بين عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" وبين مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" فإنه من صار إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "وما فاتكم فأتموا" أوجب أن يقضي ركعتين وإن أدرك منها أقل من ركعتين ومن كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أي فقد أدرك حكم الصلاة وقال: دليل الخطاب يقتضي أن من أدرك أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة والمحذوف في هذا القول محتمل، فإنه يمكن أن يراد به فضل الصلاة، ويمكن أن يراد به وقت الصلاة، ويمكن أن يراد به حكم الصلاة ولعله ليس هذا المجاز في أحدهما أظهر منه في الثاني، فإن كان الأمر كذلك كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكما، وكان الآخر بالعموم أولى، وإن سلمنا أنه أظهر في أحد هذه المحذوفات وهو مثلا الحكم على قول من يرى ذلك لم يكن هذا الظاهر معارضا للعموم، إلا من باب دليل الخطاب، والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع، ولاسيما الدليل المبني على المحتمل أو الظاهر. وأما من يرى أن قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أنه يتضمن جميع هذه المحذوفات فضعيف وغير معلوم من لغة العرب، إلا أن يتقرر أن هنالك اصطلاحا عرفيا أو شرعيا.

وأما مسألة اتباع المأموم للإمام في السجود: أعني في سجود السهو فإن قوما اعتبروا في ذلك الركعة: أعني أن يدرك من الصلاة معه ركعة، وقوم لم يعتبروا ذلك، فمن لم يعتبر ذلك فمصيرا إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن اعتبر ذلك فمصيرا إلى مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" ولذلك اختلفوا في المسألة الثالثة فقال قوم: إن المسافر إذا أدرك من صلاة الإمام الحاضرة أقل من ركعة لم يتم، وإذا أدرك ركعة لزمه الإتمام، فهذا حكم القضاء الذي يكون لبعض الصلاة من قبل سبق الإمام له. وأما حكم القضاء لبعض الصلاة الذي يكون للإمام والمنفرد من قبل النسيان، فإنهم اتفقوا على أن ما كان منها ركنا فهو يقضي: أعني فريضة، وأنه ليس يجزي منه إلا الإتيان به، وفيه مسائل اختلفوا فيها، بعضهم أوجب فيها القضاء وبعضهم أوجب فيها الإعادة، مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات سجدة من كل ركعة، فإن قوما قالوا: يصلح الرابعة بأن يسجد لها، ويبطل ما قبلها من الركعات ثم يأتي بها، وهو قول مالك. وقوم قالوا: تبطل الصلاة بأسرها ويلزمه الإعادة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. وقوم قالوا: يأتي بأربع سجدات متوالية وتكمل بها صلاته، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي. وقوم قالوا: يصلح الرابعة ويعتد بسجدتين، وهو مذهب الشافعي. وسبب الخلاف في هذا مراعاة الترتيب، فمن راعاه في الركعات والسجدات أبطل الصلاة، ومن راعاه في السجدات أبطل الركعات ما عدا الأخيرة قياسا على قضاء ما فات المأموم من صلاة الإمام، ومن لم يراع الترتيب أجاز سجودها معا في ركعة واحدة، ولا سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجبا في الفعل المكرر في كل ركعة: أعني السجود، وذلك أن كل ركعة تشتمل على قيام وانحناء وسجود، والسجود مكرر، فزعم أصحاب أبي حنيفة أن السجود لما كان مكررا لم يجب أن يراعي فيه التكرير في الترتيب، ومن هذا الجنس اختلاف أصحاب مالك فيمن نسي قراءة أم القرآن من الركعة الأولى فقيل لا يعتد بالركعة ويقضيها، وقيل يعيد الصلاة، وقيل يسجد للسهو وصلاته تامة، وفروع هذا الباب كثيرة، وكلها غير منطوق به، وليس قصدنا ههنا إلا ما يجري مجرى الأصول.

*3*الباب الثالث من الجملة الرابعة في سجود السهو.

@-والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد. وأما عند الشك في أفعال الصلاة، فأما السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل الشك فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول: الفصل الأول: في معرفة حكم السجود. الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة. الثالث: في معرفة الجنس من الأفعال والأفعال التي يسجد لها. الرابع: في صفة سجود السهو. الخامس: في معرفة من يجب عليه سجود السهو. السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه.

*4*الفصل الأول.

@-اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو سنة، فذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض لكن من شروط صحة الصلاة. وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة، هذا في المشهور، وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة مندوب والسبب في اختلافهم اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في السجود على الوجوب إذ كان هو الأصل عندهم إذ جاء بيانا لواجب كما قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض وإنما ينوب عن ندب رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب. وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال، لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال، أعني أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال، فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضا بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية ليكون سجود النقصان شرع بدلا مما سقط من أجزاء الصلاة وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل.

*4*الفصل الثاني.

@-اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال: فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام، وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا بعد السلام. وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام وإن كان لزيادة كان بعد السلام. وقال أحمد بن حنبل: يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام. وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء والسبب في اختلافهم أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة عنه أنه قال "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس" وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين، فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو: أعني الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمع. والثالث الجمع بين الجمع والترجيح. فمن رجح حديث ابن بحينة قال: "السجود قبل السلام" واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن ابن شهاب أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام" وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام، واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة ابن شعبة "أنه عليه الصلاة والسلام قام من اثنتين ولم يجلس ثم سجد بعد السلام" قال أبو عمر: ليس مثله في النقل فيعارض به، واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام". وأما من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع. وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها السجود قبل السلام فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح: أعني أنه قال على السجود الذي قبل السلام ولم يقس على الذي بعده. وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط. وأما أحمد بن حنبل، فجاء نظره مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام، ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس: أعني لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة، وأصل لغيرها، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع. والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة. والثاني أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين. والثالث أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر، خرجه مسلم والبخاري. والرابع أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين. والخامس السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي بعد. واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان، وهو الأشهر؛ وقيل للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر والشافعي.

*4*الفصل الثالث.

@-وأما الأقوال والأفعال التي يسجد لها فإن القائلين بسجود السهو لكل نقصان أو زيادة وقعت في الصلاة على طريق السهو اتفقوا على أن السجود يكون عن سنن الصلاة دون الفرائض ودون الرغائب. فالرغائب لا شيء عندهم فيها: أعني إذا سها عنها في الصلاة ما لم يكن أكثر من رغيبة واحدة، مثل ما يرى مالك أنه لا يجب سجود من نسيان تكبيرة واحدة، ويجب من أكثر من واحدة. وأما الفرائض فلا يجزئ عنها الإتيان بها وجبرها إذا كان السهو عنها مما لا يوجب إعادة الصلاة بأسرها على ما تقدم فيما يوجب الإعادة وما يوجب القضاء، أعني على من ترك بعض أركان الصلاة (هكذا هذه بالعبارة بالأصول، وفيها من الغموض ما لا يخفى تأمل ا هـ)، وأما سجود السهو للزيادة فإنه يقع عند الزيادة في الفرائض والسنن جميعا، فهذه الجملة لا اختلاف بينهم فيها، وإنما يختلفون من قبل اختلافهم فيما هو منها فرض أو ليس بفرض، وفيما هو منها سنة أو ليس بسنة، وفيما هو منها سنة أو رغيبة؛ مثال ذلك أن عند مالك ليس يسجد لترك القنوت لأنه عنده مستحب، ويسجد له عند الشافعي لأنه عنده سنة، وليس يخفى عليك هذا مما تقدم القول فيه من اختلافهم بين ما هو سنة أو فريضة أو رغيبة، وعند مالك وأصحابه سجود السهو للزيادة اليسيرة في الصلاة وإن كانت من غير جنس الصلاة، وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب، وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر: أعني في تأكيد الأمر بها، وذلك راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة، ولذلك يكثر اختلافهم في هذا الجنس كثيرا، حتى إن بعضهم يرى أن في بعض السنن ما إذا تركت عمدا إن كانت فعلا، أو فعلت عمدا إن كانت تركا أن حكمها حكم الواجب: أعني في تعلق الإثم بها، وهذا موجود كثيرا لأصحاب مالك، وكذلك تجدهم قد اتفقوا ما خلا أهل الظاهر على أن تارك السنن المتكررة بالجملة آثم، مثل ما لو ترك إنسان الوتر أو ركعتي الفجر دائما لكان مفسقا آثما، فكأن العبادات بحسب هذا النظر مثلها ما هي فرض بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس. ومنها ما هي سنة بعينها فرض بجنسها مثل الوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك من السنن. وكذلك قد تكون عند بعضهم الرغائب رغائب بعينها سنن بجنسها مثل ما حكيناه عن مالك من إيجاب السجود لأكثر من تكبيرة واحدة: أعني للسهو عنها، ولا تكون فيما أحسب عند هؤلاء سنة بعينها وجنسها. وأما أهل الظاهر فالسنن عندهم هي سنن بعينها لقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي سأله عن فروض الإسلام "أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق" وذلك بعد أن قال له: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه: يعني الفرائض، وقد تقدم هذا الحديث. واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك الجلسة الوسطى واختلفوا فيها هل هي فرض أو سنة، وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به إليها أو ليس يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال الجمهور: يرجع ما لم يستو قائما. وقال قوم: يرجع ما لم يعقد الركعة الثالثة. وقال قوم: لا يرجع إن فارق الأرض قيد شبر، وإذا رجع عند الذين لا يرون رجوعه، فالجمهور على أن صلاته جائزة. وقال قوم: تبطل صلاته.

*4*الفصل الرابع.

@-وأما صفة سجود السهو فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فرأى مالك أن حكم سجدتي السهو إذا كانت بعد السلام أن يتشهد فيها ويسلم منها، وبه قال أبو حنيفة لأن السجود كله عنده بعد السلام، وإذا كانت قبل السلام أن يتشهد لها فقط، وأن السلام من الصلاة هو سلام منها، وبه قال الشافعي إذا كان السجود كله عنده قبل السلام، وقد روي عن مالك أنه لا يتشهد للتي قبل السلام، وبه قال جماعة. قال أبو عمر: أما السلام من التي بعد السلام فثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت. وسبب هذا الاختلاف هو اختلافهم في تصحيح ما ورد من ذلك في حديث ابن مسعود أعني من أنه عليه الصلاة والسلام "تشهد ثم سلم" وتشبيه سجدتي السهو بالسجدتين الأخيرتين من الصلاة، فمن شبهها بها لم يوجب لها التشهد، وبخاصة إذا كانت في نفس الصلاة. وقال أبو بكر بن المنذر: اختلف العلماء في هذه المسألة على ستة أقوال: فقالت طائفة: لا تشهد فيها ولا تسليم، وبه قال أنس بن مالك والحسن وعطاء. وقال قوم: مقابل هذا وهو أن فيها تشهدا وتسليما. وقال قوم: فيها تشهد فقط دون تسليم، وبه قال الحكم وحماد والنخعي، وقال قوم: مقابل هذا وهو أنه فيها تسليما وليس فيها تشهد وهو قول ابن سيرين. والقول الخامس إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل، وروي ذلك عن عطاء. والسادس قول أحمد بن حنبل إنه إن سجد بعد السلام تشهد وإن سجد قبل السلام لم يتشهد، وهو الذي حكيناه نحن عن مالك. قال أبو بكر قد ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم كبر فيها أربع تكبيرات وأنه سلم" وفي ثبوت تشهده فيها نظر.

*4*الفصل الخامس.

@-اتفقوا على أن سجود السهو من سنة المنفرد والإمام. واختلفوا في المأموم يسهو وراء الإمام هل عليه سجود أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن الإمام يحمل عنه السهو، وشذ مكحول فألزمه السجود في خاصة نفسه. وسبب اختلافهم اختلافهم فيما يحمل الإمام من الأركان عن المأموم وما لا يحمله، واتفقوا على أن الإمام إذا سها أن المأموم يتبعه في سجود السهو وإن لم يتبعه في سهوه. واختلفوا متى يسجد المأموم إذا فاته مع الإمام بعض الصلاة وعلى الإمام سجود سهو، فقال قوم: يسجد مع الإمام ثم يقوم لقضاء ما عليه، وسواء كان سجوده قبل السلام أو بعده، وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشعبي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال قوم: يقضي ثم يسجد، وبه قال ابن سيرين وإسحاق. وقال قوم: إذا سجد قبل التسليم سجدهما معه، وإن سجد بعد التسليم سجدهما بعد أن يقضي، وبه قال مالك والليث والأوزاعي. وقال قوم: يسجدهما مع الإمام ثم يسجدهما ثانية بعد القضاء، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم أي أولى وأخلق أن يتبعه في السجود مصاحبا له أو في آخر صلاته، فكأنهم اتفقوا على أن الاتباع واجب لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" واختلفوا هل موضعها للمأموم هو موضع السجود أعني في آخر الصلاة؟ أو موضعها هو وقت سجود الإمام؟ فمن آثر مقارنة فعله لفعل الإمام على موضع السجود ورأى ذلك شرطا في الاتباع، أعني أن يكون فعلهما واحدا حقا قال: يسجد مع الإمام وإن لم يأت بها في موضع السجود، ومن آثر موضع السجود قال: يؤخرها إلى آخر الصلاة، ومن أوجب عليه الأمرين أوجب عليه السجود مرتين وهو ضعيف.

*4*الفصل السادس.

@-واتفقوا على أن السنة لمن سها في صلاته أن يسبح له، وذلك للرجل لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "مالي أراكم أكثرتم من التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء" واختلفوا في النساء فقال مالك وجماعة: إن التسبيح للرجال والنساء. وقال الشافعي وجماعة: للرجال التسبيح وللنساء التصفيق. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "وإنما التصفيق للنساء" فمن ذهب إلى أن معنى ذلك أن التصفيق هو حكم النساء في السهو وهو الظاهر قال: النساء يصفقن ولا يسبحن، ومن فهم من ذلك الذم للتصفيق قال: الرجال والنساء في التسبيح سواء، وفيه ضعف لأنه خروج عن الظاهر بغير دليل، إلا أن تقاس المرأة في ذلك على الرجل، والمرأة كثيرا ما يخالف حكمها في الصلاة حكم الرجل، ولذلك يضعف القياس.

وأما سجود السهو الذي هو لموضع الشك فإن الفقهاء اختلفوا فيمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى أواحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا على ثلاثة مذاهب. فقال قوم: يبني على اليقين وهو الأقل ولا يجزيه التحري ويسجد سجدتي السهو، وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: إن كان أول أمره فسدت صلاته، وإن تكرر ذلك منه تحرى وعمل على غلبة الظن ثم يسجد سجدتين بعد السلام. وقالت طائفة: إنه ليس عليه إذا شك لا رجوع إلى اليقين ولا تحر، وإنما عليه السجود فقط إذا شك. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الآثار الواردة في هذا الباب، وذلك أن في هذا الباب ثلاثة آثار: أحدها حديث البناء على اليقين، وهو حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان" خرجه مسلم. والثاني حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا سها أحدكم في صلاته فليتحر وليسجد سجدتين" وفي رواية أخرى عنه "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم" والثالث حديث أبي هريرة خرجه مالك والبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" وفي هذا المعنى أيضا حديث عبد الله بن جعفر، خرجه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدها ويسلم" فذهب الناس في هذه الأحاديث مذهب الجمع ومذهب الترجيح، والذين ذهبوا مذهب الترجيح منهم من لم يلتفت إلى المعارض، ومنهم من رام تأويل المعارض وصرفه إلى الذي رجح، ومنهم من جمع الأمرين، أعني جمع بعضها ورجح بعضها، وأول غير المرجح إلى معنى المرجح، ومنهم من جمع بين بعضها وأسقط حكم البعض. فأما من ذهب مذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض مع تأويل غير المرجح وصرفه إلى المرجح، فمالك بن أنس فإنه حمل حديث أبي سعيد الخدري على الذي لم يستنكحه الشك، وحمل حديث أبي هريرة على الذي يغلب عليه الشك ويستنكحه، وذلك من باب الجمع، وتأول حديث ابن مسعود على أن المراد بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين، فأثبت على مذهبه الأحاديث كلها. وأما من ذهب مذهب الجمع بين بعضها وإسقاط البعض وهو الترجيح من غير تأويل المرجح عليه فأبو حنيفة، فإنه قال: إن حديث أبي سعيد إنما هو حكم من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه، وحديث ابن مسعود على الذي عنده ظن غالب، وأسقط حكم حديث أبي هريرة وذلك أنه قال: ما في حديث أبي سعيد وابن مسعود زيادة، والزيادة يجب قبولها والأخذ بها، وهذا أيضا كأنه ضرب من الجمع. وأما الذي رجح بعضها وأسقط حكم البعض فالذين قالوا إنما عليه السجود فقط، وذلك أن هؤلاء رجحوا حديث أبي هريرة وأسقطوا حديث أبي سعيد وابن مسعود، ولذلك كان أضعف الأقوال، فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا القسم من قسمي كتاب الصلاة وهو القول في الصلاة المفروضة، فلنصر بعد إلى القول في القسم الثاني من الصلاة الشرعية، وهي الصلوات التي ليست فروض عين.

*2*كتاب الصلاة الثاني.

@-ولأن الصلاة التي ليست بمفروضة على الأعيان منها ما هي سنة، ومنها ما هي نفل، ومنها ما هي فرض على الكفاية، وكانت هذه الأحكام منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، رأينا أن نفرد القول في واحدة واحدة من هذه الصلوات، وهي بالجملة عشر: ركعتا الفجر والوتر والنفل وركعتا دخول المسجد والقيام في رمضان والكسوف والاستسقاء والعيدان وسجود القرآن، فإنه صلاة ما يشتمل هذا الكتاب على عشرة أبواب، والصلاة على الميت نذكرها على حدة في باب أحكام الميت على ما جرت به عادة الفقهاء، وهو الذي يترجمونه بكتاب الجنائز.

*3*الباب الأول القول في الوتر.

@-واختلفوا في الوتر في خمسة مواضع: منها في حكمه، ومنها في صفته، ومنها في وقته، ومنها في القنوت فيه، ومنها في صلاته على الراحلة. أما حكمه فقد تقدم القول فيه عند بيان عدد الصلوات المفروضة. وأما صفته فإن مالكا رحمه الله استحب أن يوتر بثلاث يفصل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يفصل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدة. ولكل قول من هذه الأقاويل سلف من الصحابة والتابعين. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة "أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة" وثبت عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة" وخرج مسلم عن عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" وخرج أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري أنه عليه الصلاة والسلام قال "الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" وخرج أبو داود "أنه كان يوتر بسبع وتسع وخمس" وخرج عن عبد الله بن قيس قال "قلت لعائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث عشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة"

وحديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "المغرب وتر صلاة النهار" فذهب العلماء في هذه الأحاديث مذهب الترجيح. فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" وإلى حديث عائشة "أنه كان يوتر بواحدة" ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يفصل بينها وقصر حكم الوتر على الثلاث فقط، فليس يصح له أن يحتج بشيء مما في هذا الباب، لأنها كلها تقتضي التخيير ما عدا حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "المغرب وتر صلاة النهار" فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شبه شيء بشيء وجعل حكمهما واحدا كان المشبه به أحرى أن يكون بتلك الصفة، ولما شبهت المغرب بوتر صلاة النهار وكانت ثلاثا وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثا. وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يوتر قط إلا في أثر شفع، فرأى أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعة واحدة، ولكن من شرطها أن يتقدمها شفع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شفع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وتر صار الكل وترا،

ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم، فإنه سمي الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء، وأي شيء يوتر له؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "توتر له ما قد صلى" فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه: أعني الغير مركب من الشفع والوتر وذلك أن هذا هو وتر لغيره، وهذا التأويل عليه أولى. والحق في هذا أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع على ما روي ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر إنما هو في هل من شرط الوتر أن يتقدمه شفع منفصل أم ليس ذلك من شرطه، فيشبه أن يقال ذلك من شرطه، لأنه هكذا كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يقال ليس ذلك من شرطه لأن مسلما قد خرج "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا انتهى إلى الوتر أيقظ عائشة فأوترت" وظاهره أنها كانت توتر دون أن تقدم على وترها شفعا،

وأيضا فإنه قد خرج من طريق عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع ركعات يجلس في الثامنة والتاسعة ولا يسلم إلا في التاسعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أس وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات ولم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك تسع ركعات" وهذا الحديث فيه الوتر متقدم على الشفع، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع، وأن الوتر ينطلق على الثلاث ومن الحجة في ذلك ما روى أبو داود عن أبي بن كعب قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد" وعن عائشة مثله "وقالت في الثالثة بقل هو الله أحد والمعوذتين". وأما وقته فإن العلماء اتفقوا على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر لورود ذلك من طرق شتى عنه عليه الصلاة والسلام، ومن أثبت ما في ذلك ما خرجه مسلم عن أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر فقال "الوتر قبل الصبح" واختلفوا في جواز صلاته بعد الفجر، فقوم منعوا ذلك وقوم أجازوه ما لم يصل الصبح، وبالقول الأول قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري، وبالثاني قال الشافعي ومالك وأحمد.

وسبب اختلافهم معارضة عمل الصحابة في ذلك بالآثار، وذلك أن ظاهر الآثار الواردة في ذلك أن لا يجوز أن يصلي بعد الصبح كحديث أبي نضرة المتقدم وحديث أبي حذيفة العدوي نص في هذا خرجه أبو داود وفيه "وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر" ولا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعد إلى بخلاف ما قبلها إذا كانت غاية، وإن هذا وإن كان من باب دليل الخطاب فهو من أنواعه المتفق عليها، مثل قوله {وأتموا الصيام إلى الليل} وقوله {إلى المرفقين} لا خلاف بين العلماء أن ما بعد الغاية بخلاف الغاية وأما العمل المخالف في ذلك للأثر فإنه روي عن ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبي الدرداء وعائشة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر وقبل صلاة الصبح، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا؛ وقد رأى قوم أن مثل هذا هو داخل في باب الإجماع ولا معنى لهذا فإنه ليس ينسب إلى ساكت قول قائل: أعني أنه ليس ينسب إلى الإجماع من لم يعرف له قول في المسألة.

وأما هذه المسألة فكيف يصح أن يقال إنه لم يرو في ذلك خلاف عن الصحابة، وأي خلاف أعظم من خلاف الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، أعني خلافهم لهؤلاء الذين أجازوا صلاة الوتر بعد الفجر، والذي عندي في هذا أن هذا من فعلهم ليس مخالفا للآثار الواردة في ذلك أعني في إجازتهم الوتر بعد الفجر، بل إجازتهم ذلك هو من باب القضاء لا من باب الأداء، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء فتأمل هذا، وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا؟ أعني غير أمر الأداء وهذا التأويل بهم أليق، فإن أكثر ما نقل عنهم هذا المذهب من أنهم أبصروا يقضون الوتر قبل الصلاة وبعد الفجر وإن كان الذي نقل عن ابن مسعود في ذلك قول، أعني أنه كان يقول: إن وقت الوتر من بعد العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح، فليس يجب لمكان هذا أن يظن بجميع من ذكرناه من الصحابة أنه يذهب هذا المذهب من قبل أنه أبصر يصلي الوتر بعد الفجر، فينبغي أن تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم. وقد حكى ابن المنذر في وقت الوتر عن الناس خمسة أقوال: منها القولان المشهوران اللذان ذكرتهما. والقول الثالث أنه يصلي الوتر وإن صلى الصبح، وهو قول طاوس. والرابع أنه يصليها وإن طلعت الشمس، وبه قال أبو ثور والأوزاعي. والخامس أنه يوتر من الليلة القابلة وهو قول سعيد بن جبير. وهذا الاختلاف إنما سببه اختلافهم في تأكيده وقربه من درجة الفرض، فمن رآه أقرب أوجب القضاء في زمان أبعد من الزمان المختص به، ومن رآه أبعد أوجب القضاء في زمان أقرب، ومن رآه سنة كسائر السنن ضعف عنده القضاء إذ القضاء إنما يجب في الواجبات، وعلى هذا يجيء اختلافهم في قضاء صلاة العيد لمن فاتته، وينبغي أن لا يفرق في هذا بين الندب والواجب أعني أن من رأى أن القضاء في الواجب يكون بأمر متجدد أن يعتقد مثل ذلك في الندب، ومن رأى أنه يجب بالأمر الأول أن يعتقد مثل ذلك في الندب

وأما اختلافهم في القنوت فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقنت فيه ومنعه مالك وأجازه الشافعي في أحد قوليه في النصف الآخر من رمضان، وأجازه قوم في النصف الأول من رمضان، وقوم في رمضان كله.

والسبب في اختلافهم في ذلك اختلاف الآثار، وذلك أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم القنوت مطلقا، وروي عنه القنوت شهرا، وروي عنه أنه آخر أمره لم يكن يقنت في شيء من الصلاة، وأنه نهى عن ذلك، وقد تقدمت هذه المسألة. وأما صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به فإن الجمهور على جواز ذلك لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، أعني أنه كان يوتر على الراحلة: وهو مما يعتمدونه في الحجة على أنها ليست بفرض إذا كان قد صح عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يتنفل على الراحلة" ولم يصح عنه أنه صلى قط مفروضة على الراحلة. وأما الحنفية فلمكان اتفاقهم معهم على هذه المقدمة، وهو أن كل صلاة مفروضة لا تصلى على الراحلة، واعتقادهم أن الوتر فرض وجب عندهم من ذلك أن لا تصلى على الراحلة، وردوا الخبر بالقياس وذلك ضعيف.

وذهب أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل أنه لا يوتر ثانية، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وتران في ليلة" خرج ذلك أبو داود، وذهب بعضهم إلى أنه يشفع الوتر الأول بأن يضيف إليه ركعة ثانية ويوتر أخرى بعد التنفل شفعا، وهي المسألة التي يعرفونها بنقض الوتر وفيه ضعف من وجهين: أحدهما أن الوتر ليس ينقلب إلى النفل بتشفيعه، والثاني أن التنفل بواحدة غير معروف من الشرع. وتجويز هذا ولا تجويزه هو سبب الخلاف في ذلك، فمن راعى من الوتر المعقول وهو ضد الشفع قال ينقلب شفعا إذا أضيف إليه ركعة ثانيا، ومن راعى منه المعنى الشرعي قال: ليس ينقلب شفعا لأن الشفع نفل والوتر سنة مؤكدة أو واجبة.

*3*الباب الثاني في ركعتي الفجر.

@-واتفقوا على أن ركعتي الفجر سنة لمعاهدته عليه الصلاة والسلام على فعلها أكثر منه على سائر النوافل والترغيبة فيها، ولأنه قضاها بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة. واختلفوا من ذلك في مسائل إحداها في المستحب من القراءة فيهما؛ فعند مالك المستحب أن يقرأ فيهما بأم القرآن فقط، وقال الشافعي: لا بأس أن يقرأ فيهما بأم القرآن مع سورة قصيرة، وقال أبو حنيفة: لا توقيف فيهما في القراءة يستحب، وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل. والسبب في اختلافهم اختلاف قراءته عليه الصلاة والسلام في هذه الصلاة واختلافهم في تعيين القراءة في الصلاة، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يخفف ركعتي الفجر" على ما روته عائشة قالت "حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟" فظاهر هذا أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن فقط. وروي عنه من طريق أبي هريرة خرجه أبو داود "أنه كان يقرأ فيهما بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون" فمن ذهب مذهب حديث عائشة اختار قراءة أم القرآن فقط، ومن ذهب مذهب الحديث الثاني اختار أم القرآن وسورة قصيرة، ومن كان على أصله في أنه لا تتعين للقراءة في الصلاة لقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر منه} قال يقرأ فيهما ما أحب.

والثانية في صفة القراءة المستحبة فيهما، فذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب فيهما هو الإسرار، وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر، وخير قوم في ذلك بين الإسرار والجهر. والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار، وذلك أن حديث عائشة المتقدم المفهوم من ظاهره "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا" ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ وظاهر ما روى أبو هريرة أنه كان يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أن قراءته عليه الصلاة والسلام فيهما جهرا" ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما، فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال: إما باختيار الجهر إن رحج حديث أبي هريرة، وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة، ومن ذهب مذهب الجمع قال بالتخيير والثالثة في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصلهما، فأقيمت الصلاة فقال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد والإمام يصلي الفرض، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعها خارج المسجد، وإن خاف فوات الركعة فليدخل مع الإمام ثم يصليهما إذا طلعت الشمس؛

ووافق أبو حنيفة مالكا في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله، وخالفه في الحد في ذلك فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام. وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يركعهما أصلا لا داخل المسجد ولا خارجه، وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في المسجد والإمام يصلي وهو شاذ. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" فمن حمل هذا على عمومه لم يجز صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة المكتوبة لا خارج المسجد ولا داخله، ومن قصره على المسجد فقد أجاز ذلك خارج المسجد ما لم تفته الفريضة أو لم يفته منها جزء. ومن ذهب مذهب العموم فالعلة عنده في النهي إنما هو الاشتغال بالنفل عن الفريضة، ومن قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده إنما هو أن تكون صلاتان معا في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال "سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟" قال: وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح.

وإنما اختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة من قبل اختلافهم في القدر الذي به يفوت فضل صلاة الجماعة للمشتغل بركعتي الفجر إذا كان فضل صلاة الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر، فمن رأى أنه بفوات ركعة منها يفوته فضل صلاة الجماعة قال: يتشاغل بها ما لم تفته ركعة من الصلاة المفروضة، ومن رأى أنه يدرك الفضل إذا أدرك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" أي قد أدرك فضلها وحمل ذلك على عمومه في تارك ذلك قصدا أو بغير اختيار قال: يتشاغل بها ما ظن أنه يدرك ركعة منها. ومالك إنما يحمل هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها، ولذلك رأى أنه إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها. وأما من أجاز ركعتي الفجر في المسجد والصلاة تقام، فالسبب في ذلك أحد أمرين: إما أنه لم يصح عنده هذا الأثر أو لم يبلغه. قال أبو بكر بن المنذر: هو أثر ثابت: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"

وكذلك صححه أبو عمر بن عبد البر، وإجازة ذلك تروى عن ابن مسعود، والرابعة في وقت قضائها إذا فاتت حتى صلى الصبح، فإن طائفة قالت يقضيها بعد صلاة الصبح، وبه قال عطاء وابن جريج وقال قوم يقضيها بعد طلوع الشمس، ومن هؤلاء من جعل لها غير هذا الوقت غير المتسع، ومنهم من جعله لها متسعا فقال: يقضيها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ولا يقضيها بعد الزوال، ومن هؤلاء الذين قالوا بالقضاء، ومنهم من استحب ذلك، ومنهم من خير فيه. والأصل في قضائها صلاته لها عليه الصلاة والسلام بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة.

*3*الباب الثالث في النوافل.

@-واختلفوا في النوافل هل تثنى أو تربع أو تثلث؟ فقال مالك والشافعي: صلاة التطوع بالليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين. وقال أبو حنيفة: إن شاء ثنى أو ثلث أو ربع أو سدس أو ثمن دون أن يفصل بينهما بسلام؛ وفرق قوم بين صلاة الليل وصلاة النهار فقالوا: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار أربع. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب، وذلك أنه ورد في هذا الباب من حديث ابن عمر أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الليل فقال "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقبل العصر ركعتين" فمن أخذ بهذين الحديثين قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وثبت أيضا من حديث عائشة أنها قالت، وقد وصفت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" وثبت عنه أيضا من طريق أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من كان يصلي بعد الجمعة فليصلي أربعا" وروى الأسود عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات" فمن أخذ أيضا بظاهر هذه الأحاديث جوز التنفل بالأربع والثلاث دون أن يفصل بينهما بسلام، والجمهور على أنه لا يتنفل بواحدة، وأحسب أن فيه خلافا شاذا.

*3*الباب الرابع في ركعتي دخول المسجد.

@-والجمهور على أن ركعتي دخول المسجد مندوب إليها من غير إيجاب، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها. وسبب الخلاف في ذلك هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" محمول على الندب أو على الوجوب، فإن الحديث متفق على صحته، فمن تمسك في ذلك بما اتفق عليه الجمهور من أن الأصل هو حمل الأوامر المطلقة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب، ولم ينقدح عنده دليل ينقل الحكم من الوجوب إلى الندب قال: الركعتان واجبتان، ومن انقدح عنده دليل على حمل الأوامر ههنا على الندب أو كان الأصل عنده في الأوامر أن تحمل على الندب حتى يدل الدليل على الوجوب فإن هذا قد قال به قوم قال الركعتان غير واجبتين، لكن الجمهور إنما ذهبوا إلى حمل الأمر ههنا على الندب لمكان التعارض الذي بينه وبين الأحاديث التي تقتضي بظاهرها أو بنصها أن لا صلاة مفروضة إلا الصلوات الخمس التي ذكرناها في صدر هذا الكتاب مثل حديث الأعرابي وغيره، وذلك أنه إن حمل الأمر ههنا على الوجوب لزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس، ولمن أوجبها أن الوجوب ههنا إنما هو متعلق بدخول المسجد لا مطلقا، كالأمر بالصلوات المفروضة، وللفقهاء أن تقييد وجوبها بالمكان شبيه وجوبها بالزمان، ولأهل الظاهر أن المكان المخصوص ليس من شرط صحة الصلاة، والزمان من شرط صحة الصلاة المفروضة. واختلف العلماء من هذا الباب فيمن جاء بالمسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وقال أبو حنيفة: لا يركع، وهي رواية ابن القاسم عن مالك. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وقوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح" فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان، والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عند دخول المسجد عام في الزمان خاص في الصلاة، والنهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتا الصبح خاص في الزمان عام في الصلاة، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك، وقد قلنا: إن مثل هذا التعارض إذا وقع فليس يجب أن يصار إلى أحد التخصيصين إلا بدليل، وحديث النهي لا يعارض به حديث الأمر الثابت والله أعلم، فإن ثبت الحديث وجب طلب الدليل من موضع آخر.

*3*الباب الخامس في قيام رمضان.

@-وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله عليه الصلاة والسلام "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وأن التراويح التي جمع عليها عمر بن الخطاب الناس مرغب فيها وإن كانوا اختلفوا أي أفضل أهي أو الصلاة آخر الليل؟ أعني التي كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الجمهور على أن الصلاة آخر الليل أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" ولقول عمر فيها: "والتي تنامون عنها أفضل" واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان، فاختار مالك في أحد قوليه، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد ودواد القيام بعشرين ركعة سوى الوتر، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستا وثلاثين ركعة والوتر ثلاث. وسبب اختلافهم اختلاف النقل في ذلك، وذلك أن مالكا روى عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة. وخرج ابن أبي شيبة عن داود بن قيس قال: أدركت الناس بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه الأمر القديم: يعني القيام بست وثلاثين ركعة.

*3*الباب السادس في صلاة الكسوف.

@-اتفقوا على أن صلاة كسوف الشمس سنة وأنها في جماعة، واختلفوا في صفتها وفي صفة القراءة فيها وفي الأوقات التي تجوز فيها، وهل من شروطها الخطبة أم لا؟ وهل كسوف القمر في ذلك ككسوف الشمس؟ ففي ذلك خمس مسائل أصول في هذا الباب.

@-(المسألة الأولى) ذهب مالك والشافعي وجمهور أهل الحجاز وأحمد أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان؛ وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب ومخالفة القياس لبعضها، وذلك أنه ثبت من حديث عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم انصرف وقد تجلت الشمس" ولما ثبت أيضا من هذه الصفة في حديث ابن عباس: أعني من ركوعين في ركعة. قال أبو عمر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب، فمن أخذ بهذين الحديثين ورجحهما على غيرهما من قبل النقل قال: صلاة الكسوف ركعتان في ركعة. وورد أيضا من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير أنه صلى في الكسوف ركعتين كصلاة العيد. قال أبو عمر بن عبد البر: وهي كلها آثار مشهورة صحاح، ومن أحسنها حديث أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين، ويسأل الله حتى تجلت الشمس" فمن رجح هذه الآثار لكثرتها وموافقتها للقياس: أعني موافقتها لسائر الصلوات قال: صلاة الكسوف ركعتان. قال القاضي: خرج مسلم حديث سمرة. قال أبو عمر: وبالجملة فإنما صار كل فريق منهم إلى ما ورد عن سلفه، ولذلك رأى بعض أهل العلم أن هذا كله على التخيير، وممن قال بذلك الطبري، قال القاضي: وهو الأولى، فإن الجمع أولى من الترجيح. قال أبو عمر: وقد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعتين، وثمان ركعات في ركعتين وست ركعات في ركعتين، وأربع ركعات في ركعتين لكن من طرق ضعيفة. قال أبو بكر ابن المنذر، وقال إسحاق بن راهويه: كل ما ورد من ذلك فمؤتلف غير مختلف لأن الاعتبار في ذلك لتجلي الكسوف، فالزيادة في الركوع إنما تقع بحسب اختلاف التجلي في الكسوفات التي صلى فيها، وروي عن العلاء بن زياد أنه كان يرى أن المصلي ينظر إلى الشمس إذا رفع رأسه من الركوع، فإذا كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ركعة ثانية وإن كانت لم تنجل ركع في الركعة الواحدة ركعة ثانية، ثم نظر إلى الشمس؛ فإن كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ثانية، وإن كانت لم تنجل ركع ثالثة في الركعة الأولى وهكذا حتى تنجلي. وكان إسحاق بن راهويه يقول: لا يتعدى بذلك أربع ركعات في كل ركعة، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك. وقال أبو بكر بن المنذر وكان بعض أصحابنا يقول: الاختيار في صلاة الكسوف ثابت، والخيار في ذلك للمصلي إن شاء في كل ركعة ركوعين، وإن شاء ثلاثة، وإن شاء أربعة، ولم يصح عنده ذلك. قال: وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في كسوفات كثيرة. قال القاضي: هذا الذي ذكره هو الذي خرجه مسلم، ولا أدري كيف قال أبو عمر فيها إنها وردت من طرق ضعيفة. وأما عشر ركعات في ركعتين فإنما أخرجه أبو داود فقط.

@-(المسألة الثانية) واختلفوا في القراءة فيها، فذهب مالك والشافعي إلى أن القراءة فيها سر. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق بن راهويه: يجهر بالقراءة فيها. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك بمفهومها وبصيغها، وذلك أن مفهوم حديث ابن عباس الثابت أنه قرأ سرا لقوله فيه عنه عليه الصلاة والسلام "فقام قياما نحوا من سورة البقرة" وقد روي هذا المعنى نصا عنه أنه قال "قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت منه حرفا" وقد روي أيضا من طريق ابن إسحاق عن عائشة في صلاة الكسوف أنها قالت "تحريت قراءته فحزرت أنه قرأ سورة البقرة، فمن رجح هذه الأحاديث قال: القراءة فيها سر، ولمكان ما جاء في هذه الآثار استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى البقرة، وفي الثانية آل عمران، وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة، وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة، وفي كل واحدة أم القرآن؛ ورجحوا أيضا مذهبهم هذا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "صلاة النهار عجماء" ووردت ههنا أيضا أحاديث مخالفة لهذه، فمنها أنه روى "أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في إحدى الركعتين في صلاة الكسوف بالنجم" ومفهوم هذا أنه جهر، وكان أحمد وإسحاق يحتجان لهذا المذهب بحديث سفيان بن الحسن عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي عليه الصلاة والسلام جهر بالقراءة في كسوف الشمس" قال أبو عمر: سفيان بن الحسن ليس بالقوي. وقال: وقد تابعه على ذلك عن الزهري عن عبد الرحمن بن سليمان بن كثير، وكلهم ليس في حديث الزهري، مع أن حديث ابن إسحاق المتقدم عن عائشة يعارضه، واحتج هؤلاء أيضا لمذهبهم بالقياس الشبهي، فقالوا: صلاة سنة تفعل في جماعة نهارا، فوجب أن يجهر فيها أصله العيدان والاستسقاء، وخير في ذلك كله الطبري وهي طريقة الجمع، وقد قلنا إنها أولى من طريقة الترجيح إذا أمكنت، ولا خلاف في هذا أعلمه بين الأصوليين.

@-(المسألة الثالثة) واختلفوا في الوقت الذي تصلى فيه، فقال الشافعي: تصلى في جميع الأوقات المنهى عن الصلاة فيها وغير المنهى. وقال أبو حنيفة: لا تصلى في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها. وأما مالك فروى عنه ابن وهب أنه قال: لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة. وروى ابن القاسم أن سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في جنس الصلاة التي لا تصلى في الأوقات المنهى عنها، فمن رأى أن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة لم يجز فيها صلاة كسوف ولا غيرها، ومن رأى أن تلك الأحاديث تختص بالنوافل وكانت الصلاة عنده في الكسوف سنة أجاز ذلك، ومن رأى أيضا أنها من النفل لم يجزها في أوقات النهي. وأما رواية ابن القاسم عن مالك فليس لها وجه إلا تشبيهها بصلاة العيد.

@-(المسألة الرابعة) واختلفوا أيضا هل من شرطها الخطبة بعد الصلاة؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك من شرطها. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا خطبة في صلاة الكسوف. والسبب في اختلافهم اختلافهم في العلة التي من أجلها خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لما انصرف من صلاة الكسوف على ما في حديث عائشة وذلك أنها روت "أنه لما انصرف من الصلاة وقد تجلت الشمس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" الحديث، فزعم الشافعي أنه إنما خطب لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء. وزعم بعض من قال بقول أؤلئك أن خطبة النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت يومئذ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام.

@-(المسألة الخامسة) واختلفوا في كسوف القمر، فذهب الشافعي إلى أنه يصلى له في جماعة، وعلى نحو ما يصلى في كسوف الشمس، وبه قال أحمد وداود وجماعة؛ وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلى له في جماعة، واستحب أن يصلي الناس له أفذاذا ركعتين كسائر الصلوات النافلة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى يكشف ما بكم وتصدقوا" خرجه البخاري ومسلم. فمن فهم ههنا من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحدا وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس رأى الصلاة فيها في جماعة. ومن فهم من ذلك معنى مختلفا لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في كسوف القمر مع كثرة دورانه. قال: المفهوم من ذلك أقل ما لا ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع، وهي النافلة فذا، وكأن قائل هذا يقول يرى أن الأصل هو أن يحمل اسم الصلاة في الشرع إذا ورد الأمر بها على أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم في الشرع إلا أن يدل الدليل على غير ذلك، فلما دل فعله عليه الصلاة والسلام في كسوف الشمس على غير ذلك بقي المفهوم في كسوف القمر على أصله، والشافعي يحمل فعله في كسوف الشمس بيانا لمجمل ما أمر به من الصلاة فيهما، فوجب الوقوف عند ذلك. وزعم أبو عمر ابن عبد البر أنه روي عن ابن عباس وعثمان أنهما صليا في القمر في جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي. وقد استحب قوم الصلاة للزلزلة والريح والظلمة وغير ذلك من الآيات قياسا على كسوف القمر والشمس لنصه عليه الصلاة والسلام على العلة في ذلك، وهو كونها آية، وهو من أقوى أجناس القياس عندهم، لأنه قياس العلة التي نص عليها، لكن لم ير هذا مالك ولا الشافعي ولا جماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن صلى للزلزلة فقد أحسن وإلا فلا حرج، وروي عن ابن عباس أنه صلى لها مثل صلاة الكسوف.

*3*الباب السابع في صلاة الاستسقاء.

@-أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء والبروز عن المصر والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في نزول المطر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء، فالجمهور على أن ذلك من سنة الخروج إلى الاستسقاء إلا أبا حنيفة فإنه قال: ليس من سنته الصلاة. وسبب الخلاف أنه ورد في بعض الآثار أنه استسقى وصلى، وفي بعضها لم يذكر فيها صلاة، ومن أشهر ما ورد في أنه صلى وبه أخذ الجمهور حديث عباد بن تميم عن عمه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيها بالقراءة، ورفع يديه حذو منكبيه وحول رداءه واستقبل القبلة واستسقى" خرجه البخاري ومسلم. وأما الأحاديث التي ذكر فيها الاستسقاء وليس فيها ذكر للصلاة، فمنها حديث أنس بن مالك خرجه مسلم أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة" ومنها حديث عبد الله بن زيد المازني، وفيه أنه قال "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستسقى، وحول رداءه حين استقبل القبلة" ولم يذكر فيه صلاة، وزعم القائلون بظاهر هذا الأثر أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب، أعني أنه خرج إلى المصلى فاستسقى ولم يصل؛ والحجة للجمهور أنه لم يذكر شيئا، فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد استسقى على المنبر، لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبو حنيفة. وأجمع القائلون بأن الصلاة من سنته على أن الخطبة أيضا من سنته لورود ذلك في الأثر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب واختلفوا هل هي قبل الصلاة أو بعدها؟ لاختلاف الآثار في ذلك، فرأى قوم أنها بعد الصلاة قياسا على العيدين، وبه قال الشافعي ومالك. وقال الليث بن سعد: الخطبة قبل الصلاة. قال ابن المنذر: "قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استسقى فخطب قبل الصلاة" وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وبه نأخذ. قال القاضي: وقد خرج ذلك أبو داود من طرق، ومن ذكر الخطبة فإنما ذكرها في علمي قبل الصلاة، واتفقوا على أن القراءة فيها جهرا، واختلفوا هل يكبر فيها كما يكبر في العيدين؟ فذهب مالك إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في سائر الصلوات، وذهب الشافعي إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في العيدين. وسبب الخلاف اختلافهم في قياسها على صلاة العيدين. وقد احتج الشافعي لمذهبه في ذلك بما روي عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيها ركعتين كما يصلي في العيدين" واتفقوا على أن من سنتها أن يستقبل الإمام القبلة واقفا ويدعو ويحول رداءه رافعا يديه على ما جاء في الآثار واختلفوا في كيفية ذلك، ومتى يفعل ذلك. فأما كيفية ذلك؟ فالجمهور على أنه يجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه. وقال الشافعي: بل يجعل أعلاه أسفله، وما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه جاء في حديث عبد الله ابن زيد "أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين" وفي بعض رواياته قلت: أجعل الشمال على اليمين، واليمين على الشمال، أم أجعل أعلاه أسفله؟ قال: بل اجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال. وجاء أيضا في حديث عبد الله هذا أنه قال "استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" وأما متى يفعل الإمام ذلك، فإن مالكا والشافعي قالا: يفعل ذلك عند الفراغ من الخطبة. وقال أبو يوسف: يحول رداءه إذا مضى صدر من الخطبة، وروي ذلك أيضا عن مالك، وكلهم يقول: إنه إذا حول الإمام رداءه قائما حول الناس أرديتهم جلوسا، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا محمد بن الحسن والليث ابن سعد وبعض أصحاب مالك، فإن الناس عندهم لا يحولون أرديتهم بتحويل الإمام، لأنه لم ينقل ذلك في صلاته عليه الصلاة والسلام بهم، وجماعة من العلماء على أن الخروج لها وقت الخروج إلى صلاة العيدين إلا أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم فإنه قال: إن الخروج إليها عند الزوال. وروى أبو داود عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حين بدا حاجب الشمس".

*3*الباب الثامن في صلاة العيدين.

@-أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين وأنهما بلا أذان ولا إقامة لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أحدث من ذلك معاوية في أصح الأقاويل قاله أبو عمر. وكذلك أجمعوا على أن السنة فيها تقديم الصلاة على الخطبة لثبوت ذلك أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما روي عن عثمان بن عفان أنه أخر الصلاة وقدم الخطبة لئلا يفترق الناس قبل الخطبة، وأجمعوا أيضا على أنه لا توقيت في القراءة في العيدين، وأكثرهم استحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية لتواتر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحب الشافعي القراءة فيهما بـ "قّ والقرآن المجيد" و "اقتربت الساعة" لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. واختلفوا من ذلك في مسائل أشهرها اختلافهم في التكبير، وذلك أنه حكى في ذلك أبو بكر بن المنذر نحوا من اثني عشر قولا إلا أنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع فنقول: ذهب مالك إلى أن التكبير في الأولى من ركعتي العيدين سبع مع تكبيرة الإحرام قبل القراءة، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال الشافعي: في الأولى ثمانية (أي ومنها تكبيرة الإحرام ا هـ مصححه)، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأولى ثلاثا بعد تكبيرة الإحرام يرفع يديه فيها، ثم يقرأ أم القرآن وسورة، ثم يكبر راكعا ولا يرفع يديه، فإذا قام إلى الثانية وكبر ولم يرفع يديه وقرأ فاتحة الكتاب وسورة، ثم كبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه، ثم يكبر للركوع ولا يرفع فيها يديه. وقال قوم: فيها تسع في كل ركعة، وهو مروي عن ابن عباس والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وبه قال النخعي وسبب اختلافهم اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن الصحابة؛ فذهب مالك رحمه الله إلى ما رواه عن ابن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة في الآخرة خمسا قبل القراءة، ولأن العمل عنده بالمدينة كان على هذا، وبهذا الأثر بعينه أخذ الشافعي، إلا أنه تأول في السبع أنه ليس فيها تكبيرة الإحرام كما ليس في الخمس تكبيرة القيام، ويشبه أن يكون مالك إنما أصاره أن يعد تكبيرة الإحرام في السبع، ويعد تكبيرة القيام زائدا على الخمس المروية أن العمل ألفاه على ذلك، فكأنه عنده وجه من الجمع بين الأثر والعمل، وقد خرج أبو داود معنى حديث أبي هريرة مرفوعا عن عائشة وعن عمرو بن العاص. وروى أنه سئل أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى كان "يكبر أربعا على الجنائز" فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حين كنت عليهم، وقال قوم بهذا.

وأما أبو حنيفة وسائر الكوفيين فإنهم اعتمدوا في ذلك على ابن مسعود، وذلك أنه ثبت عنه أنه كان يعلمهم صلاة العيدين على الصفة المتقدمة، وإنما صار الجميع إلى الأخذ بأقاويل الصحابة في هذه المسألة، لأنه لم يثبت فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء، ومعلوم أن فعل الصحابة في ذلك هو توقيف، إذ لا مدخل للقياس في ذلك. وكذلك اختلفوا في رفع اليدين عند كل تكبيرة، فمنهم من رأى ذلك وهو مذهب الشافعي؛ ومنهم من لم ير الرفع إلا في الاستفتاح فقط؛ ومنهم من خير. واختلفوا فيمن تجب عليه صلاة العيد: أعني وجوب السنة، فقالت طائفة: يصليها الحاضر والمسافر، وبه قال الشافعي والحسن البصري، وكذلك قال الشافعي إنه يصليها أهل البوادي، ومن لا يجمع حتى المرأة في بيتها وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما تجب صلاة الجمعة والعيدين على أهل الأمصار والمدائن. وروي عن علي أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وروي عن الزهري أنه قال: لا صلاة فطر ولا أضحى على مسافر. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في قياسها على الجمعة، فمن قاسها على الجمعة كان مذهبه فيها مذهبه في الجمعة، ومن لم يقسها رأى أن الأصل وهو أن كل مكلف مخاطب بها حتى يثبت استثناؤه من الخطاب.

قال القاضي: قد فرقت السنة بين الحكم للنساء في العيدين والجمعة، وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمر النساء بالخروج للعيدين ولم يأمر بذلك في الجمعة "وكذلك اختلفوا في الموضع الذي يجب منه المجيء إليها كاختلافهم في صلاة الجمعة من الثلاثة الأميال إلى مسيرة اليوم التام. واتفقوا على أن وقتها من شروق الشمس إلى الزوال. واختلفوا فيمن لم يأتهم علم بأنه العيد إلا بعد الزوال، فقالت طائفة: ليس عليهم أن يصلوا يومهم ولا من الغد وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال آخرون: يخرجون إلى الصلاة في غداة ثاني العيد، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق. قال أبو بكر بن المنذر: وبه نقول لحديث رويناه عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه أمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يعودوا إلى مصلاهم" قال القاضي: خرجه أبو داود، إلا أنه عن صحابي مجهول، ولكن الأصل فيهم رضي الله عنهم حملهم على العدالة،

واختلفوا إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة، هل يجزئ العيد عن الجمعة؟ فقال قوم: يجزئ العيد عن الجمعة وليس عليه في ذلك اليوم إلا العصر فقط، وبه قال عطاء، وروي ذلك عن ابن الزبير وعلي. وقال قوم: هذه رخصة لأهل البوادي الذين يردون الأمصار للعيد والجمعة خاصة كما روي عن عثمان أنه خطب في يوم عيد وجمعة فقال: من أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فليرجع، رواه مالك في الموطأ، وروى نحوه عن عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة: إذا اجتمع عيد وجمعة فالمكلف مخاطب بهما جميعا، العيد على أنه سنة، والجمعة على أنها فرض، ولا ينوب أحدهما عن الأخر، وهذا هو الأصل إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه، ومن تمسك بقول عثمان، فلأنه رأى أن مثل ذلك ليس هو بالرأي وإنما هو توقيف، وليس هو بخارج عن الأصول كل الخروج. وأما إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدا، إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه. واختلفوا فيمن تفوته صلاة العيد مع الإمام، فقال قوم: يصلي أربعا، وبه قال أحمد والثوري، وهو مروي عن ابن مسعود. وقال قوم: بل يقضيها على صفة صلاة الإمام ركعتين يكبر فيهما نحو تكبيره ويجهر كجهره، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال قوم: بل ركعتين فقط لا يجهر فيهما ولا يكبر تكبيرة العيد. وقال قوم: إن صلى الإمام في المصلى صلى ركعتين، وإن صلى في غير المصلى صلى أربع ركعات. وقال قوم: لا قضاء عليه أصلا، وهو قول مالك وأصحابه. وحكى ابن المنذر عنه مثل قول الشافعي، فمن قال أربعا شبهها بصلاة الجمعة وهو تشبيه ضعيف، ومن قال ركعتين كما صلاهما الإمام فمصيرا إلى أن الأصل هو أن القضاء يجب أن يكون على صفة الأداء، ومن منع القضاء فلأنه رأى أنها صلاة من شرطها الجماعة والإمام كالجمعة، فلم يجب قضاؤها ركعتين ولا أربعا إذ ليست هي بدلا من شيء، وهذان القولان هما اللذان يتردد فيهما النظر: أعني قول الشافعي وقول مالك. وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له، لأن صلاة الجمعة بدل من الظهر، وهذه ليست بدلا من شيء، فكيف يجب أن تقاس إحداهما على الأخرى في القضاء، وعلى الحقيقة فليس من فاتته الجمعة فصلاته للظهر قضاء بل هي أداء، لأنه إذا فاته البدل وجبت هي والله الموفق للصواب.

واختلفوا في التنفل قبل صلاة العيد وبعدها، فالجمهور على أنه لا يتنفل لا قبلها ولا بعدها، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وجابر، وبه قال أحمد. وقيل يتنفل قبلها وبعدها، وهو مذهب أنس وعروة، وبه قال الشافعي. وفيه قول ثالث وهو أن لا يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها، وقال به الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود، وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد، وهو مشهور مذهب مالك. وسبب اختلافهم أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم فطر أو يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" وقال عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وترددها أيضا من حيث هي مشروعة بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها؟ فمن رأى أنه تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم ينطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلا قبلها ولا بعدها، ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضا في ذلك القول، أعني أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له الركوع، ومن حيث هو مصل صلاة العيد يستحب له أن لا يركع تشبها بفعله عليه الصلاة والسلام. ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورآى أن اسم المسجد ينطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها. ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا. ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه، وهو أقل اشتباها إن لم يتناول اسم المسجد المصلى. واختلفوا في وقت التكبير في عيد الفطر بعد أن أجمع على استحبابه الجمهور لقوله تعالى {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} فقال جمهور العلماء: يكبر عند الغدو إلى الصلاة، وهو مذهب ابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم يكبر من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدو إلى المصلى وحتى يخرج الإمام، وكذلك في ليلة الأضحى عندهم إن لم يكن حاجا. وروي عن ابن عباس إنكار التكبير جملة إلا إذا كبر الإمام، واتفقوا أيضا على التكبير في أدبار الصلوات أيام الحج. واختلفوا في توقيت ذلك اختلافا كثيرا، فقال قوم: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وبه قال سفيان وأحمد وأبو ثور. وقيل يكبر من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول مالك والشافعي. وقال الزهري مضت السنة أن يكبر الإمام في الأمصار دبر صلاة الظهر من يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق.

وبالجملة فالخلاف في ذلك كثير حكى ابن المنذر فيها عشرة أقوال. وسبب اختلافهم في ذلك هو أنه نقلت بالعمل ولم ينقل في ذلك قول محدود، فلما اختلفت الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم. والأصل في هذا الباب قوله تعالى {واذكروا الله في أيام معدودات} فهذا الخطاب وإن كان المقصود به أولا أهل الحج، فإن الجمهور رأوا أنه يعم أهل الحج وغيرهم وتلقى ذلك بالعمل وإن كانوا اختلفوا في التوقيت في ذلك، ولعل التوقيت في ذلك على التخيير لأنهم كلهم أجمعوا على التوقيت واختلفوا فيه. وقال قوم: التكبير دبر الصلاة في هذه الأيام إنما هو لمن صلى في جماعة، وكذلك اختلفوا في صفة التكبير في هذه الأيام، فقال مالك والشافعي: يكبر ثلاثا الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وقيل يزيد بعد هذا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وروي عن ابن عباس أنه يقول: الله أكبر كبيرا ثلاث مرات، ثم يقول الرابعة ولله الحمد. وقالت جماعة: ليس فيه شيء مؤقت. والسبب في هذا الاختلاف عدم التحديد في ذلك في الشرع مع فهمهم من الشرع في ذلك التوقيت: أعني فهم الأكثر. وهذا هو السبب في اختلافهم في توقيت زمان التكبير، أعني فهم التوقيت مع عدم النص في ذلك، وأجمعوا على أنه يستحب أن يفطر في عيد الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وأن لا يفطر يوم الأضحى إلا بعد الانصراف من الصلاة، وأنه يستحب أن يرجع من غير الطريق التي مشى عليها لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام.

*3*الباب التاسع في سجود القرآن.

@-والكلام في هذا الباب ينحصر في خمسة فصول: في حكم السجود. وفي عدد السجدات التي لها عزائم، أعني التي يسجد لها. وفي الأوقات التي يسجد لها. وعلى من يجب السجود. وفي صفة السجود. فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب، وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها تهيأ الناس للسجود فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء قالوا وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف وهم أفهم بمغزى الشرع، وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة، وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال "كنت أقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأت سورة الحج فلم يسجد ولم نسجد" وكذلك أيضا يحتج لهؤلاء بما روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه لم يسجد في المفصل" وبما روي أنه سجد فيها لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، ومن قال إنه سجد، ومن قال إنه لم يسجد. وأما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة: أعني قراءة آية السجود قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود.

ولأبي حنيفة أن يقول، قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة أعني عند التلاوة، وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر، وأيضا فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها: أعني أنه عند التلاوة، فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه. وأما عدد عزائم سجود القرآن، فإن مالكا قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال أصحابه: أولها خاتمة الأعراف، وثانيها في الرعد عند قوله تعالى {بالغدو والأصال} وثالثها في النحل عند قوله تعالى {ويفعلون ما يؤمرون} ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى {ويزيدهم خشوعا} وخامسها في مريم عند قوله تعالى {خروا سجدا وبكيا} وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى {إن الله يفعل ما يشاء} وسابعها في الفرقان عند قوله تعالى {وزادهم نفورا} وثامنها في النمل عند قوله تعالى {رب العرش العظيم} وتاسعها في {المّ تنزيل} عند قوله تعالى {وهم لا يستكبرون} وعاشرها في {صّ} عند قوله تعالى {وخر راكعا وأناب} والحادية عشرة في {حمّ تنزيل} عند قوله تعالى {إن كنتم إياه تعبدون} وقيل عند قوله {وهم لا يسأمون} وقال الشافعي: أربع عشرة سجدة: ثلاث منها في المفصل: في الانشقاق وفي النجم وفي {اقرأ باسم ربك} ولم ير في {صّ} سجدة لأنها عنده من باب الشكر. وقال أحمد: هي خمسة عشرة سجدة أثبت فيها الثانية من الحج وسجدة {صّ} وقال أبو حنيفة: هي اثنتا عشرة سجدة. قال الطحاوي: وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في المذاهب التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة، ومنهم من اعتمد القياس، ومنهم من اعتمد السماع.

أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه. وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا السجدات التي أجمع عليها جاءت بصيغة الخبر، وهي سجدة الأعراف والنحل والرعد والإسراء ومريم وأول الحج والفرقان والنمل والمّ تنزيل، فوجب أن تلحق بها سائر السجدات التي جاءت بصيغة الخبر، وهي التي في صّ وفي الانشقاق، ويسقط ثلاثة جاءت بلفظ الأمر وهي التي في والنجم وفي الثانية من الحج وفي اقرأ باسم ربك وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من سجوده في الانشقاق وفي {اقرأ باسم ربك} وفي {والنجم} خرج ذلك مسلم. وقال الأثرم: سئل أحمد كم في الحج من سجدة؟ قال سجدتان. وصحح حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في الحج سجدتان" وهو قول عمر وعلي.

قال القاضي: خرجه أبو داود. وأما الشافعي فإنه إنما صار إلى إسقاط سجدة صّ لما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري "أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ وهو على المنبر آية السجود من سورة {صّ} فنزل وسجد فلما كان يوم آخر قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن رأيتكم تشيرون للسجود فنزلت فسجدت" وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود، لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات، فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة، وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف، لأنه من باب تجويز دليل الخطاب. وقد احتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة" قال أبو عمر: وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه عليه الصلاة والسلام إلا بالمدينة. وقد روى الثقات عنه "أنه سجد عليه الصلاة والسلام في والنجم". وأما وقت السجود فإنهم اختلفوا فيه؛ فمنع قوم السجود في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة على أصله في منع الصلوات المفروضة في هذه الأوقات، ومنع مالك أيضا ذلك في الموطأ لأنها عنده من النفل والنفل ممنوع في هذه الأوقات عنده. وروى ابن القاسم عنه أنه يسجد فيها بعد العصر مالم تصفر الشمس أو تتغير، وكذلك بعد الصبح وبه قال الشافعي وهذا بناء على أنها سنة وأن السنن تصلى في هذه الأوقات ما لم تدن الشمس من الغروب أو الطلوع. وأما على من يتوجه حكمها؟ فأجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في صلاة كان أو في غير صلاة. واختلفوا في السامع هل عليه سجود أم لا؟ فقال أبو حنيفة: عليه السجود، ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وقال مالك: يسجد السامع بشرطين: أحدهما إذا كان قعد ليسمع القرآن، والآخر أن يكون القارئ يسجد، وهو مع هذا ممن يصح أن يكون إماما للسامع. وروى ابن القاسم عن مالك أنه يسجد السامع، وإن كان القارئ ممن لا يصلح الإمامة إذا جلس إليه. وأما صفة السجود فإن جمهور الفقهاء قالوا: إذا سجد القارئ كبر إذا خفض وإذا رفع، واختلف قول مالك في ذلك إذا كان في غير صلاة. وأما إذا كان في الصلاة فإنه يكبر قولا واحدا.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله

*2*كتاب أحكام الميت

@-والكلام في هذا الكتاب وهي حقوق الأموات على الأحياء. ينقسم إلى ست جمل: الجملة الأولى: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار، وبعده. الثانية: في غسله. الثالثة: في تكفينه. الرابعة: في حمله واتباعه. الخامسة: في الصلاة عليه. السادسة: في دفنه.

*3*الباب الأول. فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده.

@-ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، لقوله عليه الصلاة والسلام "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" وقوله "من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة". واختلفوا في استحباب توجيهه إلى القبلة، فرأى ذلك قوم ولم يره آخرون. وروي عن مالك أنه قال في التوجيه: ما هو من الأمر القديم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة ولا من التابعين: أعني الأمر بالتوجيه، فإذا قضى الميت غمض عينيه، ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك، إلا الغريق، فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. قال القاضي: وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء حتى قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث.

*3*الباب الثاني في غسل الميت.

@-ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة: منها في حكم الغسل. ومنها فيمن يجب غسله من الموتى. ومن يجوز أن يغسل، وما حكم الغاسل، ومنها في صفة الغسل.

*4*الفصل الأول في حكم الغسل.

@-فأما حكم الغسل فإنه قيل فيه إنه فرض على الكفاية. وقيل سنة على الكفاية. والقولان كلاهما في المذهب. والسبب في ذلك أنه نقل بالعمل لا بالقول، والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه. وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله عليه الصلاة والسلام في ابنته "اغسلنها ثلاثا أو خمسا" وبقوله في المحرم "اغسلوه" فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به لم يقل بوجوبه، ومن رأى أنه يتضمن الأمر والصفة قال: بوجوبه.

*4*الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى.

@-وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار. واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه وفي غسل المشرك. فأما الشهيد: أعني الذي قتله في المعترك المشركون، فإن الجمهور على ترك غسله لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم" وكان الحسن وسعيد ابن المسيب يقولان: يغسل كل مسلم فإن كل ميت يجنب، ولعلهم كانوا يرون إن ما فعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة: أعني المشقة في غسلهم، وقال بقولهم من فقهاء الأمصار عبيد الله بن الحسن العنبري. وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد فقال: قد غسل عمر وكفن وحنط وصلى عليه، وكان شهيدا يرحمه الله. واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء من قتل اللصوص أو غير أهل الشرك. فقال الأوزاعي وأحمد وجماعة حكمهم حكم من قتله أهل الشرك. وقال مالك والشافعي: يغسل. وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هي الشهادة مطلقا أو الشهادة على أيدي الكفار، فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقا قال: لا يغسل كل من نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام أنه شهيد ممن قتل. ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم. وأما غسل المسلم الكافر فكان مالك يقول: لا يغسل المسلم والده الكافر ولا يقبره، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. وقال الشافعي: لابأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم، وبه قال أبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه قال أبو بكر بن المنذر: ليس في غسل الميت المشرك سنة تتبع، وقد روى "أن النبي عليه الصلاة والسلام. أمر بغسل عمه لما مات". وسبب الخلاف هل الغسل من باب العبادة، أو من باب النظافة؟ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر، وإن كانت نظافة جاز غسله.

*4*الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت.

@-وأما من يجوز أن يغسل الميت، فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلون النساء. واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال، أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب. وقال قوم: ييمم كل واحد منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه، وبه قال الليث بن سعد، بل يدفن من غير غسل. وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي، وذلك أن الغسل مأمور به، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه. فمن غلب النهي تغليبا مطلقا، أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه. ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه: أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا. ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين، ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور. فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال: ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال: أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب. والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم. والثالث الفرق بين الرجال والنساء: أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء. وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي. وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال، بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء. وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها. واختلفوا في جواز غسله إياها، فالجمهور على جواز ذلك؛ وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل الرجل لزوجته. وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق، فمن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت، ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال: إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طلقت، وهذا فيه بعد، فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت، ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقوله، وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة، وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها، واختلفوا في الرجعية، فروي عن مالك أنها تغسله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم: لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول مالك، لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها؟ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه، فقال قوم: من غسل ميتا وجب عليه الغسل. وقال قوم: لا غسل عليه. وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء، وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" خرجه أبو داود. وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل؟ قالوا: لا، وحديث أسماء في هذا صحيح. وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح، لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له، فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء، وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول، ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة.

*4*الفصل الرابع في صفة الغسل. وفي هذا الفصل مسائل:

@-(إحداها) هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل؟ أم يغسل في قميصه؟ اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يغسل في قميصه. وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون خاصا به وبين أن يكون سنة فمن رأى أنه خاص به أنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال: يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة. ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي، لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم: لا تنزعوا القميص، وقد ألقي عليهم النوم قال: الأفضل أن يغسل الميت في قميصه.

@-(المسألة الثانية) قال أبو حنيفة: لا يوضأ الميت. وقال الشافعي: يوضأ. وقال مالك: إن وضئ فحسن. وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر. وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت، لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة، وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله. وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم، ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا، لأن المقيد يقضي على المطلق، إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس، ويشبه أيضا أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها، فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع. والشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا في التوقيت في الغسل، فمنهم من أوجبه، ومنهم من استحسنه واستحبه. والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر، أي وتر كان، وبه قال ابن سيرين. ومنهم من أوجب الثلاثة فقط، وهو أبو حنيفة. ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال: لا ينقص عن الثلاثه ولم يحد الأكثر وهو الشافعي. ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال: لا يتجاوز به السبعة، وهو أحمد بن حنبل. وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس وأصحابه. وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر، وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت، لأن فيه "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن" وفي بعض رواياته "أو سبعا". وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت، فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت. ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب. وأما الذين اختلفوا في التوقيت، فسبب اختلافهم ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية. فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية، ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله عليه الصلاة والسلام "أو أكثر من ذلك إن رأيتن". وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أو سبعا". وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية "ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور" وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط. وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور. واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا؟ فقيل لا يعاد، وبه قال مالك، وقيل يعاد. والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث، فقيل يعاد الغسل عليه واحدة، وبه قال الشافعي. وقيل يعاد ثلاثا. وقيل يعاد سبعا. وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء. واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره، فقال قوم: تقلم أظفاره ويؤخذ منه. وقال قوم: لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر. وأما سبب الخلاف في ذلك، فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول، ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي، فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق، وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل. فمنهم من رأى ذلك، ومنهم من لم يره. فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة، وهو مطلوب من الميت كما هو مطلوب من الحي. ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع، وأن الحي في ذلك بخلاف الميت.

*3*الباب الثالث في الأكفان.

@-والأصل في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة "وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت "كنت فيمت غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا" فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة. وقال أبو حنيفة: أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب، وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب. ورأى مالك أنه لا حد في ذلك، وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر. وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين، فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بالتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر، ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل، وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت، فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع، ومن فهم من العدد أنه شرع الإباحة قال بالتوقيت، إما على جهة الوجوب، وإما على جهة الاستحباب، وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود، ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع، وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: المحرم بمنزلة غير المحرم. وقال الشافعي: لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال "أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال: كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي" وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع، وقال: لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا. ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال: حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره.

*3*الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة.

@-واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة. فذهب أهل المدينة إلى أن من سنتها المشي أمامها. وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم: إن المشي خلفها أفضل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به، فروى مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام مرسلا، المشي أمام الجنازة، وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي. وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي بن أبي طالب من طريق عبد الرحمن بن أبزي قال: كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها، فقلت له في ذلك فقال: إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة، وإنهما ليعلمان ذلك، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة، وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير مع الجنازة فقال "الجنازة متبوعة وليست بتابعة، وليس معها من يقدمها" وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها، ويسارها قريبا منها" وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال "امشوا خلف الجنازة"، وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم. وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس" وذهب قوم إلى وجوب القيام، وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع" واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن، فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي، وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ، ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك، وذلك أنه روى النسخ، وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره.

*3*الباب الخامس في الصلاة على الجنازة.

@-وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول: أحدها في صفة صلاة الجنازة. والثاني: على من يصلي، ومن أولى بالصلاة. والثالث: في وقت هذه الصلاة. والرابع: في موضع هذه الصلاة. والخامس: في شروط هذه الصلاة.

*4*الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة. فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع: أعني الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع، إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولون إنهما خمس. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات" وهو حديث متفق على صحته، ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار، وجاء في هذا المعنى أيضا من "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعا" وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال "كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها" وروي عن أبي خيثمة عن أبيه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي، فصف الناس وراءه وكبر أربعا، ثم ثبت صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله" وهذا فيه حجة لائحة للجمهور. وأجمع العلماء على رفع اليدين في أول التكبير على الجنازة، واختلفوا في سائر التكبير، فقال قوم: يرفع؛ وقال قوم: لا يرفع. وروى الترمذي عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في جنازة فرفع يديه في أول التكبير ووضع يده اليمنى على اليسرى" فمن ذهب إلى ظاهر هذا الأثر وكان مذهبه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في أول التكبير قال: الرفع في أول التكبير. ومن قال يرفع في كل تكبير شبه التكبير الثاني بالأول، لأنه كله يفعل في حال القيام والاستواء.

@-(المسألة الثانية) اختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة، فقال مالك وأبو حنيفة: ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء. وقال مالك: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بعمول به في بلدنا بحال قال: وإنما يحمد الله ويثني عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم. وقال الشافعي: يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك، وبه قال أحمد وداود. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنائز أم لا؟ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده، وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: تعلموا أنها السنة، فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة وقد قال صلى الله عليه وسلم "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها. ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه عليه الصلاة والسلام على الجنائز، ولم ينقل فيها أنه قرأ، وعلى هذا فتكون تلك الآثار كأنها معارضة لحديث ابن عباس ومخصصة لقوله "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا: أن رجلا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أن السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه، ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز بمثل ما حدثك به أبو أمامة.

@-(المسألة الثالثة) واختلفوا في التسليم من الجنازة هل هو واحد أو اثنان؟ فالجمهور على أنه واحد؛ وقالت طائفة وأبو حنيفة: يسلم تسليمتين، واختاره المزني من أصحاب الشافعي، وهو أحد قولي الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة، وقياس صلاة الجنائز على الصلاة المفروضة، فمن كانت عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة وقاس صلاة الجنازة عليها قال بواحدة. ومن كانت عنده تسليمتين في الصلاة المفروضة قال: هنا بتسليمتين إن كانت عنده تلك سنة فهذه سنة، وإن كانت فرضا فهذه فرض وكذلك اختلف المذهب هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام؟.

@-(المسألة الرابعة) واختلفوا أين يقوم الإمام من الجنازة، فقال جملة من العلماء: يقوم في وسطها ذكرا كان أو أنثى؛ وقال قوم آخرون: يقوم من الأنثى وسطها ومن الذكر عند رأسه؛ ومنهم من قال: يقوم من الذكر والأنثى عند صدرهما، وهو قول ابن القاسم وقول أبي حنيفة، وليس عند مالك والشافعي في ذلك حد؛ وقال قوم: يقوم منهما أين شاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه خرج البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب قال "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة على وسطها" وخرج أبو داود من حديث همام بن غالب قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة فقالوا يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كبر أربعا وقام على جنازة المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال نعم، فاختلف الناس في المفهوم من هذه الأفعال، فمنهم من رأى أن قيامه عليه الصلاة والسلام في هذه المواضع المختلفة يدل على الإباحة وعلى عدم التحديد. ومنهم من رأى أن قيامه على أحد هذه الأوضاع أنه شرع وأنه يدل على التحديد، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من أخذ بحديث سمرة بن جندب للاتفاق على صحته فقال: المرأة في ذلك والرجل سواء، لأن الأصل أن حكمهما واحد إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي؛ ومنهم من صحح حديث ابن غالب وقال فيه زيادة على حديث سمرة بن جندب فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلا. وأما مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة فلا أعلم له من جهة السمع في ذلك مسندا إلا ما روي عن ابن مسعود من ذلك.

@-(المسألة الخامسة) واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة، فقال الأكثر: يجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة. وقال قوم بخلاف هذا: أي النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة؛ وفيه قول ثالث أنه يصلي كل على حدة الرجال مفردون والنساء مفردات. وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود، مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده، ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا. وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس، وإنما ذهب الأكثر لما قلناه من تقديم الرجال على النساء لما رواه مالك في الموطأ من أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، ويجعلون النساء مما يلي القبلة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص، فسألهم عن ذلك، أو أمر من سألهم فقالوا: هي السنة، وهذا يدخل في المسند عندهم، ويشبه أن يكون من قال بتقديم الرجال شبههم أمام الإمام بحالهم خلف الإمام في الصلاة، ولقوله عليه الصلاة والسلام "أخروهن من حيث أخرهن الله". وأما من قال بتقديم النساء على الرجال فيشبه أن يكون اعتقد أن الأول هو المقدم ولم يجعل التقديم بالقرب من الإمام. وأما من فرق فاحتياطا من أن لا يجوز ممنوعا، لأنه لم ترد سنة بجواز الجمع، فيحتمل أن يكون على أصل الإباحة، ويحتمل أن يكون ممنوعا بالشرع، وإذا وجد الاحتمال وجب التوقف إذا وجد إليه سبيلا.

@-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يفوته بعض التكبير على الجنازة في مواضع: منها هل يدخل بتكبير أم لا؟ ومنها هل يقضي ما فاته أم لا؟ وإن قضى فهل يدعو بين التكبير أم لا؟ فروى أشهب عن مالك أنه يكبر أول دخوله، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: ينتظر حتى يكبر الإمام وحينئذ يكبر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، والقياس التكبير قياسا على من دخل في المفروضة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي على أنه يقضي ما فاته من التكبير إلا أن أبا حنيفة يرى أن يدعو بين التكبير المقضي ومالك والشافعي يريان أن يقضيه نسقا، وإنما اتفقوا على القضاء لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فمن رأى أن هذا العموم يتناول التكبير والدعاء قال: يقتضي التكبير وما فاته من الدعاء، ومن أخرج الدعاء من ذلك إذ كان غير مؤقت قال: يقضي التكبير فقط إذ كان هو المؤقت، فكان تخصيص الدعاء من ذلك العموم هو من باب تخصيص العام بالقياس، فأبو حنيفة أخذ بالعموم وهؤلاء بالخصوص.

@-(المسألة السابعة) واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك: لا يصلى على القبر؛ وقال أبو حنيفة: لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة، وكان الذي صلى عليها غير وليها؛ وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة: يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة؛ واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن، وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر. أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال: قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر إمرأة قال: قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل، والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث، قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان. وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع. وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة. وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل. وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي، وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب، أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها، وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه شأن الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه: قال القاضي: وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل، وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى، وقلنا: إنها من جنس واحد.

*4*الفصل الثاني فيمن يصلي عليه ومن أولى بالتقديم.

@-وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله، وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام "صلوا على من قال لا إله إلا الله" وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع، إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع، ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا. واختلفوا فيمن قتل نفسه، فرأى قوم أنه لا يصلى عليه، وأجاز آخرون الصلاة عليه، ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع. والسبب في اختلافهم في الصلاة، أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم، فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم، ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام قال: الصلاة عليهم جائزة، وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} الآية. وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول في التكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة، فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر.

وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم، وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ما عز ولم ينه عن الصلاة عليه" خرجه أبو داود، وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه" فمن صحح هذا الأثر قال: لا يصلى على قاتل نفسه، ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر، لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه "أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان" واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة، فقال مالك والشافعي لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل، وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ولا يغسل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا" وروى من طريق ابن عباس مسندا "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم" وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري، وكذلك روى أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن هذا عبد خرج مجاهدا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد عليه" وكلا الفريقين يرجح الأحاديث التي أخذ بها،

وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول: يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره، وقد كان شعبة يطعن فيه؛ وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك: لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة يصلي عليه إذا نفخ فيه الروح، وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر، وبه قال ابن أبي ليلى. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال "الطفل يصلى عليه" فمن ذهب مذهب حديث جابر قال: ذلك عام وهذا مفسر، فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير، فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا، ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال: معلوم أن المعتبر في الصلاة وهو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين، وكل مسلم حي إذا مات صلى عليه، فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال: لا يصلى على الأطفال أصلا. وروى أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر" وروي فيه "أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة" واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين، فذهب مالك في رواية البصرين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبى مع أبويه أو لم يسب معهما، وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم، ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك. وقال أبو حنيفة: يصلى على الأطفال المسبيين، وحكمهم حكم من سباهم. وقال الأوزاعي: إذا ملكهم المسلمون صلى عليهم: يعني إذا بيعوا في السبي. قال: وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه. وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم. والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار؟ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم: أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله عليه الصلاة والسلام "كل مولود يولد على الفطرة" أن حكمهم حكم المؤمنين. وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي، فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة، ومن قال الولي شبهها بسائر الحقوق التي الولي أحق بها، مثل مواراته ودفنه، وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق.

قال أبو بكر بن المنذر: وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال: لولا أنها سنة ما تقدمت، قال أبو بكر: وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر. وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي، والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده. واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول إسم الميت له، ومن قال أنه يصلى على أقله قال: لأن حرمة البعض كحرمة الكل، لاسيما إن كان ذلك البعض محل الحياة، وكان ممن يجيز الصلاة على الغائب.

*3*الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة:

@-واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة، فقال قوم: لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا" الحديث. وقال قوم: لا يصلى في الغروب والطلوع فقط، ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار. وقال قوم: لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم، وهو قياس قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم.

*4*الفصل الرابع في مواضع الصلاة.

@-واختلفوا في الصلاة على الجنازة في المسجد فأجازها العلماء وكرهها بعضهم منهم أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك، وقد روي كراهية ذلك عن مالك، وتحقيقه إذا كانت الجنازة خارج المسجد والناس في المسجد. وسبب الخلاف في ذلك حديث عائشة وحديث أبي هريرة. أما حديث عائشة فما رواه مالك من أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر الناس عليها ذلك، فقالت عائشة: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد. وأما حديث أبي هريرة، فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وحديث عائشة ثابت وحديث أبي هريرة غير ثابت أو غير متفق على ثبوته، لكن إنكار الصحابة على عائشة يدل على اشتهار العمل بخلاف ذلك عندهم، ويشهد لذلك بروزه صلى الله عليه وسلم للمصلى لصلاته على النجاشي، وقد زعم بعضهم أن سبب المنع في ذلك هو أن ميت بني آدم ميتة، وفيه ضعف، لأن حكم الميتة شرعي، ولا يثبت لابن آدم حكم الميتة إلا بدليل، وكره بعضهم الصلاة على الجنائز في المقابر للنهي الوارد عن الصلاة فيها، وأجازها الأكثر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".

*4*الفصل الخامس في شروط الصلاة على الجنازة.

@-واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة. واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم: يتيمم ويصلى لها إذا خاف الفوات، وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة؛ وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصلى عليها بتيمم. وسبب اختلافهم قياسها في ذلك على أن الصلاة المفروضة فمن شبهها بها أجاز التيمم، أعني من شبه ذهاب الوقت بفوات الصلاة على الجنازة، ومن لم يشبهها بها لم يجز التيمم لأنها عنده من فروض الكغاية أو من سنن الكفاية على اختلافهم في ذلك، وشذ قوم فقالوا: يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة، وهو قول الشعبي، وهؤلاء ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة، وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ كان ليس فيها ركوع ولا سجود.

*3*الباب السادس في الدفن.

@-وأجمعوا على وجوب الدفن، والأصل فيه قوله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} وقوله {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض} وكره مالك والشافعي تجصيص القبور، وأجاز ذلك أبو حنيفة، وكذلك كره قوم القعود عليها، وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان والآثار الواردة في النهي عن ذلك، منها حديث جابر بن عبد الله قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتابة عليها والجلوس عليها والبناء عليها" ومنها حديث عمرو بن حزم قال "رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: انزل عن القبر ولا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" واحتج من أجاز القعود على القبر بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث أو غائط أو بول" قالوا: ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من جلس على قبر يبول أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة نار" وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما) (تنبيه: حيث أننا التزمنا في التصحيح النسخة المغربية وفيها تقديم كتاب الزكاة على الصيام فقدمناه تبعا لها، وإن كانت النسخة المصرية قدمت الصيام).

*2*كتاب الزكاة

@-والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمس جمل: الجملة الأولى: في معرفة من تجب عليه. الثانية: في معرفة ما تجب فيه من الأموال. الثالثة: في معرفة كم تجب ومن كم تجب. الرابعة: في معرفة متى تجب ومتى لا تجب. الخامسة: معرفة لمن تجب وكم يجب له.

@-(فأما معرفة وجوبها) فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع ولا خلاف في ذلك.

*3*(الجملة الأولى)

@-وأما على من تجب فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما. واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له الدين، ومثال المال المحبس الأصل. فأما الصغار فإن قوما قالوا: تجب الزكاة في أموالهم، وبه قال علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار. وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلا، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين. وفرق قوم بين ما تخرج الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا: عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض وغير ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه. وفرق آخرون بين الناض فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناض. وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال أنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال أنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره. وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت. وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه أثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف ولكن الأصول تعارضه. وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلا، وهو قول ابن عمر وجابر من الصحابة ومالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء. وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء وأهل الظاهر وبعضهم، وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق. وقال أبو ثور: في مال المكاتب زكاة.

وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكا تاما أو غير تام؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكا تاما وأن السيد هو المالك إذ كان لا يخلو مال من مالك قال: الزكاة على السيد، ومن رأى أنه لواحد منهما يملكه ملكا تاما لا السيد إذ كانت يد العبد هي التي عليه لا يد السيد ولا العبد أيضا، لأن للسيد انتزاعه منه قال: لا زكاة في ماله أصلا. ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف يد الحر قال: الزكاة عليه لا سيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلف لتصرف اليد في المال. وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حيا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها. وقال مالك: الدين يمنع الزكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع. وقال قوم: بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا. والسبب في اختلافهم اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده. ومن قال هي عبادة قال: تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان: حق لله، وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان لقوله عليه الصلاة والسلام فيها "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه، وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول: يصدق في الدين كما يصدق في المال.

وأما المال الذي هو في الذمة، أعني في ذمة الغير وليس هو بيد المالك وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فقوم قالوا: لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله؛ وقوم قالوا: إذا قبضه زكاة لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض. وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبوسة الأصول، وفي زكاة الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما يخرج منها؟ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع؟ ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين وهم أهل العشر، وفي الأرض العشر وهي أرض المسلمين إذا انتقلت إلى الخراج، وأعني أهل الذمة، وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله أنها أملاك ناقصة.

@-(وأما المسألة الأولى) وهي زكاة الثمار المحبسة الأصول فإن مالكا والشافعي كانا يوجبان فيها الزكاة، وكان مكحول وطاوس يقولان لا زكاة فيها، وفرق قوم بين أن تكون محبسة على المساكين وبين أن تكون على قوم أعيانهم فأوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على قوم بأعيانهم، ولم يوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على المساكين، ولا معنى لمن أوجبها على المساكين لأنه يجتمع في ذلك شيئان اثنان: أحدهما أنها ملك ناقص، والثانية أنها على قوم غير معينين من الصنف الذين تصرف إليهم الصدقة لا من الذين تجب عليهم.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما تخرجه فإن قوما قالوا: الزكاة على صاحب الزرع، وبه قال مالك والشافعي والثوري وابن مبارك وأبو ثور وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الزكاة على رب الأرض وليس على المستأجر منه شيء. والسبب في اختلافهم هل العشر حق الأرض أو حق الزرع أو حق مجموعهما؟ إلا أنه لم يقل أحد إنه حق لمجموعهما وهو في الحقيقة حق مجموعهما، فلما كان عندهم أنه حق لأحد الأمرين اختلفوا في أيهما هو أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق، وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد، فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة وهو الحب. وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض. وأما اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت إلى المسلمين هل فيها عشر مع الخراج أم ليس فيها عشر؟ فإن الجمهور على أن فيها العشر: أعني الزكاة. قال أبو حنيفة وأصحابه: ليس فيها عشر. وسبب اختلافهم كما قلنا هل الزكاة حق الأرض، أو حق الحب؟ فإن قلنا إنه حق الأرض لم يجتمع فيها حقان: وهما العشر والخراج، وإن قلنا: الزكاة حق الحب كان الخراج حق الأرض، والزكاة حق الحب، وإنما يجيء هذا الخلاف فيها لأنها ملك ناقص كما قلنا ولذلك اختلف العلماء في جواز بيع أرض الخراج. وأما إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي يزرعها، فإن الجمهور على أنه ليس فيها شيء. وقال النعمان: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج، فكأنه رأى أن العشر هو حق أرض المسلمين، والخراج هو حق أرض الذميين، لكن كان يجب على هذا الأصل إذا انتقلت أرض الخراج إلى المسلمين أن تعود أرض عشر كما أن عنده إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي عادت أرض خراج، ويتعلق بالمالك مسائل أليق المواضع بذكرها هو هذا الباب: أحدها إذا أخرج المرء الزكاة فضاعت. والثانية إذا أمكن إخراجها فهلك بعض المال قبل الإخراج. والثالثة إذا مات وعليه زكاة. والرابعة إذا باع الزرع أو الثمر وقد وجبت فيه الزكاة على من الزكاة، وكذلك إذا وهبه.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا أخرج الزكاة فضاعت، فإن قوما قالوا: تجزى عنه؛ وقوم قالوا: هو لها ضامن حتى يضعها موضعها؛ وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها، وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان، فقال بعضهم: إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب ضمن وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن وهو مشهور مذهب مالك؛ وقوم قالوا: إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي، وقال قوم: بل يعد الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال، مثل الشريكين يذهب بعض المال المشترك بينهما ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي، فيتحصل في المسألة خمسة أقوال: قول إنه لا يضمن بإطلاق، وقول إنه يضمن بإطلاق، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي.

@-(وأما المسألة الثانية) إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقبل تمكن إخراج الزكاة؛ فقوم قالوا: يزكى ما بقي؛ وقوم قالوا: حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين يضيع بعض مالهما. والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون، أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال لا بذمة الذي يده على المال كالأمناء وغيرهم. فمن شبه مالكي الزكاة بالأمناء قال: إذا اخرج فهلك المخرج فلا شيء عليه؛ ومن شبههم بالغرماء قال: يضمنون؛ ومن فرق بين التفريط ولا تفريط ألحقهم بالأمناء من جميع الوجوه إذا كان الأمين يضمن إذا فرط. وأما من قال: إذا لم يفرط زكى ما بقي فإنه شبه من هلك بعض ماله بعد الإخراج بمن ذهب بعض ماله قبل وجوب الزكاة فيه، كما أنه إذا وجبت الزكاة عليه فإنما يزكى الموجود فقط، وكذلك هذا إنما يزكى الموجود من ماله فقط. وسبب الاختلاف هو تردد شبه المالك بين الغريم والأمين والشريك ومن هلك بعض ماله قبل الوجوب. وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنهم متفقون فيما أحسب أنه ضامن إلا في الماشية عند من رأى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول وهو مذهب مالك.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه. فإن قوما قالوا: يخرج من رأس ماله، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقوم قالوا: إن أوصى بها أخرجت عنه من الثلث وإلا فلا شيء عليه، ومن هؤلاء من قال: يبدأ بها إن ضاق الثلث، ومنهم من قال: لا يبدأ بها، وعن مالك القولان جميعا، ولكن المشهور أنها بمنزلة الوصية. وأما اختلافهم في المال يباع بعد وجوب الصدقة فيه، فإن قوما قالوا: يأخذ المصدق الزكاة من المال نفسه ويرجع المشتري بقيمته على البائع، وبه قال أبو ثور. وقال قوم: البيع مفسوخ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار بين إنقاذ البيع ورده، والعشر مأخوذ من الثمرة أو من الحب الذي وجبت فيه الزكاة، وقال مالك: الزكاة على البائع. وسبب اختلافهم تشبيه بيع مال الزكاة بتفويته وإتلاف عينه، فمن شبهه بذلك قال: الزكاة مترتبة في ذمة المتلف والمفوت؛ ومن قال البيع ليس بإتلاف لعين المال ولا تفويت له وإنما هو بمنزلة من باع ما ليس له قال: الزكاة في عين المال، ثم هل البيع مفسوخ أو غير مفسوخ نظر آخر يذكر في باب البيوع إن شاء الله تعالى. ومن هذا النوع اختلافهم في زكاة المال الموهوب، وفي بعض هذه المسائل التي ذكرنا تفصيل في المذهب لم نر أن نتعرض له إذ كان غير موافق لغرضنا مع أنه يعسر فيها إعطاء أسباب تلك الفروق لأنها أكثرها استحسانية مثل تفصيلهم الديون التي تزكى من التي لا تزكى، والديون المسقطة للزكاة من التي لا تسقطها، فهذا ما رأينا أن نذكره في هذه الجملة وهي معرفة من تجب عليه الزكاة وشروط الملك التي تجب به وأحكام من تجب عليه. وقد بقي من أحكامه حكم مشهور، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ولم يجحد وجوبها؟ فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب وذلك أنه قاتلهم وسبى ذريتهم، وخالفه في ذلك عمر رضي الله عنه، وأطلق من كان استرق منهم، وبقول عمر قال الجمهور. وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض وإن لم يجحد وجوبها. وسبب اختلافهم هل اسم الإيمان الذي هو ضد الكفر ينطلق على الاعتقاد دون العمل فقط أو من شرطه وجود العمل معه؟ فمنهم من رأى أن من شرطه وجود العمل معه، ومنهم من لم يشترط ذلك حتى لو لم يلفظ بالشهادة إذا صدق بها فحكمه حكم المؤمن عند الله، والجمهور وهم أهل السنة على أنه ليس يشترط فيه، أعني في اعتقاد الإيمان الذي ضده الكفر من الأعمال إلا التلفظ بالشهادة فقط، لقوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي" فاشترط مع العلم القول، وهو عمل من الأعمال، فمن شبه سائر الأفعال الواجبة بالقول قال: جميع الأعمال المفروضة شرط في العلم الذي هو الإيمان، ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطا في العلم الذي هو الإيمان قال: التصديق فقط هو شرط الإيمان، وبه يكون حكمه عند الله تعالى حكم المؤمن، والقولان شاذان، واستثناء التلفظ بالشهادتين من سائر الأعمال هو الذي عليه الجمهور.

*3* (الجملة الثانية) وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء. وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر التمر والزبيب، وفي الزيت خلاف شاذ. واختلفوا أما من الذهب ففي الحلي فقط، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: فيه الزكاة. والسبب في اختلافهم تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال: ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال: فيه الزكاة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "ليس في الحلي زكاة" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ورسوله" والأثران ضعيفان، وبخاصة حديث جابر، ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد الحلي المتخذ للباس بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة، أعني الانتفاع بها لا المعاملة، وأعني بالمعاملة كونها ثمنا. واختلف قول مالك في الحلي المتخذ للكراء فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة.

@-(وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان) فمنه ما اختلفوا في نوعه، ومنه ما اختلفوا في صنفه. وأما ما اختلفوا في نوعه فالخيل، وذلك أن الجمهور على أن لا زكاة في الخيل، فذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة وقصد بها النسل أن فيها الزكاة، أعني إذا كانت ذكرانا وإناثا. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للّفظ، وما يظن من معارضة اللفظ للّفظ فيها. أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" وأما القياس الذي عارض هذا العموم، فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فأشبه الأبل والبقر. وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "وقد ذكر الخيل ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها" فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة، وذلك السائمة منها. قال القاضي: وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما، فيحتج به في الزكاة؛ وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف ومحمد، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة، فقيل إنه كان باختيار منهم. وأما ما اختلفوا في صنفه فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة سائمة كانت أو غير سائمة، وبه قال الليث ومالك؛ وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة الأنواع. وسبب اختلافهم معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة القياس لعموم اللفظ. أما المطلق فقوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة". أما المقيد فقوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" فمن غلب المطلق على المقيد قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة؛ ومن غلب المقيد قال: الزكاة في السائمة منها فقط، ويشبه أن يقال إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة" يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة لكن العموم أقوى من دليل الخطاب، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد. وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقتضي على المقيد، وإن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة، وكذلك في الإبل لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقه" وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قول ثالث.

وأما القياس المعارض لعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيها "في أربعين شاة شاة" فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا، فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة، وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل، فإنهم اختلفوا فيه، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه، وقال قوم: فيه الزكاة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في كل عشرة أزق زق" خرجه الترمذي وغيره. وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن المبارك؛ ومنهم من قال: الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات، وهو قول مالك والشافعي؛ ومنهم من قال: الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب. وهو أبو حنيفة. وسبب الخلاف إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها، وبين من عداها إلى المدخر المقتات، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها، وهي الاقتيات فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات. وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ، أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر" وما بمعنى الذي، والذي من ألفاظ العموم وقوله تعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} الآية. إلى قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} .

وأما القياس، فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك، إلا ما أخرجه الإجماع، والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة؟

وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس؟ مثل اختلاف مالك والشافعي في الزيتون، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر. وسبب اختلافهم هل هو قوت أم ليس بقوت؟، ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها. وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر، وهو قول ابن حبيب لقوله سبحانه وتعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} الآية، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف. واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة؟ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك، ومنع ذلك أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع" وفيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "أد زكاة البر". وأما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة. وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة، أعني إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه، وفيه ضعف.

*3*(الجملة الثالثة) وأما معرفة النصاب في واحد واحد من هذه الأموال المزكاة، وهو المقدار الذي فيه تجب الزكاة فيما له منها نصاب، ومعرفة الواجب من ذلك، أعني في عينه وقدره، فإنا نذكر من ذلك ما اتفقوا عليه واختلفوا فيه في جنس جنس من هذه الأجناس المتفق عليها والمختلف فيها عند الذين اتفقوا عليه، ولنجعل الكلام في ذلك في فصول: الفصل الأول: في الذهب والفضة. الثاني: في الإبل. الثالث: في الغنم. الرابع: في البقر. الخامس: في النبات. السادس: في العروض.

*4*الفصل الأول في الذهب والفضة.

@-أما المقدار الذي تجب فيه الزكاة من الفضة، فإنهم اتفقوا على أنه خمس أواق لقوله عليه الصلاة والسلام الثابت "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ما عدا المعدن من الفضة، فإنهم اختلفوا في اشتراط النصاب منه وفي المقدار الواجب فيه، والأوقية عندهم أربعون درهما كيلا. وأما القدر الواجب فيه، فإنهم اتفقوا على أن الواجب في ذلك هو ربع العشر: أعني في الفضة والذهب معا ما لم يكونا خرجا من معدن. واختلفوا من هذا الباب في مواضع خمسة: أحدها: في نصاب الذهب. والثاني: هل فيهما أوقاص أم لا؟ أعني هل فوق النصاب قدر لا تزيد الزكاة بزيادته؟. والثالث: هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة فيعدان كصنف واحد؟ أعني عند إقامة النصاب أم هما صنفان مختلفان؟. والرابع: هل من شرط النصاب أن يكون المالك واحدا لا اثنين؟. الخامس: في اعتبار نصاب المعدن وحوله وقدر الواجب فيه.

@-(وأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم في نصاب الذهب، فإن أكثر العلماء على أن الزكاة تجب في عشرين دينارا وزنا كما تجب في مائتي درهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأحمد وجماعة فقهاء الأمصار وقالت طائفة منهم الحسن بن أبي الحسن البصري وأكثر أصحاب داود بن علي: ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارا، ففيها ربع عشرها دينار واحد. وقالت طائفة ثالثة: ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم أو قيمتها فإذا بلغت ففيها ربع عشرها كان وزن ذلك من الذهب عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين دينارا. فإذا بلغت أربعين دينارا كان الاعتبار بها لنفسه لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة. وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في نصاب الفضة. وما روي عن الحسن بن عمارة من حديث علي أنه عليه الصلاة والسلام قال "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار" فليس عند الأكثر مما يجب العمل به لانفراد الحسن بن عمارة به، فمن لم يصح عنده هذا الحديث اعتمد في ذلك على الإجماع، وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين. وأما مالك فاعتمد في ذلك على العمل، ولذلك قال في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. وأما الذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعا للدراهم، فإنه لما كانا عندهم من جنس واحد جعلوا الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها، وجعلوا الذهب تابعا لها في القيمة لا في الوزن، وذلك فيما دون موضع الإجماع، ولما قيل أيضا إن الرقة اسم يتناول الذهب والفضة وجاء في بعض الآثار "ليس فيها دون خمس أواق من الرقة صدقة"

@-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم فيما زاد على النصاب فيها، فإن الجمهور قالوا: إن ما زاد على مائتي درهم من الوزن ففيه بحساب ذلك، أعني ربع العشر، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وجماعة. وقالت طائفة من أهل العلم أكثرهم العراق: لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما، فإذا بلغتها كان فيها ربع عشرها وذلك درهم، وبهذا القول قال أبو حنيفة وزفر وطائفة من أصحابهما. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث الحسن ابن عمارة، ومعارضة دليل الخطاب له، وترددهما بين أصلين في هذا الباب مختلفين في هذا الحكم وهي الماشية والحبوب. أما حديث الحسن بن عمارة فإنه رواه عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين دينارا نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وفي كل أربعة دنانير تزيد على العشرين دينارا درهم حتى تبلغ أربعين دينارا، ففي كل أربعين دينار، وفي كل أربعة وعشرين نصف دينار ودرهم". وأما دليل الخطاب المعارض له، فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ومفهومه أن فيما زاد على ذلك الصدقة قل أو كثر. وأما ترددهما بين الأصلين اللذين هما الماشية والحبوب، فإن النص على الأوقاص ورد في الماشية. وأجمعوا على أنه لا أوقاص في الحبوب، فمن شبه الفضة والذهب بالماشية قال فيهما الأوقاص، ومن شبههما بالحبوب قال لا وقص.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي ضم الذهب إلى الفضة في الزكاة، فإن عند مالك وأبي حنيفة وجماعة أنها تضم الدراهم إلى الدنانير، فإذا كمل من مجموعهما نصاب وجبت فيه الزكاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: لا يضم ذهب إلى فضة ولا فضة إلى ذهب. وسبب اختلافهم هل كل واحد منهما يجب فيه الزكاة لعينه أم لسبب يعمهما، وهو كونهما كما يقول الفقهاء رءوس الأموال وقيم المتلفات؟ فمن رأى أن المعتبر في كل واحد منهما هو عينه ولذلك اختلف النصاب فيهما قال: هما جنسان لا يضم أحدهما إلى الثاني كالحال في البقر والغنم؛ ومن رأى أن المعتبر فيهما هو ذلك الأمر الجامع الذي قلناه أوجب ضم بعضهما إلى بعض، ويشبه أن يكون الأظهر اختلاف الأحكام حيث تختلف الأسماء وتختلف الموجودات أنفسها، وإن كان قد يوهم اتحادهما اتفاق المنافع، وهو الذي اعتمد مالك رحمه الله في هذا الباب وفي باب الربا، والذين أجازوا ضمهما اختلفوا في صفة الضم. فرأى مالك ضمهما بصرف محدود، وذلك بأن ينزل الدينار بعشرة دراهم على ما كانت عليه قديما، فمن كانت عنده عشرة دنانير ومائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة عنده، وجاز أن يخرج من الواحد عن الآخر. وقال من هؤلاء آخرون: تضم بالقيمة في وقت الزكاة، فمن كانت عنده مثلا مائة درهم وتسعة مثاقيل قيمتها مائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة، ومن كانت عنده مائة درهم تساوي أحد عشر مثقالا وتسعة مثاقيل وجبت عليه أيضا فيهما الزكاة، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وبمثل هذا القول قال الثوري إلا أنه يراعي الأحوط للمساكين في الضم: أعني القيمة أو الصرف المحدود: ومنهم من قال: يضم الأقل منها إلى الأكثر ولا يضم الأكثر إلى الأقل؛ وقال آخرون: تضم الدنانير بقيمتها أبدا كانت الدنانير أقل من الدراهم أو أكثر، ولا تضم الدراهم إلى الدنانير لأن الدراهم أصل والدنانير فرع، إذ كان لم يثبت في الدنانير حديث ولا إجماع حتى تبلغ أربعين، وقال بعضهم: إذا كان عنده نصاب من أحدهما ضم إليه قليل الآخر وكثيره، ولم ير الضم في تكميل النصاب إذا لم يكن في واحد منهما نصاب بل في مجموعهما. وسبب هذا الارتباك ما راموه من أن يجعلوا من شيئين نصابهما مختلف في الوزن نصابا واحدا، وهذا كله لا معنى له، ولعل من رام ضم أحدهما إلى الآخر فقد أحدث حكما في الشرع حيث لا حكم، لأنه قد قال بنصاب ليس هو بنصاب ذهب ولا فضة، ويستحيل في عادة التكليف والأمر بالبيان أن يكون في أمثال هذه الأشياء المحتملة حكم مخصوص، فيسكت عنه الشارع حتى يكون سكوته سببا لأن يعرض فيه من الاختلاف ما مقداره هذا المقدار، والشارع إنما بعث صلى الله عليه وسلم لرفع الاختلاف.

@-(وأما المسألة الرابعة) فإن عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب؛ وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد. وسبب اختلافهم الإجماع الذي في قوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن منه أنه يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد، إلا أنه لما كان مفهوم اشتراط النصاب إنما هو الرفق فواجب أن يكون النصاب من شرطه أن يكون لمالك واحد، وهو الأظهر والله أعلم. والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة، ولكن تأثير الخلطة في الزكاة غير متفق عليه على ما سيأتي بعد.

@-(وأما المسألة الخامسة) وهي اختلافهم في اعتبار النصاب في المعدن وقدر الواجب فيه، فإن مالكا والشافعي راعيا النصاب في المعدن، وإنما الخلاف بينهما أن مالكا لم يشترط الحول واشترطه الشافعي على ما سنقول بعد في الجملة الرابعة، وكذلك لم يختلف قولهما إن الواجب فيما يخرج منه هو ربع العشر؛ وأما أبو حنيفة فلم ير فيه نصابا ولا حولا، وقال: الواجب هو الخمس. وسبب الخلاف في ذلك هل اسم الركاز يتناول المعدن أم لا يتناوله؟ لأنه قال عليه الصلاة والسلام "وفي الركاز الخمس" وروى أشهب عن مالك أن المعدن الذي يوجد بغير عمل أنه ركاز وفيه الخمس. فسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في دلالة اللفظ، وهو أحد أسباب الاختلافات العامة التي ذكرناها.

*4*الفصل الثاني في نصاب الإبل والواجب فيه.

@-وأجمع المسلمون على أن في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين، فإذا كانت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة إلى ستين، فإذا كانت واحدا وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت واحدا وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة لثبوت هذا كله في كتاب الصدقة الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به بعده أبو بكر وعمر. واختلفوا منها في مواضع: منها فيما زاد على العشرين والمائة، ومنها إذا عدم السن الواجبة عليه وعنده السن الذي فوقه أو الذي تحته ما حكمه؟ ومنها هل تجب الزكاة في صغار الإبل وإن وجبت فما الواجب؟.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم فيما زاد على المائة وعشرين، فإن مالكا قال: إذا زادت على عشرين ومائة واحدة، فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها حقه وابنتا لبون. وقال ابن القاسم من أصحابه: بل يأخذ ثلاث بنات لبون من غير خيار إلى أن تبلغ ثمانين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون، وبهذا القول قال الشافعي. قال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: بل يأخذ الساعي حقتين فقط من غير خيارإلى أن تبلغ مائة وثلاثين. وقال الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا زادت على عشرين ومائة عادت الفريضة على أولها، ومعنى عودتها أن يكون عندهم في كل خمس ذود شاة، فإذا كانت الإبل مائة وخمسة وعشرين كان فيها حقتان وشاة، الحقتان للمائة والعشرين، والشاة للخمس، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقتان وشاتان، فإذا كانت خمسا وثلاثين ففيها حقتان وثلاث شياه إلى خمس وأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وابنة مخاض، الحقتان للمائة والعشرين، وابنة المخاض للخمس وعشرين كما كانت في الفرض الأول إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت على الخمسين ومائة استقبل بها الفريضة الأولى إلى أن تبلغ مائتين، فيكون فيها أربع حقاق ثم يستقبل بها الفريضة. وأما ما عدا الكوفيين من الفقهاء، فإنهم اتفقوا على أن ما زاد على المائة والثلاثين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه. وسبب اختلافهم في عودة الفرض أو لا عودته اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت في كتاب الصدقة أنه قال عليه الصلاة والسلام "فما زاد على العشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" وروي من طريق أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كتب كتاب الصدقة وفيه "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة" فذهب الجمهور إلى ترجيح الحديث الأول إذ هو أثبت، وذهب الكوفيون إلى ترجيح حديث عمرو بن حزم لأنه ثبت عندهم هذا من قول علي وابن مسعود، قالوا: ولا يصح أن يكون مثل هذا إلا توقيفا إذ كان مثل هذا لا يقال بالقياس. وأما سبب اختلاف مالك وأصحابه والشافعي فيما زاد على المائة وعشرين إلى الثلاثين فلأنه لم يستقم لهم حساب الأربعينات ولا الخمسينات، فمن رأى أن ما بين المائة وعشرين إلى أن يستقيم الحساب وقص قال: ليس فيما زاد على ظاهر الحديث الثابت شيء ظاهر حتى يبلغ مائة وثلاثين وهو ظاهر الحديث. وأما الشافعي وابن القاسم فإنما ذهبا إلى أن فيها ثلاث بنات لبون، لأنه قد روي عن ابن شهاب في كتاب الصدقة أنها إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة. فسبب اختلاف ابن الماجشون وابن القاسم هو معارضة ظاهر الأثر الثابت للتفسير الذي في هذا الحديث فإن ابن الماجشون رجح ظاهر الأثر للاتفاق على ثبوته، وابن القاسم والشافعي حملا المجمل على المفصل المفسر. وأما تخيير مالك الساعي، فكأنه جمع بين الأثرين والله أعلم.

@-(وأما المسألة الثانية) وهو إذا عدم السن الواجب من الإبل الواجبة وعنده السن الذي فوق هذا السن أو تحته، فإن مالكا قال: يكلف شراء ذلك السن. وقال قوم بل يعطي السن الذي عنده وزيادة عشرين درهما إن كان السن الذي عنده أحط أو شاتين، وإن كان أعلى دفع إليه المصدق عشرين درهما أو شاتين، وهذا ثابت في كتاب الصدقة فلا معنى للمنازعة فيه، ولعل مالكا لم يبلغه هذا الحديث، وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: الواجب عليه القيمة على أصله في إخراج القيم في الزكاة. وقال قوم: بل يعطي السن الذي عنده، وما بينهما من القيمة.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل تجب في صغار الإبل، وإن وجبت فماذا يكلف؟ فإن قوما قالوا: تجب فيها الزكاة، وقوم قالوا: لا تجب. وسبب اختلافهم هل يتناول اسم الجنس الصغار أو لا يتناوله. والذين قالوا: لا تجب فيها زكاة هو أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، وقد احتجوا بحديث سويد ابن غفلة أنه قال: أتانا مصدق النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن، ولا أجمع بين مفترق ولا نفرق بين مجتمع، قال: وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها. والذين أوجبوا الزكاة فيها منهم من قال: يكلف شراء السن الواجبة عليه، ومنهم من قال: يأخذ منها وهو الأقيس، وبنحو هذا الاختلاف اختلفوا في صغار البقر وسخال الغنم.

*4*الفصل الثالث في نصاب البقر وقدر الواجب في ذلك.

@-جمهور العلماء على أن في ثلاثين من البقر تبيعا وفي أربعين مسنة، وقالت طائفة: في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع، وقيل إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين ففيها بقرتان إذا جاوزت ذلك، فإذا بلغت مائة وعشرين ففي كل أربعين بقرة، وهذا عن سعيد بن المسيب. واختلف فقهاء الأمصار فيما بين الأربعين والستين؛ فذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري وجماعة أن لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ الستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان إلى سبعين، ففيها مسنة وتبيع إلى ثمانين، ففيها مسنتان إلى تسعين، ففيها ثلاثة أتبعة إلى مائة، ففيها تبيعان ومسنة، ثم هكذا ما زاد، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. وسبب اختلافهم في النصاب أن حديث معاذ غير متفق على صحته، ولذلك لم يخرجه الشيخان. وسبب اختلاف فقهاء الأمصار في الوقص في البقر أنه جاء في حديث معاذ هذا أنه توقف في الأوقاص وقال: حتى أسأل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عليه وجده قد توفي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يرد في ذلك نص طلب حكمه من طريق القياس، فمن قاسها على الإبل والغنم لم ير في الأوقاص شيئا، ومن قال إن الأصل في الأوقاص الزكاة إلا ما استثناه الدليل من ذلك وجب أن لا يكون عنده في البقر وقص، إذ لا دليل هنالك من إجماع ولا غيره.

*4*الفصل الرابع في نصاب الغنم وقدر الواجب من ذلك.

@-وأجمعوا من هذا الباب على أن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين ومائة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين فثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وذلك عند الجمهور إلا الحسن بن صالح فإنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاة وشاة واحدة أن فيها أربع شياه، وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه، وروى قوله هذا عن منصور عن إبراهيم، والآثار الثابتة المرفوعة في كتاب الصدقة على ما قال الجمهور. واتفقوا على أن المعز تضم مع الغنم، واختلفوا من أي صنف منها يأخذ المصدق، فقال مالك: يأخذ من الأكثر عددا، فإن استوت خير الساعي. وقال أبو حنيفة: بل الساعي يخير إذا اختلفت الأصناف. وقال الشافعي: يأخذ الوسط من الأصناف المختلفة لقول عمر رضي الله عنه: نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا نأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم، ونأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين خيار المال ووسطه. وكذلك اتفق جماعة فقهاء الأمصار على أنه لا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عور لثبوت ذلك في كتاب الصدقة، إلا أنه يرى المصدق أن ذلك خير للمساكين. واختلفوا في العمياء وذات العلة هل تعد على صاحب المال أم لا؟ فرأى مالك والشافعي أن تعد، وروي عن أبي حنيفة أنها لا تعد. وسبب اختلافهم هل مطلق الاسم يتناول الأصحاء والمرضى أم لا يتناولهما؟. واختلفوا من هذا الباب في نسل الأمهات هل تعد مع الأمهات فيكمل النصاب بها إذا لم تبلغ نصابا؟ فقال مالك يعتد بها، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يعتد بالسخال إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم احتمال قول عمر رضي الله عنه إذ أمر أن تعتد عليهم بالسخال ولا يؤخذ منها شيء، فإن قوما فهموا من هذا إذا كانت الأمهات نصابا، وقوم فهموا هذا مطلقا، وأحسب أن أهل الظاهر لا يوجبون في السخال شيئا، ولا يعدون بها لو كانت الأمهات نصابا ولو لم تكن لأن اسم الجنس لا ينطلق عليها عندهم، وأكثر الفقهاء على أن للخلطة تأثير في قدر الواجب من الزكاة. واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا؟

وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب، وتفسير ذلك أن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء كان لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن؟ أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب؟. والثاني في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك. وأما اختلافهم أولا في هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب أو ليس لها تأثير؟. فسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك أن الذين رأوا للخلطة تأثير ما في النصاب والقدر الواجب أو في القدر الواجب فقط قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" وقوله "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" يدل دلالة واضحة على أن ملك الخليطين كملك رجل واحد، فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في الزكاة عند مالك وأصحابه: أعني في قدر الواجب، وإما في الزكاة والنصاب معا عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحد قسمة توجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجل يكون له مائة وعشرون شاة فيقسم عليه إلى أربعين ثلاث مرات، أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب أن لا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعني أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد.

وأما الذين قالوا بالخلطة، فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة، وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام فيهما "إنهما يتراجعان بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد، وأن قوله عليه الصلاة والسلام "إنهما يتراجعان بالسوية" يدل على أن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعا لحكم الحق الواجب قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد، وكل واحد من هؤلاء أنزل قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" على ما ذهب إليه.

فأما مالك رحمه الله تعالى فإنه قال: معنى قوله "لا يفرق بين مجتمع" أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فتكون عليهما فيهما ثلاثة شياه، فإذا افترقا كان على واحد منهما شاة، ومعنى قوله "لا يجمع بين مفترق" أن يكون النفر الثلاث لكل واحد منهم أربعون شاة، فإذا جمعوها كان عليهم شاة واحدة، فعلى مذهبه النهي إنما هو متجه نحو الخلطاء الذين لكل واحد منهم نصاب. وأما الشافعي فقال معنى قوله "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون رجلان لهما أربعون شاة، فإذا فرقا غنمهما لم يجب عليهما فيها زكاة، إذ كان نصاب الخلطاء عنده نصاب ملك واحد في الحكم. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة بالزكاة. فأما الشافعي فقال: إن من شرط الخلطة أن تختلط ماشيتهما وتراحا لواحد وتحلبا لواحد وتسرحا لواحد وتسقيا معا، وتكون فحولهما مختلطة ولا فرق عنده بالجملة والشركة ولذلك يعتبر كمال النصاب لكل واحد من الشريكين كما تقدم. وأما مالك فالخليطان عنده ما اشتركا في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل، واختلف أصحابه في مراعاة بعض هذه الأوصاف أو جميعها. وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم ير قوم تأثير الخلطة في الزكاة، وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي.

*4*الفصل الخامس. في نصاب الحبوب والثمار والقدر الواجب في ذلك.

@-وأجمعوا على أن الواجب في الحبوب، أما ما سقي بالسماء فالعشر، وأما ما سقي بالنضح فنصف العشر لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وأما النصاب فإنهم اختلفوا في وجوبه في هذا الجنس من مال الزكاة، فصار الجمهور إلى إيجاب النصاب فيه وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بإجماع، والصاع أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام، والجمهور على أن مده رطل وثلث وزيادة يسيرة بالبغدادي، وإليه رجع أبو يوسف حين ناظره مالك على مذهب أهل العراق لشهادة أهل المدينة بذلك، وكان أبو حنيفة يقول في المد إنه رطلان، وفي الصاع إنه ثمانية أرطال. وقال أبو حنيفة: ليس في الحبوب والثمار نصاب. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" وأما الخصوص فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والحديثان ثابتان، فمن رأى الخصوص يبنى على العموم قال لا بد من النصاب وهو المشهور، ومن رأى أن العموم والخصوص متعارضان إذا جهل المتقدم فيهما والمتأخر إذ كان قد ينسخ الخصوص بالعموم عنده، وينسخ العموم بالخصوص، إذ كل ما وجب العمل به جاز نسخه، والنسخ قد يكون للبعض وقد يكون للكل، ومن رجح العموم قال لا نصاب، ولكن حمل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو من باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تعارضا فيه فإن العموم فيه ظاهر والخصوص فيه نص، فتأمل هذا فإنه السبب الذي صير الجمهور إلى أن يقولوا بنى العام على الخاص وعلى الحقيقة ليس بنيانا، فإن التعارض بينهما موجود إلا أن يمكن الخصوص متصلا بالعموم فيكون استثناء، واحتجاج أبي حنيفة في النصاب بهذا العموم فيه ضعف، فإن الحديث إنما خرج مخرج تبين القدر الواجب منه. واختلفوا من هذا الباب في النصاب في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في ضم الحبوب بعضهما إلى بعض في النصاب. الثانية: في جواز تقدير النصاب في العنب والتمر بالخرص. الثالثة: هل يحسب على الرجل ما يأكله من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ في النصاب أم لا؟.

@-(أما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على أن الصنف الواحد من الحبوب والثمر يجمع جيده إلى رديئه وتؤخذ الزكاة عن جميعه بحسب قدر كل واحد منهما: أعني من الجيد والردئ، فإن كان الثمر أصنافا أخذ من وسطه. واختلفوا في ضم القطاني بعضها إلى بعض، وفي ضم الحنطة والشعير والسلت فقال مالك: القطينة كلها صنف واحد الحنطة والشعير والسلت أيضا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة: القطاني كلها أصناف كثيرة بحسب أسمائها، ولا يضم منها شيء إلى غيره في حساب النصاب، وكذلك الشعير والسلت والحنطة عندهم أصناف ثلاثة لا يضم واحد منها إلى الآخر لتكميل النصاب. وسبب الخلاف هل المراعاة في الصنف الواحد هو اتفاق المنافع أو اتفاق الأسماء؟ فمن قال اتفاق الأسماء قال: كلما اختلفت أسماؤها فهي أصناف كثيرة، ومن قال اتفاق المنافع قال: كلما اتفقت منافعها فهي صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها، فكل واحد منهما يروم أن يقرر قاعدته باستقراء الشرع، أعني أن أحدهما يحتج لمذهبه بالأشياء التي اعتبر فيها الشرع الأسماء، والآخر بالأشياء التي اعتبر الشرع فيها المنافع، ويشبه أن يكون شهادة الشرع للأسماء في الزكاة أكثر من شهادته للمنافع وإن كان كلا الاعتبارين موجودا في الشرع، والله أعلم.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي تقدير النصاب بالخرص واعتباره به دون الكيل فإن جمهور العلماء على إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحها لضرورة أن يخلى بينها وبين أهلها يأكلونها رطبا، وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط. وقال أبو حنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخرص أو نقص منه. والسبب في اختلافهم في جواز الخرص معارضة الأصول للأثر الوارد في ذلك. أما الأثر الوارد في ذلك وهو الذي تمسك به الجمهور فهو ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص عليهم النخل". وأما الأصول التي تعارضه فلأنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالثمر كيلا، ولأنه أيضا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا، فلما رأى الكوفيون هذا مع أن الخرص الذي كان يخرص على أهل خيبر لم يكن للزكاة إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة قالوا: يحتمل أن يكون تخمينا ليعلم ما بأيدي كل قوم من الثمار. قال القاضي: أما بحسب خبر مالك، فالظاهر أنه كان في القسمة لما روي أن عبد الله بن رواحة كان إذا فرغ من الخرص قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، أعني في قسمة الثمار لا في قسمة الحب. وأما بحسب حديث عائشة الذي رواه أبو داود فإنما الخرص لموضع النصيب الواجب عليهم في ذلك، والحديث هو أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه" وخرص الثمار لم يخرجه الشيخان، وكيفما كان فالخرص مستثنى من تلك الأصول، هذا إن ثبت أنه كان منه عليه الصلاة والسلام حكما منه على المسلمين، فإن الحكم لو ثبت على أهل الذمة ليس يجب أن يكون حكما على المسلمين إلا بدليل والله أعلم. ولو صح حديث عتاب بن أسيد لكان جواز الخرص بينا والله أعلم، وحديث عتاب بن أسيد هو أنه قال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا" وحديث عتاب بن أسيد طعن فيه، لأن راويه عنه هو سعيد بن المسيب وهو لم يسمع منه، ولذلك لم يجز داود خرص العنب. واختلف من أوجب الزكاة في الزيتون في جواز خرصه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في قياسه في ذلك على النخل والعنب؛ والمخرج عند الجميع من النخل في الزكاة هو التمر لا الرطب، وكذلك الزبيب من العنب لا العنب نفسه، وكذلك عند القائلين بوجوب الزكاة في الزيتون هو الزيت لا الحب قياسا على التمر والزبيب. وقال مالك في العنب الذي لا يتزبب والزيتون الذي لا ينعصر أرى أن يؤخذ منه حبا.

@-(وأما المسألة الثالثة) فإن مالكا وأبو حنيفة قالا: يحسب على الرجل ما أكل من ثمره وزرعه قبل الحصاد في النصاب، وقال الشافعي: لا يحسب عليه ويترك الخارص لرب المال ما يأكل هو وأهله. والسبب في اختلافهم ما يعارض الآثار في ذلك من الكتاب والقياس. أما السنة في ذلك فما رواه سهل بن أبي حثمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه، فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعمه المساكين وما تسقطه الريح، فقال: قد زادك ابن عمك وأنصفك" وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا خرصتم فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" وروي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والآكلة والوصية والعامل والنوائب وما وجب في الثمر من الحق" وأما الكتاب المعارض لهذه الآثار والقياس فقوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} . وأما القياس فلأنه مال فوجبت فيه الزكاة أصله سائر الأموال. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بقدر الواجب في الزكاة والواجب منه في هذه الأجناس الثلاثة التي الزكاة مخرجة من أعيانها، لم يختلفوا أنها إذا خرجت من الأعيان أنفسها أنها مجزئة، واختلفوا هل يجوز فيها أن يخرج بدل العين القيمة أو لا يجوز؟ فقال مالك والشافعي: لا يجوز إخراج القيم في الزكوات بدل المنصوص عليه في الزكوات، وقال أبو حنيفة: يجوز سواء قدر على المنصوص عليه أو لم يقدر. وسبب اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال إنها عبادة: قال إن أخرج من غير تلك الأعيان لم يجز لأنه إذا أتى بالعبادة على غير الجهة المأمور بها فهي فاسدة، ومن قال هي حق للمساكين فلا فرق بين القيمة والعين عنده، وقد قالت الشافعية: لنا أن نقول وإن سلمنا أنها حق للمساكين أن الشارع إنما علق الحق بالعين قصدا منه لتشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال: والحنفية تقول: إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي بين يديه، ولذلك جاء في بعض الأثر أنه جعل في الدية على أهل الحلل حللا على ما سيأتي في كتاب الحدود.

*4*الفصل السادس في نصاب العروض.

@-والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورءوس الأموال، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض، فإن مالكا قال، إذا باع العروض زكاة لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تضبط له أوقات شراء عروضه. وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه وهم الذين يخصون باسم المدير، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم إلى أن يقوم ما بيده من العروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العين وماله من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله: وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء. فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم من شرطه. والذي شرطه، منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك. وقال المازني: زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها. وقال الجمهور، الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه. وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته، وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه. وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا على المدير، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها.

*3*(الجملة الرابعة في وقت الزكاة) وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم، ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعا من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية. وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت. واختلفوا من هذا الباب في مسائل ثمانية مشهورة: إحداها: هل يشترط الحول في المعدن إذا قلنا إن الواجب فيه ربع العشر؟. الثانية: في اعتبار حولي ربح المال. الثالثة: حول الفوائد الواردة على مال تجب فيه الزكاة. الرابعة: في اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة. الخامسة: في اعتبار حول العروض إذا قلنا إن فيها الزكاة. السادسة: في حول فائدة الماشية. السابعة: في حول نسل الغنم إذا قلنا إنها تضم إلى الأمهات، إما على رأي من يشترط أن تكون الأمهات نصابا وهو الشافعي وأبو حنيفة، وإما على مذهب من لا يشترط ذلك، وهو مذهب مالك. والثامنة: في جواز إخراج الزكاة قبل الحول.

@-(أما المسألة الأولى) وهي المعدن، فإن الشافعي راعى فيه الحول مع النصاب وأما مالك فراعى فيه النصاب دون الحول. وسبب اختلافهم تردد شبهة بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين والله أعلم.

@-(المسألة الثانية) وأما اعتبار حول ربح المال فإنهم اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب أن لا يعرض لأرباح التجارة حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل: أي إذا كمل للأصول حول زكى الربح معه، سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، قال أبو عبيد: ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه. وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله، وإن لم يك نصابا لم يزك وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبو ثور وأبو حنيفة. وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء قال: يستقبل به الحول، ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال قال: حكمه حكم رأس المال، إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابا، ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل في مذهب مالك، ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك رضي الله عنه في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف أيضا فيه، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي حول الفوائد، فإنهم أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب واستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعهما نصاب أنه يستقل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالا وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول، فقال مالك: يزكى المستفاد إن كان نصابا لحوله ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة، وبهذا القول في الفوائد قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الفوائد كلها تزكى بحول الأصل إذا كان الأصل نصابا، وكذلك الربح عندهم. وسبب اختلافهم هل حكمه حكم المال الوارد عليه أم حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر؟ فمن قال حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر: أعني مالا فيه زكاة. قال: لا زكاة في الفائدة، ومن جعل حكمه حكم الوارد عليه وأنه مال واحد قال: إذا كان في الوارد عليه الزكاة بكونه نصابا اعتبر حوله بحول المال الوارد عليه، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" يقتضي أن لا يضاف مال إلى مال إلا بدليل وكأن أبا حنيفة اعتمد في هذا قياس الناض على الماشية، ومن أصله الذي يعتمده في هذا الباب أنه ليس من شرط الحول أن يوجد المال نصابا في جميع أجزائه بل أن يوجد نصابا في طرفيه فقط وبعضا منه في كله؛ فعنده أنه إذا كان مال في أول الحول نصابا ثم هلك بعضه فصار أقل من نصاب ثم استفاد مالا في آخر الحول صار به نصابا أنه تجب فيه الزكاة، وهذا عنده موجود في هذا المال لأنه لم يستكمل الحول، وهو في جميع أجزائه مال واحد بعينه، بل زاد ولكن ألفى في طرفي الحول نصابا، والظاهر أن الحول الذي اشترط في المال إنما هو في مال معين لا يزيد ولا ينقص لا بربح ولا بفائدة ولا بغير ذلك، إذ كان المقصود بالحول هو كون المال فضلة مستغنى عنه وذلك أن ما بقي حولا عند المالك لم يتغير عنده فليس به حاجة إليه فجعل فيه الزكاة فإن الزكاة إنما هي في فضول الأموال. وأما من رأى أن اشتراط الحول في المال إنما سببه النماء فواجب عليه أن يقول: تضم الفوائد فضلا عن الأرباح إلى الأصول وأن يعتبر النصاب في طرفي الحول فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. ولذلك رأى مالك أن من كان عنده في أول الحول ماشية تجب فيها الزكاة ثم باعها وأبدلها في آخر الحول بماشية من نوعها أنها تجب فيها الزكاة، فكأنه اعتبر أيضا طرفي الحول على مذهب أبي حنيفة، وأخذ أيضا ما اعتمد أبو حنيفة في فائدة الناض القياس على فائدة الماشية على ما قلناه.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة فإن قوما قالوا: يعتبر ذلك فيه من أول ما كان دينا يزكيه لعدة ذلك إن كان حولا فحول، وإن كان أحوالا فأحوال، أعني أنه إن كان حولا تجب فيه زكاة واحدة، وإن أحوالا وجبت فيه الزكاة لعدة تلك الأحوال. وقوم قالوا: يزكيه لعام واحد، وإن أقام الدين أحوالا عند الذي عنده الدين. وقوم قالوا: يستقبل به الحول. وأما من قال يستقبل بالدين الحول من يوم قبض فلم يقل بإيجاب الزكاة في الدين. ومن قال فيه: الزكاة بعدد الأحوال التي أقام فمصيرا إلى تشبيه الدين بالمال الحاضر. وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالا، فلا أعرف له مستندا في وقتي هذا، لأنه لا يخلو ما دام دينا أن يقول إن فيه زكاة أو لا يقول ذلك، فإن لم يكن فيه زكاة فلا كلام بل يستأنف به، وإن كان فيه زكاة فلا يخلو أن يشترط فيها الحول أو لا يشترط ذلك، فإن اشترطنا وجب أن يعتبر عدد الأحوال إلا أن يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في ذلك الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحول، فلم يبق إلا حق العام الأخير، وهذا يشبهه مالك بالعروض التي للتجارة، فإنها لا تجب عنده فيها زكاة إلا إذا باعها وإن أقامت عنده أحوالا كثيرة، وفيه ما شبه بالماشية التي لا يأتي الساعي أعواما إليها ثم يأتي فيجدها قد انقضت فإنه يزكي على مذهب مالك الذي وجد فقط لأنه لما أن حال عليها الحول فيما تقدم ولم يتمكن من إخراج الزكاة إذ كان مجيء الساعي شرطا عنده في إخراجها مع حلول الحول سقط عنه حق ذلك الحول الحاضر وحوسب به في الأعوام السالفة كان الواجب فيها أقل أو أكثر إذا كانت مما تجب فيه الزكاة، وهو شيء يجري على غير قياس، وإنما اعتبر مالك فيه العمل. وأما الشافعي فيراه ضامنا لأنه ليس مجيء الساعي شرطا عنده في الوجوب، وعلى هذا كل من رأى أنه لا يجوز أن يخرج زكاة ماله إلا بأن يدفعها إلى الإمام فعدم الإمام، أو عدم الإمام العادل إن كان ممن شرط العدالة في ذلك أنه إذا هلكت بعد انقضاء الحول وقبل التمكن من دفعها إلى الإمام فلا شيء عليه. ومالك تنقسم عنده زكاة الديون لهذه الأحوال الثلاثة، أعني أن من الديون عنده ما يزكى لعام واحد فقط مثل ديون التجارة، ومنها ما يستقبل بها الحول مثل ديون المواريث. والثالث دين المدبر وتحصيل قوله في الديون ليس بغرضنا.

@-(المسألة الخامسة) وهي حول العروض، وقد تقدم القول فيها عند القول في نصاب العروض.

@-(وأما المسألة السادسة) وهي فوائد الماشية، فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فوائد الناض، وذلك أنه يبني الفائدة على الأصل إذا كان الأصل نصابا كما يفعل أبو حنيفة في فائدة الدارهم وفي فائدة الماشية، فأبو حنيفة مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعني أنها تبنى على الأصل إذا كانت نصابا كانت فائدة غنم أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده حكمهما واحد، ويفرق بين فوائد الناض وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالأرباح والفوائد عنده حكمهما واحد باعتبار حولهما بأنفسهما، وفوائد الماشية ونسلها واحد باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصابا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية والناض اتباعا لعمر، وإلا فالقياس فيهما واحد، أعني أن الربح شبيه بالنسل والفائدة بالفائدة، وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منها شيئا، وقد تقدم الحديث في باب النصاب.

@-(المسألة السابعة) وهي اعتبار حول نسل الغنم، فإن مالكا قال: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا أو لم تكن كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يكون حول النسل حول الأمهات إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال.

@-(وأما المسألة الثامنة) وهي جواز إخراج الزكاة قبل الحول، فإن مالكا منع ذلك وجوزه أبو حنيفة والشافعي. وسبب الخلاف هل هي عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال عبادة وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع وقد احتج الشافعي لرأيه بحديث علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام استسلف صدقة العباس قبل محلها".

*3*(الجملة الخامسة فيمن تجب له الصدقة)

*4*الفصل الأول في عدد الأصناف الذين تجب لهم الزكاة:

@-فأما عددهم فهم الثمانية الذين نص الله عليهم في قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية. واختلفوا من العدد في مسألتين: إحداهما هل يجوز أن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من هؤلاء الأصناف أم هم شركاء في الصدقة لا يجوز أن يخص منهم صنف دون صنف؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف واحد إذا رأى ذلك بحسب الحاجة. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك بل يقسم على الأصناف الثمانية كما سمى الله تعالى، وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإن اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم، والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود به سد الخلة، فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس أعني أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من جهة المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن الصُّدائي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".

وأما (المسألة الثانية): فهل المؤلفة قلوبهم حقهم باق إلى اليوم أم لا؟ فقال مالك: لا مؤلفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حق المؤلفة باق إلى اليوم إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام على الإسلام: وسبب اختلافهم هل ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو عام له ولسائر الأمة؟ والأظهر أنه عام، وهل يجوز ذلك للإمام في كل أحواله أو في حال دون حال؟ أعني في حال الضعف لا في حال القوة، ولذلك قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام، وهذا كما قلنا التفات منه إلى المصالح.

*4*الفصل الثاني في الصفة التي تقتضي صرفها إليهم:

@-وأما صفاتهم التي يستوجبون بها الصدقة ويمنعون منها بأضدادها: فأحدها الفقر الذي هو ضد الغنى لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} واختلفوا في الغني الذي تجوز له الصدقة من الذي لا تجوز، وما مقدار الغنى المحرم للصدقة. فأما الغني الذي لا تجوز له الصدقة فإن الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم إلا للخمس الذين نص عليهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغنى" وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلا مجاهدا كان أو عاملا، والذين أجازوها للعامل وإن كان غنيا أجازوها للقضاة ومن في معناهم ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين، ومن لم يجز ذلك فقياس ذلك عنده هو أن لا تجوز لغني أصلا. وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة؟ فمن اعتبر ذلك بأهل الحاجة المنصوص عليهم في الآية قال: الحاجة فقط، ومن قال الحاجة والمنفعة العامة توجب أخذ الصدقة اعتبر المنفعة للعامل والحاجة بسائر الأصناف المنصوص عليهم. وأما حد الغنى الذي يمنع من الصدقة فذهب الشافعي إلى أن المانع من الصدقة هو أقل ما ينطلق عليه الإسم. وذهب أبو حنيفة إلى أن الغني هو مالك النصاب لأنهم الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام أغنياء لقوله في حديث معاذ له فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإذا كان الأغنياء هم الذين هم أهل النصاب وجب أن يكون الفقراء ضدهم. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الإجتهاد. وسبب اختلافهم هل الغنى المانع هو معنى شرعي أم معنى لغوي؟ فمن قال معنى شرعي قال: وجود النصاب هو الغنى، ومن قال معنى لغوي اعتبر في ذلك أقل ما ينطلق عليه الإسم، فمن رأى أن أقل ما ينطلق عليه الإسم هو محدود في كل وقت وفي كل شخص جعل حده هذا، ومن رأى أنه غير محدود وأن ذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك قال: هو غير محدود، وأن ذلك راجع إلى الإجتهاد. وقد روى أبو داود في هذا حديث الغنى الذي يمنع الصدقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ملك خمسين درهما، وفي أثر آخر أنه ملك أوقية وهي أربعون درهما، وأحسب أن قوما قالوا بهذه الآثار في حد الغنى. واختلفوا من هذا الباب في صفة الفقير والمسكين والفصل الذي بينهما، فقال قوم: الفقير أحسن حالا من المسكين، وبه قال البغداديون من أصحاب مالك، وقال آخرون: المسكين أحسن حالا من الفقير، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه وفي قوله الثاني أنهما إسمان دالان على معنى واحد، وإلى هذا ذهب ابن القاسم، وهذا النظر هو لغوي إن لم تكن له دلالة شرعية. والأشبه عند استقراء اللغة أن يكونا اسمين دالين على معنى واحد يختلف بالأقل والأكثر في كل واحد منهما لا أن هذا راتب من أحدهما على قدر غير القدر الذي الآخر راتب عليه، واختلفوا في قوله تعالى {وفي الرقاب} فقال مالك: هم العبيد يعتقهم الإمام ويكون ولاؤهم للمسلمين وقال الشافعي وأبو حنيفة: هم المكاتبون وابن السبيل هو عندهم المسافر في طاعة ينفذ زاده فلا يجد ما ينفقه. وبعضهم يشترط فيه أن يكون ابن السبيل جار الصدقة. وأما في سبيل الله فقال مالك: سبيل الله مواضع الجهاد والرباط وبه قال أبو حنيفة. وقال غيره: الحجاج والعمار. وقال الشافعي: هو الغازي جار الصدقة، وإنما اشترط جار الصدقة لأن عند أكثرهم أنه لا يجوز تنقيل الصدقة من بلد إلى بلد إلا من ضرورة.

*4*الفصل الثالث كم يجب لهم؟

@-وأما قدر ما يعطى من ذلك، أما الغارم فبقدر ما عليه إذا كان دينه في طاعة وفي غير سرف بل في أمر ضروري، وكذلك ابن السبيل يعطى ما يحمله إلى بلده، ويشبه أن يكون ما يحمله إلى مغزاه عند من جعل ابن السبيل الغازي. واختلفوا في مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الصدقة، فلم يحد مالك في ذلك حدا وصرفه إلى الإجتهاد، وبه قال الشافعي قال: وسواء كان ما يعطى من ذلك نصابا أو أقل من نصاب. وكره أبو حنيفة أن يعطى أحد من المساكين مقدار نصاب من الصدقة. وقال الثوري: لا يعطى أحد أكثر من خمسين درهما. وقال الليث: يعطى ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة، وكان أكثرهم مجمعون على أنه لا يجب أن يعطى عطية يصير بها من الغنى في مرتبة من لا تجوز له الصدقة، لأن ما حصل له من ذلك المال فوق القدر الذي هو به من أهل الصدقة صار في أول مراتب الغنى فهو حرام عليه. وإنما اختلفوا في ذلك لاختلافهم في هذا القدر، فهذه المسألة كأنها تبنى على معرفة أول مراتب الغنى. وأما العامل عليها فلا خلاف عند الفقهاء أنه إنما يأخذ بقدر عمله، فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الكتاب، وإن تذكرنا شيئا مما يشاكل غرضنا ألحقناه به إن شاء الله تعالى.

*2*كتاب زكاة الفطر:

@-والكلام في هذا الكتاب يتعلق بفصول: أحدها في معرفة حكمها، والثاني في معرفة من تجب عليه، والثالث كم تجب عليه، ومن ماذا تجب عليه، والرابع متى تجب عليه؟ ، والخامس من تجوز له؟ .

*3*الفصل الأول في معرفة حكمها:

@-فأما زكاة الفطر، فإن الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة، وبه قال أهل العراق. وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك بأنه ثبت من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين.

وظاهر هذا يقتضي الوجوب على مذهب من يقلد الصاحب في فهم الوجوب أو الندب من أمره عليه الصلاة والسلام إذا لم يحد لنا لفظه، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الأعرابي المشهور وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. فذهب الجمهور إلى أن هذه الزكاة داخلة تحت الزكاة المفروضة، وذهب الغير إلى أنها غير داخلة، واحتجوا في ذلك بما روي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم نؤمر بها ولم ننه عنها ونحن نفعله.

*3*الفصل الثاني في من تجب عليه وعن من تجب؟

@-وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانا كانوا أو إناثا، صغارا أو كبارا، عبيدا أو أحرارا لحديث عمر المتقدم إلا ما شذ فيه الليث فقال ليس على أهل العمود زكاة الفطر، وإنما هي على أهل القرى ولا حجة له، وما شذ أيضا من قول من لم يوجبها على اليتيم. وأما عن من تجب؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب على المرء في نفسه، وأنها زكاة بدن لا زكاة مال، وأنها تجب في ولده الصغار عليه إذا لم يكن لهم مال، وكذلك في عبيده إذا لم يكن لهم مال واختلفوا فيما سوى ذلك.

وتلخيص مذهب مالك في ذلك: أنها تلزم الرجل عمن ألزمه الشرع النفقة عليه، ووافقه في ذلك الشافعي. وإنما يختلفان من قبل اختلافهم فيمن تلزم المرء نفقته إذا كان معسرا ومن ليس تلزمه، وخالفه أبو حنيفة في الزوجة وقال تؤدي عن نفسها، وخالفهم أبو ثور في العبد إذا كان له مال، فقال: إذا كان له مال زكى عن نفسه ولم يزك عنه سيده، وبه قال أهل الظاهر والجمهور على أنه لا تجب على المرء في أولاده الصغار إذا كان لهم مال زكاة فطر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، وقال الحسن هي على الأب وإن أعطاها من مال الإبن فهو ضامن، وليس من شرط هذه الزكاة الغنى عند أكثرهم ولا نصاب بل أن تكون فضلا عن قوته وقوت عياله. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجب على من تجوز له الصدقة، لأنه لا يجتمع أن تجوز له وأن تجب عليه، وذلك بين والله أعلم، وإنما اتفق الجمهور على أن هذه الزكاة ليست بلازمة لمكلف، مكلف في ذاته فقط كالحال في سائر العبادات، بل ومن قبل غيره لإيجابها على الصغير والعبيد، فمن فهم من هذا أن علة الحكم الولاية قال: الولي يلزمه إخراج الصدقة على كل من يليه، ومن فهم من هذه النفقة قال: المنفق يجب أن يخرج الزكاة عن كل من ينفق عليه بالشرع. وإنما عرض هذا الاختلاف لأنه اتفق في الصغير والعبد، وهما اللذان نبها على أن هذه الزكاة ليست معلقة بذات المكلف فقط بل ومن قبل غيره إن وجدت الولاية فيها ووجوب النفقة، فذهب مالك إلى أن العلة في ذلك وجوب النفقة، وذهب أبو حنيفة إلى أن العلة في ذلك الولاية، ولذلك اختلفوا في الزوجة. وقد روي مرفوعا "أدوا زكاة الفطر عن كل من تمونون" ولكنه غير مشهور. واختلفوا من العبيد في مسائل: إحداها كما قلنا وجوب زكاته على السيد إذا كان له مال، وذلك مبني على أنه يملك أو لا يملك. والثانية في العبد الكافر هل يؤدي عنه زكاته أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: ليس على السيد في العبد الكافر زكاة. وقال الكوفيون: عليه الزكاة فيه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في الزيادة الواردة في ذلك في حديث ابن عمر، وهو قوله من المسلمين، فإنه قد خولف فيها نافع بكون ابن عمر أيضا الذي هو راوي الحديث من مذهبه إخراج الزكاة عن العبيد الكفار. وللخلاف أيضا سبب آخر، وهو كون الزكاة الواجبة على السيد في العبد هل هي لمكان أن العبد يكلف أو أنه مال؟ فمن قال لمكان أنه مكلف اشترط الإسلام، ومن قال لمكان أنه مال لم يشترطه، قالوا: ويدل على ذلك إجماع العلماء على أن العبد إذا أعتق ولم يخرج عنه مولاه زكاة الفطر أنه لا يلزمه إخراجها عن نفسه بخلاف الكفارات. والثالثة في المكاتب، فإن مالكا وأبا ثور قالا: يؤدي عنه سيده زكاة الفطر. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: لا زكاة عليه فيه. والسبب في اختلافهم تردد المكاتب بين الحر والعبد. والرابعة في عبيد التجارة، ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن على السيد فيهم زكاة الفطر، وقال أبو حنيفة وغيره: ليس في عبيد التجارة صدقة. وسبب الخلاف معارضة القياس للعموم وذلك أن عموم اسم العبد يقتضي وجوب الزكاة في عبيد التجارة وغيرهم، وعند أبي حنيفة أن هذا العموم مخصص بالقياس، وذلك هو اجتماع زكاتين في مال واحد، وكذلك اختلفوا في العبيد وفروع هذا الباب كثيرة.

*3*الفصل الثالث مماذا تجب؟

@-وأما مماذا تجب؟ فإن قوما ذهبوا ظغلى أنها تجب إما من البر أو من التمر أو من الشعير أو من الأقط، وأن ذلك على التخيير للذي تجب عليه، وقوم ذهبوا إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد، وهو الذي حكاه عبد الوهاب عن المذهب. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث أبي سعيد الخدري أنه قال "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر" فمن فهم من هذا الحديث التخيير قال أيّا أخرج من هذا أجزأ عنه، ومن فهم منه أن اختلاف المخرج ليس سببه الإباحة وإنما سببه اعتبار قوت المخرج أو قوت غالب البلد قال بالقول الثاني. وأما كم يجب؟ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يؤدي في زكاة الفطر من التمر والشعير أقل من صاع لثبوت ذلك في حديث ابن عمر، واختلفوا في قدر ما يؤدى من القمح، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ منه أقل من صاع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ من البر نصف صاع. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار، وذلك أنه جاء في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب" وظاهره أنه أراد بالطعام القمح. وروى الزهري أيضا عن أبي سعيد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في صدقة الفطر صاعا من بر بين اثنين أو صاعا من شعير أو تمر عن كل واحد" خرجه أبو داود. وروي عن ابن المسيب أنه قال: "كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر". فمن أخذ بهذه الأحاديث قال: نصف صاع من البر، ومن أخذ بظاهر حديث أبي سعيد وقال البر في ذلك على الشعير سوَّى بينهما في الوجوب

*3*الفصل الرابع متى تجب زكاة الفطر؟

@-وأما متى يجب إخراج زكاة الفطر؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب في آخر رمضان لحديث ابن عمر "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان" واختلفوا في تحديد الوقت، فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر. وروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم رمضان، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي. وسبب اختلافهم هل هي عبادة متعلقة بيوم العيد: أو بخروج شهر رمضان؟ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان، وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد وبعد مغيب الشمس هل تجب عليه أم لا تجب؟.

*3*الفصل الخامس في معرفتها:

@-وأما لمن تصرف فأجمعوا على أنه تصرف لفقراء المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" واختلفوا هل تجوز لفقراء الذمة، والجمهور على أنها لا تجوز لهم، وقال أبو حنيفة: تجوز لهم. وسبب اختلافهم هل سبب جوازها هو الفقر فقط، أو الفقر والإسلام معا؟ فمن قال الفقر والإسلام لم يجزها للذميين، ومن قال الفقر فقط أجازها لهم، واشترط قوم في أهل الذمة الذين تجوز لهم أن يكونوا رهبانا، وأجمع المسلمون على أن زكاة الأموال لاتجوز لأهل الذمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم".

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما

*2*كتاب الصيام

@-وهذا الكتاب ينقسم أولا قسمين: أحدهما في الصوم الواجب، والآخر في المندوب إليه. والنظر في الصوم الواجب ينقسم إلى قسمين: أحدهما في الصوم والآخر في الفطر. أما القسم الأول وهو الصيام فإنه ينقسم أولا إلى جملتين: إحداهما معرفة أنواع الصيام الواجب، والأخرى معرفة أركانه. وأما القسم الذي يتضمن النظر في الفطر فإنه ينقسم إلى معرفة المفطرات وإلى معرفة المفطرين وأحكامهم.

*3*[كتاب الصيام الأول]

*3*(الجملة الأولى) وهي معرفة أنواع الصيام

@-فلنبدأ بالقسم الأول من هذا الكتاب، وبالجملة الأولى منه، وهي معرفة أنواع الصيام

فنقول: إن الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه. والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه. ومنه ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات. ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر. والذي يتضمن هذا الكتاب القول فيه من أنواع هذه الواجبات هو صوم شهر رمضان فقط. وأما صوم الكفارات فيذكر عند ذكر المواضع التي تجب منها الكفارة، وكذلك صوم النذر ويذكر في كتاب النذر.

فأما صوم شهر رمضان فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} وأما السنة ففي قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس، وذكر فيها الصوم" وقوله للأعرابي "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وأما الإجماع فإنه لم ينقل إلينا خلاف عن أحد من الأئمة في ذلك. وأما على من يجب وجوبا غير مخير فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم وهي الحيض للنساء، هذا لا خلاف فيه لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} .

*3*الجملة الثانية: في الأركان

@-والأركان ثلاثة: إثنان متفق عليهما، وهما الزمان والإمساك عن المفطرات. والثالث مختلف فيه وهو النية. فأما الركن الأول الذي هو الزمان، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما زمان الوجوب، وهو شهر رمضان. والآخر زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر دون الليالي، ويتعلق بكل واحد من هذين الزمانين مسائل قواعد اختلفوا فيها، فلنبدأ بما يتعلق من ذلك بزمان الوجوب، وأول ذلك في تحديد طرفي هذا الزمان. وثانيا في معرفة الطريق التي بها يتوصل إلى معرفة العلامة المحدودة في حق شخص شخص وأفق أفق. فأما طرفا هذا الزمان، فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن الإعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية، لقوله عليه الصلاة والسلام "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وعني بالرؤية أول ظهور القمر بعد السؤال.

واختلفوا في الحكم إذا غم الشهر ولم تمكن الرؤية وفي وقت الرؤية المعتبر، فأما اختلافهم إذا غم الهلال، فإن الجمهور يرون أن الحكم في ذلك أن تكمل العدة ثلاثين، فإن كان الذي غم هلال أول الشهر عد الشهر الذي قبله ثلاثين يوما، وكان أول رمضان الحادي والثلاثين، وإن كان الذي غم هلال آخر الشهر صام الناس ثلاثين يوما. وذهب ابن عمر إلى أنه إن كان المغمّى عليه هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني وهو الذي يعرف بيوم الشك. وروى بعض السلف أنه إذا أغمى الهلال رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس، وهو مذهب مطرف بن الشخير وهو من كبار التابعين. وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه. وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" فذهب الجمهور إلى أن تأويله أكملوا العدة ثلاثين. ومنهم من رأى أن معنى التقدير له هو عده بالحساب. ومنهم من رأى أن معنى ذلك أن يصبح المرء صائما، وهو مذهب ابن عمر كما ذكرنا وفيه بعد في اللفظ. وإنما صار الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وذلك مجمل وهذا مفسر، فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا، فمذهب الجمهور في هذا لائح والله أعلم. وأما اختلافهم في إعتبار وقت الرؤية فإنهم اتفقوا على أنه إذا رؤي من العشي أن الشهر من اليوم الثاني، واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار أعني أول ما رؤي، فمذهب الجمهور أن القمر في أول وقت رؤي من النهار أنه لليوم المستقبل كحكم رؤيته بالعشي، وبهذا القول قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور أصحابهم. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والثوري وابن حبيب من أصحاب مالك: إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رؤي بعد الزوال فهو للآتية. وسبب اختلافهم ترك اعتبار التجربة فيما سبيله التجربة والرجوع إلى الأخبار في ذلك، وليس في ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إليه، لكن روي عن عمر رضي الله عنه أثران: أحدهما عام والآخر مفسر، فذهب قوم إلى العام وذهب قوم إلى المفسر. فأما العام فما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس.

وأما الخاص فما روى الثوري عنه أنه بلغ عمر بن الخطاب أن قوما رأوا الهلال بعد الزوال فأفطروا، فكتب إليهم يلومهم وقال: إذا رأيتم الهلال نهارا قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. قال القاضي: الذي يقتضي القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب إلا وهو بعيد منها، لأنه حينئذ يكون أكبر من قوس الرؤية، وإن كان يختلف في الكبر والصغر فبعيد والله أعلم أن يبلغ من الكبر أن يرى والشمس بعد لم تغب، ولكن المعتمد في ذلك التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أو لا مغيبها. وأما اختلافهم في حصول العلم بالرؤية فإن له طريقين: أحدهما الحس والآخر الخبر، فأما طريق الحس فإن العلماء أجمعوا على أن من أبصر هلال الصوم وحده أن عليه أن يصوم، إلا عطاء بن أبي رباح فإنه قال: لا يصوم إلا برؤية غيره معه، واختلفوا هل يفطر برؤيته وحده؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى أنه لا يفطر. وقال الشافعي: يفطر، وبه قال أبو ثور، وهذا لا معنى له، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوجب الصوم والفطر للرؤية. والرؤية إنما تكون بالحس، ولولا الإجماع على الصيام بالخبر عن الرؤية لبعد وجوب الصيام بالخبر لظاهر هذا الحديث، وإنما فرق من فرق بين هلال الصوم والفطر لمكان سد الذريعة أن لا يدعى الفساق أنهم رأوا الهلال فيفطرون وهم بعد لم يروه، ولذلك قال الشافعي: إن خاف التهمة أمسك عن الأكل والشرب واعتقد الفطر، وشذ مالك فقال: من أفطر وقد رأى الهلال وحده فعليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء فقط. وأما طريق الخبر فإنهم اختلفوا في عدد المخبرين الذين يجب قبول خبرهم عن الرؤية وفي صفتهم.

فأما مالك فقال: إنه لا يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين عدلين. وقال الشافعي في رواية المزني: إنه يصام بشهادة رجل واحد على الرؤية، ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين. وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة قبل واحد، وإن كانت صاحية بمصر كبير لم تقبل إلا شهادة الجم الغفير. وروي عنه أنه تقبل شهادة عدلين إذا كانت السماء مصحية وقد روي عن مالك أنه لا تقبل شهادة الشاهدين إلا إذا كانت السماء مغيمة، وأجمعوا على أنه لا يقبل في الفطر إلا إثنان، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر كما فرق الشافعي.

وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد.

وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد. أما الآثار فمن ذلك ما خرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا"

ومنها حديث ابن عباس أنه قال "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال الليلة، فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" خرجه الترمذي قال: وفي إسناده خلاف لأنه رواه جماعة مرسلا.

ومنها حديث ربعي بن خراش خرجه أبو داود عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كان الناس في آخر يوم من رمضان فقام أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يعودوا إلى المصلى" فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الترجيح ومذهب الجمع، فالشافعي جمع بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش على ظاهرهما، فأوجب الصوم بشهادة واحد والفطر بإثنين، ومالك رجح حديث عبد الرحمن ابن زيد لمكان القياس: أعني تشبيه ذلك بالشهادة في الحقوق، ويشبه أن يكون أبو ثور لم ير تعارضا بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش، وذلك أن الذي في حديث ربعي بن خراش أنه قضى بشهادة إثنين، وفي حديث ابن عباس أنه قضى بشهادة واحد، وذلك مما يدل على جواز الأمرين جميعا، لا أن ذلك تعارض، ولا أن القضاء الأول مختص بالصوم والثاني بالفطر، فإن القول بهذا إنما ينبني على توهم التعارض، وكذلك يشبه أن لا يكون تعارض بين حديث عبد الرحمن بن زيد وبين حديث ابن عباس إلا بدليل الخطاب، وهو ضعيف إذا عارضه النص، فقد نرى أن قول أبي ثور على شذوذه هو أبين، مع أن تشبيه الرائي بالراوي هو أمثل من تشبيهه بالشاهد، لأن الشهادة إما أن يقول إن اشتراط العدد فيها عبادة غير معللة فلا يجوز أن يقيس عليها، وإما أن يقول إن اشتراط العدد فيها هو لموضع التنازع الذي في الحقوق، والشبة التي تعرض من قبل قول أحد الخصمين فاشترط فيها العدد وليكون الظن أغلب والميل إلى حجة أحد الخصمين أقوى، ولم يتعد بذلك الأثنين لئلا يعسر قيام الشهادة فتبطل الحقوق، وليس في رؤية القمر شبهة من مخالف توجب الإستظهار بالعدد،

ويشبه أن يكون الشافعي إنما فرق بين هلال الفطر وهلال الصوم للتهمة التي تعرض للناس في هلال الفطر ولا تعرض في هلال الصوم، ومذهب أبي بكر بن المنذر هو مذهب أبي ثور أحسبه هو مذهب أهل الظاهر وقد احتج أبو بكر بن المنذر لهذا الحديث بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن يكون الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه، إذ كلاهما علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم، وإذا قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد؟ أعني هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر أم لكل بلد رؤية؟ فيه خلاف، فأما مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه وصامه غيرهم، وبه قال الشافعي وأحمد.

وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك، وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز. والسبب في هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر. أما النظر فهو أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الإختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق الواحد. وأما إذا اختلفت إختلافا كثيرا فليس يجب أن يحمل بعضها على بعض. وأما الأثر فما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحرث بعثته إلى معاوية بالشام فقال: قدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيته ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال لا، هكذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام، فظاهر هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد، والنظر يعطي الفرق بين البلاد النائية والقريبة، وبخاصة ما كان نأيه في الطول والعرض كثيرا، وإذا بلغ الخبر مبلغ التواتر لم يحتج فيه إلى شهادة، فهذه هي المسائل التي تتعلق بزمان الوجوب. وأما التي تتعلق بزمان الإمساك فإنهم اتفقوا على أن آخره غيبوبة الشمس لقوله تعالى -ثم أتموا الصيام إلى الليل- واختلفوا في أوله، فقال الجمهور هو طلوع الفجر الثاني المستطير الأبيض لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني حده بالمستطير ولظاهر قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- الآية. وشذت فرقة فقالوا: هو الفجر الأحمر الذي يكون بعد الأبيض وهو نظير الشفق الأحمر، وهو مروي عن حذيفة وابن مسعود. وسبب هذا الخلاف هو إختلاف الآثار في ذلك واشتراك اسم الفجر، أعني أنه يقال على الأبيض والأحمر. وأما الآثار التي احتجوا بها فمنها حديث ذر عن حذيفة قال "تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو أشاء أن أقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" وخرج أبو داود عن قيس بن مطلق عن أبيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كلوا واشربوا ولا يُهِيدَنَّكم (1) الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" قال أبو داود: هذا ما تفرد به أهل اليمامة وهذا شذوذ، فإن قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- نص في ذلك أو كالنص، والذين رأوا أنه الفجر الأبيض المستطير وهم الجمهور والمعتمد اختلفوا في الحد المحرم للأكل فقال قوم: هو طلوع الفجر نفسه. وقال قوم هو تبينه عند الناظر إليه ومن لم يتبينه، فالأكل مباح له حتى يتبينه وإن كان قد طلع، وفائدة الفرق أنه إذا انكشف أن ماظن من أنه لم يطلع، كان قد طلع. فمن كان الحد عنده هو الطلوع نفسه أوجب عليه القضاء، ومن قال: هو العلم الحاصل به لم يوجب عليه قضاء. وسبب الإختلاف في ذلك الإحتمال الذي في قوله تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر- هل الإمساك بالتبيين نفسه أو بالشيء المتبين؟ لأن العرب تتجوز فتستعمل لاحق الشيء بدل الشيء على وجه الإستعارة فكأنه قال تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود- لأنه إذا تبين في نفسه تبين لنا، فإذا إضافة التبيين لنا هي التي أوقعت الخلاف، لأنه قد يتبين في نفسه ويتميز ولا يتبين لنا، وظاهر اللفظ يوجب تعلق الإمساك بالعلم والقياس يوجب تعلقه بالطلوع نفسه، أعني قياسا على الغروب وعلى سائر حدود الأوقات الشرعية كالزوال وغيره فإن الإعتبار في جميعها في الشرع هو بالأمر نفسه لا بالعلم المتعلق به. والمشهور عن مالك وعليه الجمهور أن الأكل يجوز أن يتصل بالطلوع، وقيل بل يجب الإمساك قبل الطلوع. والحجة للقول الأول ما في كتاب البخاري أظنه في بعض رواياته قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر" وهو نص في موضع الخلاف أو كالنص والموافق لظاهر قوله تعالى -كلوا واشربوا- الآية. ومن ذهب إلى أنه يجب الإمساك قبل الفجر فجريا على الإحتياط وسدا للذريعة وهو أورع القولين والأول أقيس، والله أعلم.

----------

(1) هكذا بالنسخة المصرية، وبالنسخة المغربية: "ولا يهمزنكم"، فتأمل.

----------

@-الركن الثاني وهو الإمساك:

وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} واختلفوا من ذلك في مسائل منها مسكوت عنها ومنها منطوق بها أما المسكوت عنها: إحداها فيما يرد الجوف مما ليس بمغذ وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة. وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي، وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عن ما يصل إلى الحلق من أي المنافذ وصل مغذيا كان أو غير مغذ. وأما ما عدا المأكول والمشروب من المفطرات فكلهم يقولون إن من قبل فأمنى فقد أفطر وإن أمذى فلم يفطر إلا مالك. واختلفوا في القبلة للصائم، فمنهم من أجازها، ومنهم من كرهها للشاب وأجازها للشيخ ومنهم من كرهها على الإطلاق، فمن رخص فيها فلما روى من حديث عائشة وأم سلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم" ومن كرهها فلما يدعوا إليه من الوقاع. وشذ قوم فقالوا: القبلة تفطر، واحتجوا لذلك بما روي عن ميمونة بنت سعد قالت "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال: "أفطرا جميعا" خرج هذا الأثر الطحاوي ولكن ضعفه. وأما ما يقع من هذه من قبل الغلبة ومن قبل النسيان فالكلام فيه عند الكلام في المفطرات وأحكامها. وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به فالحجامة والقيء. أما الحجامة فإن فيها ثلاثة مذاهب: قوم قالوا: إنها تفطر وأن الإمساك عنها واجب، وبه قال أحمد وداود والأوزاعي وإسحق بن راهويه وقوم قالوا: إنها مكروهة للصائم وليست تفطر، وبه قال مالك والشافعي والثوري. وقوم قالوا: إنها غير مكروهة ولا مفطرة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما ما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد. والحديث الثاني حديث عكرمة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وحديث ابن عباس هذا صحيح؛ فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمعة. والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان، وذلك أن هذا موجب حكما، وحديث ابن عباس رافعه، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل، وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم، ومن رام الجمع بينهما حمل حديث النهي على الكراهية وحديث الإحتجام على الحظر، ومن أسقطهما للتعارض قال بإباحة الإحتجام للصائم. وأما القيء فإن جمهور الفقهاء على أن من ذرعه القيء فليس بمفطر، إلا ربيعة فإنه قال: إنه مفطر، وجمهورهم أيضا على أنه من استقاء فقاء فإنه مفطر إلا طاوس. وسبب اختلافهم ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة اختلافهم أيضا في تصحيحها، وذلك أنه ورد في هذا الباب حديثان أحدهما حديث أبي الدرداء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر" قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له أن أبا الدرداء حدثني "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال: صدق أنا صببت له وضوءه" وحديث ثوبان هذا صححه الترمذي. والآخر حديث أبي هريرة خرجه الترمذي وأبو داود أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فعليه القضاء" وروى موقوفا عن ابن عمر؛ فمن لم يصح عنده الأثران كلاهما قال: ليس فيه فطر أصلا، ومن أخذ بظاهر حديث ثوبان ورجحه على حديث أبي هريرة أوجب الفطر من القيء بإطلاق، ولم يفرق بين أن يستقيء أو لا يستقيء؛ ومن جمع بين الحديثين وقال حديث ثوبان مجمل وحديث أبي هريرة مفسر والواجب حمل المجمل على المفسر فرق بين القئ والإستقاءة، وهو الذي عليه الجمهور

@-الركن الثالث وهو النية:

والنظر في النية في مواضع منها هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط؟ وإن كانت شرطا فما الذي يجزئ من تعيينها؟ وهل يجب تجديدها في كل يوم من أيام رمضان أم يكفي في ذلك النية الواقعة في اليوم الأول؟ وإذا أوقعها المكلف فأي وقت إذا وقعت فيه صح الصوم؟ وإذا لم تقع فيه بطل الصوم؟ وهل رفض النية يوجب الفطر وإن لم يفطر؟ وكل هذه المطالب قد اختلف العلماء فيها. أما كون النية شرطا في صحة الصيام فإنه قول الجمهور؛ وشذ زفر فقال: لا يحتاج رمضان إلى النية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم. والسبب في اختلافهم الإحتمال المتطرق إلى الصوم هل هو عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو، لكن تخصيص زفر رمضان بذلك من بين أنواع الصوم فيه ضعف، وكأنه لما رآى أن أيام رمضان لا يجوز فيها الفطر، أي أن كل صوم يقع فيها ينقلب صوما شرعيا، وأن هذا شيء يخص هذه الأيام. وأما اختلافهم في تعيين النية المجزية في ذلك فإن مالكا قال: لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان، ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان. وقال أبو حنيفة: إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه، وكذلك إن نوى فيه صيام غير رمضان أجزأه وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا، فإنه إذا نوى المسافر عنده في رمضان صيام غير رمضان كان ما نوى، لأنه لم يجب عليه صوم رمضان وجوبا معينا، ولم يفرق صاحباه بين المسافر والحضر وقالا: كل صوم نوى في رمضان انقلب إلى رمضان. وبسبب اختلافهم هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها، وذلك أن كلا الأمرين موجود في الشرع، مثال ذلك أن النية في الوضوء يكفي منها اعتقاد رفع الحدث لأي شيء كان من العبادة التي الوضوء شرط في صحتها، وليس يختص عبادة عبادة بوضوء وضوء.

وأما الصلاة فلا بد فيها من تعيين شخص العبادة، فلا بد من تعيين الصلاة إن عصرا فعصرا، وإن ظهرا فظهرا، وهذا كله على المشهور عند العلماء، فتردد الصوم عند هؤلاء بين هذين الجنسين، فمن ألحقه بالجنس الواحد قال: يكفي في ذلك اعتقاد الصوم فقط، ومن ألحقه بالجنس الثاني اشترط تعيين الصوم. واختلافهم أيضا في إذا نوى في أيام رمضلن صوما آخر هل ينقلب أو لا ينقلب؟ سببه أيضا أن من العبادة عندهم من ينقلب من قبل أن الوقت الذي توقع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه، ومنها ما ليس ينقلب، أما التي لا تنقلب فأكثرها، وأما التي تنقلب باتفاق فالحج. وذلك أنهم قالوا إذا ابتدأ الحج تطوعا من وجب عليه الحج انقلب التطوع إلى فرض، ولم يقولوا ذلك في الصلاة ولا في غيرها، فمن شبه الصوم بالحج قال ينقلب ومن شبهه بغيره من العبادات قال لا ينقلب. وأما اختلافهم في وقت النية، فإن مالكا رأى أنه لا يجزئ الصيام إلا بنية قبل الفجر، وذلك في جميع أنواع الصوم؛ وقال الشافعي: تجزئ النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزئ في الفروض. وقال أبو حنيفة: تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين مثل رمضان ونذر أيام محدودة، وكذلك في النافلة، ولا يجزئ في الواجب في الذمة. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في ذلك؛ أما الآثار المتعارضة في ذلك، فأحدها ما خرجه البخاري عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" ورواه مالك موقوفا قال أبو عمر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني ما رواه مسلم عن عائشة قالت "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت: قلت يارسول الله ما عندنا شيء، قال فإني صائم" ولحديث معاوية أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر" فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين النفل والفرض، أعني حمل حديث حفصة على الفرض، وحديث عائشة ومعاوية على النفل، وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين، الذي في الذمة ليس له وقت مخصوص، فأوجب أن التعيين بالنية؛ وجمهور الفقهاء على أنه ليست الطهارة من الجنابة شرطا في صحة الصوم لما ثبت من حديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم" ومن الحجة لهما الإجماع على أن الإحتلام بالنهار لا يفسد الصوم. وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أنه إن تعمد ذلك أفسد صومه. وسبب اختلافهم ما روي عن أبي هريرة أنه كان يقول "من أصبح جنبا في رمضان أفطر" وروي عنه أنه قال: ما أنا قلته، محمد صلى الله عليه وسلم قاله ورب الكعبة.

وذهب ابن الماجشون من أصحاب مالك أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل إلى يومها يوم فطر وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة الثابتة.

@-القسم الثاني من الصوم المفروض:

وهو الكلام في الفطر وأحكامه: والمفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام: صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع. وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين. وصنف لا يجوز له الفطر، وكل واحد من هؤلاء تتعلق به أحكام. أما الذين يجوز لهم الأمران: فالمريض بإتفاق، والمسافر باختلاف، والحامل والمرضع والشيخ الكبير. وهذا التقسيم كله مجمع عليه. فأما المسافر فالنظر فيه في مواضع منها: هل إن صام أجزأه صومه أم ليس يجزيه؟ وهل إن كان يجزئ المسافر صومه الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟ وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟ ومتى يفطر المسافر؟ ومتى يمسك؟ وهل إذا مر بعض الشهر له أن ينشئ السفر أم لا؟ ثم إذا أفطر ما حكمه؟ وأما المريض فالنظر فيه أيضا في تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم الفطر.

(أما المسألة الأولى) وهي إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه وأن فرضه هو أيام أخر. والسبب في اختلافهم تردد قوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} بين أن يحمل على الحقيقة فلا يكون هنالك محذوف أصلا، أو يحمل على المجاز فيكون التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب، فمن حمل الآية على الحقيقة ولم يحملها على المجاز قال: إن فرض المسافر عدة من أيام أخر لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ومن قدر فأفطر قال: إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر. وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين. وإن كان الأصل هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز. أما الجمهور فيحتجون لمذهبهم بما ثبت من حديث أنس قال "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" وبما ثبت عنه أيضا أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم. فأهل الظاهر يحتجون لمذهبهم بما ثبت عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس" وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وهذا يدل على نسخ الصوم. قال أبو عمر: والحجة على أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام أجزأه صومه.

(وأما المسألة الثانية) وهي هل الصوم أفضل أو الفطر؟ إذا قلنا أنه من أهل الفطر على مذهب الجمهور؛ فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب: فبعضهم رأى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة. وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول أحمد وجماعة. وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير، وأنه ليس أحدهما أفضل. والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظاهر بعض المنقول، ومعارضة المنقول بعضه لبعض وذلك أن المعنى المعقول من إجازة الفطر للصائم إنما هو الرخصة له لمكان رفع المشقة عنه، وما كان رخصة فالأفضل ترك الرخصة، ويشهد لهذا حديث حمزة بن عمرو الأسلمي خرجه مسلم أنه قال "يا رسول الله أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "ليس من البر أن تصوم في السفر" ومن أنَّ آخر فعله عليه الصلاة والسلام كان الفطر، فيوهم أن الفطر أفضل، لكن الفطر لما كان ليس حكما وإنما هو فعل المباح عسر على الجمهور أن يضعوا المباح أفضل من الحكم. وأما من خيِّر في ذلك فلمكان حديث عائشة قالت "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" خرجه مسلم.

(وأما المسألة الثالثة)

وهي هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود. فإن العلماء اختلفوا فيها؛ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وهم أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل من ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر وجب أن يجوز الفطر في السفر الذي فيه المشقة ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك وجب يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة. وأما المرض الذي يجوز فيه الفطر، فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فذهب قوم إلى أنه المرض الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرورة، وبه قال مالك. وذهب قوم إلى أنه المرض الغالب، وبه قال أحمد. وقال قوم إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في حد السفر.

(وأما المسألة الخامسة) [لا يوجد رابعة؟؟]

وهي متى يفطر المسافر ومتى يمسك، فإن قوما قالوا: يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرا، وبه قال الشعبي والحسن وأحمد. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار. واستحب جماعة العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائما، وبعضهم في ذلك أكثر تشديدا من بعض وكلهم لم يوجبوا على من دخل مفطرا كفارة. واختلفوا في من دخل وقد ذهب بعض النهار، فذهب مالك والشافعي على أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكف عن الأكل، وكذلك الحائض عنده تطهر تكف عن الأكل. والسبب في اختلافهم في الوقت الذي يفطر فيه المسافر هو معارضة الأثر للنظر. أما الأثر فإنه ثبت من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه" وظاهر هذا أنه أفطر بعد أن بيت الصوم. وأما الناس فلا يشك أنهم أفطروا بعد تبييتهم الصوم، وفي هذا المعنى أيضا حديث جابر بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة، فسار حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة" وخرج أبو داود عن أبي نضرة الغفاري أنه لما تجاوز البيوت دعا بالسفرة، قال جعفر راوي الحديث: فقلت: ألست تؤم البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال جعفر: فأكل. وأما النظر فلما كان المسافر لا يجوز له إلا أن يبيت الصوم ليلة سفره لم يجز له أن يبطل صومه وقد بيته لقوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم} وأما اختلافهم في إمساك الداخل في أثناء النهار عن الأكل أو لا إمساكه. فالسبب في اختلافهم في تشبيه من يطرأ عليه في يوم شك أفطر فيه الثبوت أنه من رمضان، فمن شبهه به قال يمسك عن الأكل، ومن لم يشبهه به قال لا يمسك عن الأكل، لأن الأول أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل. والحنفية تقول: كلاهما سببان موجبان للإمساك عن الأكل بعد إباحة الأكل.

(وأما المسألة السادسة)

وهي هل يجوز للصائم في رمضان أن ينشيء سفرا ثم لا يصوم فيه، فإن الجمهور على أنه يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن يصوم ذلك البعض الذي شهده، وذلك أنه لما كان المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله كأن من شهد بعضه فهو يصوم بعضه، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم السفر في رمضان. وأما حكم المسافر إذا أفطر فهو القضاء باتفاق وكذلك المريض لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ما عدا المريض بإغماء أو جنون، فإنهم اختلفوا في وجوب القضاء عليه، وفقهاء الأمصار على وجوبه على المغمى عليه واختلفوا في المجنون، ومذهب مالك وجوب القضاء عليه وفيه ضعف لقوله عليه الصلاة والسلام "وعن المجنون حتى يفيق" والذين أوجبوا عليهم القضاء اختلفوا في كون الإغماء والجنون مفسداً للصوم، فقوم قالوا إنه مفسد، وقوم قالوا: ليس بمفسد، وقوم فرقوا بين أن يكون أغمي عليه بعد الفجر أو قبل الفجر، وقوم قالوا: إن أغمي عليه بعد مضي أكثر النهار أجزأه، وإن أغمي عليه في أول النهار قضى، وهو مذهب مالك، وهذا كله فيه ضعف، فإن الإغماء والجنون صفة يرتفع بها التكليف وبخاصة الجنون، إذا ارتفع التكليف لم يوصف لمفطر ولا صائم فكيف يقال في الصفة التي ترفع التكليف إنها مبطلة للصوم إلا كما يقال في الميت أو في من لا يصح منه العمل إنه قد بطل صومه وعمله. ويتعلق بقضاء المسافر والمريض مسائل: منها هل يقضيان ما عليهما متتابعا أم لا؟ ومنها ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير عذر إلى أن يدخل رمضان آخر؟ ومنها إذا ماتا ولم يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟

(أما المسألة الأولى) فإن بعضهم أوجب أن يكون القضاء متتابعا على صفة الأداء، وبعضهم لم يوجب ذلك، وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب التتابع، والجماعة على ترك إيجاب التتابع. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس، وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء أصل ذلك الصلاة والحج. أما ظاهر قوله تعالى {فعدة من أيام أخر} فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع. وروي عن عائشة أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقط {متتابعات} . وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر؛ فقال قوم: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال قوم: لا كفارة عليه وبه قال الحسن البصري وإبراهيم النخعي. وسبب اختلافهم هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم لا؟ فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: إنما عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات قال: عليه كفارة قياسا على من أفطر متعمدا لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فبترك القضاء زمان القضاء، وأما ذلك فبالأكل في يوم لا يجوز فيه الأكل، وإنما كان يكون القياس مستندا لو ثبت أن للقضاء زمنا محدودا بنص من الشارع، لأن أزمنة الأداء هي المحدودة في الشرع، وقد شذ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه وهذا مخالف للنص. وأما إذا مات وعليه صوم فإن قوما قالوا: لا يصوم أحد عن أحد. وقوم قالوا يصوم عنه وليه، والذين لم يوجبوا الصوم قالوا: يطعم عنه وليه، وبه قال الشافعي. وقال بعضهم: لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصي به، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة يصوم، فإن لم يستطع أطعم وفرق قوم بين النذر والصيام المفروض فقالوا يصوم عنه وليه في النذر ولا يصوم في الصيام المفروض والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر وذلك أنه ثبت عنه من حديث عائشة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من مات وعليه صيام صامه عنه وليه" خرجه مسلم، وثبت عنه أيضا من حديث ابن عباس أنه قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء" فمن رأى أن الأصول تعارضه، وذلك أنه كما أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يتوضأ أحد عن أحد وكذلك لا يصوم أحد عن أحد قال: لا صيام على الولي، ومن أخذ بالنص في ذلك قال: بإيجاب الصيام عليه، ومن لم يأخذ بالنص في ذلك قصر الوجوب على النذر، ومن قاس رمضان عليه قال: يصوم عنه في رمضان. وأما من أوجب الإطعام فمصيرا إلى قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية} الآية.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ...

ومن خير في ذلك فجمعا بين الآية والأثر، فهذه هي أحكام المسافر والمريض من الصنف الذي يجوز لهم الفطر والصوم. وأما باقي هذا الصنف وهو المرضع والحامل والشيخ الكبير، فإن فيه مسألتين مشهورتين: إحداهما الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما؟ وهذه المسألة للعلماء فيها أربعة مذاهب: أحدها أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس. والقول الثاني أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما وهو مقابل الأول وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد وأبو ثور. والثالث أنهما يقضيان ويطعمان وبه قال الشافعي والقول الرابع أن الحامل تقضي ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم، وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض، فمن شبههما بالمريض قال: عليهما القضاء فقط، ومن شبههما بالذي يجهده الصوم قال عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} الآية. وأما من جمع عليهما الأمرين فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه المريض وعليهما الفدية من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام، ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح لكن يضعف هذا، فإن الصحيح لا يباح له الفطر. ومن فرق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى والله أعلم ممن جمع، كما أن من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط لكون القراءة غير متواترة، فتأمل هذا فإنه بين. وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا، واختلفوا في ما عليهما إذا أفطرا، فقال قوم: عليهما الإطعام. وقال قوم ليس عليهما إطعام، وبالأول قال الشافعي وأبو حنيفة، وبالثاني قال مالك إلا أنه استحبه. وأكثر من رأى الإطعام عليهما يقول مد عن كل يوم، وقيل إن حفن حفنات كما كان أنس يصنع أجزأه. وسبب اختلافهم اختلافهم في القراءة التي ذكرناها، أعني قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه} فمن أوجب العمل بالقراءة التي لم تثبت في المصحف إذا وردت من طريق الآحاد العدول قال: الشيخ منهم، ومن لم يوجب بها عملا جعل حكمه حكم المريض الذي يتمادى به المرض حتى الموت، فهذه هي أحكام الصنف من الناس الذين يجوز لهم الفطر، أعني أحكامهم المشهورة التي أكثرها منطوق به أو لها تعلق بالمنطوق به في الصنف الذي يجوز له الفطر. وأما النظر في أحكام الصنف الذي يجوز له الفطر إذا أفطر، فإن النظر في ذلك يتوجه إلى من يفطر بجماع وإلى من يفطر بغير جماع وإلى من يفطر بأمر متفق عليه وإلى من يفطر بأمر مختلف عليه، أعني بشبهة أو بغير شبهة، وكل واحد من هذين إما أن يكون على طريق السهو أو طريق العمد أو طريق الإختيار أو طريق الإكراه. أما من أفطر بجماع متعمدا في رمضان، فإن الجمهور على أن الواجب عليه القضاء والكفارة، لما ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال وقعت على إمرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر مني؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: إذهب فأطعمه أهلك" واختلفوا من ذلك في مواضع: منها هل الإفطار متعمدا بالأكل والشرب حكمه كلإفطار في الجماع في القضاء والكفارة أم لا؟ ومنها إذا جامع ساهيا ماذا عليه؟ ومنها ماذا على المرأة إذا لم تكن مكرهة؟ ومنها هل الكفارة واجبة فيه مترتبة أو على التخيير؟ ومنها كم المقدار الذي يجب أن يعطى كل مسكين إذا كفر بالإطعام؟ ومنها هل الكفارة متكررة بتكرر الجماع أم لا؟ ومنها إذا لزمه الإطعام وكان معسرا هل يلزمه الإطعام إذا أثرى أم لا؟ وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط، إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث، وأما أنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث، لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم، ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث، وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا وكذلك شذ قوم أيضا فقالوا: ليس عليه إلا الكفارة فقط إذ ليس في الحديث ذكر القضاء، والقضاء الواجب بالكتاب إنما هو لمن أفطر ممن يجوز له الفطر، أو ممن لا يجوز له الصوم على الاختلاف الذي قررناه قبل في ذلك، فأما من أفطر متعمدا فليس في إيجاب القضاء عليه نص فيلحق في قضاء المتعمد الخلاف الذي لحق في قضاء تارك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، إلا أن الخلاف في هاتين المسألتين شاذ. وأما الخلاف المشهور فهو في المسائل التي عددناها قبل.

(أما المسألة الأولى) وهي هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدا، فإن مالك وأصحابه وأبا حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة ذهبوا إلى أن من أفطر متعمدا بأكل أو شرب أن عليه القضاء والكفارة المذكورة في هذا الحديث. وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط. والسبب في اختلافهم اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع، فمن رأى أن شبههما فيه واحد وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما واحد. ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابا لإنتهاك الحرمة فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره، وذلك أن العقاب المقصود به الردع والعقاب الأكبر قد يوضع لما إليه النفس أميل وهو لها أغلب من الجنايات وإن كانت الجناية متقاربة إذ كان المقصود من ذلك إلتزام الناس بالشرائع، وأن يكونوا أخيارا عدولا كما قال تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} قال هذه الكفارة المغلظة خاصة بالجماع، وهذا إذا كان ممن يرى القياس. وأما من لا يرى القياس فأمره بين أنه ليس يعدى حكم الجماع إلى الأكل والشرب. وأما ما روى مالك في الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة المذكورة فليس بحجة لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به، لكن هذا قول على إن الراوي كان يرى أن الكفارة لموضع الإفطار، ولولا ذلك لما عبر بهذا اللفظ ولذكر النوع من الفطر الذي أفطر به.

(وأما المسألة الثانية) وهو إذا جامع ناسيا لصومه، فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان: لا قضاء عليه ولا كفارة. قال مالك: عليه القضاء دون الكفارة. وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة وسبب اختلافهم في قضاء الناسي معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس وأما القياس فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة، فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة. وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس فهو ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وهذا الأثر يشهد له عموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك هل عليه قضاء أم لا؟ وذلك أن هذا مخطئ، والمخطئ والناسي حكمهما واحد، فكيفما قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين والله أعلم. وذلك أنّا إن قلنا أن الأصل هو أن لا يلزم الناسي قضاء حتى يدل الدليل على ذلك وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم إذ لا دليل ههنا على ذلك بخلاف الأمر في الصلاة، وإن قلنا أن الأصل هو إيجاب القضاء حتى يدل الدليل على رفعه عن الناسي فقد دل الدليل في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي، اللهم إلا أن يقول قائل: إن الدليل الذي استثنى ناسي الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة، ولكن إيجاب القضاء فيه ضعف، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد. وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف، فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بيّن في الشرع والكفارة من أنواع العقوبات وإنما أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في الحديث أعني من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك عمدا ولا نسيانا، لكن من أوجب الكفارة على قاتل الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا مع أن النص إنما جاء في المتعمد، وقد كان يجب على أهل الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه وهو إيجاب الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على إيجابها على الناسي، أو يأخذوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" حتى يدل الدليل على التخصيص، ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله وليس في مجمل ما نقل من حديث الأعرابي حجة. ومن قال من أهل الأصول إن ترك التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة العموم في الأقوال فضعيف، فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل وإنما الإجمال في حقنا.

(وأما المسألة الثالثة) وهو اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع، فإن أبا حنيفة وأصحابه ومالكا وأصحابه أوجبوا عليها الكفارة، وقال الشافعي وداود: لا كفارة عليها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بالكفارة، والقياس أنها مثل الرجل إذ كان كلاهما مكلف.

(وأما المسألة الرابعه) وهي هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير، وأعني بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة، فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه بستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام. وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبه أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا" أنها على التخيير، إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب التخيير، وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب، إذ كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الإبتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس، لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وإنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مساكين} ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه، وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول.

(وأما المسألة الخامسة) وهو اختلافهم في مقدار الإطعام، فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يطعم لكل مسكين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ أقل من مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نصف صاع لكل مسكين. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. وأما القياس فتشبيه هذه الفدية بفدية الأذى المنصوص عليها. وأما الأثر فما روي في بعض طرق حديث الكفارة أن الفرق كان فيه خمسة عشر صاعا، لكن ليس يدل كونه فيه خمسة عشر صاعا على الواجب من ذلك لكل مسكين إلا دلالة ضعيفة، وإنما يدل على أن بدل الصيام في هذه الكفارة هو هذا القدر.

(وأما المسألة السادسة) وهي تكرر الكفارة بتكرر الإفطار فإنهم أجمعوا على أن من وطئ في يوم رمضان ثم كفر ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى، وأجمعوا على أنه من وطئ مرارا في يوم واحد أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان، فقال مالك والشافعي وجماعة: عليه لكل يوم كفارة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول. والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود، فمن شبهها بالحدود قال: كفارة واحدة تجزئ في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد، وإن زنى ألف مرة إذا لم يحد لواحدة منها. ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكما منفردا بنفسه في هتك الصوم فيه أوجب في كل يوم كفارة. قالوا: والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة. والحدود زجر محض.

(يتبع...)

@(تابع... 2): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ...

(وأما المسألة السابعة) وهي هل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب فإن الأوزاعي قال: لا شيء عليه إن كان معسرا. وأما الشافعي فتردد في ذلك. والسبب في اختلافهم في ذلك أنه حكم مسكوت عنه فيحتمل أن يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء، ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام، فهذه أحكام من أفطر متعمدا في رمضان مما أجمع على أنه مفطر. وأما من أفطر مما هو مختلف فيه، فإن بعض من أوجب فيه الفطر أوجب فيه القضاء والكفارة وبعضهم أوجب فيه القضاء فقط، مثل من رأى الفطر في الحجامة ومن الاستقاء، ومن بلع الحصاة، ومثل المسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس له أن يفطر في ذلك اليوم، فإن مالكا أوجب فيه القضاء والكفارة، وخالفه في ذلك سائر فقهاء الأمصار وجمهور أصحابه. وأما من أوجب القضاء والكفارة من الاستقاء فأبو ثور والأوزاعي وسائر من يرى أن الاستقاء مفطر لا يوجبون إلا القضاء فقط. والذي أوجب القضاء والكفارة في الإحتجام من القائلين بأن الحجامة تفطر هو عطاء وحده. وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء فيه اختلاف فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر. فمن غلب أحد الشبهين أوجب له ذلك الحكم وهذان الشبهان الموجودان فيه هما اللذان أوجبا فيه الخلاف، أعني هل هو مفطر أو غير مفطر، ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط، نزع أبو حنيفة إلى أنه من أفطر متعمدا للفطر ثم طرأ عليه في ذلك اليوم سبب مبيح للفطر أنه لا كفارة عليه كالمرأة تفطر عمدا ثم تحيض باقي النهار، وكالصحيح يفطر عمدا ثم يمرض والحاضر يفطر ثم يسافر، فمن اعتبر الأمر في نفسه أعني أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب عليهم الكفارة، وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد كشف له الغيب أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه، ومن اعتبر الاستهانه بالشرع أوجب عليه الكفارة، لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة، وهو مذهب مالك والشافعي. ومن هذا الباب إيجاب مالك القضاء فقط على من أكل وهو شاكّ في الفجر، وإيجابه القضاء والكفارة على من أكل وهو شاك في الغروب على ما تقدم من الفرق بينهما. واتفق الجمهور على أنه ليس في الفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة، لأنه ليس له حرمة زمان الأداء: أعني رمضان، إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب أن عليه يومين قياسا على الحج الفاسد. وأجمعوا على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" وقال "تسحروا فإن في السحور بركة" وقال عليه الصلاة والسلام "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وكذلك جمهورهم على أن من سنن الصوم ومرغباته كف اللسان عن الرفث والخنا لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الصوم جنة، فإذا أصبح أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" وذهب أهل الظاهر إلى أن الرفث يفطر وهو شاذ فهذه مشهورات ما يتعلق بالصوم المفروض من المسائل وبقي القول في الصوم المندوب إليه، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم.

*3*كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه.

@-والنظر في الصيام المندوب إليه هو في تلك الأركان الثلاثة وفي حكم الإفطار فيه. فأما الأيام التي يقع فيها الصوم المندوب إليه وهو الركن الأول، فإنها على ثلاثة أقسام: أيام مرغب فيها، وأيام منهى عنها، وأيام مسكوت عنها. ومن هذه ما هو مختلف فيه، ومنها ما هو متفق عليه. أما المرغب فيه المتفق عليه فصيام يوم عاشوراء. وأما المختلف فيه فصيام يوم عرفة وست من شوال والغرر من كل شهر، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. أما صيام يوم عاشوراء، فلأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وقال فيه "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" واختلفوا فيه هل هو التاسع أو العاشر. والسبب في ذلك اختلاف الآثار، خرج مسلم عن ابن عباس قال: إذا رأيت الهلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. وروي "أنه حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأتي العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما اختلافهم في يوم عرفة، فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أفطر يوم عرفة، وقال فيه "صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية" ولذلك اختلف الناس في ذلك، واختار الشافعي الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج جمعا بين الأثرين. وخرج أبو داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" وأما الست من شوال فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" إلا أن مالكا كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر، وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة، وثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام غير معينة، وأنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما أكثر الصيام: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال: فقلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: خمسا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: سبعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: تسعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: أحد عشر، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: لا صوم فوق صيام داود، شطر الدهر صيام يوم، وإفطار يوم"

وخرج أبو داود "أنه كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس" وثبت أنه لم يستتم قط شهرا بالصيام غير رمضان، وإن أكثر صيامه كان في شعبان. وأما الأيام المنهى عنها، فمنها أيضا متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما المتفق عليها فيوم الفطر ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما. وأما المختلف فيها فأيام التشريق ويوم الشك ويوم الجمعة ويوم السبت والنصف الآخر من شعبان وصيام الدهر. أما أيام التشريق فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها. وقوم أجازوا ذلك فيها. وقوم كرهوه، وبه قال مالك، إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج وهو المتمتع، وهذه الأيام هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر. والسبب في اختلافهم تردد قوله عليه الصلاة والسلام في "إنها أيام أكل وشرب" بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب، فمن حمله على الوجوب قال: الصوم يحرم، ومن حمله على الندب قال: الصوم مكروه، ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب، وهو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر" فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه. وأما يوم الجمعة فإن قوما لم يكرهوا صيامه، ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة، وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، فمنها حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال: وما رأيته يفطر يوم الجمعة" وهو حديث صحيح.

ومنها حديث جابر "أن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: نعم ورب هذا البيت" خرجه مسلم. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" خرجه أيضا مسلم، فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود، أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا، ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا، ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين، أعني حديث جابر وحديث ابن مسعود.

وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد إلا ما حكيناه عن ابن عمر، واختلفوا في تحري صيامه تطوعا، فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ومن أجازه فلأنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام صام شعبان كله، ولما قد روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه" وكان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض. وأما يوم السبت، فالسبت في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" خرجه أبو داود، قالوا: والحديث منسوخ، نسخة حديث جويرية بنت الحارث "أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: صمت أمس؟ فقالت: لا، فقال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري".

وأما صيام الدهر فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأسا، وعسى رأى النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض. وأما صيام النصف الآخر من شعبان، فإن قوما كرهوه، وقوما أجازوه، فمن كرهوه فلما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان" ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان" ولما روي عن ابن عمر قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن شعبان برمضان" وهذه الآثار خرجها الطحاوي. وأما الركن الثاني وهو النية فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع، وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم. وأما الركن الثالث وهو الإمساك عن المفطرات فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض، والاختلاف الذي هنالك لاحق ههنا. وأما حكم الإفطار في التطوع فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا، فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء.

والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي عليه الصلاة والسلام أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما الطعام فأفطرتا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقضيا يوما مكانه" وعارض هذا حديث أم هانئ قالت "لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه، قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعا" واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أنا خبأت لك خبئا، فقال: أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه" وحديث عائشة وحفصة غير مسند.

ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر، هو تردد الصوم التطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع، وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء. وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت، وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج، لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى، وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره، وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه، وقال ابن علية عليه القضاء قياسا على الحج، ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان، وحديث أم هانئ خرجه أبو داود، وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه، وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه.

بسم الله الرحمن الرحيم.

*2*كتاب الاعتكاف.

@-والاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفى شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه، إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم، وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة. فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان: قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب، وهو مذهب ابن القاسم. وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم، وعلى المذهب الأول لا، وهذا هو مذهب الثوري، والأول هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه، أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول، فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال: لا يجوز للمعتكف إلا الصلاة والقراءة. ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من اعتكف لا يرفث ولا يساب، وليشهد الجمعة والجنازة، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس. ذكره عبد الرزاق. وروي عن عائشة خلاف هذا، وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا، وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى. وأما المواضع التي يكون فيها الاعتكاف، فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة بيت الله الحرام وبيت المقدس ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب. وقال آخرون: الاعتكاف عام في كل مسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري، وهو مشهور مذهب مالك. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير مسجد، وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها.

وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه هو الاحتمال الذي في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} بين أن يكون له دليل خطاب أو لا يكون له؟ فمنن قال له دليل خطاب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد، وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة. ومن قال ليس له دليل خطاب قال: المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال: لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار، ولكن هو قول شاذ. والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه. وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له، فمن رجح العموم قال: في كل مسجد على ظاهر الآية. ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة، أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع فيه اعتكافه، ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة. وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر، وذلك "أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهم حين ضربن أخبيتهن فيه" فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الإعتكاف في بيتها أفضل قالوا وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة، وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر.

وأما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب، وإن كان كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان بل يجوز الدهر كله، إما مطلقا عند من لا يرى الصوم من شروطه، وإما ما عدا الأيام التي لا يجوز صومها عند من يرى الصوم من شروطه. وأما أقله فإنهم اختلفوا فيه، وكذلك اختلفوا في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف لاعتكافه وفي الوقت الذي يخرج فيه منه. أما أقل زمان الاعتكاف، فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له. واختلف عن مالك في ذلك فقيل ثلاثة أيام، وقيل يوم وليلة. وقال ابن القاسم عنه أقله عشرة أيام، وعند البغداديين من أصحابه أن العشرة استحباب وأن أقله يوم وليلة. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر؛ أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكاف ليلة، وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل.

وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من "أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره" ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر. وأما اختلافهم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف إلى اعتكافه إذا نذر أياما معدودة أو يوما واحدا، فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة اتفقوا على أنه من نذر اعتكاف شهر أنه يدخل المسجد قبل غروب الشمس. وأما من نذر أن يعتكف يوما فإن الشافعي قال: من أراد أن يعتكف يوما واحدا دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروبها. وأما مالك فقوله في اليوم والشهر واحد بعينه، وقال زفر والليث: يدخل قبل طلوع الفجر، واليوم والشهر عندهما سواء. وفرق أبو ثور بين نذر الليالي والأيام فقال: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام دخل قبل طلوع الفجر، وإذا نذر عشر ليالي دخل قبل غروبها. وقال الأوزاعي: يدخل في اعتكافه بعد صلاة الصبح. والسبب في اختلافهم معارضة الأقيسة بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لجميعها؛ وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال: يدخل قبل الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم يقع على الليل والنهار معا أوجب إن نذر يوما أن يدخل قبل غروب الشمس، ومن رأى أنه إنما ينطلق على النهار أوجب الدخول قبل طلوع الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم خاص بالنهار واسم الليل بالليل فرق بين أن ينذر أياما أو ليالي.

والحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردا، وقد يقال على الليل والنهار معا، لكن يشبه أن يكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم. وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرجه البخاري وغيره من أهل الصحيح عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي كان يعتكف فيه". وأما وقت خروجه، فإن مالكا رأى أن يخرج المعتكف العشر الأواخر من رمضان من المسجد إلى صلاة العيد على جهة الاستحباب، وأنه إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل يخرج بعد غروب الشمس. وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل صلاة العيد فس اعتكافه. وسبب الاختلاف هل الليلة الباقية هي من حكم العشر أم لا؟ وأما شروطه فثلاث: النية والصيام وترك مباشرة النساء. أما النية فلا أعلم فيها اختلافا. وأما الصيام فإنهم اختلفوا فيه؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنه لا اعتكاف إلا بالصوم. وقال الشافعي: الاعتكاف جائز بغير صوم، وبقول مالك قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس على خلاف عنه في ذلك، وبقول الشافعي قال علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع في رمضان فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه قالا: لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقا لا على أن ذلك كان مقصودا له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف قال: ليس الصوم من شرطه.

ولذلك أيضا سبب آخر وهو اقترانه في آية واحدة. وقد احتج الشافعي بحديث عمر المتقدم وهو أنه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتكف ليلة والليل ليس بمحل للصيام. واحتجت المالكية بما روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عروة عن عائشة أنها قالت: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا إلى ما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو عمر بن عبد البر: لم يقل أحد في حديث عائشة: هذه السنة إلا عبد الرحمن بن إسحق، ولا يصح هذا الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وإن كان الأمر هكذا بطل أن يجري مجرى المسند. وأما الشرط الثالث وهي المباشرة فإنهم أجمعوا على أن المعتكف إذا جامع عامدا بطل اعتكافه إلا ما روي عن ابن لبابة في غير المسجد، واختلفوا فيه إذا جامع ناسيا، واختلفوا في فساد الاعتكاف بما دون الجماع من القبلة واللمس، فرأى مالك أن جميع ذلك يفسد الاعتكاف. وقال أبو حنيفة: ليس في المباشرة فساد إلا أن ينزل، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك. والثاني مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم هل الاسم المتردد بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا؟ وهو أحد أنواع الاسم المشترك، فمن ذهب إلى أن له عموما قال: إن المباشرة في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ينطلق على الجماع وعلى ما دونه، ومن لم ير عموما وهو الأشهر الأكثر قال: يدل إما على الجماع وإما على ما دون الجماع، فإذا قلنا إنه يدل على الجماع بإجماع بطل أن يدل على غير الجماع، لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا، ومن أجرى الإنزال بمنزلة الوقاع فلأنه في معناه، ومن خالف فلأنه لا ينطلق عليه الاسم حقيقة، واختلفوا فيما يجب على المجامع فقال الجمهور: لا شيء عليه، وقال قوم: عليه كفارة، فبعضهم قال: كفارة المجامع في رمضان، وبه قال الحسن، وقال قوم: يتصدق بدينارين، وبه قال مجاهد، وقال قوم: يعتق رقبة، فإن لم يجد أهدى بدنة، فإن لم يجد تصدق بعشرين صاعا من تمر.

وأصل الخلاف هل يجوز القياس في الكفارة أم لا؟ والأظهر أنه لا يجوز، واختلفوا في مطلق النذر بالاعتكاف هل من شرطه التتابع أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: ذلك من شرطه. وقال الشافعي: ليس من شرطه ذلك. والسبب في اختلافهم قياسه على نذر الصوم المطلق. وأما موانع الاعتكاف، فاتفقوا على أنها ما عدا الأفعال التي هي أعمال المعتكف وأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة لما ثبت من حديث عائشة أنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" واختلفوا إذا خرج لغير حاجة متى ينقطع اعتكافه، فقال الشافعي: ينتقض اعتكافه عند أول خروجه وبعضهم رخص في الساعة، وبعضهم في اليوم، واختلفوا هل له أن يدخل بيتا غير بيت مسجده؟ فرخص فيه بعضهم وهم الأكثر مالك والشافعي وأبو حنيفة. ورأى بعضهم أن ذلك يبطل اعتكافه، وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك. وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد وتشبيه ما لم يتفقوا عليه بما اتفقوا عليه. واختلفوا أيضا هل للمعتكف أن يشترط فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه مثل ذلك أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك؟ فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي: ينفعه شرطه. والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبستني" لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له. واختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر، أو كان التتابع لازما، فمطلق النذر عند من يرى ذلك ما هي الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض، فإن منهم من قال: إذا قطع المرض الاعتكاف بنى المعتكف وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، ومنهم من قال: يستأنف الاعتكاف، وهو قول الثوري.

ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبنى، واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج، وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبنى أو ليس يبنى بل يستقل. والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع، فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه فيما اختلفوا فيه، أعني بما اتفقوا عليه في هذه العبادة، أو في العبادات التي من شرطها التتابع مثل صوم النهار وغيره. والجمهور على أن الاعتكاف المتطوع إذا قطع لغير عذر أنه يجب فيه القضاء لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف فاعتكف عشرا من شوال وأما الواجب بالنذر فلا خلاف في قضائه فيما أحسب، والجمهور على أن من أتى كبيرة انقطع اعتكافه، فهذه جملة ما رأينا أن نثبته في أصول هذا الباب وقواعده، والله الموفق والمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

*3*كتاب الحج.

@-بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس: الجنس الأول. يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة. الجنس الثاني: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة. الجنس الثالث: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة، وهي أحكام الأفعال، وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الثلاثة الأجناس.

*4*الجنس الأول.

@-وهذا الجنس يشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب ومتى يجب؟ فأما وجوبه فلا خلاف فيه لقوله سبحانه {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وأما شروط الوجوب فإن الشروط قسمان: شروط صحة، وشروط وجوب. فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم. واختلفوا في صحة وقوعه من الصبي، فذهب مالك والشافعي إلى جواز ذلك، ومنع منه أبو حنيفة. وسبب الخلاف معارضة الأثر في ذلك للأصول، وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث ابن عباس المشهور، وخرجه البخاري ومسلم. وفيه "أن المرأة رفعت إليه عليه الصلاة والسلام صبيا فقالت: ألهذ حج يا رسول الله؟ قال: نعم ولك أجر" ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل، وكذلك اختلف أصحاب مالك في صحة وقوعها من الطفل الرضيع، وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام "من السبع إلى العشر" وأما شروط الوجوب فيشترط فيها الإسلام على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة في ذلك لقوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا} وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف وهي بالجملة تتصور على نوعين: مباشرة ونيابة. فأما المباشر فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاع بالبدن والمال مع الأمن. واختلفوا في تفصيل الاستطاعة بالبدن والمال، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب إن من شرط ذلك الزاد والراحلة. وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه بل يجب عليه الحج، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ولو بالسؤال. والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها، وذلك أنه ورد أثر عنه عليه الصلاة والسلام "أنه سئل ما الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة" فحمل أبو حنيفة والشافعي ذلك على كل مكلف، وحمله مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه، وإنما اعتقد الشافعي هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا، فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير. وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطلعت مع العجز عن المباشرة، وعن الشافعي أنها تلزم فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه عنه غيره بماله وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب، وهو الذي لا يثبت على الراحلة، وكذلك عنده الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه. وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق ولا يزكي أحد عن أحد.

وأما الأثر المعارض لهذا فحديث ابن عباس المشهور، خرجه الشيخان، وفيه "أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم" وذلك في حجة الوداع، فهذا في الحي. وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضا خرجه البخاري قال "جاءت امرأة من جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت الحج فماتت أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟ دين الله أحق بالقضاء" ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضا. واختلفوا من هذا الباب في الذي يحج عن غيره سواء كان حيا أو ميتا هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس من شرطه، وإن كان قد أدى الفرض عن نفسه فذلك أفضل، وبه قال مالك فيمن يحج عن الميت، لأن الحج عنده عن الحي لا يقع. وذهب آخرون إلى أن من شرطه أن يكون قد قضى فريضة نفسه، وبه قال الشافعي وغيره أنه إن حج عن غيره من لم يقض فرض نفسه انقلب إلى فرض نفسه، وعمدة هؤلاء حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، قال: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قال قريب لي، قال: أفحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" والطائفة الأولى عللت هذا الحديث بأنه قد روي موقوفا على ابن عباس. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يؤاجر نفسه في الحج فكره ذلك مالك والشافعي وقالا: إن وقع ذلك جاز ولم يجز ذلك أبو حنيفة، وعمدته أنه قربة إلى الله عز وجل فلا تجوز الإجارة عليه، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف وبناء المساجد، وهي قربة. والإجارة في الحج عند مالك نوعان: أحدهما الذي يسميه أصحابه على البلاغ، وهو الذي يؤاجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه، وإن فضل عن ذلك شيء رده.

والثاني على سنة الإجارة وإن نقص شيء وفاه من عنده وإن فضل شيء فله. والجمهور على أن العبد لا يلزمه الحج حتى يعتق، وأوجبه عليه بعض أهل الظاهر، فهذه معرفة على من تجب هذه الفريضة وممن تقع. وأما متى تجب فإنهم اختلفوا هل هي على الفور أو على التراخي؟ والقولان متأولان على مالك وأصحابه، والظاهر عند المتأخرين من أصحابه أنها على التراخي وبالقول إنها على الفور قال البغداديون من أصحابه. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه، والمختار عندهم أنه على الفور. وقال الشافعي: هو على التوسعة، وعمدة من قال هو على التوسعة أن الحج فرض قبل حج النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، فلو كان على الفور لما أخره النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أخره لعذر لبينه، وحجة الفريق الثاني أنه لما كان مختصا بوقت كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت، أصله وقت الصلاة، والفرق عند الفريق الثاني بينه وبين الأمر بالصلاة أنه لا يتكرر وجوبه بتكرار الوقت، والصلاة يتكرر وجوبها بتكرار الوقت.

وبالجملة فمن شبه أول وقت من أوقات الحج الطارئة على المكلف المستطيع بأول الوقت من الصلاة قال: هو على التراخي، ومن شبهه بآخر الوقت من الصلاة قال: هو على الفور، ووجه شبهه بآخر الوقت أنه ينقضي بدخول وقت لا يجوز فيه فعله كما ينقضي وقت الصلاة بدخول وقت ليس يكون فيه المصلي مؤديا، ويحتج هؤلاء بالغرر الذي يلحق المكلف بتأخيره إلى عام آخر بما يغلب على الظن من مكان وقوع الموت في مدة من عام، ويرون أنه بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره، لأن الغالب أنه لا يموت أحد في مقدار ذلك الزمان إلا نادرا، وربما قالوا: إن التأخير في الصلاة يكون مع مصاحبة الوقت الذي يؤدي فيه الصلاة، والتأخير ههنا يكون مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة، فهو ليس يشبهه في هذا الأمر المطلق، وذلك أن الأمر عند من يقول إنه على التراخي ليس يؤدي التراخي فيه إلى دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور فيه كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف إلى قابل، فليس الاختلاف في هذه المسألة من باب اختلافهم في مطلق الأمر هل هو على الفور أو على التراخي كما قد يظن. واختلفوا من هذا الباب هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة.

وقال أبو حنيفة وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب. وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم. وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم" فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم، فقد قلنا في وجوب هذا النسك الذي هو الحج وبأي شيء يجب وعلى من يجب ومتى يجب؟ وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة، فإن قوما قالوا: إنه واجب، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي، وهو قول ابن عباس من الصحابة وابن عمر وجماعة من التابعين. وقال مالك وجماعة: هي سنة. وقال أبو حنيفة: هي تطوع، وبه قال أبو ثور وداود، فمن أوجبها احتج بقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} وبآثار مروية، منها ما روي عن ابن عمر عن أبيه قال "دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الإسلام يا رسول الله؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة" وذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه "لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باثنين حجة وعمرة فمن قضاها فقد قضى الفريضة" وروي عن زيد بن ثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت" وروي عن ابن عباس "العمرة واجبة" وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حجة الفريق الثاني، وهم الذين يرون أنها ليست واجبة، فالأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة مثل حديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس" فذكر الحج مفردا" ومثل حديث السائل عن الإسلام، فإن في بعض طرقه "وأن يحج البيت" وربما قالوا إن الأمر بالإتمام ليس يقتضي الوجوب، لأن هذا يخص السنن والفرائض أعني إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع، واحتج هؤلاء أيضا أعني من قال إنها سنة بآثار، منها حديث الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا ولأن تعتمر خير لك" قال أبو عمر بن عبد البر: وليس هو حجة فيما انفرد به، وربما احتج من قال إنها تطوع بما روي عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحج واجب والعمرة تطوع" وهو حديث منقطع. فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب، وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه.

*4*القول في الجنس الثاني.

@-وهو تعريف أفعال هذه العبادة في نوع نوع منها والتروك المشترطة فيها. وهذه العبادة كما قلنا صنفان: حج وعمرة، والحج على ثلاثة أصناف: إفراد وتمتع وقران، وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة في أمكنة محدودة وأوقات محدودة، ومنها فرض، ومنها غير فرض، وعلى تروك تشترط في تلك الأفعال وكل من هذه أحكام محدودة إما عند الإخلال بها، وإما عند الطوارئ المانعة منها، فهذا الجنس ينقسم أولا إلى القول في الأفعال وإلى القول في التروك. وأما الجنس الثالث فهو الذي يتضمن القول في الأحكام فلنبدأ بالأفعال، وهذه منها ما تشترك فيه هذه الأربعة الأنواع من النسك، أعني أصناف الحج الثلاث، والعمرة، ومنها ما يختص بواحد واحد منها، فلنبدأ من القول فيها بالمشترك ثم نصير إلى ما يخص واحدا واحدا منها، فنقول: إن الحج والعمرة أول أفعالهما الفعل الذي يسمى الإحرام.

*4*القول في شروط الإحرام.

@-والإحرام شروطه الأول المكان والزمان، أما المكان فهو الذي يسمى مواقيت الحج، فلنبدأ بهذا فنقول: إن العلماء بالجملة مجمعون على أن المواقيت التي منها يكون الإحرام، أما لأهل المدينة فذو الحليفة، وأما لأهل الشام فالجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره. واختلفوا في ميقات أهل العراق فقال جمهور فقهاء الأمصار ميقاتهم من ذات عرق. وقال الشافعي والثوري: إن أهلوا من العقيق كان أحب. واختلفوا فيمن أقته لهم فقالت طائفة: عمر ابن الخطاب. وقالت طائفة: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أقت لأهل العراق ذات عرق والعقيق. وروي ذلك من حديث جابر وابن عباس وعائشة. وجمهور العلماء على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها أن عليه دما، وهؤلاء منهم من قال: إن رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم ومنهم الشافعي. ومنهم من قال: لا يسقط عنه الدم وإن رجع، وبه قال مالك. وقال قوم: ليس عليه دم. وقال آخرون: إن لم يرجع إلى الميقات فسد حجه وأنه يرجع إلى الميقات فيهل منه بعمرة وهذا يذكر في الأحكام. وجمهور العلماء على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله. واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن أو من منزله إذا كان منزله خارجا منهن؟ فقال قوم: الأفضل له من منزله، والإحرام منها رخصة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وقال مالك وإسحاق وأحمد: إحرامه من المواقيت أفضل، وعمدة هؤلاء الأحاديث المتقدمة، وأنها السنة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أفضل. وعمدة الطائفة الأخرى أن الصحابة قد أحرمت من قبل الميقات ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وغيرهم قالوا: وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أن لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه. واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته، مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة ويحرموا من الجحفة، فقال قوم: عليه دم، وممن قال به مالك وبعض أصحابه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه شيء. وسبب الخلاف هل هو من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم الإحرام من مر بهذه المواقيت ممن أراد الحج أوالعمرة. وأما من لم يردهما ومر بهما فقال قوم: كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم، وبه قال مالك. وقال قوم: لا يلزم الإحرام بها إلا لمريد الحج أو العمرة، وهذا كله لمن ليس من أهل مكة. وأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج منها، أو بالعمرة يخرجون إلى الحل ولا بد. وأما متى يحرم بالحج أهل مكة فقيل إذا رأوا الهلال، وقيل إذا خرج الناس إلى منى فهذا هو ميقات المكان المشترط لأنواع هذه العبادة.

*4*القول في ميقات الزمان.

@-وأما ميقات الزمان فهو محدود أيضا في أنواع الحج الثلاث وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق. وقال مالك: الثلاثة الأشهر كلها محل للحج. وقال الشافعي: الشهران وتسع من ذي الحجة. وقال أبو حنيفة: عشر فقط، ودليل قول مالك عموم قوله سبحانه وتعالى {الحج أشهر معلومات} فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة أصله انطلاقه على جميع أيام شوال وذي القعدة. ودليل الفريق الثاني انقضاء الإحرام قبل تمام الشهر الثالث بانقضاء أفعاله الواجبة. وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، إن أحرم بالحج قبل أشهر الحج كرهه مالك ولكن صح إحرامه عنده. وقال غيره: لا يصح إحرامه. وقال الشافعي: ينعقد إحرامه إحرام عمرة، فمن شبهه بوقت الصلاة قال: يقع قبل الوقت، ومن اعتمد عموم قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} قال متى أحرم انعقد إحرامه لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الزمان بميقات العمرة. فأما مذهب الشافعي فهو مبني على أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في أيام رمضان، وهذا الأصل فيه اختلاف في المذهب. وأما العمرة فإن العلماء اتفقوا على جوازها في كل أوقات السنة لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وقال أبو حنيفة: تجوز في كل السنة إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها تكره. واختلفوا في تكريرها في السنة الواحدة مرارا، فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة، ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثا في السنة الواحدة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا كراهية في ذلك فهذا هو القول في شروط الإحرام الزمانية والمكانية. وينبغي بعد ذلك أن نصير إلى القول في الإحرام، وقبل ذلك ينبغي أن نقول في تروكه، ثم نقول بعد ذلك في الأفعال الخاصة بالمحرم إلى حين إحلاله وهي أفعال الحج كلها وتروكه، ثم نقول في أحكام الإخلال بالتروك والأفعال ولنبدأ بالتروك.

*4*القول في التروك.

@-وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال.

والأصل من هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب وأن هذا مخصوص بالرجال، أعني تحريم لبس المخيط، وأنه لا بأس للمرأة بلبس القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر. واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم قال: ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استثنى في لبس الخفين. وعمدة الطائفة الثانية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين. وقال أحمد: جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس. وقال عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد. واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي، وسنذكر هذا في الأحكام. وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر "لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس"

واختلفوا في المعصفر فقال مالك: ليس به بأس فإنه ليس بطيب. وقال أبو حنيفة والثوري: هو طيب وفيه الفدية، وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر" وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رءوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه" ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق". واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه، فروى مالك عن ابن عمر أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم، وإليه ذهب مالك. وروي عنه أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه مكانه افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين. وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص. واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال مالك: إن لبست المرأة القفازين افتدت، ورخص فيه الثوري، وهو مروي عن عائشة. والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن النقاب والقفازين وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر، وصححه بعض رواة الحديث، أعني رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس، وأصل الخلاف في هذا كله اختلافهم في قياس بعض المسكوت عنه على المنطوق به واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته، وأما الشيء الثاني من المتروكات فهو الطيب، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه.

واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما يبقى من أثره عليه بعد الإحرام، فكرهه قوم وأجازه آخرون، وممن كرهه مالك، ورواه عن عمر بن الخطاب، وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين. وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود، والحجة لمالك رحمه الله من جهة الأثر حديث صفوان ابن يعلى ثبت في الصحيحين، وفيه "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجبة مضمخة بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فأنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أفاق قال: أين السائل عن العمرة أنفا؟ فالتمس الرجل فأتى به، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك" اختصرت الحديث، وفقهه هو الذي ذكرت.

وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت "كنت أطيب رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" واعتل الفريق الأول بما روي عن عائشة أنها قالت {وقد بلغها إنكار ابن عمر تطيب المحرم قبل إحرامه} "يرحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرما" قالوا: وإذا طاف على نسائه اغتسل، فإنما يبقى عليه أثر ريح الطيب لا جرمة نفسه، قالوا: ولما كان الإجماع قد انعقد على أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم، مثل لبس الثياب وقتل الصيد لا يجوز له استصحابه وهو محرم، فوجب أن يكون الطيب كذلك. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا الحكم. وأما المتروك الثالث فهو مجامعة النساء، وذلك أنه أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم لقوله تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} . وأما الممنوع الرابع وهو إلقاء التفث وإزالة الشعر وقتل القمل، ولكن اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة، واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة، فقال الجمهور: لابأس بغسله رأسه.

وقال مالك: بكراهية ذلك، وعمدته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام. وعمدة الجمهور ما رواه مالك عن عبد الله بن جبير "أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فتطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لأنسان يصب عليه اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل" وكان عمر يغسل رأسه وهو محرم ويقول: "ما يزيده الماء إلا شعثا" رواه مالك في الموطأ، وحمل مالك حديث أبي أيوب على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث وهو الوسخ، والغاسل رأسه هو إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها. واتفقوا على منع غسله رأسه بالخطمى. وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى. وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. واختلفوا في الحمام فكان مالك يكره ذلك، ويرى أن على من دخله الفدية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وداود: لابأس بذلك. وروي عن ابن عباس دخول الحمام وهو محرم من طريقين، والأحسن أن يكره دخوله لأن المحرم منهي عن إلقاء التفث. وأما المحظور الخامس فهو الاصطياد، وذلك أيضا مجمع عليه لقوله سبحانه وتعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وقوله تعالى {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وأجمعوا على أنه لا يجوز له صيده ولا أكل ما صاد هو منه، واختلفوا إذا صاده حلال هل يجوز للمحرم أكله؟ على ثلاثة أقوال: قول إنه يجوز له أكله على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول عمر ابن الخطاب والزبير.

وقال قوم: هو محرم عليه على كل حال وهو قول ابن عباس وعلي وابن عمر، وبه قال الثوري. وقال مالك: ما لم يصد من أجل المحرم أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صيد من أجل محرم فهو حرام على المحرم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، فأحدها ما خرجه مالك من حديث أبي قتادة : أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا ببعض طرق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وجاء أيضا في معناه حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي أن عبد الرحمن التميمي قال: كنا مع طلحة ابن عبيد الله ونحن محرمون، فأهدى له ظبي وهو راقد، فأكل بعضنا، فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث الثاني حديث ابن عباس خرجه أيضا مالك "أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وللاختلاف سبب آخر، وهو هل يتعلق النهي عن الأكل بشرط القتل، أو يتعلق بكل واحد منهما النهي عن الانفراد؟ فمن أخذ بحديث أبي قتادة قال: إن النهي إنما يتعلق بالأكل مع القتل، ومن أخذ بحديث ابن عباس قال: النهي يتعلق بكل واحد منهما على انفراده، فمن ذهب في هذه الأحاديث مذهب الترجيح قال: إما بحديث أبي قتادة، وإما بحديث ابن عباس، ومن جمع بين الأحاديث قال بالقول الثالث قالوا: والجمع أولى، وأكدوا ذلك بما روي عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم"

واختلفوا في المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم؟ فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وزفر وجماعة: إذا اضطر أكل الميتة ولحم الخنزير دون الصيد. وقال أبو يوسف: يصيد ويأكل وعليه الجزاء، والأول أحسن للذريعة. وقال أبو يوسف: أقيس لأن تلك محرمة لعينها والصيد محرم لغرض من الأغراض، وما حرم لعلة أخف مما حرم لعينه، وما هو محرم لعينه أغلظ، فهذه الخمسة اتفق المسلمون على أنها من محظورات الإحرام،

واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن نكح فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي بن أبي طالب وابن عمر وزيد ابن ثابت. وقال أبو حنيفة والثوري: لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فأحدها ما رواه مالك من حديث عثمان ابن عفان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" والحديث المعارض لهذا حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم" خرجه أهل الصحاح إلا أنه عارضته آثار كثيرة عن ميمونة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال" رويت عنها من طرق شتى عن أبي رافع وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن زيد بن الأصم، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الواحد على الكراهية والثاني على الجواز، فهذه هي مشهورات ما يحرم على المحرم، وأما متى يحل فسنذكره عند ذكرنا أفعال الحج، وذلك أن المعتمر يحل إذا طاف وسعى وحلق. واختلفوا في الحاج على ما سيأتي بعد، وإذ قد قلنا في تروك المحرم فلنقل في أفعاله:

*4*القول في أنواع هذا النسك.

@-والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة أو محرم بحج فرد، أو جامع بين الحج والعمرة، وهذان ضربان: إما متمتع، وإما قارن، فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها، وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص، وكذلك نفعل فيما يعد الإحرام من أفعال الحج إن شاء الله تعالى.

*4*القول في شرح أنواع هذه المناسك.

@-فنقول: إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران، فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع، ثم نردف ذلك بصفة القران.

*4*القول في التمتع.

@-فنقول: إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعنى بقوله سبحانه {فمن تمتع بالعمرة إلى حج فما استيسر من الهدى} هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم، ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها، ثم يحل بمكة، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج: أي عليه هدى المتمتع المنصوص عليه في قوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة. وقال طاوس: من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع. واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع. واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع؟ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله تعالى {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو، فقال مالك: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى، وما كان مثل ذلك من مكة. وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة. وقال الشافعي بمصر: من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت. وقال أهل الظاهر: من كان ساكن الحرم. وقال الثوري: هم أهل مكة فقط. وأبو حنيفة يقول: إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع، وكره ذلك مالك. وسبب الاختلاف اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر، ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم فهذا هو نوع التمتع المشهور، ومعنى التمتع أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج، وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما: أحدهما فسخ الحج في عمرة، وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة، فجمهور العلماء يكرهون ذلك من الصدر الأول وفقهاء الأمصار.

وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك، وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة، وبهذا تمسك أهل الظاهر، والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال ابن الحارث المدني عن أبيه قال "قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: لنا خاصة" وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم. وروي عن عمر أنه قال "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج" وروي عن عثمان أنه قال: متعة الحج كانت لنا وليست لكم. وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} . والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل الدليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص. فسبب الاختلاف هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص. وأما النوع الثاني من التمتع فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو، وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل، ثم يحج ويهدي، وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا. وشذ طاوس أيضا فقال: إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي. واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع، وإن كان في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري، إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال، وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا، وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا أعني أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال. وقال أبو ثور: إذا دخل العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا.

وسبب الاختلاف هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم بإيقاع الطواف معه؟ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره فأبو ثور يقول: لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج، لأن بالإحرام تنعقد العمرة. والشافعي يقول: الطواف هو أعظم أركانها، فوجب أن يكون به متمتعا؛ فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها، وشروط التمتع عند مالك ستة: أحدها أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد. والثاني أن يكون ذلك في عام واحد. والثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج. والرابع أن يقدم العمرة على الحج. والخامس أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها. والسادس أن يكون وطنه غير مكة، فهذه هي صورة التمتع والاختلاف المشهور فيه والاتفاق.

*4*القول في القارن.

@-وأما القران فهو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج، ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يهل من العمرة. واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون له فيه، فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطا واحدا، وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن، والقارن الذي يلزمه هدي المتمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام، إلا ابن الماجشون من أصحاب مالك، فإن القارن من أهل مكة عنده عليه الهدي. وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات، وهو أن لا يكون متمتعا ولا قارنا بل أن يهل بالحج فقط. وقد اختلف العلماء أي أفضل هل الإفراد أو القران أو التمتع؟. والسبب في اختلافهم اختلافهم فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا وروي أنه تمتع وروي عنه أنه كان قارنا فاختار مالك الإفراد، واعتمد في ذلك على ما روي عن عائشة أنها قالت "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج" ورواه عن عائشة من طرق كثيرة قال أبو عمر بن عبد البر: وروى الإفراد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر. والذين رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا احتجوا بما رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال "تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة" وهو مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس وابن الزبير. واختلف عن عائشة في التمتع والإفراد. واعتمد من رأى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا أحاديث كثيرة، منها حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي العقيق "أتاني الليلة آت من ربي فقال: أهل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" خرجه البخاري، وحديث مروان ابن الحكم قال "شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد" خرجه البخاري، وحديث أنس خرجه البخاري أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لبيك عمرة وحجة" وحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" واحتجوا فقالوا: ومعلوم أنه كان معه صلى الله عليه وسلم هدي، ويبعد أن يأمر بالقران من معه هدي ويكون معه هدي ولا يكون قارنا. وحديث مالك أيضا عن نافع عن عمر عن حفصة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي" وقال أحمد: لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا، والتمتع أحب إلي، واحتج في اختياره التمتع بقوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" واحتج من طريق المعنى من رأى أن الإفراد الأفضل أن التمتع والقران رخصة ولذلك وجب فيهما الدم. وإذ قلنا في وجوب هذا النسك وعلى من يجب وما شروط وجوبه ومتى يجب وفي أي وقت يجب ومن أي مكان يجب وقلنا بعد ذلك فيما يجتنبه المحرم بما هو محرم، ثم قلنا أيضا في أنواع هذا النسك يجب أن نقول في أول أفعال الحاج أو المعتمر وهو الإحرام.

*4*القول في الإحرام.

@-واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار: إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة. وقال أهل الظاهر: هو واجب. وقال أبو حنيفة والثوري: يجزئ منه الوضوء وحجة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بيت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرها فلتغتسل ثم لتهل" والأمر عندهم على الوجوب وعمدة الجمهور أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية يوم عرفة، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم، واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية؟ فقال مالك والشافعي: تجزئ النية من غير التلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم. واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصح سندا. واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا؟ فقال أهل الظاهر: هي واجبة بهذا اللفظ، ولا خلاف عند الجمهور في استحباب هذا اللفظ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال" وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول. وقال مالك: لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما. واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق وعند الإطلال على شرف من الأرض. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم. وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ويرى على تاركها دما، وكان غيره يراها من أركانه. وحجة من رآها واجبة أن أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم" وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط. ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال "أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر. وقال في حديثه "والناس يزيدون على ذلك "لبيك ذا المعارج" ونحوه من الكلام والنبي يسمع ولا يقول شيئا وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره. واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام ابن عروة، عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل". واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجته من أقطار ذي الحليفة، فقال قوم: من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه، وقال آخرون: إنما أحرم حين أطل على البيداء، وقال قوم: إنما أهل حين استوت به راحلته. وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال: كل حدث لا عن أول إهلاله عليه الصلاة والسلام بل عن أول إهلال سمعه، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف، ويكون الإهلال إثر الصلاة. وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية، فأجابه ابن عمر: أما الإهلال "فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته" يريد حتى يتصل له عمل الحج. وروى مالك أن عمر ابن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال. ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج، أعني لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل. وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم: يجزيه وعليه دم، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم. وقال آخرون: لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب.

@-(وأما متى يقطع المحرم التلبية) فإنهم اختلفوا في ذلك، فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة. وقال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة. قال أبو عمر بن عبد البر: واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة. وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حيى: إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها، فقال قوم: إذا رماها بأسرها لما روي عن ابن عباس "أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة وقطع التلبية في آخر حصاة" وقال قوم: بل يقطعها في أول جمرة يلقيها روي ذلك عن ابن مسعود. وروى في وقت قطع التلبية بأقاويل غير هذه إلا أن هذين القولين هما المشهوران. واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة، وقال مالك: يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا افتتح الطواف، وسلف مالك في ذلك ابن عمر وعروة، وعمدة الشافعي أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل. وسبب الخلاف معارضة القياس لفعل بعض الصحابة وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة على الحج. وقال أبو ثور: لا يدخل حج على عمرة ولا عمرة على حج كما لا تدخل صلاة على صلاة، فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج. وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف:

*4*القول في الطواف بالبيت والكلام في الطواف: في صفته وشروطه وحكمه في الوجوب أو الندب وفي إعداده.

@-القول في الصفة.

والجمهور مجمعون على أن صفة كل طواف واجبا كان أو غير واجب أن يبتدئ من الحجر الأسود، فإن استطاع أن يقبله قبله أو يلمسه بيده ويقبلها إن أمكنه، ثم يجعل البيت على يساره ويمضي على يمينه، فيطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأشواط الأول ثم يمشي في الأربعة، وذلك في طواف القدوم على مكة وذلك للحاج والمعتمر دون المتمتع، وأنه لا رمل على النساء، ويستلم الركن اليماني وهو الذي على قطر الركن الأسود لثبوت هذه الصفة من فعله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم هل هو سنة أو فضيلة؟ فقال ابن عباس: هو سنة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحق وأحمد وأبو ثور. واختلف قول مالك في ذلك وأصحابه. والفرق بين القولين أن من جعله سنة أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله سنة لم يوجب في تركه شيئا. واحتج من لم ير الرمل سنة بحديث ابن الطفيل عن ابن عباس قال: قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت رمل وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قال: قلت ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا "رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طاف بالبيت، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالوا: إن به وبأصحابه هزالا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: ارملوا أروهم أن بكم قوة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى" وحجة الجمهور حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأشواط في حجة الوداع ومشى أربعا" وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره قالوا: وقد اختلف على أبي الطفيل عن ابن عباس فروي عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود" وذلك بخلاف الرواية الأولى، وعلى أصول الظاهرية يجب الرمل لقوله "خذوا عني مناسككم" وهو قولهم أو قول بعضهم الآن فيما أظن. وأجمعوا على أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم. واختلفوا في أهل مكة هل عليهم إذا حجوا رمل أم لا؟ فقال الشافعي: كل طواف قبل عرفة مما يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه، وكان مالك يستحب ذلك وكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت على ما روى عنه مالك. وسبب الخلاف هل الرمل كان لعلة أو لغير علة؟ وهل هو مختص بالمسافر أم لا؟ وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام حين رمل واردا على مكة. واتفقوا على أن من سنة الطواف استلام الركنين الأسود واليماني للرجال دون النساء. واختلفوا هل تستلم الأركان كلها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يستلم الركنان فقط لحديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلا الركنين فقط" واحتج من رأى استلام جميعها بما روي عن جابر قال: كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها، وكان بعض السلف لا يحب أن يستلم الركنين إلا في الوتر من الأشواط. وكذلك أجمعوا على أن تقبيل الحجر الأسود خاصة من سنن الطواف إن قدر، وإن لم يقدر على الدخول إليه قبل يده، وذلك لحديث عمر بن الخطاب الذي رواه مالك أنه قال وهو يطوف بالبيت حين بلغ الحجر الأسود "إنما أنت حجر ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك، ثم قبله" وأجمعوا على أن من سنة الطواف ركعتين بعد انقضاء الطواف، وجمهورهم على أنه يأتي بها الطائف عند انقضاء كل أسبوع إن طاف أكثر من أسبوع واحد. وأجاز بعض السلف أن لا يفرق بين الأسابيع وأن لا يفصل بينهما ركوع ثم يركع لكل أسبوع ركعتين، وهو مروي عن عائشة أنها كانت لا تفرق بين ثلاثة الأسابيع ثم تركع ست ركعات. وحجة الجمهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين، وقال: خذوا عني مناسككم" وحجة من أجاز الجمع أنه قال: المقصود إنما هو ركعتان لكل أسبوع، والطواف ليس له وقت معلوم ولا الركعتان المسنونتان بعده، فجاز الجمع بين أكثر من ركعتين لأكثر من أسبوعين، وإنما استحب من يرى أن يفرق بين ثلاثة الأسابيع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إلى الركعتين بعد وتر من طوافه، ومن طاف أسابيع غير وتر ثم عاد إليها لم ينصرف عن وتر من طوافه.

@-القول في شروطه.

وأما شروطه فإن منها حد موضعه، وجمهور العلماء على أن الحجر من البيت، وأن من طاف بالبيت لزمه إدخال الحجر فيه، وأنه شرط في صحة طواف الإفاضة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو سنة. وحجة الجمهور ما رواه مالك عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم" فإنهم تركوا منها سبعة أذرع من الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب، وهو قول ابن عباس، وكان يحتج بقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} ثم يقول طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وحجة أبي حنيفة ظاهر الآية. وأما وقت جوازه فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها إجازة الطواف بعد الصبح والعصر، ومنعه وقت الطلوع والغروب، وهو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري، وبه قال مالك وأصحابه وجماعة. والقول الثاني كراهيته بعد الصبح والعصر، ومنعه عند الطلوع والغروب، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة. والقول الثالث إباحة ذلك في هذه الأوقات كلها، وبه قال الشافعي وجماعة، وأصول أدلتهم راجعة إلى منع الصلاة في هذه الأوقات أو إباحتها. أما وقت الطلوع والغروب فالأثار متفقة على منع الصلاة فيها والطواف هل هو ملحق بالصلاة؟ في ذلك الخلاف. ومما احتجت به الشافعية حديث جبير بن مطعم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "يا بني عبد مناف أو يا بني عبد المطلب إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أن يصلي فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينة بسنده إلى جبير بن مطعم. واختلفوا في جواز الطواف بغير طهارة مع إجماعهم على أن من سنته الطهارة، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ طواف بغير طهارة لا عمدا ولا سهوا. وقال أبو حنيفة: يجزئ ويستحب له الإعادة وعليه دم. وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم، والشافعي يشترط طهارة ثوب الطائف كاشتراط ذلك للمصلي. وعمدة من شرط الطهارة في الطواف قوله صلى الله عليه وسلم للحائض وهي أسماء بنت عميس "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وهو حديث صحيح، وقد يحتجون أيضا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق فلا ينطق إلا بخير" وعمدة من أجاز الطواف بغير طهارة إجماع العلماء على جواز السعي بين الصفا والمروة من غير طهارة، وأنه ليس كل عبادة يشترط فيها الطهر من الحيض من شرطها الطهر من الحدث أصله الصوم.

@-القول في أعداده وأحكامه.

وأما أعداده، فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعنى بقوله تعالى {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر. وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد. وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة لأنه طواف بالبيت معمول في وقت طواف الوجوب الذي هو طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج لا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة، على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم. وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين طوافا للعمرة لحله منها وطوافا للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور. وأما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر. واختلفوا في القارن فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا، فهذا هو القول في وجوب هذا الفعل وصفته وشروطه وعدده ووقته وصفته، والذي يتلو هذا الفعل من أفعال الحج أعني طواف القدوم هو السعي بين الصفا والمروة وهو الفعل الثالث للإحرام فلنقل فيه:

*4*القول في السعي بين الصفا والمروة.

@-والقول في السعي في حكمه وفي صفته وفي شروطه وفي ترتيبه.

@-القول في حكمه.

أما حكمه؛ فقال مالك والشافعي: هو واجب، وإن لم يسع كان عليه حج قابل، وبه قال أحمد وإسحق. وقال الكوفيون: هو سنة، وإذا رجع إلى بلاده ولم يسع كان عليه دم. وقال بعضهم: هو تطوع ولا شيء على تاركه؛ فعمدة من أوجبه ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى ويقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" روى هذا الحديث الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، وأيضا فإن الأصل أن أفعاله عليه الصلاة والسلام في هذه العبادة محمولة على الوجوب، إلا ما أخرجه الدليل من سماع أو إجماع أو قياس عند أصحاب القياس. وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قالوا: إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود، وكما قال سبحانه {. يبين الله لكم أن تضلوا} معناه: أي لئلا تضلوا، وضعفوا حديث ابن المؤمل. وقالت عائشة: الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين، وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام، فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم، وإنما صار الجمهور إلى أنها من أفعال الحج لأنها صفة فعله صلى الله عليه وسلم تواترت بذلك الآثار، أعني وصل السعي بالطواف.

@-القول في صفته.

وأما صفته فإن جمهور العلماء على أن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء، فيمشي على جبلته حتى يبلغ بطن المسيل فيرمل فيه حتى يقطعه إلى ما يلي المروة، فإذا انقطع ذلك وجاوزه مشى على سجيته حتى يأتي المروة فيرقي عليها حتى يبدو له البيت ثم يقول عليها نحوا مما قاله من الدعاء والتكبير على الصفا، وإن وقف أسفل المروة أجزأه عند جميعهم، ثم ينزل عن المروة فيمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل فإذا انتهى إليه رمل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يلي الصفا، يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغي ذلك الشوط لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "نبدأ بما بدأ الله به: نبدأ بالصفا" يريد قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقال عطاء إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه. وأجمعوا على أنه ليس في وقت السعي قول محدود فإنه موضع دعاء. وثبت من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يصنع ذلك ثلاث مرات، ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك".

@-القول في شروطه.

وأما شروطه فإنهم اتفقوا على أن من شرطه الطهارة من الحيض كالطواف سواء لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة "افعلي كل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تسعي بين الصفا والمروة" انفرد بهذه الزيادة يحيى عن مالك دون من روى عنه هذا الحديث، ولا خلاف بينهم أن الطهارة ليست من شروطه إلا الحسن فإنه شبهه بالطواف.

@-القول في ترتيبه.

وأما ترتيبه فإن جمهور العلماء اتفقوا على أن السعي إنما يكون بعد الطواف، وأن من سعى قبل أن يطوف بالبيت يرجع فيطوف وإن خرج عن مكة، فإن جهل ذلك حتى أصاب النساء في العمرة أو في الحج كان عليه حج قابل والهدي أو عمرة أخرى. وقال الثوري: إن فعل ذلك فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إذا خرج من مكة فليس عليه أن يعود وعليه دم. فهذا هو القول في حكم السعي وصفته وشروطه المشهورة وترتيبه.

*4*الخروج إلى عرفة.

@-وأما الفعل الذي يلي هذا الفعل للحاج، فهو الخروج يوم التروية إلى منى والمبيت بها ليلة عرفة. واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء بها مقصورة، إلا أنهم أجمعوا على أن هذا الفعل ليس شرطا في صحة الحج لمن ضاق عليه الوقت، ثم إذا كان يوم عرفة مشى الإمام مع الناس من منى إلى عرفة ووقفوا بها.

@-الوقوف بعرفة.

والقول في هذا الفعل ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي شروطه. أما حكم الوقوف بعرفة فإنهم أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج، وأن من فاته فعليه حج قابل والهدي في قول أكثرهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" وأما صفته فهو أن يصل الإمام إلى عرفة يوم عرفة قبل الزوال، فإذا زالت الشمس خطب الناس ثم جمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر ثم وقف حتى تغيب الشمس. وإنما اتفقوا على هذا لأن هذه الصفة هي مجمع عليها من فعله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف بينهم أن إقامة الحج هي للسلطان الأعظم أو لمن يقيمه السلطان الأعظم لذلك وأنه يصلي وراءه برا كان السلطان أو فاجرا أو مبتدعا، وأن السنة في ذلك أن يأتي المسجد بعرفة يوم عرفة مع الناس، فإذا زالت الشمس خطب الناس كما قلنا وجمع بين الظهر والعصر. واختلفوا في وقت أذان المؤذن بعرفة للظهر والعصر، فقال مالك: يخطب الإمام حتى يمضي صدرا من خطبته أو بعضها، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب. وقال الشافعي: يؤذن إذا أخذ الإمام في الخطبة الثانية. وقال أبو حنيفة: إذا صعد الإمام المنبر أمر المؤذن بالأذان فأذن كالحال في الجمعة، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام يخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة، وبه قال أبو ثور تشبيها بالجمعة. وقد حكى ابن نافع عن مالك أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة وفي حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له وأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم راح إلى الموقف" واختلفوا هل يجمع بين هاتين الصلاتين بأذانين وإقامتين أو بأذان واحد وإقامتين فقال مالك: يجمع بينهما بأذانين وإقامتين. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين. وروي عن مالك مثل قولهم. وروي عن أحمد أنه يجمع بينهما بإقامتين، والحجة للشافعي حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام وفيه "أنه صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين كما قلنا" وقول مالك مروي عن ابن مسعود، وحجته أن الأصل هو أن تفرد كل صلاة بأذان وإقامة، ولا خلاف بين العلماء أن الإمام لو لم يخطب يوم عرفة قبل الظهر أن صلاته جائزة بخلاف الجمعة، وكذلك أجمعوا أن القراءة في هذه الصلاة سرا، وأنها مقصورة إذا كان الإمام مسافرا. واختلفوا إذا كان الإمام مكيا هل يقصر بمنى الصلاة يوم التروية وبعرفة يوم عرفة وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء كان من أهلها أو لم يكن. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر من كان من أهل تلك المواضع، وحجة مالك أنه لم يرو أن أحدا أتم الصلاة معه صلى الله عليه وسلم أعني بعد سلامه منها. وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص. واختلف العلماء في وجوب الجمعة بعرفة ومنى، فقال مالك: لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى إلا أيام الحج لا لأهل مكة ولا لغيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة. وقال الشافعي مثل ذلك، إلا أنه يشترط في وجوب الجمعة أن يكون هنالك من أهل عرفة أربعون رجلا على مذهبه في اشتراط هذا العدد في الجمعة. وقال أبو حنيفة: إذا كان أمير الحج ممن لا يقصر الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيها الجمعة إذا صادفها. وقال أحمد: إذا كان والي مكة يجمع بهم. وبه قال أبو ثور.

@-(وأما شروطه) فهو الوقوف بعرفة بعد الصلاة، وذلك أنه لم يختلف العلماء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى الظهر والعصر بعرفة ارتفع فوقف بجبالها داعيا إلى الله تعالى ووقف معه كل من حضر إلى غروب الشمس، وأنه لما استيقن غروبها وبان له ذلك دفع منها إلى المزدلفة" ولا خلاف بينهم أن هذا هو سنة الوقوف بعرفة، وأجمعوا على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك، وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج. وروي عن عبد الله بن معمر الديلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الحج عرفات، فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهو حديث انفرد به هذا الرجل من الصحابة إلا أنه مجمع عليه. واختلفوا فيمن وقف بعرفة بعد الزوال ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فقال مالك: عليه حج قابل إلا أن يرجع قبل الفجر، وإن دفع منها قبل الإمام وبعد الغيبوبة أجزأه. وبالجملة فشرط صحة الوقوف عنده هو أن يقف ليلا. وقال جمهور العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل الغروب، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه، وعمدة الجمهور حديث عروة بن مضرس، وهو حديث مجمع على صحته قال "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع فقلت له: هل لي من حج؟ فقال: من صلى هذه الصلاة معنا ووقف هذا الموقف حتى نفيض أو أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وأجمعوا على أن المراد بقوله في هذا الحديث نهارا أنه بعد الزوال، ومن اشترط الليل احتج بوقوفه بعرفة صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس، لكن للجمهور أن يقولوا إن وقوفه بعرفة إلى المغيب قد نبأ حديث عروة بن مضرس أنه على جهة الأفضل إذ كان مخيرا بين ذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة منحر ومبيت" واختلف العلماء فيمن وقف من عرفة بعرنة فقيل حجه تام وعليه دم، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا حج له. وعمدة من أبطل الحج النهي الوارد عن ذلك في الحديث. وعمدة من لم يبطله أن الأصل أن الوقوف بكل عرفة جائز إلا ما قام عليه الدليل، وقالوا: ولم يأت هذا الحديث من وجه تلزم به الحجة والخروج عن الأصل، فهذا هو القول في السنن التي في يوم عرفة. وأما الفعل الذي يلي الوقوف بعرفة من أفعال الحج فهو النهوض إلى المزدلفة بعد غيبة الشمس وما يفعل بها فلنقل فيه.

*4*القول في أفعال المزدلفة.

@-والقول الجملي أيضا في هذا الموضع ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي وقته. فأما كون هذا الفعل من أركان الحج فالأصل فيه قوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} وأجمعوا على أن من بات المزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح إلى الأسفار بعد الوقوف بعرفة أن حجه تام، وأن ذلك الصفة التي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح، والمبيت بها من سنن الحج أو من فروضه، فقال الأوزاعي وجماعة من التابعين: هو فرض من فروض الحج، ومن فاته كان عليه حج قابل والهدي، وفقهاء الأمصار يرون أنه ليس من فروض الحج، وأن من فاته الوقوف بالمزدلفة والمبيت بها فعليه دم. وقال الشافعي: إن دفع منها إلى بعد نصف الليل الأول ولم يصل بها فعليه دم، وعمدة الجمهور ما صح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله ليلا فلم يشاهدوا معه صلاة الصبح بها، وعمدة الفريق الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس وهو حديث متفق على صحته "من أدرك معنا هذه الصلاة: يعني صلاة الصبح بجمع، وكان قد أتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وقوله تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} . ومن حجة الفريق الأول أن المسلمين قد أجمعوا على ترك الأخذ بجميع ما في هذا الحديث، وذلك أن أكثرهم على أن من وقف بالمزدلفة ليلا ودفع منها إلى قبل الصبح أن حجه تام، وكذلك من بات فيها ونام عن الصلاة وكذلك أجمعوا على أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، وفي ذلك أيضا ما يضعف احتجاجهم بظاهر الآية، والمزدلفة وجمع هما اسمان لهذا الموضع وسنة الحج فيها كما قلنا أن يبيت الناس بها ويجمعون بين المغرب والعشاء في أول وقت العشاء ويغلسوا بالصبح فيها.

*4*القول في رمي الجمار.

@-وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالمشعر الحرام وهي المزدلفة بعد ما صلى الفجر ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى، وأنه في هذا اليوم وهو يوم النحر رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس" وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت: أعني بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها، وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها.

واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، فقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز ذلك، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد.

وقال الشافعي: لا بأس به وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس، فحجة منع ذلك فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله "خذوا عني مناسككم" وما روي عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".

وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث أم سلمة خرجه أبو داود وغيره وهو "أن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة يوم النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها.

وحديث أسماء أنه رمت الجمرة بليل وقالت: إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال، وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له أن يريق دما.

واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم.

وقال أبو حنيفة: إن رمى من الليل فلا شيء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم.

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد، وحجتهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك: أعني أن يرموا ليلا" وفي حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له السائل: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت، قال له: لا حرج" وعمدة مالك أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السنة، ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم، على ما روي عن ابن عباس وأخذ به الجمهور.

وقال مالك: ومعنى الرخصة للرعاة إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده، فإن نفروا فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الأخير ونفروا، ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء هو جمع يومين في يوم واحد، إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب مثل أن يجمع في الثالث فيرمي عن الثاني والثالث، لأنه لا يقضي عنده إلا ما وجب، ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم، سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ولم يشبهوه بالقضاء، وثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى في حجته الجمرة يوم النحر، ثم نحر بدنة، ثم حلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة" وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج.

واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي صلى الله عليه وسلم أو بالعكس، فقال مالك: من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية.

وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: لا شيء عليه.

وعمدتهم ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بمنى والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنحر ولا حرج، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال عليه الصلاة والسلام: إرم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن شيء قُدِمَ أو أُخِرَ إلا قال: إفعل ولا حرج".

وروى هذا من طريق ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعمدة مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة، مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار، وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه وكذلك من ذبح قبل أن يرمي.

وقال أبو حنيفة: إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم، وإن كان قارنا فعليه دمان، وقال زفر: عليه ثلاث دماء دم للقران ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي.

وأجمعوا على أن من نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه، إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول : من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما.

وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف.

وقال الشافعي ومن تابعه: لا إعادة عليه.

وقال الأوزاعي: إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما.

واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع، وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع، والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه استبطن الوادي ثم قال: من ههنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي. وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة، وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع، وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله تعالى -فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه- وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف لما روي من حديث جابر وإبن عباس وغيرهم "أن النبي عليه الصلاة والسلام رمى الجمار بمثل حصى الخذف" والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو، وكذلك الثانية ويطيل المقام، ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه كان يفعل ذلك في رميه" والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن لأنه يروى عنه عليه الصلاة والسلام.

وأجمعوا على أن من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال.

واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق، فقال جمهور العلماء: من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال.وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها. وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد. واختلفوا في الواجب من الكفارة فقال مالك: إن من ترك الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم، وقال أبو حنيفة: إن ترك كلها كان عليه دم، وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دما بترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم. وقال الشافعي: عليه في الحصاة مد من طعام، وفي حصاتين مدان، وفي ثلاث دم. وقال الثوري مثله، إلا أنه قال في الرابعة الدم. ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا، والحجة لهم حديث سعد بن أبي وقاص قال "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، فبعضنا يقول: رميت بسبع، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضنا على بعض" وقال أهل الظاهر: لا شيء في ذلك والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج. وقال عبد الملك من أصحاب مالك: هي من أركان الحج. فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل، والتحلل تحللان: تحلل أكبر، وهو طواف الإفاضة، وتحلل أصغر وهو رمي جمرة العقبة، وسنذكر ما في هذا الإختلاف.

القول في الجنس الثالث:

وهو الذي يتضمن القول في الأحكام، وقد نفى القول في حكم الإختلالات التي تقع في الحج، وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال، فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو حكم المحصر وحكم قاتل الصيد وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق وإلقائه التفث قبل أن يحل، وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة.

القول في الإحصار

وأما الإحصار، فالأصل فيه قوله سبحانه: -فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي- إلى قوله -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي- فنقول: اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا، وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو، فأول اختلافهم في هذه الآية هل المحصر ههنا هو المحصر بالمرض. فأما من قال: إن المحصر ههنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله تعالى -فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه- قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة، واحتجوا أيضا بقوله سبحانه -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج- وهذه حجة ظاهرة، ومن قال: إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر، ولا يقال أحصر في العدو، وإنما يقال حصره العدو وأحصره المرض، قالوا: وإنما ذكر المرض بعد ذلك لأن المرض صنفان: صنف محصر، وصنف غير محصر، وقالوا معنى قوله -فإذا أمنتم- معناه من المرض. وأما الفريق الأول فقالوا عكس هذا، وهو أن أفعل أبدا وفعل في الشيء الواحد إنما يأتي لمعنيين: أما فعل فإذا أوقع بغيره فعلا من الأفعال، وأما أفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل به يقال: أقتله إذا فعل به فعل القتل، واقتله إذا عرضه للقتل، وإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو وحصر أحق بالمرض، لأن العدو إنما عرض للإحصار، والمرض فهو فاعل الإحصار. وقالوا لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو وإن قيل في المرض فباستعارة ولا يصار إلى الإستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة، وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض، وهذا هو مذهب الشافعي. والمذهب الثاني مذهب مالك وأبي حنيفة. وقال قوم: بل المحصر ههنا الممنوع من الحج بأي نوع امتنع إما بمرض أو بعدو أو بخطأ في العدد أو بغير ذلك. وجمهور العلماء على أن المحصر عن الحج ضربان: إما محصر بمرض، وإما محصر بعدو. فأما المحصر بالعدو فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته أو حجه حيث أحصر. وقال الثوري والحسن بن صالح لا يتحلل إلا في يوم النحر، والذين قالوا: يتحلل حيث أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي عليه وفي موضع نحره إذا قيل بوجوبه وفي إعادة ما حصر عنه من حج أو عمرة، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه الإعادة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان أحرم بالحج عليه حجة وعمرة، وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان، وإن كان معتمرا قضى عمرته، وليس عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن تقصير، واختار أبو يوسف تقصيره، وعمدة مالك في أن لا إعادة عليه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوف بالبيت، وقبل أن يصل إلى الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحد من الصحابة ولا ممن كان معه أن يقضي شيئا ولا أن يعود لشيء" وعمدة من أوجب عليه الإعادة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة" ولذلك قيل لها عمرة القضاء. وإجماعهم أيضا علة أن المحصر بمرض أو ما أشبهه عليه القضاء. فسبب الخلاف هو هل قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يقض؟ وهل يثبت القضاء بالقياس أم لا؟ وذلك أن جمهور العلماء على أن القضاء يجب بأمر ثان غير أمر الأداء. وأما من أوجب عليه الهدي فبناء على أن الآية وردت في المحصر بالعدو، أو على أنها عامة لأن الهدي فيها نص، وقد احتج هؤلاء بنحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الهدي عام الحديبية حين أحصروا. وأجاب الفريق الآخر أن ذلك الهدي لم يكن هدي تحلل، وإنما كان هديا سيق ابتداء، وحجة هؤلاء أن الأصل هو أن لا هدي عليه إلا أن يقوم الدليل. وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه عام الحديبية، فقال ابن إسحاق: نحره في الحرم، وقال غيره: إنما نحره في الحل، واحتج بقوله تعالى - هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله - وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما، فهذا هو حكم المحصر بعدو عند الفقهاء. وأما المحصر بمرض، فإن مذهب الشافعي وأهل الحجاز أنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي ما بين الصفا والمروة، وأنه بالجملة يتحلل بعمرة، لأنه إذا فاته الحج بطول مرضه انقلب عمرة، وهو مذهب ابن عمر وعائشة وابن عباس، وخالف في ذلك أهل العراق فقالوا: يحل مكانه وحكمه حكم المحصر بعدو، أعني أن يرسل هديه ويقدر يوم نحره ويحل في اليوم الثالث وبه قال ابن مسعود.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ...

واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" وبإجماعهم على أن المحصر بعدو ليس من شرط إحلاله الطواف بالبيت. والجمهور على أن المحصر بمرض عليه الهدي. وقال أبو ثور وداود: لا هدي عليه اعتمادا على ظاهر حكم هذا المحصر، وعلى أن الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو، وأجمعوا على إيجاب القضاء عليه، وكل من فاته الحج بخطأ من العدد في الأيام أو بخفاء الهلال عليه أو غير ذلك من الأعذار فحكمه حكم المحصر بمرض عند مالك. وقال أبو حنيفة: من فاته الحج بعذر غير مرض يحل بعمرة ولا هدي عليه وعليه إعادة الحج، والمكي المحصر بمرض عند مالك كغير المكي يحل بعمرة وعليه الهدي وإعادة الحج. وقال الزهري: لابد (قوله لابد الخ: هكذا هذه العبارة في غالب النسخ ولينظر معناها، وفي بعض: ولابد أن يعيد (وجعل بياضا لباقي العبارة فليتأمل ا هـ مصححه). أن يقف بعمرة وإن نعش نعشا. وأصل مذهب مالك أن المحصر بمرض إن بقي على إحرامه إلى العام المقبل حتى يحج حجة القضاء فلا هدي عليه، فإن تحلل بعمرة فعليه هدي المحصر، لأنه حلق رأسه قبل أن ينحر في حجة القضاء، وكل من تأول قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه خطاب للمحصر وجب عليه أن يعتقد على ظاهر الآية أن عليه هديين: هديا لحلقه عند التحلل قبل نحره في حجة القضاء، وهديا لتمتعه بالعمرة إلى الحج، وإن حل في أشهر الحج من العمرة وجب عليه هدي ثالث، وهو هدي التمتع الذي هو أحد أنواع نسك الحج.

وأما مالك رحمه الله، فكان يتأول لمكان هذا أن المحصر إنما عليه هدي واحد، وكان يقول: إن الهدي الذي في قوله سبحانه - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - هو بعينه الهدي الذي في قوله - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - وفيه بعد في التأويل، والأظهر أن قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه في غير المحصر بل هو في التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه - ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام - والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع. وقد قلنا في أحكام المحصر الذي نص الله عليه، فلنقل في أحكام القاتل للصيد:

القول في أحكام جزاء الصيد

فنقول: إن المسلمين أجمعوا على أن قوله تعالى -يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما- هي آية محكمة، واختلفوا في تفاصيل أحكامها وفيما يقاس على مفهومها مما لا يقاس عليه، فمنها أنهم اختلفوا هل الواجب في قتل الصيد قيمته أو مثله؟ فذهب الجمهور إلى أن الواجب المثل، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مخير بين القيمة، أعني قيمة الصيد وبين أ، يشتري بها المثل. ومنها أنهم اختلفوا في استئناف الحكم على قاتل الصيد فيما حكم فيه السلف من الصحابة، مثل حكمهم أن من قتل نعامة فعليه بدنة تشبيها بها، ومن قتل غزالا فعليه شاة، ومن قتل بقرة وحشية فعليه إنسية، فقال مالك: يستأنف في كل ما وقع من ذلك الحكم به، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن اجتزأ بحكم الصحابة مما حكموا فيه جاز، ومنها هل الآية على التخيير أو على الترتيب؟ فقال مالك: هي على التخيير، وبه قال أبو حنيفة، يريد أن الحكمين يخيران الذي عليه الجزاء. وقال زفر: هي على الترتيب، واختلفوا هل يقوم الصيد أو المثل إذا اختار الإطعام إن وجب على القول بالوجوب فيشتري بقيمته طعاما؟ فقال مالك: يقوم الصيد، وقال الشافعي: يقوم المثل، فقال مالك: يصوم لكل مد يوما وهو الذي يطعم عندهم كل مسكين، وبه قال الشافعي وأهل الحجاز. وقال أهل الكوفة: يصوم لكل مدين يوما، وهو القدر الذي يطعم كل مسكين عندهم. واختلفوا في قتل الصيد خطأ هل فيه جزاء أم لا؟ فالجمهور على أن فيه الجزاء. وقال أهل الظاهر: لا جزاء عليه. واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد، فقال مالك: إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، وبه قال الثوري وجماعة. وقال الشافعي: عليهم جزاء واحد. وفرق أبو حنيفة بين المحرمين يقتلون الصيد وبين المحلين يقتلونه في الحرم فقال: على كل واحد من المحرمين جزاء وعلى المحلين جزاء واحد. واختلفوا هل يكون أحد الحكمين قاتل الصيد، فذهي مالك إلى أنه لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين جميعا واختلفوا في موضع الإطعام، فقال مالك: في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثمَّ طعام، وإلا ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع.

وقال أبو حنيفة: حيثما أطعم. وقال الشافعي: لا يطعم إلا مساكين مكة. وأجمع العلماء على أن المحرم إذا قتل الصيد أن عليه الجزاء للنص في ذلك. واختلفوا في الحلال يقتل الصيد في الحرم، فقال جمهور فقهاء الأمصار: عليه الجزاء. وقال داود وأصحابه: لا جزاء عليه. ولم يختلف المسلمون في تحريم قتل الصيد في الحرم، وإنما اختلفوا في الكفارة وذلك لقوله سبحانه -اولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا- وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض" وجمهور فقهاء الأمصار على أن المحرم إذا قتل الصيد وأكله أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. وروى عن عطاء وطائفة أن فيه كفارتين، فهذه هي مشهورات المسائل المتعلقة بهذه الآية.

(وأما الأسباب التي دعتهم إلى هذا الإختلاف) فنحن نشير إلى طرف منها فنقول. أما من اشترط في وجوب الجزاء أن يكون القتل عمدا فحجته أن اشتراط ذلك نص في الآية، وأيضا فإن العمد هو الموجب للعقاب والكفارات عقابا ما. وأما من أوجب الجزاء مع النسيان فلا حجة له، إلا أن يشبه الجزاء عند إتلاف الصيد بإتلاف الأموال، فإن الأموال عند الجمهور تضمن خطأ ونسيانا، لكن يعارض هذا القياس اشتراط العمد في وجوب الجزاء، فقد أجاب بعضهم عن هذا: أي العمد إنما اشترط لمكان تعلق العقاب المنصوص عليه في قوله -ليذوق وبال أمره- وذلك لا معنى له لأن الوبال المذوق هو في الغرامة فسواء قتله مخطئا أو متعمدا قد ذاق الوبال، ولا خوف أن الناسي غير معاقب، وأكثر ما تلزم هذه الحجة لمن كان من أصله أن الكفارات لا تثبت بالقياس، فإنه لا دليل لمن أثبتها على الناسي إلا القياس. وأما اختلافهم في المثل هل هو الشبيه أو المثل في القيمة، فإن سبب الاختلاف أن المثل يقال على الذي هو مثل وعلى الذي هو مثل في القيمة؛ لكن حجة من رأى أن الشبيه أقوى من جهة دلالة اللفظ أن انطلاق لفظ المثل على الشبيه في لسان العرب أظهر، وأظهر منه على المثل في القيمة، لكن لمن حمل ههنا المثل على القيمة دلائل حركته إلى اعتقاد ذلك: أحدها أن المثل الذي هو العدل هو منصوص عليه في الإطعام والصيام، وأيضا فإن المثل إذا حمل ههنا على التعديل كان عاما في جميع الصيد، فإن من الصيد ما لا يلقي له شبيه، وأيضا فإن المثل فيما لا يوجد له شبيه هو التعديل، وليس يوجد للحيوان المصيد في الحقيقة شبيه إلا من جنسه، وقد نص أن المثل الواجب فيه هو من غير جنسه، فوجب أن يكون مثلا في التعديل والقيمة، وأيضا فإن الحكم في الشبيه قد فرغ منه، فأما الحكم بالتعديل فهو شيء يختلف باختلاف الأوقات، ولذلك هو كل وقت يحتاج إلى الحكمين المنصوص عليهما، وعلى هذا يأتي التقدير في الآية بمشابه، فكأنه قال: ومن قتله منكم متعمدا فعليه قيمة ما قتل من النعم أو عدل القيمة طعاما أو عدل ذلك صياما. وأما اختلافهم هل المقدر هو الصيد أو مثله من النعم إذا قدر بالطعام، فمن قال المقدر هو الصيد قال: لأنه الذي لما لم يوجد مثله رجع إلى تقديره بالطعام، ومن قال إن المقدر هو الواجب من النعم قال: لأن الشيء إنما تقدر قيمته إذا عدم بتقدير مثله أعني شبيهه. وأما من قال إن الآية على التخيير فإنه التفت إلى حرف "أو" إذ كان مقتضاها في لسان العرب التخيير وأما من نظر إلى ترتيب الكفارات في ذلك فشبهها في الكفارات التي فيها الترتيب باتفاق، وهي كفارة الظهار والقتل. وأما اختلافهم في هل يستأنف الحكم في الصيد الواحد الذي وقع الحكم فيه من الصحابة، فالسبب في اختلافهم هو هل الحكم شرعي غير معقول المعنى أم هذا معقول المعنى؟

فمن قال هو معقول المعنى قال: ما قد حكم فيه فليس يوجد شيء أشبه به منه، مثل النعامة فإنه لا يوجد أشبه بها من البدنة فلا معنى إعادة الحكم، ومن قال هو عبادة قال: يعاد ولابد منه، وبه قال مالك. وأما اختلافهم في الجماعة يشتركون في قتل الصيد الواحد، فسببه هل الجزاء موجبه هو التعدي فقط أو التعدي على جملة الصيد؟ فمن قال التعدي فقط أوجب على كل واحد من الجماعة القاتلة للصيد جزاء، ومن قال التعدي على جملة الصيد قال: عليهم جزاء واحد. وهذه المسئلة شبيهة بالقصاص في النصاب في السرقة وفي القصاص في الأعضاء وفي الأنفس، وستأتي في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله. وتفريق أبي حنيفة بين المحرمين وبين غير المحرمين القاتلين في الحرم على جهة التغليظ على المحرمين، ومن أوجب على كل واحد من الجماعة جزاء فإنما نظر إلى سد الذرائع، فإنه لو سقط عنهم الجزاء جملة لكان من أراد أن يصيد في الحرم صاد في جماعة، وإذا قلنا إن الجزاء هو كفارة للإثم فيشبه أنه لا يتبعض إثم قتل الصيد بالاشتراك فيه، فيجب أن لا يتبعض الجزاء فيجب على كل واحد كفارة. وأما اختلافهم في هل يكون أحد الحكمين قاتل للصيد، فالسبب فيه معارضة مفهوم الظاهر لمفهوم المعنى الأصلي في الشرع، وذلك أنه لم يشترطوا في الحكمين إلا العدالة، فيجب على ظاهر هذا أن يجوز الحكم ممن يوجد فيه هذا الشرط، سواء كان قاتل الصيد أو غير قاتل. وأما مفهوم المعنى الأصلي في الشرع فهو أن المحكوم عليه لا يكون حاكما على نفسه. وأما اختلافهم في الموضع، فسببه الإطلاق أعني أنه لم يشترط فيه موضع، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال لا ينقل من موضعه. وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء. وأما اختلافهم في الحلال يقتل الصيد في الحرم هل عليه كفارة أم لا؟ فسببه هل يقاس في الكفارات عند من يقول بالقياس؟ وهل القياس أصل من أصول الشرع عند الذين يختلفون فيه؟ فأهل الظاهر ينفون قياس قتل الصيد في الحرم على المحرم لمنعهم القياس في الشرع، ويحق على أصل أبي حنيفة أن يمنعه لمنعه القياس في الكفارات، ولا خلاف بينهم في تعلق الاسم به لقوله سبحانه وتعالى - أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض" وأما اختلافهم فيمن قتله ثم أكله هل عليه جزاء واحد أم جزاءان؟ فسببه هل أكله تعد ثان عليه سوى القتل أم لا؟ وإن كان تعديا عليه فهل هو مساو للتعدي الأول أم لا؟ وذلك أنهم اتفقوا على أنه إن أكل أثم، ولما كان النظر في كفارة الجزاء يشتمل على أربعة أركان: معرفة الواجب في ذلك، ومعرفة من تجب عليه، ومعرفة الفعل الذي لأجله يجب، ومعرفة محل الوجوب. وكان قد تقدم الكلام في أكثر هذه الأجناس، وبقي من ذلك أمران: أحدهما اختلاف في بعض الواجبات من الأمثال في بعض المصيدات. والثاني ما هو صيد مما ليس بصيد يجب أن ينظر فيما بقي علينا من ذلك، فمن أصول هذا الباب ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب، وفي اليربوع بجفرة، واليربوع: دويبة لها أربع قوائم وذنب، تجتر كما تجتر الشاة، وهي من ذوات الكروش، والعنز عند أهل العلم من المعز ما قد ولد أو ولد مثله، والجفرة والعناق من المعز، فالجفرة ما أكل واستغنى عن الرضاع، والعناق قيل فوق الجفرة وقيل دونها، وخالف مالك هذه الحديث فقال: في الأرنب واليربوع لا يقومان إلا بما يجوز هديا وأضحية، وذلك الجذع فما فوقه من الضأن، والثني فما فوقه من الإبل والبقر، وحجة مالك قوله تعالى -هديا بالغ الكعبة- ولم يختلفوا أن من جعل على نفسه هديا أنه لا يجيزه أقل من الجزع فما فوقه من الضأن والثنى مما سواه، وفي صغار الصيد عند مالك مثل ما في كباره. وقال الشافعي: يفدى صغار الصيد بالمثل من صغار النعم وكبار الصيد بالكبار منها، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وحجته أنها حقيقة المثل، فعنده في النعامة الكبيرة بدنة، وفي الصغيرة فصيل، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. واختلفوا من هذا الباب في حمام مكة وغيرها، فقال مالك في حمام مكة: شاة، وفي حمام الحل حكومة. واختلف قول ابن القاسم في حمام الحرم غير مكة،فقال مرة شاة كحمام مكة، ومرة قال حكومة كحمام الحل. وقال الشافعي: في كل حمام شاة، وفي حمام سوى الحرم قيمته. وقال داود كل شيء لا مثل له من الصيد فلا جزاء فيها إلا الحمام فإن فيه شاة، ولعله ظن ذلك إجماعا، فإنه روي عن عمر بن الخطاب ولا مخالف له من الصحابة. وروي عن عطاء أنه قال: في كل شيء من الطير شاة. واختلفوا من هذا الباب في بيض النعامة، فقال مالك: أرى في بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. ووافقه الشافعي في هذه المسألة. وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها فرخ ميت فعليه الجزاء: أعني جزاء النعامة. واشترط أبو ثور في ذلك أن يخرج حيا ثم يموت.

(يتبع...)

@(تابع... 2): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ...

وروي عن علي أنه قضى في بيض النعامة بأن يرسل الفحل على الإبل فإذا تبين لقاحها سميت ما أصبت من البيض، فقلت: هذا هدي، ثم ليس عليك ضمان ما فسد من الحمل. وقال عطاء: من كانت له إبل فالقول قول علي، وإلا ففي كل بيضة درهمان، قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عباس عن كعب بن عجرة عن النبي عليه الصلاة والسلام "في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه" من وجه ليس بالقوي. وروي عن ابن مسعود أن فيه القيمة، قال: وفيه أثر ضعيف. وأكثر العلماء على أن الجراد من صيد البر يجب على المحرم فيه الجزاء. واختلفوا في الواجب من ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: قبضة من طعام، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تمرة خير من جرادة. وقال الشافعي: في الجراد قيمته، وبه قال أبو ثور إلا أنه قال: كل ما تصدق به من حفنة طعام أو تمرة فهو له قيمة. وروي عن ابن عباس أن فيها تمرة مثل قول أبي حنيفة. وقال ربيعة: فيها صاع من طعام وهو شاذ. وقد روي عن ابن عمر أن فيها شويهة وهو أيضا شاذ، فهذه هي مشهورات ما اتفقوا على الجزاء فيه، واختلفوا فيما هو الجزاء فيه. وأما إختلافهم فيما هو صيد مما ليس بصيد، وفيما هو من صيد البحر مما ليس منه، فإنهم اتفقوا على أن صيد البر محرَّم على المحرم إلا الخمس الفواسق المنصوص عليها، واختلفوا فيما يلحق به مما ليس يلحق، وكذلك اتفقوا على أن صيد البحر حلالا كله للمحرم، واختلفوا فيما هو من صيد البحر مما ليس منه، وهذا كله لقوله تعالى: -أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما- ونحن نذكر مشهور ما اتفقوا عليه من هذين الجنسين وما اختلفوا فيه، فنقول:

ثبت من حديث ابن عمر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب والعقور" واتفق العلماء على القول بهذا الحديث، وجمهورهم على القول بإباحة قتل ما تضمنه لكونه ليس بصيد وإن كان بعضهم اشترط في ذلك أوصافا ما. واختلفوا هل هذا باب من الخاص أريد به الخاص، أو باب من الخاص أريد به العام، والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا في أي عام أريد بذلك، فقال مالك: الكلب العقور الوارد في الحديث إشارة إلى كل سبع عاد، وأن ما ليس بعاد من السباع فليس للمحرم قتله ولم ير قتل صغارها التي لا تعدو ولا ما كان منها أيضا لا يعدو ولا خلاف بينهم في قتل الحية والأفعى والأسود، وهو مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقتل الأفعى والأسود" وقال مالك: لا أرى قتل الوزغ، والأخبار بقتلها متواترة، لكن مطلقا لا في الحرم، ولذلك توقف فيها مالك في الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلا الكلب الإنسي والذئب، وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع. وقال الشافعي: كل محرم الأكل فهو معنى في الخمس.

وعمدة الشافعي أنه إنما حرم على المحرم ما أحل للحلال، وأن المباحة الأكل لا يجوز قتلها بإجماع لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البهائم. وأما أبو حنيفة فلم يفهم من اسم الكلب الإنسي فقط بل من معناه كل ذئب وحشي. واختلفوا في الزنبور فبعضهم شبهه بالعقرب، وبعضهم رأى أنه أضعف نكاية من العقرب. وبالجملة فالمنصوص عليها تتضمن أنواعا من الفساد، فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام ألحق بواحد واحد منها ما يشبه إن كان له شبه، ومن لم ير ذلك قصر النهي على المنطوق به.

وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع، فخصصت عموم الاسم الوارد في الحديث الثابت بما روي عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال "خمس يقتلن في الحرم، فذكر فيهن الغراب الأبقع" وشذ النخعي فمنع المحرم قتل الصيد إلا الفأرة. وأما اختلافهم فيما هو من صيد البحر مما ليس هو منه، فإنهم اتفقوا على أن السمك من صيد البحر، واختلفوا فيما عدا السمك، وذلك بناء منهم على ما كان منه يحتاج إلى زكاة فليس من صيد البحر، وأكثر ذلك ما كان محرما، ولا خلاف بين من يحل جميع ما في البحر في أن صيده حلال، وإنما اختلف هؤلاء فيما كان من الحيوان يعيش في البر وفي الماء بأي الحكمين يلحق؟ وقياس قول أكثر العلماء أنه يلحق بالذي عيشه فيه غالبا، وهو حيث يولد. والجمهور على أن طير الماء محكوم له بحكم حيوان البر. وروي عن عطاء أنه قال في طير الماء حيث يكون أغلب عيشه يحكم له بحكمه.

واختلفوا في نبات الحرم هل فيه جزاء أم لا؟

فقال مالك: لا جزا فيه، وإنما فيه الإثم فقط للنهي الوارد في ذلك. وقال الشافعي: فيه الجزاء في الدوخة بقرة، وفيما دونها شاة. وقال أبو حنيفة: كل ما كان من غرس الإنسان فلا شيء فيه، وكل ما كان نابتا بطبعه ففيه قيمة. وسبب الخلاف هل يقاس النبات في هذا على الحيوان لاجتماعهما في النهي عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها" فهذا هو القول في مشهور مسائل هذا الجنس، فلنقل في حكم الحالق رأسه قبل محل الحلق.

*4* القول في فدية الأذى وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق

@- وأما فدية الأذى فمجمع أيضا عليها لورود الكتاب بذلك والسنة.

أما الكتاب فقوله تعالى - فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك - .

وأما السنة فحديث كعب ابن عجرة الثابت "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك"

والكلام في هذه الآية على من تجب الفدية، وعلى من لا تجب، وإذا وجبت فما هي الفدية الواجبة؟ وفي أي شيء تجب الفدية، ولمن تجب ومتى تجب وأين تجب؟ فأما على من تجب الفدية، فإن العلماء أجمعوا على أنها واجبة على كل من أماط الأذى من ضرورة لورود النص بذلك، واختلفوا فيمن أماطه بغير ضرورة، فقال مالك: عليه الفدية المنصوص عليها. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن حلق دون

ضرورة فإنما عليه دم فقط، واختلفوا هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى أن يكون متعمدا أو الناسي في ذلك والمتعمد سواء، فقال مالك: العامد في ذلك والناسي واحد، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وقال الشافعي في أحد قوليه: وأهل الظاهر لا فدية على الناسي، فمن  اشترط في وجوب الفدية الضرورة فدليله النص، ومن أوجب ذلك على غير المضطر فحجته أنه إذا وجبت على المضطر فهي على غير المضطر أوجب، ومن فرق بين العامد والناسي فلتفريق الشرع في ذلك بينهما في مواضع كثيرة، ولعموم قوله تعالى: -وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم- ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ومن لم يفرق بينهما فقياسا على كثير من العبادات التي لم يفرق الشرع فيها بين الخطأ والنسيان.

وأما ما يجب فيه فدية الأذى، فإن العلماء أجمعوا على أنها ثلاث خصال على التخيير: الصيام والإطعام والنسك لقوله تعالى: -ففدية من صيام أو صدقة أو نسك- والجمهور على أن الإطعام هو لستة مساكين، وأن النسك أقله شاة. وروي عن أنس وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام. ودليل الجمهور حديث كعب بن عجرة الثابت. وأما من قال الصيام عشرة أيام فقياسا على صيام التمتع وتسوية الصيام مع الإطعام، ولما ورد أيضا في جزاء الصيد في قوله تعالى: -أو عدل ذلك صياما- وأما كم يطعم لكل مسكين من المساكين الستة التي ورد فيها النص، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك لاختلاف الآثار في الإطعام في الكفارات، فقال مالك والشافعي وابو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين. وروي عن الثوري أنه قال: من البر نصف صاع ومن التمر والزبيب والشعير صاع.

وروي أيضا عن أبي حنيفة مثله وهو أصله في الكفارات.

وأما ما تجب فيه الفدية، فاتفقوا على أنها تجب على من حلق رأسه لضرورة مرض أو حيوان يؤذيه في رأسه. قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح، والأذى: القمل وغيره. وقال عطاء: المرض الصداع، والأذى: القمل وغيره. والجمهور على أن كل ما منعه المحرم من لباس الثياب المخيطة وحلق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفدية: أي دم على اختلاف بينهم في ذلك أو إطعام، ولم يفرقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء، وكذلك استعمال الطيب. وقال قوم: ليس في قص الأظفار شيء. وقال قوم فيه دم. وحكى ابن المنذر أن منع المحرم قص الأظفار إجماع.

واختلفوا فيمن أخذ بعض أظفاره، فقال الشافعي وأبو ثور: إن أخذ ظفرا واحدا أطعم مسكينا واحدا.، وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين، وإن أخذ ثلاثا فعليه دم في مقام واحد. وقال أبو حنيفة في أحد أقواله: لا شيء عليه حتى يقصها كلها. وقال أبو محمد بن حزم: يقص المحرم أظفاره وشاربه وهو شذوذ، وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي ورد فيه النص. وأجمعوا على منع حلق شعر الرأس، واختلفوا في حلق الشعر من سائر الجسد، فالجمهور على أن فيه الفدية. وقال داود: لا فدية فيه. واختلفوا فيمن نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه، فقال مالك: ليس على من نتف الشعر اليسير شيء إلا أن يكون أماط به أذى فعليه الفدية. وقال الحسن: في الشعرة مد وفي الشعرتين مدين، وفي الثلاثة دم، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال عبد الملك صاحب مالك: فيما قل من الشعر إطعام وفيما كثر فدية. فمن فهم من منع المحرم حلق الشعر أنه عبادة سوى بين القليل والكثير، لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى.

أما موضع الفدية فاختلفوا فيه، فقال مالك: يفعل من ذلك ما شاء أين شاء بمكة وبغيرها وإن شاء ببلده، وسواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام، وهو قول مجاهد والذي عند مالك ههنا هو نسك وليس بهدي. فإن الهدي لا يكون إلا بمكة أو بمنى. وقال أبو حنيفة والشافعي: الدم والإطعام لا يجزيان إلا بمكة والصوم حيث شاء. وقال ابن العباس: ما كان من دم فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء، وعن أبي حنيفة مثله. ولم يختلف قول الشافعي أن دم الإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم.

وسبب الخلاف استعمال قياس دم النسك على الهدي، فمن قاسه على الهدي أوجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به وفي مساكين الحرم، وإن كان مالك يرى أن الهدي يجوز إطعامه لغير مساكين الحرم، والذي يجمع النسك والهدي هو أن المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله، والمخالف يقول: إن الشرع لما فرق بين اسمهما فسمى أحدهما نسكا وسمى الآخر هديا وجب أن يكون حكمهما مختلفا. وأما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى، ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان، فهذا هو القول في كفارة إماطة الأذى. واختلفوا في حلق الرأس هل هو من مناسك الحج أو هو مما يتحلل به منه؟ ولا خلاف بين الجمهور في أنه من أعمال الحج، وأن الحلق أفضل من التقصير لما ثبت من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين" وأجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير. واختلفوا هل هو نسك يجب على الحاج والمعتمر أولا؟ فقال مالك: الحلاق نسك للحاج وللمعتمر وهو أفضل من التقصير، ويجب على كل من فاته الحج وأحصر بعدو أو بمرض أو بعذر وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو، فإن أبا حنيفة قال: ليس عليه حلاق ولا تقصير. وبالجملة فمن جعل الحلاق أو التقصير نسكا أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله من النسك لم يوجب فيه شيئا.

*4* القول في كفارة المتمتع

@- وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله سبحانه - فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - الآية، فإنه لا خلاف في وجوبها، وإنما الخلاف في المتمتع من هو؟ وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب؟ وما الواجب فيها؟ ومتى تجب ولمن تجب وفي أي مكان تجب؟ فأما على من تجب فعلى المتمتع باتفاق، وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو. وأما اختلافهم في الواجب، فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة، واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله تعالى في جزاء الصيد - هدايا بالغ الكعبة - ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد

شاة، وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر، وأن معنى قوله تعالى - فما استيسر من الهدي - أي بقرة أدون من بقرة، وبدنة أدون من بدنة. وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب، وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام. واختلفوا من حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام، فقال مالك: إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم. وقال أبو حنيفة: إن وجد الهدي في صوم الثلاثة الأيام لزمه، وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه، وهذه المسئلة نظير مسئلة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم. وسبب الخلاف هو هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها. وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة، لأن الثلاثة الأيام هي عنده بدل من الهدي والسبعة ليست ببدل، وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله سبحانه - فصيام ثلاثة أيام في الحج - ولا خلاف أن العشر الأول من أيام الحج. واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج أو صامها في أيام منى، فأجاز مالك صيامها في أيام منى ومنعه أبو حنيفة وقال: إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة. وسبب الخلاف هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن لا تجزئ إلا بعد وقوع موجبها، فمن

قال: لا تجزئ كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال: لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج، ومن قاسها على كفارة الأيمان قال: يجزي.

واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه، واختلفوا إذا صامها في الطريق فقال مالك: يجزي الصوم، وقال الشافعي: لا يجزي. وسبب الخلاف الاحتمال الذي في قوله سبحانه - إذا رجعتم - فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع، وعلى من هو في الرجوع نفسه، فهذه هي الكفارة التي ثبتت بالسمع وهي من المتفق عليها، ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه، وإما من قبل غلطه في الزمان، أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له، فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا وهل عليه هدي مع القضاء؟ واختلفوا فيه، وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا؟ الخلاف في ذلك كله، لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي. وشذ قوم فقالوا: لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب، ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه وعليه دم. وشذ قوم فقالوا: هو كسائر العبادات، وعمدة الجمهور ظاهر قوله تعالى - وأتموا الحج والعمرة لله - فالجمهور عمموا والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات، واتفقوا على أن المفسد للحج إما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن. وأما من التروك المنهي عنها فالجماع، وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج. فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله تعالى - فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه، وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى. واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة وبعد رمي الجمرة وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب، فقال مالك: من وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه وعليه الهدي والقضاء، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الهدي بدنة وحجه تام. وقد روي مثل هذا عن مالك. وقال مالك: من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام، وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور: ويلزمه عندهم الهدي.

وقالت طائفة: من وطئ قبل طواف الإفاضة فسد حجه، وهو قول ابن عمر. وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر وهو الإفاضة وتحللا أصغر، وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما؟

ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد، فإنهم اختلفوا فيه، والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وقيل عنه إلا النساء والطيب والصيد، لأن الظاهر من قوله - وإذا حللتم فاصطادوا - أنه التحلل الأكبر. واتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا. وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا بعد الحلاق، وإن جامع قبله فسدت عمرته. واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته، فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج، ويحتمل من يشترط في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترطه في الحج. واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج، فقال أبو حنيفة: لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج. وقال الشافعي: ما يوجب الحد يفسد الحج. وقال مالك: الإنزال نفسه يفسد الحج، وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة. واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي. واختلفوا فيمن وطئ مرارا، فقال مالك: ليس عليه إلا هدي واحد. وقال أبو حنيفة: إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد، وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي. وقال محمد بن الحسن: يجزيه هدي واحد، وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول. وعن الشافعي الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك. واختلفوا فيمن وطئ ناسيا، فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان. وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه. واختلفوا هل على المرأة هدي؟ فقال مالك: إن طاوعته فعليها هدي، وإن أكرهها فعليه هديان. وقال الشافعي: ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا أعني الرجل والمرأة، وقيل لا يفترقان، والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة. واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان؟ فقال الشافعي: يفترقان من حيث أفسدا الحج، وقال مالك: يفترقان من حيث أحرما، إلا أن يكونا حرما قبل الميقات، فمن أخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة، ومن لم يؤاخذهما به فجريا على الأصل، وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع.

 واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو شاة، وقال الشافعي: لايجزئه إلا بدنة، وإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما، قال: والإطعام والهدي لا يجزى إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء. وقال مالك: كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولا يدخل الإطعام فيه، فمالك شبه الدم اللازم ههنا بدم المتمتع، والشافعي شبهه بالدم الواجب بالفدية، والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى، والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل لدم في موضعين، ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد، فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى، فهذا ما يخص الفساد بالجماع.

وأما الفساد بفوات الوقت، وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة، فإن العلماء أجمعوا أن من هذه صفته لا يخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أعني أنه يحل ولابد بعمرة، وأن عليه حج قابل. واختلفوا هل عليه هدي أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور: عليه الهدي، وعمدتهم إجماعهم على أن من حبسه مرض حتى فاته الحج أن عليه الهدي. وقال أبو حنيفة: يتحلل بعمرة ويحج من قابل ولا هدي عليه. وحجة الكوفيين أن الأصل في الهدي إنما هو بدل من القضاء، فإذا كان القضاء فلا هدي إلا ما خصصه الإجماع.

واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة فيمن فاته الحج وكان قارنا هل يقضي حجا مفردا أو مقرونا بعمرة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضي قارنا لأنه إنما يقضي مثل الذي عليه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه إلا الإفراد لأنه قد طاف لعمرته فليس يقضي إلا ما فاته. وجمهور العلماء على أن من فاته الحج أنه لا يقيم على إحرامه ذلك إلى عام آخر وهذا هو الاختيار عند مالك، إلا أنه أجاز ذلك ليسقط عنه الهدي ولا يحتاج أن يتحلل بعمرة.

وأصل اختلافهم في هذه المسئلة اختلافهم فيمن أحرم بالحج في غير أشهر الحج، فمن لم يجعله محرما لم يجز للذي فاته الحج أن يبقى محرما إلى عام آخر، ومن أجاز الإحرام في غير أيام الحج أجاز له البقاء محرما، قال القاضي: فقد قلنا في الكفارات الواجبة بالنص في الحج وفي صفة القضاء في الحج الفائت والفاسد وفي صفة إحلال من فاته الحج، وقلنا قبل ذلك في الكفارات المنصوص عليها، وما ألحق الفقهاء بذلك من كفارة المفسد حجه، وبقي أن نقول في الكفارات التي اختلفوا فيها ترك نسك منها من مناسك الحج مما لم ينص عليه.

*4* القول في الكفارات المسكوت عنها

@- فنقول: إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان: نسك هو سنة موكدة ونسك هو مرغب فيه. فالذي هو سنة يجب على تاركه الدم لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن. وروي عن ابن عباس أنه قال: من فاته من نسكه شيء فعليه دم، وأما الذي هو نفل فلم يروا فيه دما، ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل؟ وأما ما كان فرضا فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم، وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص لتركهم القياس وبخاصة في العبادات، وكذلك اتفقوا على أن ما كان من المتروك مسنونا ففعل ففيه فدية الأذى، وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء. واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك، أعني في وجوب الدم أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها، وكذلك في فعل محظور محظور، فأول ما اختلفوا فيه من المناسك من جاوز الميقات فلم يحرم هل عليه دم؟ فقال قوم: لا دم عليه. وقال قوم: عليه الدم وإن رجع، وهو قول مالك وابن المبارك. وروي عن الثوري. وقال قوم: إن رجع إليه فليس عليه دم، وإن لم يرجع فعليه دم، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول الثوري. وقال أبو حنيفة: إن رجع ملبيا فلا دم عليه، وإن رجع غير ملب كان عليه الدم. وقال قوم: هو فرض ولا يجبره بالدم. واختلفوا فيمن غسل رأسه بالخطمى. فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى. وقال الثوري وغيره: لا شيء عليه.

ورأى مالك أن في الحمام الفدية، وأباحه الأكثرون وروي عن ابن عباس من طريق ثابت دخوله، والجمهور على أنه يفتدى من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه. واختلفوا إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدى أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى، وقال الثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا. وعمدة من منع النهي المطلق وعمدة من لم ير فيه فدية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" واختلفوا فيمن لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي.

واختلفوا في لبس المرأة القفازين هل فيه فدية أم لا؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام، وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية هل عليه دم أم لا؟ وقد تقدم. واتفقوا على أن من نكس الطواف أو نسي شوطا من أشواطه أنه يعيده ما دام بمكة. واختلفوا إذا بلغ إلى أهله، فقال قوم منهم أبو حنيفة: يجزيه الدم، وقال قوم: بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم. وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على من ترك الرمل في الثلاثة الأشواط، وبالوجوب قال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور. واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه. والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا؟ وقد تقدم القول في ذلك. وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه فيه دم. وكذلك اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: عليه دم. وقال الثوري: يركعهما ما دام في الحرم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يركعهما حيث شاء، والذين قالوا في طواف الوداع إنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه دم إن لم يعد، وإنما يرجع عندهم ما لم يبلغ المواقيت، وحجة من لم يره سنة مؤكدة سقوطه عن المكي والحائض. وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة، فإن خرج فعليه دم. واختلفوا هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه؟ فقال مالك: هو من شرطه كالقيام في الصلاة، فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا. إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما. وقال الشافعي: الركوب في الطواف جائز "لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت راكبا من غير مرض" ولكنه أحب أن يستشرف الناس إليه، ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده. ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا، وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم؟

واختلفوا في وجوب الدم على من دفع من عرفة قبل الغروب فقال الشافعي وأحمد: إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه، وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الدم رجع أو لم يرجع، وقد تقدم هذا. واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة، فقال الشافعي: لا حج له، وقال مالك: عليه دم.

وسبب الاختلاف هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر أو من باب الكراهية، وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما تركه دم وما ليس فيه دم، وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع، والأسهل ذكره هنالك.

قال القاضي: فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب؟ وشروط وجوبها ومتى تجب؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة، وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ومكانها ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها، ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة، وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة، وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها. وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك.

والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي، وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة، وهو مما ينبغي أن يفرد بالنظر فلنقل فيه:

*4* القول في الهدي

@- فنقول: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة سنه وكيفية سوقه ومن أين يساق وإلى أين ينتهي بسوقه، وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر، فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع؛ فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة. فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو هدي المتمتع باتفاق وهدي القارن باختلاف. وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي، وهدي كفارة الصيد، وهدي إلقاء الأذى والتفث وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه. فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم المعز، وإنما اختلفوا في الضحايا. وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها، وأنه لا يجزي الجذع من المعز في الضحايا والهدايا لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة "تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا. وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كل جنس، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل. وكان الزبير يقول لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم لله من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في الرقاب وقد قيل له أيها أفضل فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة. وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار بأنه هدي "لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم" وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال.

واختلفوا في تقليد الغنم، فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تقلد لحديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلى البيت مرة غنما فقلده" واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده، واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر لما رواه عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة قلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، وإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن للقبلة ثم يأكل ويطعم. واستحب الشافعي وأحمد وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن لحديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج" وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكا يرى أن من سنته أن يساق من الحل، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل أن عليه أن يقفه بعرفة، وإن لم يفعل فعليه البدل. وأما إن كان أدخله من الحل فيستحب له أن يقفه بعرفة، وهو قول ابن عمر، وبه قال الليث. وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة، وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فعل وقال: خذوا عني مناسككم" وقال الشافعي: التعريف سنة مثل التقليد. وقال أبو حنيفة: ليس التعريف بسنة، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مسكنه كان خارج الحرم. وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه.

وأما محله فهو البيت العتيق كما قال تعالى {ثم محلها إلى البيت العتيق} وقال {هديا بالغ الكعبة}

وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح، وكذلك المسجد الحرام، وأن المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} أنه إنما أراد به النحر بمكة إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك يقول: إنما المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} مكة، وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه. وقال الطبري: يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنهما لا ينحران إلا بالحرم.

وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء وفي العمرة بمكة، إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة والعمرة بمنى أجزأه، وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة قوله صلى الله عليه وسلم "وكل فجاج مكة وطرقها منحر" واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية، فأجاز ذبحه بغير مكة. وأما متى ينحر فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه، وجوزه أبو حنيفة في التطوع وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر، ولا خلاف عند الجمهور أن ما عدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء، لأنه لا منفعة في ذلك لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة، وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي، فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم، لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم،

وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة. وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها لأنها زكاة، ومنها من استحب مع التسمية التكبير. ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده وإن استخلف جاز، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه، ومن سنتها أن تنحر قياما لقوله سبحانه وتعالى {فاذكروا اسم الله عليها صواف} وقد تكلم في صفة النحر في كتاب الذبائح. وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه فإن في ذلك مسائل مشهورة: أحدها هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة ومن غير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة، والحجة للجمهور ما خرجه أبو داود عن جابر وقد سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" ومن طريق المعنى أن الانتفاع بما قصد به القربة إلى الله تعالى منعه مفهوم من الشريعة، وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله إنها هدي، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة".

وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه، وزاد داود: ولا يطعم منه شيئا أهل رفقته "لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي وقال له: إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعليه في دمه وخل بينه وبين الناس" وروي عن ابن عباس هذا الحديث فزاد فيه "ولا تأكل منه أنت ولا أهل رفقتك" وقال بهذه الزيادة داود وأبو ثور. واختلفوا فيم يجب على من أكل منه، فقال مالك: إن أكل منه وجب عليه بدله. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل أو أمر بأكله طعاما يتصدق به. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين. وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم هل المحل هو مكة أو الحرم؟ وأما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فإن لصاحبه أن يأكل منه لأن عليه بدله، ومنهم من أجاز له بيع لحمه وأن يستعين به في البدل، وكره ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله، فقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله ولحمه كله للمساكين، وكذلك جله إن كان مجللا والنعل الذي قلد به. وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القران. وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة.

وأما من فرق فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما أنه عبادة مبتدأة. والثاني أنه كفارة، وأحد المعنيين في بعضها أظهر، فمن غلب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع نوع من أنواع الهدي كهدي القران وهدي التمتع وبخاصة عند من يقول إن التمتع والقران أفضل لم يشترط أن لا يأكل، لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة لا كفارة تدفع العقوبة، ومن غلب شبهه بالكفارة قال: لا يأكله لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة، ولما كان هدي جزاء الصيد وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منها. قال القاضي: فقد قلنا في حكم الهدي وفي جنسه وفي سنه وكيفية سوقه، وشروط صحته من الزمان والمكان، وصفة نحره وحكم الانتفاع به، وذلك ما قصدناه والله الموفق للصواب. وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا ولله الشكر والحمد كثيرا على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال.

وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة، وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها، والحمد لله رب العالمين. كان رضي الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج، ثم بدا له بعد فأثبته.

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

*2*كتاب الجهاد

@-والقول المحيط بأصول هذا الباب ينحصر في جملتين: الجملة الأولى: في معرفة أركان الحرب. الثانية: في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون.

*3*(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة فصول سبعة:

@-أحدها: معرفة حكم هذه الوظيفة ولمن تلزم. والثاني: معرفة الذين يحاربون. والثالث: معرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أصناف أهل الحرب مما لا يجوز. والرابع: معرفة جواز شروط الحرب. والخامس: معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم. والسادس: هل تجوز المهادنة؟. والسابع: لماذا يحاربون؟.

*4*الفصل الأول في معرفة حكم هذه الوظيفة.

@-فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية لا فرض عين، إلا عبد الله بن الحسن، فإنه قال إنها تطوع، وإنما صار الجمهور لكونه فرضا لقوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. وأما كونه فرضا على الكفاية، أعني إذا قام به البعض سقط عن البعض فلقوله تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية، وقوله {وكلا وعد الله الحسنى} ولم يخرج قط رسول الله صلى الله عليه وسلم للغزو إلا وترك بعض الناس، فإذا اجتمعت هذه اقتضى ذلك كون هذه الوظيفة فرضا على الكفاية. وأما على من يجب فهم الرجال الأحرار البالغون الذين يجدون بما يغزون الأصحاء إلا المرضى وإلا الزمنى، وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى {ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على الأعرج حرج} وقوله {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} الآية. وأما كون هذه الفريضة تختص بالأحرار فلا أعلم فيها خلافا، وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها، إلا أن تكون عليه فرض عين مثل أن لا يكون هنالك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به، والأصل في هذا ما ثبت "أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أريد الجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد" واختلفوا في إذن الأبوين المشركين. وكذلك اختلفوا في إذن الغريم إذا كان عليه دين لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سأله الرجل "أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله؟ قال: نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل آنفا" والجمهور على جواز ذلك، وبخاصة إذا تخلف وفاء من دينه.

*4*الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون.

@-فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال "ذروا الحبشة ما وذرتكم" وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف بذلك لكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم.

*4*الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو.

@-وأما ما يجوز من النكاية بالعدو، فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال أو في النفوس أو في الرقاب، أعني الاستعباد والتملك. فأما النكاية التي هي الاستعباد فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين، أعني ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه" واتباعا لفعل أبي بكر، وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية. وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير. وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة. والسبب في اختلافهم تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن ظاهر قوله تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية، أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} الآية. والسبب الذي نزلت فيه من أسارى بدر يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد، وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد قتل الأسارى في غير ما موطن وقد من واستعبد النساء. وحكى أبو عبيد أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم، فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال: لا يقتل الأسير، ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية، ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال: بجواز قتل الأسير، والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز، واتفقوا على جواز تأمين الإمام، وجمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام.

واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة، فالجمهور على جوازه، وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فهذا يوجب أمان العبد بعمومه. وأما القياس المعارض له فهو أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس. وأما اختلافهم في أمان المرأة، فسببه اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وقياس المرأة في ذلك على الرجل، وذلك أن من فهم من قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" إجازة أمانها لا صحته في نفسه، وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال: لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام، ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال: أمان المرأة جائز، وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها، ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها، وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل، وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا؟ أعني بحسب العرف الشرعي. وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين. وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا، وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها، وذلك لما ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان، وقال في امرأة مقتولة: ما كانت هذه لتقاتل"

واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف، فقال مالك: لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الثوري والأوزاعي: لا تقتل الشيوخ فقط. وقال الأوزاعي: لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف.

والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله إلا الله" الحديث، وذلك في قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف؛ فمنها ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع" ومنها أيضا ما روي عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا" خرجه أبو داود، ومن ذلك أيضا ما رواه مالك عن أبي بكر أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وفيه: ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما".

ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} لقوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية. فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال: الآية على عمومها، ومن رأى أن قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} وهي محكمة وأنها تتناول (قوله تتناول الخ: هكذا هذه العبارة ولينظر التناول بعد قوله يقاتلونكم تأمل ا هـ مصححه). هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك، وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي الكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار.

وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل الحراث، فإنه احتج في ذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه: لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين. وجاء في حديث رباح بن ربيعة النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك "أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ثم قال: ما كانت هذه لتقاتل، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم: الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة". والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف. وصح النهي عن المثلة،

واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح، واختلفوا في تحريقهم بالنار، فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها وهو قول عمر. ويروى عن مالك، وأجاز ذلك سفيان الثوري، وقال بعضهم: إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما قوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولم يستثن قتلا من قتل. وأما الخصوص فما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل "إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء "أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف"؛ وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين، فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} الآية. وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة، فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم. وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك، فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل، وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك، وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل.

والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير" وثبت عن أبي بكر أنه قال: لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا، فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله، أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر، ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال: بتحريق الشجر. وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة، ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا، فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم.

*4*الفصل الرابع في شرط الحرب.

@-فأما شرط الحرب فهو بلوغ الدعوة باتفاق، أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه من المسلمين لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وأما هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب فإنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من أوجبها، ومنهم من استحبها ومنهم من لم يوجبها ولا استحبها. والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل، وذلك "أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دراهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبو فاستعن بالله وقاتلهم" وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت للعدو ويغير عليهم مع الغدوات، فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة، ومن الناس من رجح القول على الفعل، وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص، ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع.

*4*الفصل الخامس في معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم.

@-وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم فهم الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} الآية. وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن الواحد إذا كان أعتق جوادا منه وأجود سلاحا وأشد قوة.

*4*الفصل السادس في جواز المهادنة.

@-فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين، وإما بلا شيء يأخذونه منهم، وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي: لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم أو لمحنة نزلت بهم، وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة مالك والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة معارضة ظاهر قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} لقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك صلى الله عليه وسلم، وذلك أن صلحه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة. وأما الشافعي فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وكان هذا مخصصا عنده بفعله عليه الصلاة والسلام عام الحديبية لم ير أن يزاد على المدة التي صالح عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في هذه المدة، فقيل كانت أربع سنين وقيل ثلاثا، وقيل عشر سنين، وبذلك قال الشافعي. وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطوا لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غيرها فمصيرا إلى ما روي "أنه كان عليه الصلاة والسلام قد هم أن يعطي بعض ثمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم، فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من ثمر المدينة حتى أفاء الله بنصره". وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين، لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى.

*4*الفصل السابع لماذا يحاربون؟

@-فأما لماذا يحاربون؟ فاتفق المسلمون على أن المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية لقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله صلى الله عليه وسلم "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك، وبه قال مالك. وقوم استثنوا من ذلك مشركي العرب. وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب، ومعلوم أنهم كانوا من غير أهل كتاب "فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال، فذكر الجزية فيها" وقد تقدم الحديث. فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال: لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة براءة، ذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة، ومن رأى أن العموم يبني على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال: تقبل الجزية من جميع المشركين وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين فخرج من ذلك العموم باتفاق بخصوص قوله تعالى {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وسيأتي القول في الجزية وأحكامها في الجملة الثانية من هذا الكتاب، فهذه هي أركان الحرب. ومما يتعلق بهذه الجملة من المسائل المشهورة: النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وعامة الفقهاء على أن ذلك غير جائز لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا كان في العساكر المأمونة. والسبب في اختلافهم هل النهي عام أريد به العام أو عام أريد به الخاص.

*3*(الجملة الثانية) والقول المحيط بأصول هذه الجملة ينحصر أيضا في سبعة فصول: الأول: في حكم الخمس. الثاني: في حكم الأربعة الأخماس. الثالث: في حكم الأنفال. الرابع: في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار. الخامس: في حكم الأرضين. السادس: في حكم الفيء. السابع: في أحكام الجزية والمال الي يؤخذ منهم على طريق الصلح.

*4*الفصل الأول في حكم خمس الغنيمة.

@-واتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ قسرا من أيدي الروم ما عدا الأرضين أن خمسها للإمام وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} الآية. واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة: أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية، وبه قال الشافعي. والقول الثاني أنه يقسم على أربعة أخماس، وأن قوله تعالى {فأن لله خمسه} هو افتتاح كلام وليس هو قسما خامسا. والقول الثالث أنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام، وأن سهم النبي وذي القربى سقطا بموت النبي صلى الله عليه وسلم. والقول الرابع أن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير، وهو قول مالك وعامة الفقهاء. والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم القرابة بعد موته. فقال قوم: يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس. وقال قوم: بل يرد على باقي الجيش. وقال قوم: بل سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للإمام، وسهم ذوي القربى لقرابة الإمام. وقال قوم: بل يجعلان في السلاح والعدة. واختلفوا في القرابة من هم؟ فقال قوم: بنو هاشم فقط، وقال قوم: بنو عبد المطلب وبنو هاشم. وسبب اختلافهم في هل الخمس يقصر على الأصناف المذكورين أم يعدي لغيرهم هو هل ذكر تلك الأصناف في الآية المقصود منها تعيين الخمس لهم أم قصد التنبيه بهم على غيرهم فيكون ذلك من باب الخاص أريد به العام؟ فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يتعدى بالخمس تلك الأصناف المنصوص عليها وهو الذي عليه الجمهور، ومن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام قال يجوز للإمام أن يصرفها فيما يراه صلاحا للمسلمين، واحتج من رأى أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم للإمام بعده بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا أطعم الله نبيا طعمة فهو للخليفة بعده" وأما من صرفه على الأصناف الباقين أو على الغانمين فتشبيها بالصنف المحبس عليهم. وأما من قال القرابة هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب فإنه احتج بحديث جبير بن مطعم قال "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب من الخمس" قال: وإنما بنو هاشم وبنو المطلب صنف واحد، ومن قال بنو هاشم صنف فلأنهم الذين لا يحل لهم الصدقة. واختلف العلماء في سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس؛ فقال قوم: الخمس فقط، ولا خلاف عندهم في وجوب الخمس له غاب عن القسمة أو حضرها. وقال قوم: بل الخمس والصفي وهو سهم مشهور له صلى الله عليه وسلم، وهو شيء كان يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو أمة أو عبد. وروي أن صفية كانت من الصفي. وأجمعوا على أن الصفي ليس لأحد من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا ثور فإنه قال: يجري مجرى سهم النبي صلى الله عليه وسلم.

*4*الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس.

@-وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام. واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ومتى يجب وكم يجب وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم؟ فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. وقال قوم: إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام، وقال قوم: بل يأخذه كله الغانم. فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية، وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع في ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام، فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك وهو ضعيف. وأما من له السهم من الغنيمة؟ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين، واختلفوا في أضدادهم: أعني في النساء والعبيد ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ فقال قوم ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ولكن يرضخ لهم، وبه قال مالك، وقال قوم: لا يرضخ لهم ولا لهم حظ الغانمين، وقال قوم: بل لهم حظ واحد من الغانمين، وهو قول الأوزاعي. وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق، فمنهم من قال: يقسم له وهو مذهب الشافعي، ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال، وهو مذهب مالك، ومنه من قال: يرضخ له. وسبب اختلافهم في العبيد هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية، وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، ذكره ابن أبي شبية من طرق عنهما، قال أبو عمر بن عبد البر: أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم، وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم لها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة". وسبب اختلافهم هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا غزت لها تأثير في الحرب أم لا؟ فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو، فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة، ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى إما لم يوجب لهن شيئا وإما أوجب لهن دون حظ الغانمين وهو الإرضاخ، والأولى اتباع الأثر، وزعم الأوزاعي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر" وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا؟ فقال مالك: لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وقال قوم: بل يسهم إذا شهدوا القتال.

وسبب اختلافهم هو تخصيص عموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين، وذلك أن من رأى أن التجار والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين لأنهم لم يقصدوا القتال وإنما قصدوا إما التجارة وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم. ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره، ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم، فقال نعم فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه واعتذر له بأمر عياله وأهله، فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم فقال عبد الرحمن: سأذكر أمرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته" وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا، أعني أن يعين القاعد منهم الغازي. وقد اختلف العلماء في الجعائل، فأجازها مالك ومنعها غيره، ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط أو إذا كانت ضرورة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة، فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور. وقال قوم: إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها، وهو قول أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم سببان: القياس والأثر. أما القياس فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ؟ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ: أعني في أخذ الغنيمة وبذلك استحق السهم، والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين له تأثير في الحفظ، فمن شبه التأثير في الحفظ بالتأثير في الأخذ قال: يجب له السهم وإن لم يحضر القتال، ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له.

وأما الأثر فإن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما ما روي عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما فتحوها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها" والأثر الثاني ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر "إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها" قالوا: فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام. قال أبو بكر بن المنذر: وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم، فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "وترد سراياهم على قعدتهم" خرجه أبو داود، ولأن لهم تأثير أيضا في أخذ الغنيمة. وقال الحسن البصري: إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية، وإن خرجوا بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين أهل الجيش كله. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية وإن شاء نفله كله. والسبب أيضا في هذا الاختلاف هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها وهم أهل السرية، فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين: إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، وأما كم يجب للمقاتل فإنهم اختلفوا في الفارس، فقال الجمهور: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان: سهم لفرسه، وسهم له.

والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر، وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم: سهمان للفرس، وسهم لراكبه" وخرج أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري مثل قول أبي حنيفة. وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان، هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له، وهذا القياس ليس بشيء، لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل بل لعله واجب مع أن حديث ابن عمر أثبت. وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم فإن المسلمون اتفقوا على تحريم الغول لما ثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله عليه الصلاة والسلام "أد الخائط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة" إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب. واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو فأباح ذلك الجمهور، ومنع من ذلك قوم وهو مذهب ابن شهاب. والسبب في اختلافهم معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى، فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة، ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك، وحديث ابن مغفل هو قال: "أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت لا أعطي منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم" خرجه البخاري ومسلم. وحديث ابن أبي أوفى قال "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه" خرجه أيضا البخاري. واختلفوا في عقوبة الغال، فقال قوم: يحرق رحله، وقال بعضهم: ليس له عقاب إلا التعزير. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام "من غل فأحرقوا متاعه".

*4*الفصل الثالث في حكم الأنفال.

@-وأما تنفيل الإمام من الغنيمة لمن شاء، أعني أن يزيده على نصيبه، فإن العلماء اتفقوا على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وهل يجب السلب للقاتل أم ليس يجب إلا أن ينفله له الإمام؟ فهذه أربع مسائل هي قواعد هذا الفصل.

@-(أما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: النفل يكون من الخمس الواجب لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك: وقال قوم: بل النفل إنما يكون من خمس الخمس وهو حظ الإمام فقط، وهو الذي اختاره الشافعي. وقال قوم: بل النفل من جملة الغنيمة، وبه قال أحمد وأبو عبيدة، ومن هؤلاء من أجاز تنفيل جميع الغنيمة. والسبب في اختلافهم هو هل بين الآيتين الواردتين في المغانم تعارض أم هما على التخيير؟ أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية، وقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} الآية. فمن رأى أن قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} ناسخا لقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} قال: لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس. ومن رأى أن الآيتين لا معارضة بينهما وأنهما على التخيير، أعني أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة من شاء، وله ألا ينفل بأن يعطى جميع أرباع الغنيمة للغانمين قال بجواز النفل من رأس الغنيمة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، وفي ذلك أثران: أحدهما ما روى مالك عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله ابن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا" وهذا يدل على أن النفل كان بعد القسمة من الخمس. والثاني حديث حبيب بن مسلمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة" يعني في بداءة غزوه عليه الصلاة والسلام وفي انصرافه.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي ما مقدار ما للإمام أن ينفل من ذلك؟ عند الذين أجازوا النفل من رأس الغنيمة فإن قوما قالوا: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو الربع على حديث حبيب بن مسلمة. وقال قوم: إن نفل الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة، وأنها على عمومها غير مخصصة. ومن رأى أنها مخصصة بهذا الأثر قال: لا يجوز أن ينفل أكثر من الربع أو الثلث.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل يجوز الوعد بالتنفيل قبل الحرب أم ليس يجوز ذلك؟ فإنهم اختلفوا فيه، فكره ذلك مالك وأجازه وجماعة. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم مقصد الغزو لظاهر الأثر، وذلك أن الغزو إنما يقصد به وجه الله العظيم، ولتكون كلمة الله هي العليا، فإذا وعد الإمام بالنفل قبل الحرب خيف أن يسفك دماءهم الغزاة في حق غير الله. وأما الأثر الذي يقتضي ظاهره جواز الوعد بالنفل فهو حديث حبيب بن مسلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفل في الغزو السرايا الخارجة من العسكر الربع وفي القفول الثلث" ومعلوم أن المقصود من هذا إنما هو التنشيط على الحرب.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي هل يجب سلب المقتول للقاتل أو ليس يجب إلا إن نفله له الإمام؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة السلف: واجب للقاتل قال ذلك الإمام أو لم يقله. ومن هؤلاء من جعل السلب له على كل حال ولم يشترط في ذلك شرطا. ومنهم من قال لا يكون له السلب إلا إذا قتله مقبلا غير مدبر، وبه قال الشافعي. ومنهم من قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا كان القتل قبل معمعة الحرب أو بعدها. وأما إن قتله في حين المعمعة فليس له سلب، وبه قال الأوزاعي. وقال قوم: إن استكثر الإمام السلب جاز أن يخمسه. وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال "من قتل قتيلا فله سلبه" أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق للقاتل، ومالك رحمه الله قوي عنده أنه على جهة النفل من قبل أنه لم يثبت عنده أنه قال ذلك عليه الصلاة والسلام ولا قضى به إلا أيام حنين، ولمعارضة آية الغنيمة له إن حمل ذلك على الاستحقاق: أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. فإنه لما نص في الآية على أن الخمس لله علم أن الأربعة الأخماس واجبة للغانمين كما أنه لما نص على الثلث للأم في المواريث علم أن الثلثين للأب. قال أبو عمر: وهذا القول محفوظ عنه صلى الله عليه وسلم في حنين وفي بدر. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كنا لا نخمس السلب على عهد رسول صلى الله عليه وسلم". وخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل" وخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خمسته قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام، وبهذا تمسك من فرق بين السلب القليل والكثير. واختلفوا في السلب الواجب ما هو؟ فقال قوم: له جميع ما وجد على المقتول، واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة.

*4*الفصل الرابع في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار.

@-وأما أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة: أحدها أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه وأبو ثور، والقول الثاني أن ما استرد المسلمون من ذلك فهو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء، وهذا القول قاله الزهري وعمرو بن دينار، وهو مروي عن علي بن أبي طالب. والقول الثالث أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن، وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة، وهؤلاء انقسموا قسمين: فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار، وفي أي موضع صار، وممن قال بهذا القول مالك والثوري وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب. وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين، وبين ما اخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك، فقالوا: ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له، وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن. قالوا: وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده، وهذا هو القول الرابع.

واختلافهم راجع إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها؟ وسبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الآثار في هذا الباب والقياس، وذلك أن حديث عمران بن حصين يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا، وهو قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن نجاها الله لتنحرها، فلما قدمت إلى المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: "بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية" وكذلك يدل ظاهر حديث ابن عمر على مثل هذا، وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حديثان ثابتان. وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين فقوله عليه الصلاة والسلام "وهل ترك لنا عقيل من منزل" يعني أنه باع دوره التي كانت له بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. وأما القياس فإن من شبه الأموال بالرقاب قال الكفار كما لا يملكون رقابهم، فكذلك لا يملكون أموالهم كحال الباغي مع العادل، أعني أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا، ومن قال يملكون قال: من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه، وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين، فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال فهم مالكون، إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا.

وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده، وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة بأن صار إليهم من تلقائه مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر، وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا أو لا يملكه إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي، لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة" لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث، والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك هو قضاء عمر بذلك، ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له، وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين، وكذلك قول مالك في أم الولد إنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها، فإن لم يكن له مال أعطيت له، واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر هو قول أيضا ليس له حظ من النظر لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن، وإن ملكوها فلا سبيل له عليها، وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع، ومن هذا الأصل، أعني اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك؟ اختلف الفقهاء في الكافر يسلم وبيده مال مسلم هل يصح له أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يصح له. وقال الشافعي: على أصله لا يصح له. واختلف مالك وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم، فقال أبو حنيفة: هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن، وقال مالك: هو لصاحبه، فلم يجر على أصله.

ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار ولده وزوجه وماله هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك أم ليس لما ترك حرمة؟ فمنهم من قال: لكل ما ترك حرمة الإسلام؛ ومنهم من قال: ليس له حرمة؛ ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد فقال: ليس للمال حرمة، وللولد والزوجة حرمة، وهذا جار على غير قياس وهو قول مالك، والأصل أن المبيح للمال هو الكفر، وأن العاصم له هو الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فمن زعم أن ههنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل، وليس ههنا دليل تعارض به هذه القاعدة، والله أعلم.

*4*الفصل الخامس في حكم ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة.

@-واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة. فقال مالك: لا تقسم الأرض وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض. وقال الشافعي: الأرضون المفتتحة تقسم كما تقسم الغنائم: يعني خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج ويقرها بأيديهم. وسبب اختلافهم ما يظن من التعارض بين آية سورة الأنفال وآية سورة الحشر، وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يخمس، وهو قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم} وقوله تعالى في آية الحشر {والذين جاءوا من بعدهم} عطفا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم} ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق حتى الراعي بكداء أو كلاما هذا معناه، ولذلك لم تقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر؛ فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال استثنى من ذلك الأرض؛ ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد، بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة وآية الحشر في الفيء على ما هو ظاهر من ذلك قال: تخمس الأرض ولا بد، ولا سيما "أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر بين الغزاة". قالوا: فالواجب أن تقسم الأرض لعموم الكتاب وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلا عن العام. وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة وبين أن يقر الكفار فيها على خراج يؤدونه، لأنه زعم أنه قد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم" قالوا: فظهر من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قسم جميعها ولكنه قسم طائفة من الأرض وترك طائفة لم يقسمها، قالوا: فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة والإقرار بأيديهم، وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه. وإن أسلموا بعد الغلبة عليهم كان مخيرا بين المن عليهم أو قسمتها على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: أعني من المن، وهذا إنما يصح على رأي من رأى أنه افتتحها عنوة، فإن الناس اختلفوا في ذلك وإن كان الأصح أنه افتتحها عنوة لأنه الذي خرجه مسلم. وينبغي أن تعلم أن قول من قال: إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار، وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد، فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان، لأن آية الأنفال توجب التخميس، وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس، وذلك في جميع الأموال المغنومة. وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب، ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين فأوجبت فيها الخمس، وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض فلم توجب فيها خمسا، وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال وذلك أن قوله تعالى {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حق للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف.

*4*الفصل السادس في قسمة الفيء.

@-وأما الفيء عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل. واختلف الناس في الجهة التي يصرف إليها؛ فقال قوم: إن الفيء لجميع المسلمين الفقير والغني، وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة وللحكام وللولاة، وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد وغير ذلك ولا خمس في شيء منه وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي بكر وعمر؛ وقال الشافعي: بل يكون فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، وإن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى، وأحسب أن قوما قالوا: إن الفيء غير مخمس، ولكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب. وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة وقد تقدم ذلك، أعني أن من جعل ذكر الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال: هو لهذه الأصناف المذكورين ومن فوقهم. ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين يستوجبون هذا المال قال: لا يتعدى به هؤلاء الأصناف، أعني أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التبيه. وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أن فيه الخمس، لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر، بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه، وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم. وخرج مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وهذا يدل على مذهب مالك.

*4*الفصل السابع في الجزية.

@-والكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل: المسألة الأولى: ممن يجوز أخذ الجزية؟ الثانية: على أي الأصناف منهم تجب الجزية؟ الثالثة: كم تجب؟ الرابعة: متى تجب ومتى تسقط؟ الخامسة: كم أصناف الجزية؟ السادسة: فيماذا يصرف مال الجزية؟

@-(المسألة الأولى) فأما من يجوز أخذ الجزية منه؟ فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم ومن المجوس كما تقدم، واختلفوا في أخذها ممن لا كتاب له وفيمن هو من أهل الكتاب من العرب بعد اتفاقهم فيما حكى بعضهم أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي، وقد تقدمت هذه المسألة.

@-(المسألة الثانية) وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم؟ فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف الذكورية والبلوغ والحرية، وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت إنما هي عوض من القتل والقتل إنما هو متوجه بالأمر نحو الرجال البالغين إذ قد نهى عن قتل النساء والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد. واختلفوا في أصناف من هؤلاء: منها في المجنون وفي المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع، ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا؟ وكل هذه المسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي. وسبب اختلافهم مبني على هل يقتلون أم لا؟ أعني هؤلاء الأصناف.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي كم الواجب فإنهم اختلفوا في ذلك، فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الإمام وبه قال الثوري؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزاد الغني على ثمانية وأربعين درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما؛ وقال أحمد: دينار أو عدله معافر لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر" وهي ثياب باليمن. وثبت عن عمر أنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر. فمن حمل هذه الأحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما، قال: لا حد في ذلك وهو الأظهر والله أعلم. ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال: أقله محدود ولا حد لأكثره. ومن رجح أحد حديثي عمر قال: إما بأربعين درهما وأربعة دنانير، وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر على ما تقدم. ومن رجح حديث معاذ لأنه مرفوع قال: دينار فقط أو عدله معافرا لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي متى تجب الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول، وأنه تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول. واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه؟ فقال قوم: إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان بعد إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور؛ وقالت طائفة: إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه، وإنهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول. لأن الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الإسلام قبل تقرر الوجوب، أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب؛ وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها قد وجبت؛ فمن رأى أن الإسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من الواجبات قال: تسقط عنه وإن كان إسلامه بعد الحول؛ ومن رأى أنه لا يهدم الإسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المترتبة مثل الديون وغير ذلك قال: لا تسقط بعد انقضاء الحول. فسبب اختلافهم هو هل الإسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها.

@-(وأما المسألة الخامسة) وهي كم أصناف الجزية؟ فإن الجزية عندهم ثلاثة أصناف: جزية عنوية، وهي هذه التي تكلمنا فيها، أعني التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم. وجزية صلحية، وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم، وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه، وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح إلا أن يقول قائل: إنه إن كان قبول الجزية الصلحية واجبا على المسلمين فقد يجب أن يكون ههنا قدر ما إذا أعطاه من أنفسهم الكفار وجب على المسلمين قبول ذلك منهم فيكون أقلها محدودا وأكثرها غير محدود. وأما الجزية الثالثة فهي العشرية، وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم إلا ما روي عن طائفة منهم أنهم ضاعفوا الصدقة على نصارى بني تغلب، أعني أنهم أوجبوا إعطاء ضعف ما على المسلمين من الصدقة في شيء شيء من الأشياء التي تلزم فيها المسلمين الصدقة، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهم، وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص فيما حكوا، وقد تقدم ذلك في كتاب الزكاة. واختلفوا هل يجب العشر عليهم في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط؟ فرأى مالك وكثير من العلماء أن تجار أهل الذمة الذين لذمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية يجب أن يؤخذ منهم مما يجلبونه من بلد إلى بلد العشر، إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة فيؤخذ منه فيه نصف العشر، ووافقه أبو حنيفة في وجوبه بالإذن في التجارة أو بالتجارة نفسها وخالفه في القدر فقال: الواجب عليهم نصف العشر؛ ومالك لم يشترط عليهم في العشر الواجب عنده نصابا ولا حولا؛ وأما أبو حنيفة فاشترط في وجوب نصف العشر عليهم الحول والنصاب وهو نصاب المسلمين نفسه المذكور في كتاب الزكاة؛ وقال الشافعي: ليس يجب عليهم عشر أصلا ولا نصف عشر في نفس التجارة ولا في ذلك شيء محدود إلا ما اصطلح عليه أو اشترط، فعلى هذا تكون الجزية العشرية من نوع الجزية الصلحية؛ وعلى مذهب مالك وأبي حنيفة تكون جنسا ثالثا من الجزية غير الصلحية والتي على الرقاب. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يرجع إليها، وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم؛ فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب أن يكون ذلك سنتهم؛ ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط، إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال: ليس ذلك بسنة لازمة لهم إلا بالشرط. وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له: لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب؟ فقال: لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم. قال الشافعي: وأقل ما يجب أن يشارطوا عليه هو ما فرضه عمر رضي الله عنه، وإن شورطوا على أكثر فحسن. قال: وحكم الحربي إذا دخل بأمان حكم الذمي.

@-(وأما المسألة السادسة) وهي في ماذا تصرف الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها مشتركة لمصالح المسلمين من غير تحديد كالحال في الفيء عند من رأى أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام، حتى لقد رأى كثير من الناس أن اسم الفيء إنما ينطلق على الجزية في آية الفيء، وإذا كان الأمر هكذا، فالأموال الإسلامية ثلاثة أصناف: صدقة، وفيء، وغنيمة، وهذا القدر كاف في تحصيل قواعد هذا الكتاب والله الموفق للصواب.

*2*كتاب الإيمان

@-وهذا الكتاب ينقسم أولا إلى جملتين: الجملة الأولى: في معرفة ضروب الأيمان وأحكامها. والجملة الثانية: في معرفة الأشياء الرافعة للأيمان اللازمة وأحكامها.

*3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غير المباحة. الثاني: في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة. الثالث: في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها.

*4*الفصل الأول في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غيرها.

@-واتفق الجمهور على أن الأشياء منها ما يجوز في الشرع أن يقسم به، ومنها ما لا يجوز أن يقسم به. واختلفوا أي الأشياء التي هي بهذه الصفة؛ فقال قوم: إن الحلف المباح في الشرع هو الحلف بالله، وأن الحالف بغير الله عاص؛ وقال قوم: بل يجوز الحلف بكل معظم بالشرع؛ والذين قالوا إن الأيمان المباحة هي الأيمان بالله اتفقوا على إباحة الأيمان التي بأسمائه، واختلفوا في الأيمان التي بصفاته وأفعاله. وسبب اختلافهم في الحلف بغير الله من الأشياء المعظمة بالشرع معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر، وذلك أن الله قد أقسم في الكتاب بأشياء كثيرة مثل قوله {والسماء والطارق} وقوله {والنجم إذا هوى} إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في القرآن. وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" فمن جمع بين الأثر والكتاب بأن قال إن الأشياء الواردة في الكتاب المقسوم بها فيها محذوف وهو الله تبارك وتعالى، وأن التقدير: ورب النجم، ورب السماء قال: الأيمان المباحة هي الحلف بالله فقط؛ ومن جمع بينهما بأن المقصود بالحديث إنما هو أن لا يعظم من لم يعظم الشرع بدليل قوله فيه "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وأن هذا من باب الخاص أريد به العام أجاز الحلف بكل معظم في الشرع. فإذا سبب اختلافهم هو اختلافهم في بناء الآي والحديث. وأما من منع الحلف بصفات الله وأفعاله فضعيف. وسبب اختلافهم هو هل يقتصر بالحديث على ما جاء من تعليق الحكم فيه بالاسم فقط، أو يعدى إلى الصفات والأفعال، لكن تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير، وهو أشبه بمذهب أهل الظاهر وإن كان مرويا في المذهب حكاه اللخمي عن محمد بن المواز. وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله عز وجل، والحديث نص في مخالفة هذا المذهب.

*4*الفصل الثاني في معرفة الأيمان اللغوية والمنقعدة.

@-واتفقوا أيضا على أن الأيمان منها لغو ومنها منعقدة لقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} واختلفوا فيما هي اللغو؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من قول الرجل في أثناء المخاطبة لا والله لا بالله مما يجري على الألسنة بالعادة من غير أن يعتقد لزومه، وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن عائشة، والقول الأول مروي عن الحسن بن أبي الحسن وقتادة ومجاهد وإبراهيم النخعي. وفيه قول ثالث، وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان، وبه قال إسماعيل القاضي من أصحاب مالك. وفيه قول رابع، وهو الحلف على المعصية وروي عن ابن عباس. وفيه قول خامس، وهو أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئا مباحا له بالشرع. والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو، وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى {والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقد يكون الكلام الذي لا تنعقد عليه نية المتكلم به، ويدل على أن اللغو في الآية هو هذا أن هذه اليمين هي ضد اليمين المنعقدة وهي المؤكدة، فوجب أن يكون الحكم المضاد للشيء المضاد. والذين قالوا إن اللغو هو الحلف في إغلاق أو الحلف على ما لا يوجب الشرع فيه شيئا بحسب ما يعتقد في ذلك قوم، فإنما ذهبوا إلى أن اللغو ههنا يدل على معنى عرفي في الشرع وهي الأيمان التي يبين الشرع في مواضع أخر سقوط حكمها مثل ما روي أنه: "لا طلاق في إغلاق" وما أشبه ذلك، لكن الأظهر هما القولان الأولان: أعني قول مالك والشافعي.

*4*الفصل الثالث في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها. وهذا الفصل أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في الأيمان بالله المنعقدة هل يرفع جميعها الكفارة سواء كان حلفا على شيء ماض أنه كان فلم يكن وهي التي تعرف باليمين الغموس، وذلك إذا تعمد الكذب، أو على شيء مستقبل أنه يكون من قبل الحالف أو من قبل من هو بسببه فلم يكن، فقال الجمهور: ليس في اليمين الغموس كفارة، وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي وجماعة: يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس. وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر، وذلك أن قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة، وقوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة، ولكن للشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير، وهو الذي ورد فيه النص، أو يقول: إن الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم والحنث، فوجب ألا تكون الكفارة تهدم الأمرين جميعا، أو ليس يمكن فيها أن تهدم الحنث دون الظلم، لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة، وليس تتبعض التوبة في الذنب الواحد بعينه، فإن تاب ورد المظلمة وكفر سقط عنه جميع الإثم.

@-(المسألة الثانية) واختلف العلماء فيمن قال: أنا كافر بالله أو مشرك بالله أو يهودي أو نصراني إن فعلت كذا ثم يفعل ذلك هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك والشافعي: ليس عليه كفارة ولا هذه يمين؛ وقال أبو حنيفة: هي يمين وعليه فيها الكفارة إذا خالف اليمين وهو قول أحمد بن حنبل أيضا. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ماله حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط؟ ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا؟ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة: أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال: لا كفارة فيها إذ ليست بيمين؛ ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال: فيها الكفارة، لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه.

@-(المسألة الثالثة) واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب، وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق. واختلفوا هل فيها كفارة أم لا؟ فذهب مالك إلى أن لا كفارة فيها، وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد؛ وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق؛ وقال أبو ثور: يكفر من حلف بالعتق، وقول الشافعي مروي عن عائشة. وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية. ومن قال إنها من جنس النذر: أي من جنس الأشياء التي نص عليها الشرع على أنه إذا ألتزمها الإنسان لزمته قال: لا كفارة فيها لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها إيمانا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع. والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة، وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" وقال تعالى {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل، أعني الخارجة مخرج الشرط إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر، ولا بأيمان فترفعها الكفارة، فلم يوجبوا على من قال: إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة، بخلاف ما لو قال: علي المشي إلى بيت الله لأن هذا نذر باتفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه" فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو هل هي أيمان أو نذور؟ أو ليست أيمانا ولا نذورا؟ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى.

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا في قول القائل: أقسم أو أشهد إن كان كذا وكذا هل هو يمين أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل إنه ليس بيمين، وهو أحد قولي الشافعي؛ وقيل إنها أيمان ضد القول الأول، وبه قال أبو حنيفة؛ وقيل إن أراد الله بها فهو يمين، وإن لم يرد الله بها فليست بيمين، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو هل المراعى اعتبار صيغة اللفظ أو اعتبار مفهومه بالعادة أو اعتبار النية؟ فمن اعتبر صيغة اللفظ قال: ليست بيمين إذ لم يكن هنالك نطق بمقسوم به؛ ومن اعتبر صيغة اللفظ بالعادة قال: هي يمين وفي اللفظ محذوف ولا بد وهو الله تعالى؛ ومن لم يعتبر هذين الأمرين واعتبر النية إذ كان اللفظ صالحا للأمرين فرق في ذلك كما تقدم.

*3*(الجملة الثانية) وهذه الجملة تنقسم أولا قسمين: القسم الأول: النظر في الاستثناء. والثاني: النظر في الكفارات.

*4*القسم الأول. وفي هذا القسم فصلان: الفصل الأول: في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين. الفصل الثاني: في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء من التي لا يؤثر.

*5*الفصل الأول في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين.

@-وأجمعوا على أن الاستثناء بالجملة له تأثير في حل الأيمان واختلفوا في شروط الاستثناء الذي يجب له هذا الحكم بعد أن أجمعوا على أنه إذا اجتمع في الاستثناء ثلاثة شروط أن يكون متناسقا مع اليمين وملفوظا به ومقصودا من أول اليمين أنه لا ينعقد معه اليمين؛ واختلفوا في هذه الثلاثة مواضع، أعني إذا فرق الاستثناء من اليمين أو نواه ولم ينطق به أو حدثت له نية الاستثناء بعد اليمين وإن أتى به متناسقا مع اليمين.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي اشتراط اتصاله بالقسم فإن قوما اشترطوا ذلك فيه، وهو مذهب مالك؛ وقال الشافعي: لا بأس بينهما بالسكتة الخفيفة كسكتة الرجل للتذكر أو للتنفس أو لانقطاع الصوت. وقال قوم من التابعين يجوز للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه؛ وكان ابن عباس يرى أن له الاستثناء أبدا على ما ذكر منه متى ما ذكر، وإنما اتفق الجميع على أن استثناء مشيئة الله في الأمر المحلوف على فعله إن كان فعلا أو على تركه إن كان تركا رافع لليمين، لأن الاستثناء هو رفع للزوم اليمين. قال أبو بكر بن المنذر: ثبت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" وإنما اختلفوا هل يؤثر في اليمين إذا لم توصل بها أو لا يؤثر؟ لاختلافهم هل الاستثناء حال للانعقاد أم هو مانع له؟ فإذا قلنا إنه مانع للانعقاد لا حال له اشترط أن يكون متصلا باليمين، وإذا قلنا إنه حال لم يلزم فيه ذلك. والذين اتفقوا على أنه حال اختلفوا هل هو حال بالقرب أو بالبعد على ما حكينا، وقد احتج من رأى أنه حال بالقرب بما رواه سعد عن سماك ابن حرب عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله" فدل هذا على أن الاستثناء حال لليمين لا مانع لها من الانعقاد. قالوا: ومن الدليل على أنه حال بالقرب أنه لو كان حالا بالبعد على ما رواه ابن عباس لكان الاستثناء يغني عن الكفارة والذي قالوه بين. وأما اشتراط النطق باللسان فإنه اختلف فيه، فقيل لابد فيه من اشتراط اللفظ أي لفظ كان من ألفاظ الاستثناء وسواء كان بألفاظ الاستثناء أو بتخصيص العموم أو بتقييد المطلق هذا هو المشهور. وقيل إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف إلا فقط: أي بما يدل عليه لفظ إلا، وليس ينفع ذلك فيما سواه من الحروف، وهذه التفرقة ضعيفة. والسبب في هذا الاختلاف هو هل تلزم العقود اللازمة بالنية فقط دون اللفظ أو باللفظ والنية معا مثل الطلاق والعتق واليمين وغير ذلك.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي هل تنفع النية الحادثة في الاستثناء بعد انقضاء اليمين؟ فقيل أيضا في المذهب إنها تنفع إذا حدثت متصلة باليمين؛ وقيل بل إذا حدثت قبل أن يتم النطق باليمين؛ وقيل بل الاستثناء على ضربين: استثناء من عدد، واستثناء من عموم بتخصيص أو من مطلق بتقييد، فالاستثناء من العدد لا ينفع فيه إلا حدوث النية قبل النطق باليمين؛ والاستثناء من العموم ينفع فيه حدوث النية بعد اليمين إذا وصل الاستثناء نطقا باليمين. وسبب اختلافهم هل الاستثناء مانع للعقد أو حال له؟ فإن قلنا إنه مانع فلا بد من اشتراط حدوث النية في أول اليمين؛ وإن قلنا إنه حال لم يلزم ذلك؛ وقد أنكر عبد الوهاب أن يشترط حدوث النية في أول اليمين للاتفاق وزعم على أن الاستثناء حال لليمين كالكفارة سواء.

*5*الفصل الثاني من القسم الأول في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء وغيرها.

@-وقد اختلفوا في الأيمان التي يؤثر فيها استثناء مشيئة الله من التي لا يؤثر فيها. فقال مالك وأصحابه: لا تؤثر المشيئة إلا في الأيمان التي تكفر وهي اليمين بالله عندهم أو النذر المطلق على ما سيأتي. وأما الطلاق والعتاق فلا يخلو أن يعلق الاستثناء في ذلك بمجرد الطلاق أو العتق فقط مثل أن يقول: هي طالق إن شاء الله أو عتيق إن شاء الله، وهذه ليست عندهم يمينا. وإما أن يعلق الطلاق بشرط من الشروط، مثل أن يقول: إن كان كذا فهي طالق إن شاء الله، أو إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله. فأما القسم الأول فلا خلاف في المذهب أن المشيئة غير مؤثرة فيه. وأما القسم الثاني وهو اليمين بالطلاق ففي المذهب فيه قولان أصحهما أنه إذا صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق صح وإن صرفه إلى نفس الطلاق لم يصح. وقال أبو حنيفة والشافعي: الاستثناء يؤثر في ذلك كله سواء قرنه بالقول الذي مخرجه مخرج الشرط، أو بالقول الذي مخرجه مخرج الخبر. وسبب الخلاف ما قلناه من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع؟ فإذا قلنا مانع وقرن بلفظ مجرد الطلاق فلا تأثير له فيه إذ قد وقع الطلاق، أعني إذا قال الرجل لزوجته: هي طالق إن شاء الله، لأن المانع إنما يقوم لما لم يقع وهو المستقبل؛ وإن قلنا إنه حال للعقود وجب أن يكون له تأثير في الطلاق وإن كان قد وقع، فتأمل هذا فإنه بين؛ ولا معنى لقول المالكية إن الاستثناء في هذا مستحيل لأن الطلاق قد وقع، إلا أن يعتقدوا أن الاستثناء هو مانع لا حال، فتأمل هذا فإنه ظاهر إن شاء الله.

*4*القسم الثاني من الجملة الثانية.

@-وهذا القسم فيه فصول ثلاثة قواعد. الفصل الأول: في موجب الحنث وشروطه وأحكامه. الفصل الثاني: في رافع الحنث وهي الكفارات. الفصل الثالث: متى ترفع وكم ترفع.

*5*الفصل الأول في موجب الحنث وشروطه وأحكامه.

@-واتفقوا على أن موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين، وذلك إما فعل ما حلف على ألا يفعله وإما ترك ما حلف على فعله إذا علم أنه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله وذلك في اليمين بالترك المطلق، مثل أن يحلف لتأكلن هذا الرغيف فيأكله غيره؛ أو إلى وقت هو غير الوقت الذي اشترط في وجود الفعل عنه، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدود، مثل أن يقول: والله لأفعلن اليوم كذا وكذا، فإنه إذا انقضى النهار ولم يفعل حنث ضرورة. واختلفوا من ذلك في أربعة مواضع: أحدها إذا أتى بالمخالف ناسيا أو مكرها. والثاني هل يتعلق موجب اليمين بأقل ما ينطلق عليه الاسم أو بجميعه. والموضع الثالث هل يتعلق اليمين بالمعنى المساوي لصيغة اللفظ أو بمفهومه المخصص للصيغة والمعمم لها. والموضع الرابع هل اليمين على نية الحالف أو المستحلف.

@-(فأما المسألة الأولى) فإن مالكا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد؛ والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا على المكره. وسبب اختلافهم معارضة العموم قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} ولم يفرق بين عامد وناس لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن هذين العمومين يمكن أن يخصص كل واحد منهما بصاحبه.

@-(وأما الموضع الثاني) فمثل أن يحلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أنه يفعل شيئا فلم يفعل بعضه؛ فعند مالك إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرأ إلا بأكله كله، وإذا قال: لا آكل هذا الرغيف إنه يحنث إن أكل بعضه؛ وعند الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث في الوجهين جميعا حملا على الأخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم. وأما تفريق مالك بين الفعل والترك فلم يجر في ذلك على أصل واحد لأنه أخذ في الترك بأقل ما يدل عليه الاسم وأخذ في الفعل بجميع ما يدل عليه الاسم، وكأنه ذهب إلى الاحتياط.

@-(وأما المسألة الثالثة) فمثل أن يحلف على شيء بعينه يفهم منه القصد إلى معنى أعم من ذلك الشيء الذي لفظ به أو أخص، أو يحلف على شيء وينوي به معنى أعم أو أخص، أو يكون للشيء الذي حلف عليه اسمان أحدهما لغوي والآخر عرفي وأحدهما أخص من الآخر. وأما إذا حلف على شيء بعينه فإنه لا يحنث عند الشافعي وأبي حنيفة إلا بالمخالفة الواقعة في ذلك الشيء بعينه الذي وقع عليه الحلف وإن كان المفهوم منه معنى أعم أو أخص من قبل الدلالة العرفية. وكذلك أيضا فيما أحسب لا يعتبرون النية المخالفة للفظ، وإنما يعتبرون مجرد الألفاظ فقط. وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة؛ وقيل لا يراعي إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط؛ وقيل يراعي النية وبساط الحال ولا يراعي العرف وأما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها فإنه إن جاء الحالف مستفتيا كان حكمه حكم اليمين التي لا يقضي بها على صاحبها من مراعاة هذه الأشياء فيها على هذا الترتيب وإن كان مما يقضي بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يشهد لما يدعي من النية المخالفة لظاهر اللفظ قرينة الحال أو العرف.

@-(وأما المسألة الرابعة) فإنهم اتفقوا على أن اليمين على نية المستحلف في الدعاوي واختلفوا في غير ذلك مثل الأيمان على المواعيد، فقال قوم: على نية الحالف. وقال قوم: على نية المستحلف. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "اليمين على نية المستحلف" وقال عليه الصلاة والسلام "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" خرج هذين الحديثين مسلم. ومن قال: اليمين على نية الحالف. فإنما اعتبر المعنى القائم بالنفس من اليمين لا ظاهر اللفظ. وفي هذا الباب فروع كثيرة. لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب إذ يكاد أن يكون جميع الاختلاف الواقع في هذا الباب راجعا إلى الاختلاف في هذه. وذلك في الأكثر مثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل رءوسا فأكل رءوس حيتان هل يحنث أم لا؟ فمن راعى العرف قال: لا يحنث؛ ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. ومثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما؛ فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال: لا يحنث؛ ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال: يحنث.

وبالجملة فاختلافهم في المسائل الفروعية التي في هذا الباب هي راجعة إلى اختلافهم في هذه المسائل التي ذكرنا، وراجعة إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي يحلف بها، وذلك أن منها ما هي مجملة، ومنها ما هي ظاهرة، ومنها ما هي نصوص.

*5*الفصل الثاني في رافع الحنث.

@-واتفقوا على أن الكفارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع التي ذكر الله في كتابه في قوله تعالى {فكفارته} الآية. وجمهورهم على أن الحالف إذا حنث مخير بين الثلاثة منها: أعني الإطعام أو الكسوة أو العتق، وأنه لا يجوز له الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاثة لقوله تعالى {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غلظ اليمين أعتق أو كسا، وإذا لم يغلظها أطعم. واختلفوا من ذلك في سبع مسائل مشهورة: المسألة الأولى: في مقدار الإطعام لكل واحد من العشرة مساكين. الثانية: في جنس الكسوة إذا اختار الكسوة وعددها. الثالثة: في اشتراط التتابع في صيام الثلاثة الأيام أو لا إشتراطه. الرابعة: في اشتراط العدد في المساكين. الخامسة: في اشتراط الإسلام فيهم والحرية. والسادسة: في اشتراط السلامة في الرقبة المعتقة من العيوب. السابعة: في اشتراط الإيمان فيها.

@-(المسألة الأولى) أما مقدار الإطعام؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مالكا قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم. وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعطيهم نصف صاع من حنطة، أو صاعا من شعير أو تمر، قال: فإن غداهم وعشاهم أجزأه. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غذاء وعشاء؟ فمن قال أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع؛ ومن قال غداء وعشاء قال: نصف صاع. ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدا في رمضان وبين كفارة الأذى؛ فمن شبهها بكفارة الفطر قال: مد واحد، ومن شبهها بكفارة الأذى قالا: نصف صاع. واختلفوا هل يكون مع الخبز في ذلك إدام أم لا؟ وإن كان فما هو الوسط فيه؟ فقيل يجزي الخبز قفارا؛ وقال ابن حبيب: لا يجزي؛ وقيل الوسط من الإدام الزيت؛ وقيل اللبن والسمن والتمر. واختلف أصحاب مالك من الأهل الذين أضاف إليهم الوسط من الطعام في قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} فقيل أهل المكفر وعلى هذا إنما يخرج الوسط من الشيء الذي منه يعيش إن قطنية فقطنية وإن حنطة فحنطة، وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيه، وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه: أعني الغالب، وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام، أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله، أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي المجزئ من الكسوة. فإن مالكا رأى أن الواجب في ذلك هو أن يكسي ما يجزئ فيه الصلاة، فإن كسا الرجل كسا ثوبا وإن كسا النساء كسا ثوبين درعا وخمارا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يجزئ في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم إزار أو قميص أو سراويل أو عمامة، وقال أبو يوسف: لا تجزئ العمامة ولا السراويل. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه واشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف، وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} . والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل الواجب بالشرع إنما هو التتابع.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي اشتراط العدد في المساكين، فإن مالكا والشافعي قالا: لا يجزيه إلا أن يطعم عشرة مساكين؛ وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام أجزأه. والسبب في اختلافهم هل الكفارة حق واجب للعدد المذكور أو حق واجب على المكفر فقدر بالعدد المذكور، فإن قلنا إنه حق واجب للعدد كالوصية، فلابد من اشتراط العدد، وإن قلنا حق واجب على المكفر لكنه قدر بالعدد أجزأ من ذلك إطعام مسكين واحد على عدد المذكورين والمسألة محتملة.

@-(وأما المسألة الخامسة) وهي اشتراط الإسلام والحرية في المساكين، فإن مالكا والشافعي اشترطاهما ولم يشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم هل استيجاب الصدقة هو بالفقر فقط؟ أو بالإسلام؟ إذ كان السمع قد أنبأ أنه يثاب بالصدقة على الفقير الغير المسلم، فمن شبه الكفارة بالزكاة الواجبة للمسلمين اشترط الإسلام في المساكين الذين تجب لهم هذه الكفارة؛ ومن شبهها بالصدقات التي تكون عن تطوع أجاز أن يكونوا غير مسلمين. وأما سبب اختلافهم في العبيد فهو هل يتصور فيهم وجود الفقر أم لا إذا كانوا مكفيين من ساداتهم في غالب الأحوال، أو ممن يجب أن يكفوا؟ فمن راعى وجود الفقر فقط قال العبيد والأحرار سواء، إذ قد يوجد من العبيد من يجوعه سيده؛ ومن راعى وجوب الحق له على الغير بالحكم قال: يجب على السيد القيام بهم، ويقتضي بذلك عليه وإن كان معسرا قضى عليه ببيعه، فليس يحتاجون إلى المعونة بالكفارات وما جرى مجراها من الصدقات.

@-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب؟ فإن فقهاء الأمصار شرطوا ذلك، أعني العيوب المؤثرة في الأثمان، وقال أهل الظاهر: ليس ذلك من شرطها. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم أو بأتم ما يدل عليه.

@-(وأما المسألة السابعة) وهي اشتراط الأيمان في الرقبة أيضا، فإن مالكا والشافعي اشترطا ذلك؛ وأجاز أبو حنيفة أن تكون الرقبة غير مؤمنة. وسبب اختلافهم هو هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار؛ فمن قال يحمل المطلق على المقيد في ذلك قال باشتراط الإيمان في ذلك حملا على اشتراط ذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة} ومن قال لا يحمل وجب عنده أن يبقى موجب اللفظ على إطلاقه.

*4*الفصل الثالث متى ترفع الكفارة الحنث، وكم ترفع؟

@-وأما متى ترفع الكفارة الحنث وتمحوه، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي: إذا كفر بعد الحنث أو قبله فقد ارتفع الإثم؛ وقال أبو حنيفة: لا يرتفع الحنث إلا بالتفكير الذي يكون بعد الحنث لا قبله؛ وروي عن مالك في ذلك القولان جميعا. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فإن قوما رووه هكذا، وقوم رووه "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث، وظاهر الثانية أنها بعد الحنث. والسبب الثاني اختلافهم في هل يجزئ تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه، لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث كالزكاة بعد الحول ولقائل أن يقول إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة، وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع أو مانعة له؟ فمن قال مانعة أجاز تقديمها على الحنث؛ ومن قال رافعة لم يجزها إلا بعد وقوعه. وأما تعدد الكفارات بتعدد الأيمان فإنهم اتفقوا فيما علمت أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته كفارة يمين واحدة، وكذلك فيما أحسب لا خلاف بينهم أنه إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد أن الكفارات الواجبة في ذلك بعدد الأيمان كالحالف إذا حلف بأيمان شتى على أشياء شتى. اختلفوا إذا حلف على شيء واحد بعينه مرار كثيرة، فقال قوم: في ذلك كفارة يمين واحدة، وقال قوم: في كل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد، وهو قول مالك؛ وقال قوم: فيها كفارة واحدة، إلا أن يريد التغليظ. وسبب اختلافهم هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد قال لكل يمين كفارة إذا كرر ومن قال اختلافها بالجنس قال: في هذه المسألة يمين واحدة. واختلفوا إذا حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى هل تعدد الكفارات بتعدد الصفات التي تضمنت اليمين أم في ذلك كفارة واحدة؟ فقال مالك: الكفارة في هذه اليمين متعددة بتعدد الصفات.

فمن حلف بالسميع العليم الحكيم كان عليه ثلاث كفارات عنده، وقال قوم: إن أراد الكلام الأول وجاء بذلك على أنه قول واحد فكفارة واحدة إذا كانت يمينا واحدة. والسبب في اختلافهم: هل مراعاة الواحدة أو الكثرة في اليمين هو راجع إلى صيغة القول أو إلى تعدد الأشياء التي يشتمل عليها القول الذي مخرجه مخرج يمين، فمن اعتبر الصيغة قال كفارة واحدة؛ ومن اعتبر عدد ما تضمنته صيغة القول من الأشياء التي يمكن أن يقسم بكل واحد منها على انفراده قال: الكفارة متعددة بتعددها، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب وسبب الاختلاف في ذلك، والله المعين برحمته.

*2*كتاب النذور

@-وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أصناف النذور. الفصل الثاني: فيما يلزم من النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها. الثالث: في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.

*3*الفصل الأول في أصناف النذور.

@-والنذور تنقسم أولا قسمين: قسم من جهة اللفظ وقسم من جهة الأشياء التي تنذر. فأما من جهة اللفظ فإنه ضربان: مطلق وهو المخرج مخرج الخبر. ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط. والمطلق على ضربين: مصرح فيه بالشيء المنذور به، وغير مصرح، فالأول مثل قول القائل: لله علي نذر أن أحج، والثاني مثل قوله: لله علي نذر، دون أن يصرح بمخرج النذر، والأول ربما صرح فيه بلفظ النذور، وربما لم يصرح فيه به، مثل أن يقول: لله علي أن أحج. وأما المقيد المخرج مخرج الشرط فكقول القائل: إن كان كذا فعلي لله نذر كذا وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي نذر كذا وكذا، وربما علقه بفعل نفسه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء أيمانا، وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان، فهذه هي أصناف النذر من جهة الصيغ. وأما أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني المنذور بها، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر بأشياء من جنس القرب، ونذر بأشياء من جنس المعاصي، ونذر بأشياء من جنس المكروهات، ونذر بأشياء من جنس المباحات، وهذه الأربعة تنقسم قسمين: نذر بتركها، ونذر بفعلها.

*3*الفصل الثاني فيما يلزم من النذور وما لا يلزم.

@-وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم، فإنهم اتفقوا على لزوم النذر المطلق في القرب إلا ما حكى عن بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز، وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه بلفظ النذر لا إذا لم يصرح، وسواء كان النذر مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح. وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج الشرط إذا كان نذرا بقربة، وإنما صاروا لوجوب النذر لعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ولأن الله تعالى قد مدح به فقال {يوفون بالنذر} وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} الآية، إلى قوله {بما كانوا يكذبون} . والسبب في اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية واللفظ معا أو بالنية فقط؟ فمن قال بهما معا إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب؛ ومن قال ليس من شرطه اللفظ قال: ينعقد النذر وإن لم يصرح بلفظه، وهو مذهب مالك، أعني أنه إذا لم يصرح بلفظ النذر أنه يلزم، وإن كان من مذهبه أن النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر، وهذا مذهب الجمهور، والأول مذهب سعيد بن المسيب، ويشبه أن يكون من لم ير لزوم النذر المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر بالوفاء على الندب؛ وكذلك من اشترط فيه الرضا، فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة الرضا لا على جهة اللجاج، وهو مذهب الشافعي. وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع، فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ. وأما ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين.

@-(المسألة الأولى) اختلفوا فيمن نذر معصية، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: ليس يلزمه في ذلك شيء. وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: بل هو لازم، واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا فعل المعصية. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان أحدهما حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه" فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان: والحديث الثاني حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين" وهذا نص في معنى اللزوم؛ فمن جمع بينهما في هذا قال: الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة؛ فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيء؛ ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين. قال أبو عمر بن عبد البر: ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضا عنده مناكير، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر، وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذا المسألة بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه" قالوا: فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ويترك ما كان معصية، وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية، وقد أخبر الله أنه نذر مريم، وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس. فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص، فالأصل فيه أنه من المباحات.

@-(المسألة الثانية) واختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك: لا يلزم ما عدا الزوجة؛ وقال أهل الظاهر: ليس في ذلك شيء؛ وقال أبو حنيفة: في ذلك كفارة يمين. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم، وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع، وظاهر قوله تعالى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أثر العتب على التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد، وإن كان ذلك كذلك فهو غير لازم، والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين. وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية. وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل، وفيه عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}

*3*الفصل الثالث في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.

@-وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من النذور وأحكام ذلك، فإن فيه اختلافا كثيرا، لكن نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك، وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على عادتنا في هذا الكتاب، وفي ذلك مسائل خمس:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في الواجب في النذر المطلق الذي ليس يعين فيه الناذر شيئا سوى أن يقول: لله علي نذر، فقال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير؛ وقال قوم: بل فيه كفارة الظهار؛ وقال قوم: أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين، وإنما صار الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" خرجه مسلم. وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم، وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق عليه اسم النذر. وأما من قال فيه كفارة الظهار فخارج عن القياس والسماع.

@-(المسألة الثانية) اتفقوا على لزوم النذر بالمشي إلى بيت الله، أعني إذا نذر المشي راجلا. واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال قوم: لا شيء عليه؛ وقال قوم: عليه. واختلفوا في ماذا عليه على ثلاثة أقوال: فذهب أهل المدينة إلى أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز، وإن شاء ركب وأجزأه وعليه دم، وهذا مروي عن علي. وقال أهل مكة: عليه هدي دون إعادة مشي. وقال مالك: عليه الأمران جميعا، يعني أنه يرجع فيمشي من حيث وجب وعليه هدي، والهدي عنده بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة. وسبب اختلافهم منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها، وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان عليه في سفرين في سفر واحد، وهذا فعل ما كان عليه في سفر واحد في سفرين قال: يجب عليه هدي القارن أو المتمتع؛ ومن شبهه بسائر الأفعال التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال: فيه دم؛ ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال: إذا عجز فلا شيء عليه. قال أبو عمر: والسنن الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح المشقة وهو كما قال، واحدها حديث عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال "لتمش ولتركب" خرجه مسلم. وحديث أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنتيه، فسأل عنه فقالوا: نذر أن يمشي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب" وهذا أيضا ثابت.

@-(المسألة الثالثة) اختلفوا بعد اتفاقهم على لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بيت المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما، فقال مالك والشافعي: يلزمه المشي؛ وقال أبو حنيفة: لا يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه، وكذلك عنده إن نذر الصلاة في المسجد الحرام، وإنما وجب عنده المشي بالنذر إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة. وقال أبو يوسف صاحبه: من نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه، وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك، وأكثر الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تسرج المطي إلا لثلاث، فذكر المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس" وذهب بعض الناس إلى أن النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد واجب، واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن يمشي عنها. وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد، هل ذلك لموضع صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع صلاة النفل؟ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال: النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم؛ ومن كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل لقوله عليه الصلاة والسلام "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" واسم الصلاة يشمل الفرض والنفل، قال: هو واجب؛ لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" وإلا وقع التضاد بين هذين الحديثين، وهذه المسألة هي أن تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا الباب.

@-(المسألة الرابعة) واختلفوا في الواجب على أن من نذر أن ينحر ابنه في مقام إبراهيم، فقال مالك: ينحر جزورا فداء له؛ وقال أبو حنيفة: ينحر شاة، وهو أيضا مروي عن ابن عباس؛ وقال بعضهم: بل ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم: يهدي ديته، وروي ذلك عن علي؛ وقال بعضهم: بل يحج به؛ وبه قال الليث؛ وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه لأنه نذر معصية ولا نذر في معصية. وسبب اختلافهم قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أعني هل ما تقرب به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم؟ فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال: لا يلزم النذر؛ ومن رأى أنه لازم لنا قال: النذر لازم. والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور، لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر، وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان خاصا بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه، وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع؟ والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب إبراهيم، أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية، وذلك إما صدقة بديته، وإما حج به، وإما هدي بدنة. وأما الذين قالوا مائة من الإبل، فذهبوا إلى حديث عبد المطلب.

@-(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط وهو الذي يسمونه يمينا. واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول: مالي للمساكين إن فعلت كذا ففعله؛ فقال قوم: ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في النذور التي صيغها هذه الصيغة، أعني أنه لا كفارة فيه؛ وقال قوم: الواجب في ذلك كفارة يمين فقط، وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان؛ وأما مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من قولنا في كتاب الأيمان، والذين اعتقدوا وجوب إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه، فقال مالك: يخرج ثلث ماله فقط؛ وقال قوم: بل يجب عليه إخراج جميع ماله، وبه قال إبراهيم النخعي وزفر؛ وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها، وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس. وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره، وحد هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة، أعني من قال المال كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر، وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق بجيع ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجزيك من ذلك الثلث" هو نص في مذهب مالك. وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر، أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة، إذ قد استثناها النص، إلا أن مالكا لم يلزم في هذه المسألة أصله، وذلك أنه قال: إن حلف أو نذر شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله، وكذلك يلزم عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث، وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي جاء بمثل بيضة من ذهب فقال: أصبت هذا من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه عن يمينه ثم عن يساره ثم من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، وقال عليه الصلاة والسلام "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهذا نص في أنه لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع ماله؛ ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار. وأما سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف، وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث، وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

*2*كتاب الضحايا

@-وهذا الكتاب في أصوله أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الضحايا ومن المخاطب بها. الباب الثاني: في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها. الباب الثالث: في أحكام الذبح. الباب الرابع: في أحكام لحوم الضحايا.

*3*الباب الأول في حكم الضحايا، ومن المخاطب بها

@-اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة؛ ورخص مالك للحاج في تركها بمنى؛ ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره؛ وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين، ولا تجب على المسافرين؛ وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: إنها ليست بواجبة؛ وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب، وذلك أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال: "ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية، قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة". والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره" قالوا: فقوله: "إذا أراد أحدكم أن يضحي" فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة. ولما أمر عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب، ومذهب ابن عباس أن لا وجوب. قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال: من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس وروي عن بلال أنه ضحى بديك، وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف. واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره، والحديث بذلك ثابت.

*3*الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة: إحداها في تمييز الجنس. والثانية: في تمييز الصفات. والثالثة: في معرفة السن. والرابعة: في العدد.

@-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك، فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا: الكباش ثم البقر ثم الإبل، بعكس الأمر عنده في الهدايا؛ وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش؛ وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الكباش، وبه قال أشهب وابن شعبان. وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل، وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش، فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل، وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى" وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا، وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا" الحديث، فكان الواجب حمل هذا على جميع القرب بالحيوان. وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى. وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر، وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وإنها الأضحية، وإن ذلك معنى قوله {وتركنا عليه في الآخرين} فمن ذهب إلى هذا قال: الكباش أفضل؛ ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل، مع أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي، وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكى عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، والظبي عن واحد.

@-(المسألة الثانية) أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى (العجفاء التي لا تنقى: أي التي لا مخ في عظامها) مصيرا لحديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا ينقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع" وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: العرجاء البين عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى". وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء. واختلفوا في موضعين: أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق. والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها، أعني ما كان من العيوب في الأذن والعين والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا. فأما الموضع الأول، فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء. وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها. وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص، أو خاص أريد به العموم؟ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال: لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط؛ ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال: ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزى. وأما الموضع الثاني، أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها، وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة. والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها، وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك. والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها، وهو قول أهل الظاهر. وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم. والثاني تعارض الآثار في هذا الباب. أما الحديث المتقدم، فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها. وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء، فمن كان عنده أنه من باب التبيه بالأدنى على الأعلى فقط، لا من باب التنبيه بالمساوى على المساوى قال: يلحق بهذه الأربع ما كان أشد منها، ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب؛ ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساويا له قال: تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها، فهذا هو أحد أسباب الخلاف في هذه المسألة، وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام، ثم إن من فهم منه العام، فأي عام هو؟ هل الذي هو أكثر من ذلك؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك؟ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال: "يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك" وذكر علي بن أبي طالب قال "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء" والشرقاء: المشقوقة الأذن. والخرقاء: المثقوبة الأذن. والمدابرة: التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها؛ ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها، ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب، وبعضهم اعتبر الأكثر؛ وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي، وأما القرن فإن مالكا قال: ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض، ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء. وخرج أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعصب الأذن والقرن" واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قدمناه. واختلفوا في الأبتر؛ فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال "اشتريت كبشا لأضحي به، فأكل الذئب ذنبه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ضح به" وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة "يجزيك، ولا يجذي جذع عن أحد غيرك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فالجمهور على جوازه، وقال قوم: بل الثني من الضأن. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فالخصوص هو حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" خرجه مسلم. والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام "ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" فمن رجح هذا العموم على الخصوص، وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس عند المحدثين، والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك، وحديث أبي بردة لا مطعن فيه. وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو مشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى، وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور (هكذا بالأصل وليحرر)، وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع، وكذلك عنده الهدايا؛ وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع، وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا، وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد، إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا، وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت "كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر، فقلنا ما هو؟ فقالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه" وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا، وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن، وإنما قلنا: إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك. وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع" وفي بعض روايات الحديث "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا؛ وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وهدي المحصر بعد ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع، وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك، ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب، لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قياسها على هذا الهدي؛ وروي عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب، وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك، وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة. وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره "البدنة عن عشرة". وقال الطحاوي: وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة، وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هدية لما رواه عن ابن شهاب أنه قال "ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل بيته إلا بدنة واحدة أو بقرة واحدة" وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى، أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب، فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب، وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به: أعني حديث ان شهاب، فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب: أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب، وإما قياس الضحايا على الهدايا.

*3*الباب الثالث في أحكام الذبح.

@-ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح. أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له. فأما في ابتدائه، فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم" وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى. واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة، فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه جاء في بعضها "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح"، وفي بعضها "أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد" وخرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم؛ فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح؛ ومن جعل لذلك موطنا واحدا قال: إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط. وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة ابن نيار، وذلك أن في بعض رواياته "أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الذبح" وفي بعضها "أنه ذبح قبل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالإعادة" وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى، وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره "أن من ذبح قبل الصلاة فليعد" وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ، لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فرضه التبيين، ونص حديث أنس هذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه، وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى؟ فقال مالك: يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم؛ وقال الشافعي: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون؛ وقال أبو حنيفة: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه؛ وقال قوم: بعد طلوع الشمس؛ وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر، وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى، فقال قوم: يتحرى ذبحه بعد انصرافه؛ وقال قوم: ليس يجب ذلك. وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة؛ وقال الشافعي والأوزاعي: الأضحى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة؛ وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه، وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور؛ وقيل العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم، وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال "لا نحر إلا في هذه الأيام" ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح، والحديث المقصود منه ذلك قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذ كان باتفاق من أيام التشريق، ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر، إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين. وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر، فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر. وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم، وذلك أنه مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى {فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام} ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى {ليذكروا اسم الله في أيام معلومات} قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام؛ ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني، ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل، لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب، وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم، وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى إنهم قالوا ما قال به أحد المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول قائل إن الأصل هو الحظر في الذبح، وقد ثبت جوازه بالنهار، فعلى من جوزه بالليل الدليل. وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده، واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح. واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه، فقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا، أعني أنه يجوز أن كان صديقا أو ولدا، ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز.

*3*الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا.

@-واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وقوله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} ولقوله صلى الله عليه وسلم في الضحايا "كلوا وتصدقوا وادخروا". واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا، أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين؟ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل؟ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين؛ واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا: ثلثا للادخار، وثلثا للصدقة، وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام "فكلوا وتصدقوا وادخروا" وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذاهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك، وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز مع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها، فقال الجمهور: لا يجوز يبعه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي بالعروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك، وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها، لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله.

*2*كتاب الذبائح

@-والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة محل الذبح والنحر، وهو المذبوح أو المنحور. الباب الثاني: في معرفة الذبح والنحر. الباب الثالث: في معرفة الآلة التي بها يكون الذبح والنحر. الباب الرابع: في معرفة شروط الذكاة. الباب الخامس: في معرفة الذابح والناحر والأصول هي الأربعة، والشروط يمكن أن تدخل في الأربعة الأبواب والأسهل في التعليم أن يجعل بابا على حدته.

*3*الباب الأول في معرفة محل الذبح والنحر.

@-والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين: حيوان لا يحل إلا بذكاة، وحيوان يحل بغير ذكاة. ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه. واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو ترد أو افتراس سبع أو مرض، وأن الحيوان البحري ليس يحتاج إلى ذكاة. واختلفوا في الحيوان الذي ليس يدمي مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل له ذكاة أم لا؟ وفي الحيوان المدمي الذي يكون تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة وغيره. واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير الذكاة فيما لا يحل أكله، أعني في تحليل الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها، ففي هذا الباب إذا ست مسائل أصول: المسألة الأولى: في تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية. المسألة الثانية: في تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل. المسألة الثالثة: في تأثير الذكاة في المريضة. المسألة الرابعة: في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه أم لا؟ المسألة الخامسة: هل للجراد ذكاة أم لا؟ المسألة السادسة: هل للحيوان الذي يأوي في البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا؟.

@-(المسألة الأولى) أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن الذكاة عاملة فيها، أعني أنه إذا غلب على الظن أنها تعيش، وذلك بأن لا يصاب لها مقتل. واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال قوم: تعمل الذكاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وهو قول الزهري وابن عباس؛ وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها؛ وعن مالك في ذلك الوجهان، ولكن الأشهر أنها لا تعمل في الميئوس منها: وبعضهم تأول في المذهب أن الميئوس منها على ضربين ميئوسة مشكوك فيها، وميئوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل قال: فأما الميئوسة المشكوك فيها ففي المذهب فيها روايتان مشهورتان؛ وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {إلا ما ذكيتم} هل هو استثناء متصل فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل، أم هو استثناء منقطع لا تأثير له في الجملة المتقدمة، إذ كان هذا أيضا شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب، فمن قال إنه متصل قال: الذكاة تعمل في هذه الأصناف الخمسة؛ وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال: لا تعمل الذكاة فيها. وقد احتج من قال: إن الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل في المرجو منها قال: فهذا يدل على أن الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل. وقد احتج أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما يتعلق بها بعد الموت، وإذا كان ذلك كذلك فالاستثناء منقطع، وذلك أن معنى قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} إنما هو لحم الميتة، وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها: أي لحم الميتة بهذه الأسباب سوى التي تموت من تلقاء نفسها، وهي التي تسمى ميتة أكثر ذلك في كلام العرب أو بالحقيقة قالوا، فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية، وإنما علق بها بعد الموت، لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وجب أن يكون قوله {إلا ما ذكيتم} استثناء منقطعا، لكن الحق في ذلك أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن تكون الذكاة تعمل فيها، وذلك أنه إن علقنا التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب أن تدخل في التذكية من جهة ما هي حية الأصناف الخمسة وغيرها، لأنها ما دامت حية مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان، أعني أنها تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها هو سبب الحلية، وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا خفاء بوجوب ذلك، ويحتمل أن يقال: إن عموم التحريم يمكن أن يفهم منه تناول أعيان هذه الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير الذي لا تعمل فيه الذكاة، فيكون الاستثناء على هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل الذكاة فيها، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون الاستثناء منقطعا. وأما من فرق بين المنفوذة المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير الذكاة في المرجوة بالإجماع، وقاس المشكوكة على المرجوة. ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل، ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس، وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع أنها سبب الموت، فأما إذا شك هل كان موجب الموت الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل، وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة الثابتة لا الحياة الذاهبة.

@-(المسألة الثانية) وأما هل تعمل الذكاة في الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك جلودهم، فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك؛ فقال مالك: الذكاة تعمل في السباع وغيرها ما عدا الخنزير، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اختلف المذهب في كون السباع فيه محرمة أو مكروهة على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة. وقال الشافعي: الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل (ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ مصححه) فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ماعدا اللحم. وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان تابعة للحم في الحلية والحرمة، أم ليست بتابعة للحم؟ فمن قال إنها تابعة للحم قال: إذا لم تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه؛ ومن رأى أنها ليست بتابعة قال: وإن لم تعمل في اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان، لأن الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء، فإذا ارتفع بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على ارتفاعه.

@-(المسألة الثالثة) واختلفوا في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على الموت، فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو المشهور عن مالك، وروي عنه أن الذكاة لا تعمل فيها. وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر. فأما الأثر فهو ما روي "أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيب شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوها" خرجه البخاري ومسلم. وأما القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة. واختلفوا فيما هو الدليل المعتبر في ذلك، فبعضهم اعتبر الحركة وبعضهم لم يعتبرها، والأول مذهب أبي هريرة والثاني مذهب زيد بن ثابت؛ وبعضهم اعتبر فيها ثلاث حركات: طرف العين وتحريك الذنب والركض بالرجل، وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع هذه التنفس، وهو مذهب ابن حبيب.

@-(المسألة الرابعة) واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم في جنينها أم ليس تعمل فيه؟ وإنما هو ميتة، أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة: إن خرج حيا ذبح وأكل، وإن خرج ميتا فهو ميتة. والذين قالوا: إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في ذلك تمام خلقته ونبات شعره، وبه قال مالك؛ وبعضهم لم يشترط ذلك، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول، وحديث أبي سعيد هو قال "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فنجد في بطنها جنينا أنأكله أو نلقه؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وخرج مثله الترمذي وأبو داود عن جابر. واختلفوا في تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم وأحد من صححه الترمذي. وأما مخالفة الأصل في هذا الباب للأثر، فهو أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها، وإلى تحريمه ذهب أبو محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث. وأما اختلاف القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم للقياس، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "ذكاة الجنين ذكاة أمه" يقتضي أن لا يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية، والحياة لا توجد إلا فيه إذا نبت شعره وتم خلقه، يعضد هذا القياس أن هذا الشرط مروي عن ابن كعب وعن جماعة من الصحابة. وروى معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أن ابن أبي ليلى سيء الحفظ عندهم، والقياس يقتضي أن تكون ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها، وإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه، فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك.

@-(المسألة الخامسة) واختلفوا في الجراد؛ فقال مالك: لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك. وقال عامة الفقهاء: يجوز أكل ميتته، وبه قال مطرف؛ وذكاة ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد. وسبب اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم الميتة أم لا في قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وللخلاف سبب آخر وهو هل هو نثرة حوت أو حيوان بري.

@-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يتصرف في البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا؟ فغلب قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر، واعتبر آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا.

*3*الباب الثاني في الذكاة.

@-وفي قواعد هذا الباب مسئلتان: المسألة الأولى: في أنواع الذكاة المختصة بصنف صنف من بهيمة الأنعام. الثانية: في صفة الذكاة.

@-(المسألة الأولى) واتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر. واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة: وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره. وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" وأما الفعل، فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الإبل والبقر وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش {وفديناه بذبح عظيم} .

@-(المسألة الثانية) وأما صفة الذكاة فإنهم اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمرئ والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا من ذلك في مواضع: أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها أو بعضها؟ وهل الواجب في المقطوع منها قطع الكل أو الأكثر؟ وهل من شرط القطع أن لا تقع الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس، وهل إن قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا؟ وهل إن تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم لا؟ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم الذكاة أم لا؟ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته.

@-(أما المسألة الأولى) فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك: وقيل عنه بل الأربعة؛ وقيل بل الودجين فقط، ولم يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو استيفاؤهما. واختلف في قطع الحلقوم على القول بوجوبه فقيل كله، وقيل أكثره. وأما أبو حنيفة فقال: الواجب في التذكية هو قطع ثلاثة غير معينة من الأربعة، إما الحلقوم والودجان، وإما المرئ والحلقوم وأحد الودجين، أو المرئ والودجان. وقال الشافعي: الواجب قطع المرئ والحلقوم فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر كل واحد من الأربعة. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول، وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط، والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم؛ ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" وهو حديث متفق على صحته. وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما فرى الأوداج فكلوا ما لم يكن رض ناب أو نحر ظفر" فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك، وفي الثاني قطع جميع الأوداج، فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين، إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما، ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام "ما فرى الأوداج" البعض لا الكل، إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما من اشترط قطع الحلقوم والمرئ فليس له حجة من السماع وأكثر من ذلك من اشترط المرئ والحلقوم دون الودجين، ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو قطع ما وقع الإجماع على جوازه، لأن الذكاة لما كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع الإجماع على جوازه، إلا أن يقوم الدليل على جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف، لأن ما وقع الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في الصحة.

@-(وأما المسألة الثالثة) في موضع القطع وهي إن لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن فاختلف فيه في المذهب؛ فقال مالك وابن القاسم: لا تؤكل؛ وقال أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل. وسبب الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس بشرط؟ فمن قال إنه شرط قال: لا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليما؛ ومن قال إنه ليس بشرط قال: إن قطع فوق الجوزة جاز.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي إن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق، فإن المذهب لا يختلف أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين. وسبب اختلافهم هل تعمل الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل، وذلك أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل، فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله، وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة.

@-(وأما المسألة الخامسة) وهي أن يتمادى الذابح بالذبح حتى يقطع النخاع، فإن مالكا كره ذلك إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر، لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة. وقال مطرف وابن الماجشون: لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلا.

@-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن ذلك من شرط الذكاة، وأنه إذا رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعادها، وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة لا تجوز. واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك وبالقرب، فقال ابن حبيب: إن أعاد يده بالفور أكلت؛ وقال سحنون: لا تؤكل؛ وقيل إن رفعها لمكان الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على الفور إن تبين له أنها لم تتم أكلت وهو أحد ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل عكس هذا لكان أجود، أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل، لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة، فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المقاتل غير مذكاة، فلا تؤثر فيها العودة، لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل.

*3*الباب الثالث فيما تكون به الذكاة.

@-أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، فمن الناس من أجاز التذكية بالعظم ومنعها بالسن والظفر، والذين منعوها بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا منزوعين أو لا يكونا منزوعين، فأجاز التذكية بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا متصلين؛ ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم مكروهة غير ممنوعة، ولا خلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة، أعني بالمنع مطلقا، والفرق فيهما بين الانفصال والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث رافع بن خديج، وفيه قال "يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا؛ ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل، والذين فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه؛ ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهى عنه؛ ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه الكراهة لا على وجه الحظر، فمن فهم أن المعنى في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد منهما ما ينهر الدم جاز، ولذلك رأى بعضهم أن يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا كانا بهذه الصفة أمكن، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه يدل على فساد المنهى عنه قال: إن ذبح بهما لم تقع التذكية، وإن أنهر الدم؛ ومن رأى أنه لا يدل على فساد المنهى عنه قال: إن فعل وأنهر الدم أثم وحلت الذبيحة؛ ومن رأى أن النهي على وجه الكراهية كره ذلك ولم يحرمه، ولا معنى لقول من فرق بين العظم والسن، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علل المنع في السن بأنه عظم، ولا يختلف المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم.

*3*الباب الرابع في شروط الذكاة.

@-وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط البسملة. الثالثة: في اشتراط النية.

@-(المسألة الأولى) واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان؛ وقيل بل هي سنة مؤكدة، وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين، وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} . وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية التسمية مكية، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

@-(المسألة الثانية) وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فإن قوما استحبوا ذلك، وقوما أجازوا ذلك، وقوما أوجبوه، وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة، والكراهية والمنع موجودان في المذهب، وهي مسألة مسكوت عنها، والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك، وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة هي جهة معظمة وهذه عبادة، فوجب أن يشترط فيها الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط فيها الجهة ما عدا الصلاة، وقياس الذبح على الصلاة بعيد، وكذلك قياسه على استقبال القبلة بالميت.

@-(المسألة الثالثة) وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك، ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك، ويشبه أن يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب، وقول بترك الوجوب، فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد، فوجب أن يكون من شرطها النية؛ ومن لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه، فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها.

*3*الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز.

@-والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته، وصنف اتفق على منع ذكاته، وصنف اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضيع الصلاة. وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى {وما ذبح على النصب} ولقوله {وما أهل به لغير الله} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة، لكن المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} ومختلفون في التفصيل، فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط، أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى {كل ذي ظفر} أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية، وكذلك اختلفوا في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم، لأنه لا يصح منه وجود هذه النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب: أعني قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال يجوز، وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزئ وهو قول ابن وهب.

(وأما المسألة الثانية) وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين، فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس؛ ومنهم من لم يجز ذبائحهم، وهو أحد قولي الشافعي، وهو مروى عن علي رضي الله عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو اسرائيل والروم. وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل. وقال اسحاق: ذبيحته جائزة؛ وقال الثوري: مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله؟

(وأما المسألة الثالثة) وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور: تؤكل، وهو مروى عن علي، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا، ويتطرق إليه الإحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام؛ فإذا قيل على هذا أن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه، وهو قول مالك؛ ومنهم من أباحه، وهو قول أشهب؛ ومنهم من حرمه، وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب، وذلك أن قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى {وما أهل به لغير الله} ويحتمل أن يكون قوله تعالى {وما أهل به لغير الله} مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر، فمن جعل قوله تعالى وما أهل به لغير الله مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد؛ ومن عكس الأمر قال: يجوز. وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم، فقيل يجوز؛ وقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم، أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم؛ وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب: المنع عن ابن القاسم، والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم، والتفرقة عن أشهب. وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية؛ فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية؛ ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم، ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه؛ فمنهم من قال: إن الشحوم محرمة وهو قول أشهب؛ ومنهم من قال مكروهة، والقولان عن مالك؛ ومنهم من قال مباحة.

ويدخل في الشحوم سبب آخر من أسباب الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة، وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض قال: لا تؤكل الشحوم؛ ومن قال لا تتبعض قال: يؤكل الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر، وقد تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع، فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك، ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه، لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا، ولاعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به، فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون، وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وأما الصائبون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة، وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم. نقصان المرأة والصبي، وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد "أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس بها فكلوها" وهو حديث صحيح.

وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما، وأجاز ذلك الشافعي. وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة، فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من الجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ (الملتخ: الملطخ، قاموس). وأما جواز تذكية السارق والغاصب، فإن الجمهور على جواز ذلك؛ ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة، وبه قال داود وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهى عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل قال: السارق والغاصب منهى عن ذكاتها وتناولها وتملكها، فإذا كان ذكاها فسدت التذكية؛ ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهى عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية.

وفي موطأ ابن وهب "أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فلم ير بها بأسا" وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموها الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم.

*2*كتاب الصيد.

@-وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده.

*3*الباب الأول في حكم الصيد ومحله.

@-فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} ثم قال {وإذا حللتم فاصطادوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب؛ وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف، وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه إن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام، وفي حق بعضهم مندوب، وفي حق بعضهم مكروه؛ وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع، فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا على أن محله من الحيوان البحري وهو السمك وأصنافه، ومن الحيوان البري الحلال الأكل الغير مستأنس. واختلفوا فيما استوحش من الحيوان المستأنس فلم يقدر على أخذه ولا ذبحه أو نحره، فقال مالك: لا يؤكل إلا أن ينحر، من ذلك ما ذكاته النحر، ويذبح ما ذكاته الذبح، أو يفعل به أحدهما إن كان مما يجوز فيه الأمران جميعا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يقدر على ذكاة البعير الشارد فإنه يقتل كالصيد. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للخبر، وذلك أن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر، وأن الوحشي يؤكل بالعقر. وأما الخبر المعارض لهذه الأصول، فحديث رافع بن خديج وفيه قال "فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله تعالى به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" والقول بهذا الحديث أولى لصحته، لأنه لا ينبغي أن يكون هذا مستثنى من ذلك الأصل مع أن لقائل أن يقول إنه جار مجرى الأصل في هذا الباب، وذلك أن العلة في كون العقر ذكاة في بعض الحيوان ليس شيئا أكثر من عدم القدرة عليه، لا لأنه وحشي فقط، فإذا وجد هذا المعنى من الإنسي جاز أن تكون ذكاته ذكاة الوحشي، فيتفق القياس والسماع.

*3*الباب الثاني فيما يكون به الصيد.

@-والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} . والثانية قوله تعالى {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة. ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها، وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة. وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر؛ فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته؛ ومنهم من أجازه على الإطلاق؛ ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق ولم يجزه إذا لم يخرق، وبهذا القول قال مشاهير الفقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم. وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد.

وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لها، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد؛ فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق؛ ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق؛ ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي ابن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع والشرط، ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود، فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة؛ وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم، وذلك أن عموم قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك "وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم" يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهى عنه، وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية؛ فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان، وهو مذهب مالك وأصحابه، وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس، أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ولا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته، وهو قول مجاهد؛ واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده.

وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب، وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب، أعني قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلا أن يتأول أن لفظه مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظه مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظه مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب؛ ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم.

وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا أرسلت كلبك المعلم"

واختلفوا في صفة التعليم وشروطه، فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشيله فينشلى. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح، فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق؛ ومنهم من اشترطه في الكلب فقط؛ وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها؛ وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور، وهو مذهب مالك، أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل، واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور؛ ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل؛ والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل، لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: وإن أكل"

فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل؛ ومن رجح حديث عدي بن حاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه، ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال: إن أكل الصيد لم يؤكل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري، وهو قول ابن عباس، ورخص في أكل مما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة، لأن نية الكلب غير معلومة، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه، وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه".

وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف.

*3*الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها.

@-واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا، وإذا اعتبرت أصولها التي هي أسباب الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة، ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلى من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمه منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء، وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط، ويختلفون في وجودها في نازلة نازلة، كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد، واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه، ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته، فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول، أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط.

وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح، ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد لم يرسل عليه، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل؛ ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي، كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله، إنما يكون إذا لم يدركه المرسل حيا، فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله، وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد، فإن توانى فأدركه ميتا، فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفود المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد، فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنقذت المقاتل بمحدد فيها، فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور، ورخص فيه الحسن البصري؛ ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له، فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر، لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحة له، فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه، فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات فإني أكرهه. وبالكراهية قال الثوري؛ وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل، وفي السهم خلاف؛ وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل؛ وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل؛ وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه؛ وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده المرسل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب، فإن تركه كرهنا أكله.

وسبب اختلافهم شيئان اثنان: الشك العارض في عين الصيد أو في زكاته. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب، فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل". ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال، فقال مالك: لا يؤكل لأنه لا يدري من أي الأمرين مات، إلا أن يكون السهم قد أنقذ مقاتله ولا يشك أن منه مات، وبه قال الجمهور؛ وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل، ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنقاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له، فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل، وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكي. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه، فإنه اشترط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه، وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يرصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه، مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة، فقيل في المذهب يؤكل، وقيل لا يؤكل.

واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو، فقال قوم: يؤكل الصيد ما بان منه؛ وقال قوم: يؤكلان جميعا؛ وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل، فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا، وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو، وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولعموم قوله تعالى {تناله أيديكم ورماحكم} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد، وحمل الحديث على الإنسي؛ ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال: يؤكل الصيد دون العضو البائن، ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة، أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل.

*3*الباب الرابع في شروط القانص.

@-وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه، وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها، ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما، ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء، فذهب مالك إلى أنه ميتة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور. وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم، فقال مالك: الاصطياد به جائز، فإن المعتبر الصائد لا الآلة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم؛ وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري، لأن الخطاب في قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} متوجه نحو المؤمنين، وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

*2*كتاب العقيقة

@-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب: الأول: في معرفة حكمها. الثاني: في معرفة محلها. الثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك. الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم لحمها وسائر آجزائها.

@-فأما حكمها؛ فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة؛ وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب، وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العقيقة فقال "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو الإباحة، فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة؛ ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج الحديثين أبو داود؛ ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها.

وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على مذهبه في الضحايا، واختلف قوله هل يجزي فيها الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" وقوله عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس فلأنهما نسك، فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياسا على الهدايا.

وأما من يعق عنه، فإن جمهورهم على أنه يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين فقط؛ وشذ الحسن فقال: لا يعق عن الجارية؛ وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام "يوم سابعه". ودليل من خالف ما روي عن أنس "أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة" ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه الصلاة والسلام "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان". ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته". وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك، فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العقيقة "عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وما روي "أنه عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" يقتضي الاستواء بينهما.

وأما وقت هذا النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا، وعبد الملك بن الماجشون يحتسب به. وقال ابن القاسم في العقيقة: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء، فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى؛ وقيل بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا، ولاشك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا؛ وقد قيل يجوز في السابع الثاني والثالث.

وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة، أعني أنه يتقي فيها من العيوب ما يتقي في الضحايا، ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب ولا خارجا منه.

وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع، وجميع العلماء على أنه كان يدمي رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام، وذلك لحديث بريدة الأسلمي قال "كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح له شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وشذ الحسن وقتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس المولود يوم السابع، والصدقة بوزن شعره فضة، فقيل هو مستحب، وقيل هو غير مستحب، والقولان عن مالك، والاستحباب أجود، وهو قول ابن حبيب لما رواه مالك في الموطأ "أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وتصدقت بزنة ذلك فضة".

*2*كتاب الأطعمة والأشربة

@-والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين: الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار.

*3*(الجملة الأولى)

@-والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان الذي يغتذى به، فمنه حلال في الشرع، ومنه حرام، وهذا منه بري ومنه بحري. والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل هذه منها ما اتفقوا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة: الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله، والجلالة، والطعام الحلال يخالطه نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق؛ وقال قوم: هي حرام بإطلاق؛ وقال قوم: ما طفا من السمك حرام، وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية، وموافقته لبعضها موافقة جزئية، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} . وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان: الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه. أما المتفق عليه فحديث جابر، وفيه "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى العنبر، أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما أو شهرا، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: هل معكم من لحمه شيء: فأرسلوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله" وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما الحديث الثاني المختلف فيه، فما رواه مالك عن أبي هريرة "أنه سئل عن ماء البحر فقال: هوالطهور ماؤه الحل ميتته". وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من لا يعرف، وأنه ورد من طريق واحد؛ قال أبو عمر بن عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق. وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر؛ فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض؛ ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب، وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي، وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما الجلاَّلة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما روي: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلاَّلة وألبانها" خرجه أبو داود عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا، فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه، فإذا قلنا أن لحم الحيوان حلال، وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه، وهو اللحم كما لو انقلب ترابا، أو كانقلاب الدم لحما، والشافعي يحرم الجلاَّلة، ومالك يكرهها. وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة "أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه"

وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث، وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر على ظاهره، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها؛ ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا: المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة الذوبان؛ ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره، ومن بعضه على القياس عليه، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها، فمنها ما اتفقوا أيضا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المتفق منها عليه فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير، والدم. فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى، واختلفوا في غير المسفوح منه.

وكذلك اختلفوا في دم الحوت؛ فمنهم من رآه نجسا؛ ومنهم من لم يره نجسا، والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه. وسبب اختلافهم في غير المسفوح معارضة الإطلاق للتقييد، وذلك أن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم} يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره، وقوله تعالى {أو دما مسفوحا} يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط؛ فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح؛ ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب، والمطلق عام، والعام أقوى من دليل الخطاب قضى بالمطلق على المقيد، وقال: يحرم قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى، أعني أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل. وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام؛ وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل، وإن ذكى فقليله وكثيره حرام، ولا خلاف في هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى {والدم} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان، أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه، وما حل ميتته حل دمه، ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث. وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع. والثاني ذوات الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم. والرابع لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن أكله قال: كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي السباع ذوات الأربع، فروى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة، وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم؛ وذكر مالك في الموطأ ما دليله أنها عنده محرمة، وذلك أنه قال بعقب حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى ذلك الأمر عندنا، وإلى تحريمها ذهب الشافعي وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور؛ وقال الشافعي: يؤكل الضبع والثعلب، وإنما السباع المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، وكلا القولين في المذهب، وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به؛ وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به، لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب اختلافهم في تحريم لحوم السباع من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار، وذلك أن ظاهر قوله {قل لا أجد فيما أوحي إلى إلا محرما على طاعم يطعمه} الآية، أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال، وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع إن السباع محرمة" هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث لحوم السباع على الكراهية. ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم لحوم السباع، ومن اعتقد أن الضبع والثعلب محرمان فاستدلا بعموم لفظ السباع؛ ومن خصص من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن ابن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكلها؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث، ولما ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل الضب بين يديه. وأما سباع الطير، فالجمهور على أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل مخلب من الطير" إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان، وإنما ذكره أبو داود.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي اختلافهم في ذوات الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير، فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية، إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها، وعن مالك أنه كان يكرهها، رواية ثانية مثل قول الجمهور؛ وكذلك الجمهور على تحريم البغال، وقوم كرهوها ولم يحرموها، وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة؛ وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل" فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية؛ ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا، وقد احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحق الشيباني عن ابن أبي أوفى قال "أصبنا حمرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وطبخناها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور بما فيها". قال ابن إسحق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهي عنها لأنها كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال، فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} وقوله مع أن ذلك من الأنعام {لتركبوا منها ومنها تأكلون} للآية الحاصرة للمحرمات، لأنه يدل مفهوم الخطاب فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن قوما فهموا من الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو كونها محرمة، وهو مذهب الشافعي؛ وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا معنى التحريم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما. وأما الجنس الرابع، وهو الذي تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفات وما في معناها، فإن الشافعي حرمها وأباحها الغير؛ ومنهم من كرهها فقط. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص؛ ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك، ولعلها في غير الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري، فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم، فقال مالك: لا بأس بأكل جميع حيوان البحر، إلا أنه كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء، إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية، وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه، وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من يرى تحريمه، والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم المشترك عموم أم ليس له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير البر وإنسانه باشتراك الاسم، فمن سلم أن هذه الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما لزمه أن يقول بتحريمها، ولذلك توقف مالك في ذلك وقال: أنتم تسمونه خنزيرا.

فهذه حال الحيوان المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل. وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر؛ ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" فهذان حديثان صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قال "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا، فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل.

وهذه هي الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين، وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع، فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا شرعا، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى {ومن ثمر النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وبآثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي.

أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا.

وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب، فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "حرمت عليكم الخمر لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي موسى قال "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له المزر، والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اشربا ولا تسكرا" خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب.

وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه.

وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون، وربما كان الذوقان على التساوي؛ ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب.

قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير، وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس، وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة، فقال تعالى {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها؛ فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير، وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه على تحريم الخمر، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.

واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام "فانتبذوا وكل مسكر حرام"، ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان ينتبذ، وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث" واختلفوا في ذلك في مسئلتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر والرطب، والتمر والزبيب.

@-(فأما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على جواز الانتباذ في الأسقية، واختلفوا فيما سواها؛ فروى ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولم يكره غير ذلك؛ وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ورد من طريق ابن عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت" وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال "كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مالك في الموطأ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام". فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء؛ ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني؛ فمن اعتمد في ذلك حديث ابن عمر قال بالآيتين المذكورتين فيه؛ ومن اعتمد في ذلك حديث ابن عباس قال بالأربعة، لأنه يتضمن مزيدا، والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من باب دليل الخطاب. وفي كتاب مسلم النهي عن الانتباذ في الحنتم، وفيه أنه رخص لهم فيه إذا كان غير مزفت.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي انتباذ الخليطين، فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء التي من شأنها أن تقبل الانتباذ؛ وقال قوم: بل الانتباذ مكروه؛ وقال قوم: هو مباح؛ وقال قوم: كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على الحظر، فهل يدل على فساد المنهى عنه أم لا؟ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن أن يخلط التمر والزبيب، والزهو والرطب، والبسر والزبيب" وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا، ولا التمر والزبيب جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة: قول بتحريمه، وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ، وقول بكراهية ذلك. وأما من قال إنه مباح، فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من منع كل خليطين، فإما أن يكون ذهب إلى أن علة المنع هو الاختلاط لا ما يحدث عن الاختلاط من الشدة في النبيذ، وإما أن يكون قد تمسك بعموم ما ورد أنه نهى عن الخليطين؛ وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر، وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة "سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية؛ ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم؛ ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.

*3*(الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار)

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل وفي مقداره. فأما السبب، فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به، وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء، وهذا المختلف فيه؛ فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به؛ ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء محرم مثل الميتة وغيرها؛ والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي، ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري، وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف هل المباح له في الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} وذهب غيره إلى جواز ذلك.

(انتهى كتاب الأطعمة والأشربة)

تم الجزء الأول من كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ويليه: الجزء الثاني، وأوله: كتاب النكاح.

*1*الجزء الثاني.

*2*كتاب النكاح

@-بسم الله الرحمن الرحيم.

وأصول هذا الكتاب تنحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في مقدمات النكاح. الباب الثاني: في موجبات صحة النكاح. الباب الثالث: في موجبات الخيار في النكاح. الباب الرابع: في حقوق الزوجية. الباب الخامس: في الأنحكة المنهي عنها والفاسدة.

*3*الباب الأول في مقدمات النكاح.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل في حكم النكاح وفي حكم خطبة النكاح، وفي الخطبة على الخطبة، وفي النظر إلى المخطوبة قبل التزويج. فأما حكم النكاح فقال قوم: هو مندوب إليه، وهم الجمهور؛ وقال أهل الظاهر: هو واجب، وقالت المتأخرة من المالكية: هو في حق بعض الناس واجب، وفي حق بعضهم مندوب إليه، وفي حق بعضهم مباح، وذلك بحسب ما يخاف على نفسه من العنت. وسبب اختلافهم هل تحمل صيغة الأمر به في قوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وفي قوله عليه الصلاة والسلام "تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم" وما أشبه ذلك من الأخبار الواردة في ذلك على الوجوب أم على الندب أم على الإباحة. فأما من قال إنه في حق بعض الناس واجب، وفي حق بعضهم مندوب إليه، وفي حق بعضهم مباح، فهو التفات إلى المصلحة، وهذا النوع من القياس هو الذي يسمى المرسل، وهو الذي ليس له أصل معين يستند إليه، وقد أنكره كثير من العلماء، والظاهر من مذهب مالك القول به.

وأما خطبة النكاح المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الجمهور إنها ليست واجبة، وقال داود هي واجبة. وسبب الخلاف هل يحمل فعله في ذلك عليه الصلاة والسلام على الوجوب أو على الندب: فأما الخطبة على الخطبة، فإن النهي في ذلك ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام. واختلفوا هل يدل ذلك على فساد المنهي عنه أو لا يدل. وإن كان يدل ففي أي حالة يدل؟ فقال داود يفسخ؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يفسخ؛ وعن مالك القولان جميعا، وثالث وهو أن يفسخ قبل الدخول ولا يفسخ بعده؛ وقال ابن القاسم: إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح، وأما إن كان الأول غير صالح والثاني صالح جاز. وأما الوقت عند الأكثر فهو إذا ركن بعضهم إلى بعض لا في أول الخطبة بدليل حديث فاطمة بنت قيس "حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطباها، فقال: أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة". وأما النظر إلى المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلى الوجه والكفين فقط؛ وأجاز ذلك غيره إلى جميع البدن عدا السوأتين؛ ومنع ذلك قوم على الإطلاق؛ وأجاز أبو حنيفة النظر إلى القدمين مع الوجه والكفين. والسبب في اختلافهم أنه ورد الأمر بالنظر إليهن مطلقا، وورد بالمنع مطلقا، وورد مقيدا: أعني بالوجه والكفين على ما قاله كثير من العلماء في قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} إنه الوجه والكفان، وقياسا على جواز كشفهما في الحج عند الأكثر، ومن منع تمسك بالأصل وهو تحريم النظر إلى النساء.

*3*الباب الثاني في موجبات صحة النكاح.

@-وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أركان: الركن الأول: في معرفة كيفية هذا العقد. الركن الثاني: في معرفة محل هذا العقد. الثالث: في معرفة شروط هذا العقد.

@-(الركن الأول) في الكيفية. والنظر في هذا الركن في مواضع: في كيفية الإذن المنعقد به، ومن المعتبر رضاه في لزوم هذا العقد، وهل يجوز عقده على الخيار أم لا يجوز؟ وهل إن تراخى القبول من أحد المتعاقدين لزم ذلك العقد، أم من شرط ذلك الفور؟

@-(الموضع الأول) الإذن في النكاح على ضربين: فهو واقع في حق الرجال والثيب من النساء بالألفاظ، وهو في حق الأبكار المستأذنات واقع بالسكوت: أعني الرضا. وأما الرد فباللفظ ولا خلاف في هذه الجملة إلا ما حكي عن أصحاب الشافعي أن أذن البكر إذا كان المنكح غير أب ولا جد بالنطق، وإنما صار الجمهور إلى أن إذنها بالصمت للثابت من قوله عليه الصلاة والسلام " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها" واتفقوا على أن انعقاد النكاح بلفظ النكاح ممن إذنه اللفظ، وكذلك بلفظ التزويج. واختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة أو بلفظ البيع أو بلفظ الصدقة، فأجازه قوم، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج. وسبب اختلافهم هل هو عقد يعتبر فيه مع النية اللفظ الخاص به؟ ام ليس من صحته اعتبار اللفظ؟ فمن ألحقه بالعقود التي يعتبر فيها الأمران قال: لا نكاح منعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج؛ ومن قال: إن اللفظ ليس من شرطه اعتبارا بما ليس من شرطه اللفظ أجاز النكاح بأي لفظ اتفق إذا فهم المعنى الشرعي من ذلك، أعني أنه إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة.

@-(الموضع الثاني) وأما من المعتبر قبوله في صحة هذا العقد، فإنه يوجد في الشرع على ضربين: أحدهما يعتبر فيه رضا المتناكحين أنفسهما: أعني الزوج والزوجة، إما مع الولي، وإما دونه على مذهب من لا يشترط الولي في رضا المرأة المالكة أمر نفسها. والثاني يعتبر فيه رضا الأولياء فقط، وفي كل واحد من هذين الضربين مسائل اتفقوا عليها، ومسائل اختلفوا فيها، ونحن نذكر منها قواعدها وأصولها فنقول: أما الرجال البالغون الأحرار المالكون لأمر أنفسهم فإنهم اتفقوا على اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح. واختلفوا هل يجبر العبد على النكاح سيده والوصي محجوره البالغ أم ليس يجبره؟ فقال مالك: يجبر السيد عبده على النكاح، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجبره. والسبب في اختلافهم هل النكاح من حقوق السيد أم ليس من حقوقه؟ وكذلك اختلفوا في جبر الوصي محجوره، والخلاف في ذلك موجود في المذهب. وسبب اختلافهم هل النكاح مصلحة من مصالح المنظور له أم ليس بمصلحة وإنما طريقه الملاذ؟ وعلى القول بأن النكاح واجب ينبغي أن لا يتوقف في ذلك. وأما النساء اللاتي يعتبر رضاهن في النكاح، فاتفقوا على اعتبار رضا الثيب البالغ لقوله عليه الصلاة والسلام "والثيب تعرب عن نفسها" إلا ما حكى عن الحسن البصري. واختلفوا في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد. فأما البكر البالغ فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: للأب فقط أن يجبرها على النكاح؛ وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة: لا بد من اعتبار رضاها؛ ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه. وسبب اختلافهم معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم، وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: "لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها" وقوله "تستأمر اليتيمة في نفسها" أخرجه أبو داود، والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المشهور "والبكر تستأمر" يوجب بعمومه استئمار كل بكر. والعموم أقوى من دليل الخطاب، مع أنه خرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة، وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام: "والبكر يستأذنها أبوها" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الثيب الغير البالغ، فإن مالكا وأبا حنيفة قالا: يجبرها الأب على النكاح؛ وقال الشافعي: لا يجبرها، وقال المتأخرون: إن في المذهب فيها ثلاثة أقوال: قول إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق، وهو قول أشهب؛ وقول إنه يجبرها وإن بلغت، وهو قول سحنون؛ وقوله إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ، وهو قول أبي تمام؛ والذي حكيناه عن مالك هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار وغيره عنه.

وسبب اختلافهم معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام "تستأمر اليتيمة في نفسها ولا تنكح اليتيمة إلا بإذنها" يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الثيب أحق بنفسها من وليها" يتناول البالغ وغير البالغ، وكذلك قوله "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن" يدل بعمومه على ما قاله الشافعي. ولاختلافهم في هاتين المسئلتين سبب آخر، وهو استنباط القياس من موضع الإجماع، وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب يجبر البكر غير البالغ، وأنه لا يجبر الثيب البالغ إلا خلافا شاذا فيهما جميعا كما قلنا اختلفوا في موجب الإجبار هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال الصغر قال: لا تجبر البكر البالغ؛ ومن قال البكارة قال: تجبر البكر البالغ ولا تجبر الثيب الصغيرة؛ ومن قال كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد قال: تجبر البكر البالغ والثيب غير البالغ، والتعليل الأول تعليل أبي حنيفة، والثاني تعليل الشافعي، والثالث تعليل مالك، والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة. واختلفوا في الثيوبة التي ترفع الإجبار وتوجب النطق بالرضا أو الرد، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها الثيوبة التي تكون بنكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك، وأنها لا تكون بزنى ولا بغصب؛ وقال الشافعي: كل ثيوبة ترفع الإجبار. وسبب اختلافهم هل يتعلق الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام "الثيب أحق بنفسها من وليها" بالثيوبة الشرعية أم بالثيوبة اللغوية؟.

واتفقوا على أن الأب يجبر ابنه الصغير على النكاح، وكذلك ابنته الصغيرة البكر، ولا يستأمرها لما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت ست أو سبع وبنى بها بنت تسع بإنكاح أبي بكر أبيها رضي الله عنه" إلا ما روي من الخلاف عن ابن شبرمة. واختلفوا من ذلك في مسئلتين: إحداهما هل يزوج الصغيرة غير الأب؟ والثانية هل يزوج الصغير غير الأب؟ فأما هل يزوج الصغيرة غير الأب أم لا؟ فقال الشافعي: يزوجها الجد أبو الأب والأب فقط؛ وقال مالك: لا يزوجها إلا الأب فقط، أو من جعل الأب له ذلك إذا عين الزوج إلا أن يخاف عليها الضيعة والفساد؛ وقال أبو حنيفة: يزوج الصغيرة كل من له عليها ولاية من أب وقريب وغير ذلك، ولها الخيار إذا بلغت،

وسبب اختلافهم معارضة العموم للقياس، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام "والبكر تستأمر وإذنها صماتها" يقتضي العموم في كل بكر إلا ذات الأب التي خصصها الإجماع، إلا الخلاف الذي ذكرناه، وكون سائر الأولياء معلوما منهم النظر والمصلحة لوليتهم يوجب أن يلحقوا بالأب في هذا المعنى، فمنهم من ألحق به جميع الأولياء ومنهم من ألحق به الجد فقط، لأنه في معنى الأب إذ كان أبا أعلى، وهو الشافعي؛ ومن قصر ذلك على الأب رأى أن ما للأب في ذلك غير موجود لغيره، إما من قبل أن الشرع خصه بذلك، وإما من قبل أن يوجد فيه من الرأفة والرحمة لا يوجد في غيره، وهو الذي ذهب إليه مالك رضي الله عنه، وما ذهب إليه أظهر {والله أعلم} إلا أن يكون هنالك ضرورة. وقد احتج الحنفية بجواز إنكاح الصغار غير الآباء بقوله تعالى {فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قال: واليتيم لا ينطلق إلا على غير البالغة. والفريق الثاني قالوا: إن اسم اليتيم قد ينطلق على بالغة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام "تستأمر اليتيمة" والمستأمرة هي من أهل الإذن وهي البالغة، فيكون لاختلافهم سبب آخر، وهو اشتراك اسم اليتيم؛ وقد احتج أيضا من لم يجز نكاح غير الأب لها بقوله عليه الصلاة والسلام "تستأمر اليتيمة في نفسها" قالوا: والصغيرة ليست من أهل الاستئمار باتفاق، فوجب المنع، ولأولئك أن يقولوا: إن هذا حكم اليتيمة التي هي من أهل الاستئمار، وأما الصغيرة فمسكوت عنها. وأما: هل يزوج الولي غير الأب الصغير؟ فإن كان مالكا أجازه للوصي؛ وأبا حنيفة أجازه للأولياء، إلا أن أبا حنيفة أوجب الخيار له إذا بلغ، ولم يوجب ذلك مالك؛ وقال الشافعي: ليس لغير الأب إنكاحه. وسبب اختلافهم قياس غير الأب في ذلك على الأب. فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب به أن يزوج الصغير من ولده لا يوجد في غير الأب لم يجز ذلك؛ ومن رأى أنه يوجد فيه أجاز ذلك؛ ومن فرق بين الصغير في ذلك والصغيرة فلأن الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة، ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا.

@-(وأما الموضع الثالث) وهو هل يجوز عقد النكاح على الخيار، فإن الجمهور على أنه لا يجوز؛ وقال أبو ثور يجوز. السبب في اختلافهم تردد النكاح بين البيوع التي لا يجوز فيها الخيار، والبيوع التي يجوز فيها الخيار، أو نقول إن الأصل في العقود أن لا خيار إلا ما وقع عليه النص وعلى المثبت الخيار الدليل، أو نقول إن أصل منع الخيار (هكذا هذه العبارة بالأصول، وليس لها معنى واضح) في البيوع هو الغرر والأنكحة لا غرر فيها، لأن المقصود بها المكارمة لا المكايسة، ولأن الحاجة إلى الخيار والرؤية في النكاح أشد منه في البيوع. وأما تراخي القبول من أحد الطرفين عن العقد، فأجاز مالك من ذلك التراخي اليسير، ومنعه قوم، وأجازه قوم، وذلك مثل أن ينكح الولي امرأة بغير إذنها، فيبلغها النكاح فتجيزه، وممن منعه مطلقا الشافعي، وممن أجازه مطلقا أبو حنيفة وأصحابه، والتفرقة بين الأمر الطويل والقصير لمالك. وسبب الخلاف هل من شرط الانعقاد وجود القبول من المتعاقدين في وقت واحد معا، أم ليس ذلك شرطه؟ ومثل هذا الخلاف عرض في البيع.

@-(الركن الثاني: في شروط العقد) وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الأولياء. الثاني: في الشهود. الثالث: في الصداق.

*4*الفصل الأول في الأولياء

@-والنظر في الأولياء في مواضع أربعة: الأول: في اشتراط الولاية في صحة النكاح. الموضع الثاني: في صفة الولي. الثالث: في أصناف الأولياء وترتيبهم في الولاية، وما يتعلق بذلك. الرابع: في عضل الأولياء من يلونهم، وحكم الاختلاف الواقع بين الولي والمولى عليه.

@-(الموضع الأول) اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى أنه لا يكون نكاح إلا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز؛ وفرق داود بين البكر والثيب فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب. ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع أن اشتراطها سنة لا فرض، وذلك أنه روى عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلا من الناس على إنكاحها، وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ليعقد عليها، فكأنه عنده من شروط التمام لا من شروط الصحة، بخلاف عبارة البغداديين من أصحاب مالك، أعني أنهم يقولون إنها من شروط الصحة لا من شروط التمام. وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص، بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة، وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك، والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل، لأن الأصل براءة الذمة، ونحن نورد مشهور ما احتج به الفريقان ونبين وجه الاحتمال في ذلك، فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب من اشترط الولاية قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} قالوا: وهذا خطاب للأولياء، ولم لم يكن لهم حق في الولاية لما نهوا عن العضل، وقوله تعالى {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} قالوا: وهذا خطاب للأولياء أيضا؛ ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاث مرات، وإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن وأما من احتج به من لم الولاية من الكتاب والسنة، فقوله تعالى {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} قالوا: وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها. وقالوا: وقد أضاف إليهن في غير ما آية من الكتاب الفعل فقال {أن ينكحن أزواجهن} وقال {حتى تنكح زوجا غيره} .

وأما من السنة فاحتجوا بحديث ابن عباس المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها" وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى، فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع. فأما قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن} فليس فيه أكثر من نهى قرابة المرأة وعصبتها من أن يمنعوها النكاح، وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد لا حقيقة ولا مجازا، أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص بل قد يمكن أن يفهم منه ضد هذا، وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم، وكذلك قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} هو أن يكون خطابا لأولي الأمر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطابا للأولياء، وبالجملة فهو متردد بين أن يكون خطابا للأولياء. أو لأولي الأمر، فمن احتج بهذه الآية فعليه البيان أنه أظهر في خطاب الأولياء منه في أولي الأمر، فإن قيل إن هذا عام والعام يشمل ذوي الأمر والأولياء قيل إن هذا الخطاب إنما هو خطاب بالمنع والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء وغيرهم، وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة في الإذن أصله الأجنبي، ولو قلنا أنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل، لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ومراتبهم، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترا أو قريبا من التواتر، لأن هذا مما تعم به البلوى، ومعلوم أنه كان في المدينة من لا ولي له، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعقد أنكحتهم ولا ينصب لذلك من يعقدها، وأيضا فإن المقصود من الآية ليس هو حكم الولاية وإنما المقصود منها تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر، والله أعلم. وأما حديث عائشة فهو حديث مختلف في وجوب العمل به، والأظهر أن ما لا يتفق على صحته أنه ليس يجب العمل به. وأيضا فإن سلمنا صحة الحديث فليس فيه إلا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي: أعني المولى عليها، وإن سلمنا أنه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد على نفسها، أعني أن لا تكون هي التي تلى العقد بل الأظهر منه إنه إذا أذن الولي لها جاز أن تعقد على نفسها دون أن تشترط في صحة النكاح إشهاد الولي معها.

وأما ما احتج به الفريق الآخر من قوله تعالى {فلا جناح عليكم فيما فعلن بأنفسهن من معروف} فإن المفهوم منه النهي عن التثريب عليهن فيما استبددن بفعله دون أوليائهن، وليس ههنا شيء يمكن أن تستبد به المرأة دون الولي إلا عقد النكاح، فظاهر هذه الآية {والله أعلم} أن لها أن تعقد النكاح وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف وهو الظاهر من الشرع إلا أن هذا لم يقل به أحد، وأن يحتج ببعض ظاهر الآية على رأيهم ولا يحتج ببعضها فيه ضعف. وأما إضافة النكاح إليهن فليس فيه دليل على اختصاصهن بالعقد، لكن الأصل هو الاختصاص إلا أن يقوم الدليل على اختلاف ذلك. وأما حديث ابن عباس فهو لعمري ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر، لأنه إذا كان كل واحد منهما يستأذن ويتولى العقد عليهما الولي فبماذا ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها؟

وحديث الزهري هو أن يكون موافقا هذا الحديث أحرى من أن يكون معارضا له، ويحتمل أن تكون التفرقة بينهما في السكوت والنطق فقط، ويكون السكوت كافيا في العقد والاحتجاج بقوله تعالى {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} هو أظهر في أن المرأة تلي العقد من الاحتجاج بقوله {ولا تنحكوا المشركين حتى يؤمنوا} على أن الولي هو الذي يلي العقد. وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة، وذلك أنه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزهري، وحكى ابن علية عن ابن جريج أنه سأل الزهري عنه فلم يعرفه، قالوا: والدليل على ذلك أن الزهري لم يشترط الولاية ولا الولاية من مذهب عائشة. وقد احتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنه قال "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولكنه مختلف في رفعه. وكذلك اختلفوا أيضا في صحة الحديث الوارد "في نكاح النبي عليه الصلاة والسلام أم سلمة وأمره لابنها أن ينكحها إياه".

وأما احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل، وذلك أنه يمكن أن يقال إن الرشد إذا وجد في المرأة اكتفى به في عقد النكاح كما يكتفي به في التصرف في المال، ويشبه أن يقال إن المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجورة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ أو الحسبة، والمسألة محتملة كما ترى، لكن الذي يغلب على الظن أنه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم، فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا كان لا يجوز عليه، عليه الصلاة والسلام تأخير البيان عن وقت الحاجة وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن تنقل اشتراط الولاية عنه صلى الله عليه وسلم تواترا أو قريبا من التواتر ثم لم ينقل، فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين: إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك، وأما إن كان شرطا فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم، ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجوب الأقرب.

@-(الموضع الثاني) وأما النظر في الصفات الموجبة للولاية والسالبة لها، فإنهم اتفقوا على أن من شرط الولاية الإسلام والبلوغ والذكورة، وأن سوالبها أضداد هذه: أعني الكفر والصغر والأنوثة؛ واختلفوا في ثلاثة: في العبد والفاسق والسفيه. فأما العبد فالأكثر على منع ولايته، وجوزها أبو حنيفة: وأما الرشد فالمشهور في المذهب: أعني عند أكثر أصحاب مالك أن ذلك ليس من شرطها: أعني الولاية، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: ذلك من شرطها؛ وقد روى عن مالك مثل قول الشافعي، وبقول الشافعي قال أشهب وأبو مصعب. وسبب الخلاف تشبيه هذه الولاية بولاية المال؛ فمن رأى أنه قد يوجب الرشد في هذه الولاية مع عدمه في المال قال: ليس من شرطه أن يكون رشيدا في المال؛ ومن رأى أن ذلك ممتنع الوجود قال: لابد من الرشد في المال، وهما قسمان كما ترى، أعني أن الرشد في المال غير الرشد في اختيار الكفاءة لها. وأما العدالة فإنما اختلفوا فيها من جهة أنها نظر للمعنى: أعني هذه الولاية، فلا يؤمن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفاءة. وقد يمكن أن يقال إن الحالة التي بها يختار الأولياء لمولياتهم الكفء غير حالة العدالة وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع وتلك العدالة الأخرى مكتسبة، ولنقص العبد يدخل الخلاف في ولايته كما يدخل في عدالته.

@-(الموضع الثالث) وأما أصناف الولاية عند القائلين بها فهي نسب وسلطان ومولى أعلى وأسفل، ومجرد الإسلام عند مالك صفة تقتضي الولاية على الدنينة [هكذا في نسختنا، فليصحح؟؟]. واختلفوا في الوصي؛ فقال مالك: يكون الوصي وليا، ومنع ذلك الشافعي. وسبب اختلافهم هل صفة الولاية مما يمكن أن يستناب فيها، أم ليس يمكن ذلك؟. ولهذا السبب بعينه اختلفوا في الوكالة في النكاح، لكن الجمهور على جوازها إلا أبا ثور، ولا فرق بين الوكالة والإيصاء، لأن الوصي وكيل بعد الموت، والوكالة تنقطع بالموت. واختلفوا في ترتيب الولاية من النسب، فعند مالك أن الولاية معتبرة بالتعصيب إلا الابن، فمن كان أقرب عصبة كان أحق بالولاية، والأبناء عنده أولى وإن سفلوا ثم الآباء ثم الأخوة للأب والأم ثم للأب ثم بنو الإخوة للأب والأم ثم للأب فقط ثم الأجداد للأب وإن علوا. وقال المغيرة: الجد وأبوه أولى من الأخ وابنه ليس من أصل (هكذا بالأصل، ولعل صوابه: لأنه ليس بأصل، فليتأمل، ا هـ مصححه). ثم العمومة على ترتيب الإخوة وإن سفلوا ثم المولى ثم السلطان والمولى الأعلى عنده أحق من الأسفل، والوصي عنده أولى من ولي النسب: أعني وصي الأب واختلف أصحابه فيمن هو أولى وصي الأب أو ولي النسب؟ فقال ابن القاسم الوصي أولى، مثل قول مالك؛ وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: الولي أولى؛ وخالف الشافعي مالكا في ولاية البنوة فلم يجزها أصلا، وفي تقديم الإخوة على الجد فقال: لا ولاية للابن؛ وروى عن مالك أن الأب أولى من الابن وهو أحسن؛ وقال أيضا: الجد أولى من الأخ، وبه قال المغيرة؛ والشافعي اعتبر التعصيب، أعني أن الولد ليس من عصبتها لحديث عمر "لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان" ولم يعتبره مالك في الابن لحديث أم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنها أن ينكحها إياه" ولأنهم اتفقوا: أعني مالكا والشافعي على أن الابن يرث الولاء الواجب للأم، والولاء عندهم للعصبة. وسبب اختلافهم في الجد هو اختلافهم فيمن هو أقرب هل الجد أو الأخ؟ ويتعلق بالترتيب ثلاث مسائل مشهورة: أحدها: إذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب. والثانية: إذا غاب الأقرب هل تنتقل الولاية إلى الأبعد أو إلى السلطان؟. والثالثة: إذا غاب الابن عن ابنته البكر هل تنتقل الولاية أو لا تنتقل؟.

@-(فأما المسألة الأولى) فاختلف فيها قول مالك، فمرة قال: إن زوج الأبعد مع حضور الأقرب فالنكاح مفسوخ، ومرة قال: النكاح جائز، ومرة قال: للأقرب أن يجيز أو يفسخ، وهذا الخلاف كله عنده فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في محجورته، فإنه لا يختلف قوله إن النكاح في هذين مفسوخ، أعني تزويج غير الأب البنت البكر مع حضور الأب أو غير الوصي المحجورة مع حضور الوصي؛ وقال الشافعي: لا يعقد أحد مع حضور الأب لا في بكر ولا في ثيب. وسبب هذا الاختلاف هو هل الترتيب حكم شرعي: أعني ثابتا بالشرع في الولاية، أم ليس بحكم شرعي؟ وإن كان حكما فهل ذلك حق من حقوق الولي الأقرب، أم ذلك حق من حقوق الله؟ فمن لم ير الترتيب حكما شرعيا قال: يجوز نكاح الأبعد مع حضور الأقرب؛ ومن رأى أنه حكم شرعي ورأى أنه حق للولي قال: النكاح منعقد، فإن أجازه الولي جاز، وإن لم يجزه انفسخ؛ ومن رأى أنه حق لله قال: النكاح غير منعقد، وقد أنكر قوم هذا المعنى في المذهب أعنى أن يكون النكاح منفسخا غير منعقد.

@-(وأما المسألة الثانية) فإن مالكا يقول: إذا غاب الولي الأقرب انتقلت الولاية إلى الأبعد؛ وقال الشافعي: تنتقل إلى السلطان. وسبب اختلافهم هل الغيبة في ذلك بمنزلة الموت أم لا؟ وذلك أنه لا خلاف عندهم في انتقالها في الموت.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي غيبة الأب عن ابنته البكر، فإن في المذهب فيها تفصيلا واختلافا، وذلك راجع إلى بعد المكان وطول الغيبة أو قربه والجهل بمكانه أو العلم به. وحاجة البنت إلى النكاح إما لعدم النفقة، وإما لما يخاف عليها من عدم الصون، وإما للأمرين جميعا؛ فاتفق المذهب على أنه إذا كانت الغيبة بعيدة أو كان الأب مجهول الموضع أو أسيرا وكانت في صون وتحت نفقة أنها إن لم تدع إلى التزويج لا تزوج وإن دعت فتزوج عند الأسر وعند الجهل بمكانه، واختلفوا هل تزوج مع العلم بمكانه أم لا إذا كان بعيدا، فقيل تزوج وهو قول مالك؛ وقيل لا تزوج، وهو قول عبد الملك وابن وهب. وأما إن عدمت النفقة أو كانت في غير صون فإنها تزوج أيضا في هذه الأحوال الثلاثة: أعني في الغيبة البعيدة، وفي الأسر، والجهل بمكانه؛ وكذلك إن اجتمع الأمران فإذا كانت في غير صون تزوج وإن لم تدع إلى ذلك؛ ولم يختلفوا فيما أحسب أنها لا تزوج في الغيبة القريبة المعلومة لمكان إمكان مخاطبته، وليس يبعد بحسب النظر المصلحي الذي انبنى عليه هذا النظر أن يقال إن ضاق الوقت وخشي السلطان عليها الفساد زوجت وإن كان الموضع قريبا؛ وإذا قلنا إنه يجوز ولاية الأبعد مع حضور الأقرب؛ فإن جعلت امرأة أمرها إلى وليين فزوجها كل واحد منهما، فإنه لا يخلو أن تكون تقدم أحدهما في العقد على الآخر أو يكونا عقدا معا، ثم لا يخلو ذلك من أن يعلمم المتقدم أو لا يعلم، فأما إذا علم المتقدم منهما فإجمعوا على أنها للأول إذا لم يدخل بها واحد منهما. واختلفوا إذا دخل الثاني؛ فقال قوم هي للأول؛ وقال قوم هي للثاني، وهو قول مالك وابن القاسم، وبالأول قال الشافعي وابن عبد الحكم؛ وأما إن أنكحاها معا فلا خلاف في فسخ النكاح فيما أعرف. وسبب الخلاف في اعتبار الدخول أو لا اعتباره معارضة العموم للقياس، وذلك أنه قد روى أنه عليه الصلاة والسلام قال "أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منهما" فعموم هذا الحديث يقتضي أنها للأول دخل بها الثاني أو لم يدخل؛ ومن اعتبر الدخول فتشبيها بفوات السلعة في البيع المكروه وهو ضعيف. وأما إن لم يعلم الأول فإن الجمهور على الفسخ؛ وقال مالك: يفسخ ما لم يدخل أحدهما؛ وقال شريح: تخير فأيهما اختارت كان هو الزوج، وهو شاذ، وقد روى عن عمر بن عبد العزيز.

@-(الموضع الرابع: في عضل الأولياء) واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء وبصداق مثلها وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها ما عدا الأب، فإنه اختلف فيه المذهب. واختلفوا بعد هذا الاتفاق فيما هي الكفاءة المعتبرة في ذلك وهل صداق المثل منها أم لا؟ وكذلك اتفقوا على أن للمرأة أن تمنع نفسها من إنكاح من له من الأولياء جبرها إذا لم تكن فيها الكفاءة موجودة كالأب في ابنته البكر. أما غير البالغ باتفاق، والبالغ والثيب الصغيرة باختلاف على ما تقدم، وكذلك الوصي في محجوره على القول بالجبر، فأما الكفاءة فإنهم اتفقوا على أن الدين معتبر في ذلك إلا ما روى عن محمد بن الحسن من إسقاط اعتبار الدين، ولم يختلف المذهب أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما، وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق. واختلفوا في النسب هل هو من الكفاءة أم لا؟ وفي الحرية وفي اليسار وفي الصحة من العيوب، فالمشهور عن مالك أنه يجوز نكاح الموالي من العرب وأنه احتج لذلك بقوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقال سفيان الثوري وأحمد: لا تزوج العربية من مولى؛ وقال أبو حنفية وأصحابه: لا تزوج قرشية إى من قرشي، ولا عربية إلا من عربي. والسبب في اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها وحسبها فاظفر بذات الدين تربت يمينك" فمنهم من رأى أن الدين هو المعتبر فقط لقوله عليه الصلاة والسلام "فعليك بذات الدين تربت يمينك" ومنهم من رأى أن الحسب في ذلك هو بمعنى الدين وكذلك المال، وأنه لا يخرج من ذلك إلا ما أخرجه الإجماع، وهو كون الحسن ليس من الكفاءة، وكل من يقول يرد النكاح من العيوب يجعل الصحة منها من الكفاءة، وعلى هذا فيكون الحسن يعتبر لجهة ما، ولم يختلف المذهب أيضا أن الفقر مما يوجب فسخ إنكاح الأب ابنته البكر، أعني إذا كان فقيرا غير قادر على النفقة عليها فالمال عنده من الكفاءة، ولم ير ذلك أبو حنيفة. أما الحرية فلم يختلف المذهب أنها من الكفاءة لكون السنة الثابتة لتخيير الأمة إذا عتقت. وأما مهر المثل فإن مالكا والشافعي يريان أنه ليس من الكفاءة، وأن للأب أن ينكح ابنته بأقل من صداق المثل: أعني البكر وأن الثيب الرشيدة إذا رضيت به لم يكن للأولياء مقال؛ وقال أبو حنيفة: مهر المثل من الكفاءة. وسبب اختلافهم أما في الأب فلاختلافهم هل له أن يضع من صداق ابنته البكر شيئا أم لا؟ وأما في الثيب فلاختلافهم هل ترتفع عنها الولاية في مقدار الصداق إذا كانت رشيدة كما ترتفع في سائر تصرفاتها المالية أم ليس ترتفع الولاية عن مقدار الصداق إذ كانت لا ترتفع عنها في التصرف في النكاح، والصداق من أسبابه، وقد كان هذا القول أخلق بمن يشترط الولاية ممن لم يشترطها، لكن أتى الأمر بالعكس. ويتعلق بأحكام الولاية مسألة مشهورة، وهي هل يجوز للولي أن ينكح وليته من نفسه أم لا يجوز ذلك؟ فمنع ذلك الشافعي قياسا على الحاكم والشاهد، أعني أنه لا يحكم لنفسه ولا يشهد لنفسه، وأجاز ذلك مالك ولا أعلم له حجة في ذلك إلا ما روى من "أنه عليه الصلاة والسلام تزوج أم سلمة بغير ولي" لأن ابنها كان صغيرا، وما ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية فجعل صداقها عتقها". والأصل عند الشافعي في أنكحة النبي عليه الصلاة والسلام أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم لكثرة خصوصيته في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم، ولكن تردد قوله في الإمام الأعظم.

*4*الفصل الثاني في الشهادة

@-واتفق أبو حنيفة والشافعي ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح، واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد، واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر. واختلفوا إذا أشهد شاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أو ليس سر؟ فقال مالك: هو سر ويفسخ؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس بسر. وسبب اختلافهم هل الشهادة في ذلك حكم شرعي أم إنما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف أو الإنكار؟ فمن قال حكم شرعي قال: هي شرط من شروط الصحة؛ ومن قال توثق قال: من شروط التمام. والأصل في هذا ما روى عن ابن عباس "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد" ولا مخالف له من الصحابة، وكثير من الناس رأى هذا داخلا في باب الإجماع وهو ضعيف، وهذا الحديث قد روى مرفوعا ذكره الدارقطني، وذكر أن في سنده مجاهيل؛ وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين، لأن المقصود عنده بالشهادة هو الإعلان فقط؛ والشافعي يرى أن الشهادة تتضمن المعنيين: أعني الإعلان والقبول، ولذلك اشترط فيها العدالة؛ وأما مالك فليس تتضمن عنده الإعلان إذا وصى الشاهدان بالكتمان. وسبب اختلافهم هل ما تقع فيه الشهادة ينطلق عليه اسم السر أم لا؟ والأصل في اشتراط الإعلان قول النبي عليه الصلاة والسلام "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف" خرجه أبو داود، وقال عمر فيه: هذا نكاح السر ولو تقدمت فيه لرجمت. وقال أبو ثور وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح، لا شرط صحة ولا شرط تمام، وفعل ذلك الحسن بن علي، وروى عنه أنه تزوج بغير شهادة ثم أعلن بالنكاح.

*4*الفصل الثالث في الصداق

@-والنظر في الصداق في ستة مواضع: الأول: في حكمه وأركانه. الموضع الثاني في تقرر جميعه للزوجة. الموضع الثالث: في تشطيره. الموضع الرابع: في التفويض وحكمه. الموضع الخامس: الأصدقة الفاسدة وحكمها. الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق.

@-(الموضع الأول) وهذا فيه أربع مسائل: الأولى: في حكمه، الثانية: في قدره، الثالثة: في جنسه ووصفه. الرابعة: في تأجيله.

@-(المسألة الأولى) أما حكمه فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} وقوله تعالى {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن}

@-(المسألة الثانية) وأما قدره فإنهم اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد. واختلفوا في أقله؛ فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء المدينة من التابعين: ليس لأقله حد، وكل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقا، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك؛ وقال طائفة بوجوب تحديد أقله، وهؤلاء اختلفوا، فالمشهور في ذلك مذهبان: أولهما مذهب مالك وأصحابه، والثاني مذهب أبي حنيفة وأصحابه؛ فأما مالك فقال: أقله ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلا من فضة، أو ما ساوى الدراهم الثلاثة، أعني دراهم الكيل فقط في المشهور؛ وقيل أو ما يساوي أحدهما؛ وقال أبو حنيفة: عشرة دراهم أقله؛ وقيل خمسة دراهم؛ وقيل أربعون درهما. وسبب اختلافهم في التقدير سببان: أحدهما تردده بين أن يكون عوضا من الأعواض يعتبر فيه التراضي بالقليل كان أو بالكثير كالحال في البيوعات، وبين أن يكون عبادة فيكون مؤقتا، وذلك أنه من جهة أنه يملك به على المرأة منافعها على الدوام يشبه العوض، ومن جهة أنه لا يجوز التراضي على إسقاطه يشبه العبادة. والسبب الثاني معارضة هذا القياس فالمقتضى التحديد لمفهوم الأثر الذي لا يقتضي التحديد. أما القياس الذي يقتضي التحديد فهو كما قلنا إنه عبادة والعبادات مؤقتة. وأما الأثر الذي يقتضي مفهومه عدم التحديد فحديث سهل بن سعد الساعدي المتفق على صحته، وفيه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك حاجة بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا، فقال: لا أجد شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنكحتكها بما معك من القرآن" قالوا: فقوله عليه الصلاة والسلام "التمس ولو خاتما من حديد" دليل على أنه لا قدر لأقله لأنه لو كان له قدر لبينه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس تسلم مقدماته، وذلك أنه انبنى على مقدمتين: إحداهما أن الصداق عبادة، والثانية أن العبادة مؤقتة، وفي كليهما نزاع للخصم، وذلك أنه قد يلفى في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة، بل الواجب فيها هو أقل ما ينطلق عليه الاسم. وأيضا فإنه ليس فيه شبه العبادات خالصا، وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصا بذاك الرجل لقوله فيه "قد أنكحتكها بما معك من القرآن" وهذا خلاف للأصول، وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال "قم فعلمها" لما ذكر أنه معه من القرآن، فقام فعلمها، فجاء نكاحا بإجارة، لكن لما التمسوا أصلا يقيسون عليه قدر الصداق لم يجدوا شيئا أقرب شبها به من نصاب القطع على بعد ما بينهما.

وذلك أن القياس الذي استعملوه في ذلك هو أنهم قالوا: عضو مستباح بمال، فوجب أن يكون مقدرا أصله القطع، وضعف هذا القياس هو من قبل الاستباحة فيهما هي مقولة باشتراك الاسم، وذلك أن القطع غير الوطء، وأيضا فإن القطع استباحة على جهة العقوبة والأذى ونقص خلقه، وهذا استباحة على جهة اللذة والمودة، ومن شأنه قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى، وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه، وهذا كله معدوم في هذا القياس، ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ، وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين، لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث إذ هو في غاية الضعف، وإنما استعملوه في تعيين قدر التحديد. وأما القياس الذي استعملوه في معارضة مفهوم الحديث فهو أقوى من هذا، ويشهد لعدم التحديد ما خرجه الترمذي "أن امرأة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم، فجوز نكاحها" وقال هو حديث حسن صحيح. ولما اتفق القائلون بالتحديد على قياسه على نصاب السرقة اختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في نصاب السرقة، فقال مالك: هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم، لأنه النصاب في السرقة عنده، وقال أبو حنيفة: هو عشرة دراهم، لأنه النصاب في السرقة عنده؛ وقال ابن شبرمة: هو خمسة دراهم، لأنه النصاب عنده أيضا في السرقة.

وقد احتجت الحنفية لكون الصداق محددا بهذا القدر بحديث يروونه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال"لا مهر بأقل من عشرة دراهم" ولو كان هذا ثابتا لكان رافعا لموضع الخلاف لأنه كان يجب لموضع هذا الحديث أن يحمل حديث سهل بن سعد على الخصوص، لكن حديث جابر هذا ضعيف عند أهل الحديث فإنه يرويه، قالوا مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن جابر، ومبشر والحجاج ضعيفان، وعطاء أيضا لم يلق جابرا، ولذلك لا يمكن أن يقال إن هذا الحديث معارض لحديث سهل بن سعد.

@-(المسألة الثالثة) أما جنسه فكل ما جاز أن يتملك وأن يكون عوضا. واختلفوا من ذلك في مكانين: في النكاح بالإجارة، وفي جعل عتق أمته صداقها. أما النكاح على الإجارة ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: قول بالإجازة، وقول بالمنع، وقول بالكراهة: والمشهور عن مالك الكراهة، ولذلك رأى فسخه قبل الدخول، وأجازه من أصحابه أصبغ وسحنون، وهو قول الشافعي، ومنعه ابن القاسم وأبو حنيفة إلا في العبد فإن أبا حنيفة أجازه. وسبب اختلافهم سببان: أحدهما هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه أم الأمر بالعكس؟ فمن قال هو لازم أجازه لقوله تعالى {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} الآية؛ ومن قال ليس بلازم قال: لا يجوز النكاح بالإجارة. والسبب الثاني هل يجوز أن يقاس النكاح في ذلك على الإجارة؟ وذلك أن الإجارة هي مستثناة من بيوع الغرر المجهول، ولذلك خالف فيها الأصم وابن علية، وذلك أن أصل التعامل إنما هو على عين معروفة ثابتة في عين معروفة ثابتة، والإجارة هي عين ثابتة في مقابلتها حركات وأفعال غير ثابتة ولا مقدرة بنفسها. ولذلك اختلف الفقهاء متى تجب الأجرة على المستأجر؛ وأما كون العتق صداقا فإنه منعه فقهاء الأمصار ما عدا داود وأحمد. وسبب اختلافهم معارضة الأثر الوارد في ذلك للأصول، أعني ما ثبت من "أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" مع احتمال أن يكون هذا خاصا به عليه الصلاة والسلام لكثرة اختصاصه في هذا الباب، ووجه مفارقته للأصول أن العتق إزالة ملك، والإزالة لا تتضمن استباحة الشيء بوجه آخر لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها فكيف يلزمها النكاح؟ ولذلك قال الشافعي: إنها إن كرهت زواجه غرمت له قيمتها، لأنه رأى أنها قد أتلفت عليه قيمتها إذ كان إنما أتلفها بشرط الاستمتاع بها، وهذا كله لا يعارض به فعله عليه الصلاة والسلام، ولو كان غير جائز لغيره لبينه عليه الصلاة والسلام. والأصل أن أفعاله لازمة لنا، إلا ما قام الدليل على خصوصيته. وأما صفة الصداق فإنهم اتفقوا على انعقاد النكاح على العوض المعين الموصوف، أعني المنضبط جنسه وقدره بالوصف. واختلفوا في العوض الغير موصوف ولا معين، مثل أن يقول أنكحتكها على عبد أو خادم، من غير أن يصف ذلك وصفا يضبط قيمته، فقال مالك وأبو حنيفة يجوز؛ وقال الشافعي لا يجوز؛ وإذا وقع النكاح على هذا الوصف عند مالك كان لها الوسط مما سمى؛ وقال أبو حنيفة: يجبر على القيمة. وسبب اختلافهم هل يجري النكاح في ذلك مجرى البيع من القصد في التشاح، أو ليس يبلغ ذلك المبلغ بل القصد منه أكثر ذلك المكارمة؟ فمن قال يجري في التشاح مجرى البيع قال: كما لا يجوز البيع على شيء غير موصوف كذلك لا يجوز النكاح؛ ومن قال ليس يجري مجراه إذ المقصود منه إنما هو المكارمة قال: يجوز. وأما التأجيل فإن قوما لم يجيزوه أصلا، وقوم أجازوه واستحبوا أن يقدم شيئا منه إذا أراد الدخول وهو مذهب مالك؛ والذين أجازوا التأجيل منهم من لم يجزه إلا لزمن محدود وقدر هذا البعد، وهو مذهب مالك؛ ومنهم من أجازه لموت أو فراق، وهو مذهب الأوزاعي. وسبب اختلافهم هل يشبه النكاح البيع في التأجيل أو لا يشبهه؟ فمن قال يشبهه لم يجز التأجيل لموت أو فراق؛ ومن قال لا يشبهه أجاز ذلك؛ ومن منع التأجيل فلكونه عبادة.

@-(الموضع الثاني: في النظر في التقرر) واتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول أو الموت. أما وجوبه كله بالدخول فلقوله تعالى {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} الآية. وأما وجوبه بالموت فلا أعلم الآن فيه دليلا مسموعا إلا انعقاد الإجماع على ذلك. واختلفوا هل من شرط وجوبه مع الدخول المسيس أم ليس ذلك من شرطه، بل يجب بالدخول والخلوة، وهو الذي يعنون بإرخاء الستور؟ فقال مالك والشافعي وداود: لا يجب بإرخاء الستور إلا نصف المهر ما لم يكن المسيس؛ وقال أبو حنيفة؛ يجب المهر بالخلوة نفسها إلا أن يكون محرما أو مريضا أو صائما في رمضان أو كانت المرأة حائضا؛ وقال ابن أبي ليلى: يجب المهر كله بالدخول ولم يشترط في ذلك شيئا. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حكم الصحابة في ذلك لظاهر الكتاب، وذلك أنه نص تبارك وتعالى في المدخول بها المنكوحة أنه ليس يجوز أن يؤخذ من صداقها شيء في قوله تعالى {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} ونص في المطلقة قبل المسيس أن لها نصف الصداق، فقال تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وهذا نص كما ترى في حكم كل واحدة من هاتين الحالتين: أعني قبل المسيس وبعد المسيس ولا وسط بينهما، فوجب بهذا إيجابا ظاهرا أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس، والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع، وقد يحتمل أن يحمل على أصله في اللغة وهو المس، ولعل هذا هو الذي تأولت الصحابة، ولذلك قال مالك في العنين المؤجل إنه قد وجب لها الصداق عليه إذا وقع الطلاق لطول مقامه معها، فجعل له دون الجماع تأثيرا في إيجاب الصداق. وأما الأحكام الواردة في ذلك عن الصحابة فهو أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد وجب عليه الصداق لم يختلف عليهم في ذلك فيما حكموا. واختلفوا من هذا الباب في فرع، وهو إذا اختلفا في المسيس أعني القائلين باشتراط المسيس، وذلك مثل أن تدعي هي المسيس وينكر هو، فالمشهور عن مالك أن القول قولها؛ وقيل إن كان دخول بناء صدِّقت، وإن كان دخول زيارة لم تصدق؛ وقيل إن كانت بكرا نظر إليها النساء، فيتحصل فيها في المذهب ثلاثة أقوال؛ وقال الشافعي وأهل الظاهر: القول قوله، وذلك لأنه مدعى عليه؛ ومالك ليس يعتبر في وجوب اليمين على المدعى عليه من جهة ما هو مدعى عليه، بل من جهة ما هو أقوى شبهة في الأكثر، ولذلك يجعل القول في مواضع كثيرة قول المدعي إذا كان أقوى شبهة. وهذا الخلاف يرجع إلى هل إيجاب اليمين على المدعى عليه معلل أو غير معلل، وكذلك القول في وجوب البينة على المدعي، وسيأتي هذا في مكانه.

@-(الموضع الثالث: في التشطير) واتفقوا اتفاقا مجملا أنه إذا طلق قبل الدخول وقد فرض صداقا أنه يرجع عليها بنصف الصداق لقوله تعالى {فنصف ما فرضتم} الآية. والنظر في التشطير في أصول ثلاثة: في محله من الأنكحة، وفي موجبه من أنواع الطلاق: أعني الواقع قبل الدخول، وفي حكم ما يعرض له من التغييرات قبل الطلاق. أما محله من النكاح عند مالك فهو النكاح الصحيح، أعني أن يكون يقع الطلاق الذي قبل الدخول في النكاح الصحيح. وأما النكاح الفاسد، فإن لم تكن الفرقة فيه فسخا وطلق قبل الفسخ ففي ذلك قولان. وأما موجب التشطير فهو الطلاق الذي يكون باختيار من الزوج لا باختيار منها مثل الطلاق الذي يكون من قبل قيامها بعيب يوجد فيه. واختلفوا من هذا الباب في الذي يكون سببه قيامها عليه بالصداق أو النفقة مع عسره، ولا فرق بينه وبين القيام بالعيب. وأما الفسوخ التي ليست طلاقا فلا خلاف أنها ليست توجب التشطير إذا كان فيها الفسخ من قبل العقد أو من قبل الصداق، وبالجملة من قبل عدم موجبات الصحة، وليس لها في ذلك اختيار أصلا. وأما الفسوخ الطارئة على العقد الصحيح مثل الردة والرضاع فإن لم يكن لأحدهما فيه اختيار أو كان لها دونه لم يوجب التشطير وإن كان له فيه اختيار مثل الردة أوجب التشطير.

والذي يقتضيه مذهب أهل الظاهر أن كل طلاق قبل البناء فواجب أن يكون فيه التنصيف سواء كان من سببها أو سببه، وأن ما كان فسخا ولم يكن طلاقا فلا تنصيف فيه. وسبب الخلاف هل هذه السنة معقولة المعنى أم ليست بمعقولة؛ فمن قال إنها معقولة المعنى وأنه إنما وجب لها نصف الصداق عوض ما كان لها لمكان الجبر على رد سلعتها وأخذ الثمن كالحال في المشترى فلما فارق النكاح في هذا المعنى البيع جعل لها هذا عوضا من ذلك الحق قال: إذا كان الطلاق من سببها لم يكن لها شيء لأنها أسقطت ما كان لها من جبره على دفع الثمن وقبض السلعة، ومن قال إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ قال: يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها. فأما حكم ما يعرض للصداق من التغيرات قبل الطلاق فإن ذلك لا يخلو أن يكون من قبلها أو من الله، فما كان من قبل الله فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يكون تلفا للكل، وإما أن يكون نقصا، وإما أن يكون زيادة، وأما أن يكون زيادة ونقصا معا. وما كان من قبلها فلا يخلو أن يكون تصرفها فيه بتفويت مثل البيع والعتق والهبة، أو يكون تصرفها فيه في منافعها الخاصة بها أو فيما تتجهز به إلى زوجها؛ فعند مالك أنهما في التلف وفي الزيادة وفي النقصان شريكان؛ وعند الشافعي أنه يرجع في النقصان والتلف عليها بالنصف ولا يرجع بنصف الزيادة وسبب اختلافهم هل تملك المرأة الصداق قبل الدخول أو الموت ملكا مستقرا أو لا تملكه؟ فمن قال إنها لا تملكه ملكا مستقرا قال: هما فيه شريكان ما لم تتعد فتدخله في منافعها؛ ومن قال تملكه ملكا مستقرا والتشطير حق واجب تعين عليها عند الطلاق وبعد استقرار الملك أوجب الرجوع عليها بجميع ما ذهب عندها؛ ولم يختلفوا أنها إذا صرفته في منافعها ضامنة للنصف. واختلفوا إذا اشترت به ما يصلحها للجهاز مما جرت به العادة هل يرجع عليها بنصف ما اشترته أم بنصف الصداق الذي هو الثمن؟ فقال مالك: يرجع عليها بنصف ما اشترته؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يرجع عليها بنصف الثمن الذي هو الصداق. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور متعلق بالسماع وهو هل للأب أن يعفو عن نصف الصداق في ابنته البكر؟ أعني إذا طلقت قبل الدخول وللسيد في أمته؟ فقال مالك: ذلك له؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس ذلك له. وسبب اختلافهم هو الاحتمال الذي في قوله تعالى {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وذلك في لفظة "يعفو" فإنها تقال في كلام العرب مرة بمعنى يسقط ومرة بمعنى يهب، وفي قوله "الذي بيده عقدة النكاح" على من يعود هذا الضمير هل على الولي أو على الزوج؛ فمن قال على الزوج جعل "يعفو" بمعنى يهب ومن قال على الولي جعل "يعفو" بمعنى يسقط. وشذ قوم فقالوا: لكل ولي أن يعفو عن نصف الصداق الواجب للمرأة، ويشبه أن يكون هذان الاحتمالان اللذان في الآية على السواء، لكن من جعله الزوج فلم يوجب حكما زائدا في الآية: أي شرعا زائدا، لأن جواز ذلك معلوم من ضرورة الشرع. ومن جعله الولي، إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا، فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج وذلك شيء يعسر؛ والجمهور على أن المرأة الصغيرة والمحجورة ليس لها أن تهب من صداقها النصف الواجب لها؛ وشذ قوم فقالوا: يجوز أن تهب مصيرا لعموم قوله تعالى {إلا أن يعفون}

واختلفوا من هذا الباب في المرأة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقت قبل الدخول؛ فقال مالك: ليس يرجع إليها بشيء؛ وقال الشافعي: يرجع عليها بنصف الصداق. وسبب الخلاف هل النصف الواجب للزوج بالطلاق هو في عين الصداق أو في ذمة المرأة؟ فمن قال في عين الصداق قال: لا يرجع عليها بشيء لأنه قبض الصداق كله؛ ومن قال هو في ذمة المرأة قال: يرجع وإن وهبته له كما لو وهبت له غير ذلك من مالها: وفرق أبو حنيفة في هذه المسألة بين القبض ولا قبض، فقال: إن قبضت فله النصف وإن لم تقبض حتى وهبت فليس له شيء كأنه رأى أن الحق في العين مالم تقبض، فإذا قبضت صار في الذمة.

@-(الموضع الرابع: في التفويض) وأجمعوا على أن نكاح التفويض جائز، وهو أن يعقد النكاح دون صداق لقوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} . واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما إذا طلبت الزوجة فرض الصداق واختلفا في القدر. الموضع الثاني: إذا مات الزوج ولم يفرض هل لها صداق أم لا؟.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا قامت المرأة تطلب أن يفرض لها مهرا، فقالت طائفة: يفرض لها مهر مثلها، وليس للزوج في ذلك خيار، فإن طلق بعد الحكم، فمن هؤلاء من قال: لها نصف الصداق؛ ومنهم من قال: ليس لها شيء، لأن أصل الفرض لم يكن في عقد النكاح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ وقال مالك وأصحابه: الزوج بين خيارات ثلاث: إما أن يطلق ولا يفرض، وإما أن يفرض ما تطلبه المرأة به، وإما أن يفرض صداق المثل ويلزمها. وسبب اختلافهم، أعني بين من يوجب مهر المثل من غير خيار للزوج إذا طلق بعد طلبها الفرض، ومن لا يوجب اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} هل هذا محمول على العموم في سقوط الصداق سواء كان سبب الطلاق اختلافهم في فرض الصداق أو لم يكن الطلاق سببه الخلاف في ذلك، وأيضا فهل يفهم من رفع الجناح عن ذلك سقوط المهر في كل حال، أو لا يفهم ذلك؟ فيه احتمال وإن كان الأظهر سقوطه في كل حال لقوله تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} ولا خلاف أعلمه في أنه إذا طلق ابتداء أنه ليس عليه شيء، وقد كان يجب على من أوجب لها المتعة مع شطر الصداق إذا طلق قبل الدخول في نكاح غير التفويض وأوجب لها مهر المثل في نكاح التفويض أن يوجب لها مع المتعة فيه شطر مهر المثل، لأن الآية لم تتعرض بمفهومها لإسقاط الصداق في نكاح التفويض، وإنما تعرضت لإباحة الطلاق قبل الفرض فإن كان يوجب نكاح التفويض مهر المثل إذا طلب فواجب أن يتشطر إذا وقع الطلاق كما يتشطر في المسمى، ولهذا قال مالك إنه ليس يلزم فيه مهر المثل مع خيار الزوج.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي إذا مات الزوج قبل تسمية الصداق وقبل الدخول بها، فإن مالكا وأصحابه والأوزاعي قالوا: ليس لها صداق ولها المتعة والميراث. وقال أبو حنيفة: لها صداق المثل والميراث وبه وقال أحمد وداود، وعن الشافعي القولان جميعا، إلا أن المنصور عند أصحابه وهو مثل قول مالك. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فهو ما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني: أرى لها صداق امرأة من نسائها ولا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وأما القياس المعارض لهذا فهو أن الصداق عوض، فلما لم يقبض المعوض لم يجب العوض قياسا على البيع. وقال المزني عن الشافعي في هذه المسألة: إن ثبت حديث بروع فلا حجة في قول أحد مع السنة، والذي قاله هو الصواب والله أعلم.

@-(الموضع الخامس: في الأصدقة الفاسدة) والصداق يفسد إما لعينه وإما لصفة فيه من جهل أو عذر، فالذي يفسد لعينه فمثل الخمر والخنزير وما لا يجوز أن يتملك، والذي يفسد من قبل العذر والجهل فالأصل فيه بالبيوع، وفي ذلك خمس مسائل مشهورة:

@-(المسألة الأولى) إذا كان الصداق خمرا أو خنزيرا أو ثمرة لم يبد صلاحها أو بعيرا شاردا، وقال أبو حنيفة: العقد صحيح إذا وقع فيه مهر المثل؛ وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده وهو قول أبي عبيد. والثانية أنه إن دخل ثبت ولها صداق المثل. وسبب اختلافهم هل حكم النكاح في ذلك حكم البيع أم ليس كذلك؟ فمن قال حكمه حكم البيع قال: يفسد النكاح بفساد الصداق كما يفسد البيع بفساد الثمن، ومن قال ليس من شرط صحة عقد النكاح صحة الصداق بدليل أن ذكر الصداق ليس شرطا في صحة العقد قال: يمضي النكاح ويصحح بصداق المثل، والفرق بين الدخول وعدمه ضعيف، والذي تقتضيه أصول مالك أن يفرق بين الصداق المحرم العين وبين المحرم لصفة فيه قياسا على البيع، ولست أذكر الآن فيه نصا.

@-(المسألة الثانية) واختلفوا إذا اقترن بالمهر بيع مثل أن تدفع إليه عبدا ويدفع ألف درهم عن الصداق وعن ثمن العبد ولا يسمى الثمن من الصداق، فمنعه مالك وابن القاسم، وبه قال أبو ثور، وأجازه أشهب، وهو قول أبي حنيفة؛ وفرق عبد الله فقال: إن كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدا بأمر لا يشك فيه جاز. واختلف فيه قول الشافعي، فمرة قال: ذلك جائز، ومرة قال: فيه مهر المثل. وسبب اختلافهم هل النكاح في ذلك شبيه بالبيع أم ليس بشبيه؟ فمن شبهه في ذلك بالبيع منعه، ومن جوز في النكاح من الجهل ما لا يجوز في البيع قال يجوز.

@-(المسألة الثالثة) واختلف العلماء فيمن نكح امرأة واشترط عليه في صداقها حباء يحابي به الأب على ثلاثة أقوال: فقال أبو حنيفة وأصحابه: الشرط لازم والصداق صحيح؛ وقال الشافعي: المهر فاسد ولها صداق المثل؛ وقال مالك: إذا كان الشرط عند النكاح فهو لابنته، وإن كان بعد النكاح فهو له. وسبب اختلافهم تشبيه النكاح في ذلك بالبيع، فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال: لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع؛ ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز. وأما تفريق مالك فلأنه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق، وقول مالك هو قول عمر ابن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد. وخرج أبو داود والنسائي وعبد الرزاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت على حباء قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أُكرِم الرجل عليه ابنته وأخته" وحديث عمرو بن شعيب مختلف فيه من قبل أنه صحفه، ولكنه نص في قول مالك. وقال أبو عمر بن عبد البر: إذا روته الثقات وجب العمل به.

@-(المسألة الرابعة) واختلفوا في الصداق يستحق أو يوجد به عيب، فقال الجمهور: النكاح ثابت. واختلفوا هل ترجع بالقيمة أو بالمثل أو بمهر المثل؟ واختلف في ذلك قول الشافعي، فقال مرة بالقيمة، وقال مرة بمهر المثل؛ وكذلك قال اختلف المذهب في ذلك، فقيل ترجع بالقيمة، وقيل ترجع بالمثل. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل ترجع بالأقل من القيمة أو صداق المثل لكان ذلك وجها. وشذ سحنون فقال: النكاح فاسد. ومبنى الخلاف هل يشبه النكاح في ذلك البيع أو لا يشبهه؟ فمن شبهه قال: ينفسخ؛ ومن لم يشبهه قال: لا ينفسخ.

(المسألة الخامسة) واختلفوا في الرجل ينكح المرأة على أن الصداق ألف إن لم يكن له زوجة، وإن كانت له زوجة فالصداق ألفان، فقال الجمهور بجوازه. واختلفوا في الواجب في ذلك، فقال قوم: الشرط جائز، ولها من الصداق بحسب ما اشترط؛ وقالت طائفة: لها مهر المثل، وهو قول الشافعي وبه قال أبو ثور، إلا أنه قال: إن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة؛ وقال أبو حنيفة: إن كانت له امرأة فلها ألف درهم، وإن لم تكن له امرأة فلها مهر مثلها ما لم يكن أكثر من الألفين أو أقل من الألف؛ ويتخرج في هذا قول أن النكاح مفسوخ لمكان الغرر، ولست أذكر الآن نصا فيها في المذهب فهذه مشهور مسائلهم في هذا الباب وفروعه كثيرة.. واختلفوا فيما يعتبر به مهر المثل إذا قضى به في هذه المواضع وما أشبهها، فقال مالك: يعتبر في جمالها ونصابها (قوله ونصابها: هكذا في النسخ ولعله منصبها فتأمل ا هـ مصححه) ومالها؛ وقال الشافعي: يعتبر بنساء عصبتها فقط؛ وقال أبو حنيفة: يعتبر في ذلك نساء قرابتها من العصبة وغيرهم، ومبنى الخلاف هل المماثلة في المنصب فقط أو في المنصب والمال والجمال، لقوله عليه الصلاة والسلام "تنكح المرأة لدينها وجمالها وحسبها" الحديث.

@-(الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق) واختلافهم لا يخلو أن يكون في القبض أو في القدر أو في الجنس أو في الوقت: أعني وقت الوجوب فإما إذا اختلفا في القدر فقالت المرأة مثلا بمائتين وقال الزوج بمائة، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا، فقال مالك: إنه إن كان الاختلاف قبل الدخول وأتى الزوج بما يشبه والمرأة بما يشبه أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وإن نكلا جميعا كان بمنزلة ما إذا حلفا جميعا، ومن أتى بما يشبه منهما كان القول قوله، وإن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج؛ وقالت طائفة: القول قول الزوج مع يمينه، وبه قال أبو ثور وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة؛ وقالت طائفة: القول قول الزوجة إلى مهر مثلها، وقول الزوج فيما زاد على مهر مثلها؛ وقالت طائفة: إذا اختلفا تحالفا ورجع إلى مهر المثل ولم تر الفسخ كمالك، وهو مذهب الشافعي والثوري وجماعة، وقد قيل إنها ترد إلى صداق المثل دون يمين ما لم يكن صداق المثل أكثر مما ادعت وأقل مما ادعى هو.

واختلافهم مبني على اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك معلل أو غير معلل؟ فمن قال معلل قال: يحلف أبدا أقواهما شبهة، فإن استويا تحالفا وتفاسخا، ومن قال غير معلل قال: يحلف الزوج لأنها تقر له بالنكاح وجنس الصداق وتدعي عليه قدرا زائدا فهو مدعى عليه؛ وقيل أيضا يتحالفان أبدا، لأن كل واحد منهما مدعى عليه، وذلك عند من لم يراع الأشباه، والخلاف في ذلك في المذهب ومن قال القول قولها إلى مهر المثل، والقول قوله فيما زاد على مهر المثل رأى أنهما لا يستويان أبدا في الدعوى، بل يكون أحدهما ولابد أقوى شبهة، وذلك أنه لا يخلو دعواها من أن يكون فيما يعادل صداق مثلها فما دونه فيكون القول قولها، أو يكون فيما فوق ذلك فيكون القول قوله. وسبب اختلاف مالك والشافعي في التفاسخ بعد التحالف والرجوع إلى صداق المثل، هو هل يشبه النكاح بالبيع في ذلك أم ليس يشبه؟ فمن قال يشبه به قال بالتفاسخ؛ ومن قال لا يشبه، لأن الصداق ليس من شرط صحة العقد قال: بصداق المثل بعد التحالف وكذلك من زعم من أصحاب مالك أنه لا يجوز لهما بعد التحالف أن يتراضيا على شيء ولا أن يرجع أحدهما إلى قول الآخر ويرضى به فهو في غاية الضعف؛ ومن ذهب إلى هذا فإنما يشبه باللعان، وهو تشبيه ضعيف مع أن وجود هذا الحكم للعان مختلف فيه. وأما إذا اختلفا في القبض فقالت الزوجة لم أقبض، وقال الزوج قد قبضت فقال الجمهور: القول قول المرأة الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور؛ وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول؛ وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك لأن العرف بالمدينة كان عندهم أن لا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق، فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبدا؛ والقول بأن القول قولها أبدا أحسن لأنها مدعى عليها، ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج؛ واختلف أصحاب مالك إذا طال الدخول هل يكون القول قوله بيمين أو بغير يمين أحسن. وأما إذا اختلف في جنس الصداق فقال هو مثلا زوجتك على هذا العبد، وقالت هي زوجتك على هذا الثوب، فالمشهور في المذهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان الاختلاف قبل البناء وإن كان بعد البناء ثبت وكان لها صداق مثل ما لم يكن أكثر مما ادعت أو أقل مما اعترف به؛ وقال ابن القصار: يتحالفان قبل الدخول، والقول قول الزوج بعد الدخول؛ وقال أصبغ: القول قول الزوج إن كان يشبه سواء أشبه قولهما أو لم يشبه، فإن لم يشبه قول الزوج فإن كان قولها مشبها كان القول قولها، وإن لم يكن قولها مشبها تحالفا وكان لها صداق المثل؛ وقول الشافعي في هذه المسألة مثل قوله عند اختلافها في القدر: أعني يتحالفان ويتراجعان إلى مهر المثل. وسبب قول الفقهاء بالتفاسخ في البيع ستعرف أصله في كتاب البيوع إن شاء الله. وأما اختلافهم في الوقت فإنه يتصور في الكالئ. والذي يجيء على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الأجل قول الغارم قياسا على البيع وفيه خلاف ويتصور أيضا متى يجب هل قبل الدخول أو بعده؟ فمن شبه النكاح بالبيوع قال: لا يجب إلا بعد الدخول قياسا على البيع إذ لا يجب الثمن على المشتري إلا بعد قبض السلعة ومن رأى أن الصداق عبادة يشترط في الحلية قال: يجب قبل الدخول لذلك استحب مالك أن يقدم الزوج قبل الدخول شيئا من الصداق.

*4*(الركن الثالث: في معرفة محل العقد)

@-وكل امرأة فإنها تحل في الشرع بوجهين: إما بنكاح، أو بملك يمين. والموانع الشرعية بالجملة تنقسم أولا إلى قسمين: موانع مؤبدة، وموانع غير مؤبدة. والموانع المؤبدة تنقسم إلى متفق عليها، ومختلف فيها. فالمتفق عليها ثلاث: نسب، وصهر، ورضاع. والمختلف فيها الزنى، واللعان والغير مؤبدة تنقسم إلى تسعة: أحدها مانع العدد. والثاني: مانع الجمع. والثالث: مانع الرق والرابع: مانع الكفر والخامس: مانع الإحرام. والسادس: مانع المرض. والسابع: مانع العدة على اختلاف في عدم تأييده. والثامن: مانع التطليق ثلاثا للمطلق. والتاسع: مانع الزوجية. فالموانع الشرعية بالجملة أربعة عشر مانعا، ففي هذا الباب أربعة عشر فصلا.

*3*الفصل الأول في مانع النسب

@-واتفقوا على أن النساء اللائي يحرمن من قبل النسب السبع المذكورات في القرآن: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. واتفقوا على أن الأم ههنا: اسم لكل أنثى لها عليك ولادة من جهة الأم أو من جهة الأب؛ والبنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة من قبل الابن أو من قبل البنت أو مباشرة؛ أما الأخت: فهي اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو مجموعيهما أعني الأب أو الأم أو كليهما؛ والعمة: اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة؛ وأما الخالة: فهي اسم لأخت أمك أو أخت كل أنثى لها عليك ولادة؛ وبنات الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة؛ وبنات الأخت: اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة أو من قبل أمها أو من قبل أبيها. فهؤلاء الأعيان السبع محرمات، ولا خلاف أعلمه في هذه الجملة. والأصل فيها قوله تعالى (حرمت عليكم) إلى آخر الآية. وأجمعوا على أن النسب الذي يحرم الوطء بنكاح يحرم الوطء بملك اليمين.

*4*الفصل الثاني في المصاهرة

@-وأما المحرمات بالمصاهرة فإنهن أربع: زوجات الآباء، والأصل فيه قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الآية، وزوجات الأبناء. والأصل في ذلك أيضا قوله تعالى {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} وأمهات النساء أيضا، والأصل في ذلك قوله تعالى {وأمهات نسائكم} . وبنات الزوجات، والأصل فيه قوله تعالى {وربائبكم اللاتي في جحوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} فهؤلاء الأربع اتفق المسلمون على تحريم اثنين منهن بنفس العقد، وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء، وواحدة بالدخول وهي ابنة الزوجة. واختلفوا منها في موضعين: أحدهما هل من شرطها أن تكون في حجر الزوج والثانية هل تحرم بالمباشرة للأم للذة أوبالوطء؟. وأما أم الزوجة فإنهم اختلفوا هل تحرم بالوطء أو بالعقد على البنت فقط؟ واختلفوا أيضا من هذا الباب في مسألة رابعة، وهي هل يوجب الزنا من هذا التحريم ما يوجبه النكاح الصحيح أو النكاح بشبهة؛ فهنا أربعة مسائل.

@-(المسألة الأولى) وهي هل من شرط تحريم بنت الزوجة أن تكون في حجر الزوج أم ليس ذلك من شرطه؟ فإن الجمهور على أن ذلك ليس من شرط التحريم؛ وقال داود ذلك من شرطه؛ ومبني الخلاف هل قوله تعالى {اللاتي في حجوركم} وصف له تأثير في الحرمة أو ليس له تأثير، وإنما خرج مخرج الموجود أكثر؟ فمن قال خرج مخرج الموجود الأكثر وليس هو شرطا في الربائب، إذ لا فرق في ذلك بين التي في حجره أو التي ليست في حجره قال: تحرم الربيبة بإطلاق؛ ومن جعله شرطا غير معقول المعنى قال: لا تحرم إلا إذا كانت في حجره.

@-(المسألة الثانية) وأما هل تحرم البنت بمباشرة الأم فقط أو بالوطء؟ فإنهم اتفقوا على أن حرمتها بالوطء. واختلفوا فيما دون الوطء من اللمس والنظر إلى الفرج لشهوة أو لغير شهوة هل ذلك يحرم أم لا؟ فقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد: إن اللمس لشهوة يحرم الأم، وهو أحد قولي الشافعي؛ وقال داود والمزني: لا يحرمها إلا الوطء وهو أحد قولي الشافعي المختار عنده، والنظر عند مالك كاللمس إذا كان نظر تلذذ إلى أي عضو كان، وفيه عنه خلاف؛ ووافقه أبو حنيفة في النظر إلى الفرج فقط؛ وحمل الثوري النظر محمل اللمس ولم يشترط اللذة؛ وخالفهم في ذلك ابن أبي ليلى والشافعي في أحد قوليه فلم يوجب في النظر شيئا، وأوجب في اللمس. ومبنى الخلاف هل المفهوم من اشتراط الدخول في قوله تعالى {اللاتي دخلتم بهن} الوطء أو التلذذ بما دون الوطء؟ فإن كان التلذذ فهل يدخل فيه النظر أم لا؟

@-(المسألة الثالثة) وأما الأم فذهب الجمهور من كافة فقهاء الأمصار إلى أنها تحرم بالعقد على البنت دخل بها أو لم يدخل، وذهب قوم إلى أن الأم لا تحرم إلا بالدخول على البنت كالحال في البنت: أعني أنها لا تحرم إلا بالدخول على الأم، وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من طرق ضعيفة. ومبنى الخلاف هل الشرط في قوله تعالى {اللاتي دخلتم بهن} يعود إلى أقرب مذكور وهم الربائب فقط أو إلى الربائب والأمهات المذكورات قبل الربائب في قوله تعالى {وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} فإنه يحتمل أن يكون قوله {اللاتي دخلتم بهن} يعود على الأمهات والبنات، ويحتمل أن يعود إلى أقرب مذكور وهم البنات. ومن الحجة للجمهور ما روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا تحل له أمها".

@-(وأما المسألة الرابعة) فاختلفوا في الزنا هل يوجب من التحريم في هؤلاء ما يوجب الوطء في نكاح صحيح أو بشبهة؟ أعني الذي يدرأ فيه الحد، فقال الشافعي: الزنا بالمرأة لا يحرم نكاح أمها ولا ابنتها ولا نكاح أبي الزاني لها ولا ابنه؛ وقال أبي حنيفة: والثوري والأوزاعي: يحرم الزنا ما يحرم النكاح وأما مالك ففي المؤطأ عنه قول الشافعي أنه لا يحرم، وروى عنه ابن القاسم مثل قول أبي حنيفة أنه يحرم؛ وقال سحنون: أصحاب مالك يخالفون ابن القاسم فيها، ويذهبون إلى ما في المؤطأ؛ وقد روى عن الليث أن الوطء بشبهة لا يحرم وهو شاذ. وسبب الخلاف الاشتراك في اسم النكاح: أعني في دلالته على المعنى الشرعي واللغوي، فمن راعى الدلالة اللغوية في قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} قال: يحرم الزنا، ومن راعى الدلالة الشرعية قال: لا يحرم الزنا، ومن علل هذا الحكم بالحرمة التي بين الأم والبنت وبين الأب والابن قال: يحرم الزنا أيضا، ومن شبهه بالنسب قال: لا يحرم لإجماع الأكثر على أن النسب لا يلحق بالزنا. واتفقوا فيما حكى ابن المنذر على أن الوطء بملك اليمين يحرم منه ما يحرم الوطء بالنكاح. واختلفوا في تأثير المباشرة في ملك اليمين كما اختلفوا في النكاح.

*4*الفصل الثالث في مانع الرضاع

@-واتفقوا على أن الرضاع بالجملة يحرم منه ما يحرم من النسب: أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على المرضع هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب. واختلفوا من ذلك في مسائل كثيرة، والقواعد منها تسع: إحداها: في مقدار المحرم من اللبن. والثانية: في سن الرضاع. والثالثة: في حال المرضع في ذلك الوقت عند من يشترط للرضاع المحرم وقتا خاصا. والرابعة: هل يعتبر فيه وصوله برضاع والتقام الثدي أو لا يعتبر. والخامسة: هل يعتبر فيه المخالطة أم لا يعتبر. والسادسة: هل يعتبر فيه الوصول من الحلق أو لا يعتبر والسابعة: هل ينزل صاحب اللبن: أعني الزوج من المرضع منزلة الأب، وهو الذي يسمونه لبن الفحل أم ليس ينزل منه بمنزلة أب. والثامنة: الشهادة على الرضاع. والتاسعة: صفة المرضعة.

@-(المسألة الأولى) أما مقدار المحرم من اللبن فإن قوما قالوا فيه بعدم التحديد وهو مذهب مالك وأصحابه؛ وروى عن علي وابن مسعود وهو قول ابن عمر وابن عباس، وهؤلاء يحرم عندهم أي قدر كان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي؛ وقالت طائفة: بتحديد القدر المحرم، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاث فرق، فقالت طائفة: لا تحرم المصة ولا المصتان وتحرم الثلاث رضعات فما فوقها، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور؛ وقالت طائفة: المحرم خمس رضعات، وبه قال الشافعي؛ وقالت طائفة: عشر رضعات. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة معارضة عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد ومعارضة الأحاديث في ذلك بعضها بعضا. فأما عموم الكتاب فقوله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} الآية، وهذا يقتضي ما ينطلق عليه اسم الإرضاع، والأحاديث المتعارضة في ذلك راجعة إلى حديثين في المعنى: أحدهما حديث عائشة وما في معناه أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تحرم المصة ولا المصتان أو الرضعة والرضعتان" خرجه مسلم من طريق عائشة ومن طريق أم الفضل ومن طريق ثالث، وفيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" والحديث الثاني حديث سهلة في سالم أنه قال لها النبي صلى الله عليه وسلم "أرضعيه خمس رضعات" وحديث عائشة في هذا المعنى أيضا قالت "كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن" فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الأحاديث قال: تحرم المصة والمصتان؛ ومن جعل الأحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام "لا تحرم المصة ولا المصتان" على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال: الثلاثة فما فوقها هي التي تحرم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله "لا تحرم المصة ولا المصتان" يقتضي أن ما فوقها يحرم، ودليل الخطاب في قوله "أرضعيه خمس رضعات" يقتضي أن ما دونها لا يحرم والنظر في ترجيح أحد دليلي الخطاب.

@-(المسألة الثانية) واتفقوا على أن الرضاع يحرم في الحولين. واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء: لا يحرم رضاع الكبير؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم، وهو مذهب عائشة، ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك. وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما حديث سالم، وقد تقدم، والثاني حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل، فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: انظرن من إخوانكن من الرضاعة فإن الرضاعة من المجاعة" فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء، إلا أن حديث سالم نازلة في عين، وكان سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يرون ذلك رخصة لسالم؛ ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير.

@-(المسألة الثالثة) واختلفوا إذا استغنى المولود بالغذاء قبل الحولين وفطم ثم أرضعته امرأة فقال مالك: لا يحرم ذلك الرضاع؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: تثبت الحرمة به. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما الرضاعة من المجاعة" فإنه يحتمل أن يريد بذلك الرضاع الذي يكون في سن المجاعة كيفما كان الطفل وهو سن الرضاع، ويحتمل أن يريد إذا كان الطفل غير مفطوم، فإن فطم في بعض الحولين لم يكن رضاعا من المجاعة، فالاختلاف آيل إلى أن الرضاع الذي سببه المجاعة والافتقار إلى اللبن هل يعتبر فيه الافتقار الطبيعي للأطفال وهو الافتقار الذي سببه سن الرضاع أو افتقار المرضع نفسه وهو الذي يرتفع بالفطم ولكنه موجود بالطبع، والقائلون بتأثير الإرضاع في مدة الرضاع سواء من اشترط منهم الفطام (قوله الفطام: هكذا بالنسخ، ولعله عدم الفطام لأنه لم يشترط أحد الفطام في التحريم، بل مالك اشترط عدم الفطام تأمل ا هـ مصححه). أو لم يشترطه اختلفوا في هذه المدة، فقال هذه بالمدة حولان فقط، وبه قال زفر؛ واستحسن مالك التحريم في الزيادة اليسيرة على العامين، وفي قول الشهر عنه، وفي قول عنه إلى ثلاثة أشهر؛ وقال أبو حنيفة: حولان وستة شهور. وسبب اختلافهم ما يظن من معارضة آية الرضاع لحديث عائشة المتقدم، وذلك أن قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} يوهم أن ما زاد على هذين الحولين ليس هو رضاع مجاعة من اللبن، وقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الرضاعة من المجاعة" يقتضي عمومه أن ما دام الطفل غذاؤه اللبن أن ذلك الرضاع يحرم.

@-(المسألة الرابعة) وأما هل يحرم الوجور واللدود، وبالجملة ما يصل إلى الحلق من غير رضاع، فإن مالكا قال: يحرم الوجور واللدود؛ وقال عطاء وداود: لا يحرم. وسبب اختلافهم هل المعتبر وصول اللبن كيفما وصل إلى الجوف، أو وصوله على الجهة المعتادة؟ فمن راعى وصوله على الجهة المعتادة وهو الذي ينطلق عليه اسم الرضاع قال: لا يحرم الوجور ولا اللدود؛ ومن راعى وصول اللبن إلى الجوف كيفما وصل قال: يحرم.

@-(المسألة الخامسة) وأما هل من شرط اللبن المحرم إذا وصل إلى الحلق أن يكون غير مخالط لغيره، فإنهم اختلفوا في ذلك أيضا، فقال ابن القاسم: إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره ثم سقيه الطفل لم تقع الحرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وقال الشافعي وابن حبيب ومطرف وابن الماجشون من أصحاب مالك: تقع به الحرمة بمنزلة ما لو انفرد اللبن أو كان مختلطا لم تذهب عينه. وسبب اختلافهم هل يبقى للبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر. والأصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء هل يطهر إذا خالطه شيء طاهر؟.

@-(المسألة السادسة) وأما هل يعتبر فيه الوصول إلى الحلق أو لا يعتبر فإنه يشبه أن يكون هذا هو سبب اختلافهم في السعوط باللبن والحقنة به. ويشبه أن يكون اختلافهم في ذلك لموضع الشك هل يصل اللبن من هذه الأعضاء أو لا يصل؟.

@-(المسألة السابعة) وأما هل يصير الرجل الذي له اللبن: أعني زوج المرأة أبا للمرضع حتى يحرم بينهما ومن قبلهما ما يحرم من الآباء والأبناء الذين من النسب وهي التي يسمونها لبن الفحل، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري: لبن الفحل يحرم؛ وقالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل، وبالأول قال علي وابن عباس، وبالقول الثاني قالت عائشة وابن الزبير وابن عمر. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب لحديث عائشة المشهور: أعني آية الرضاع، وحديث عائشة هو "قالت جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن علي بعد أن أنزل الحجاب فأبيت أن آذن له، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه عمك فأذني له، فقلت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: إنه عمك فليلج عليك" خرجه البخاري ومسلم ومالك؛ فمن رأى أن ما في الحديث شرع زائد على ما في الكتاب، وهو قوله تعالى {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} وعلى قوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" قال: لبن الفحل محرم؛ ومن رأى أن آية الرضاع وقوله "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" إنما ورد على جهة التأصيل لحكم الرضاع، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة قال: ذلك الحديث إن عمل بمقتضاه أوجب أن يكون ناسخا لهذه الأصول، لأن الزيادة المغيرة للحكم ناسخة، مع أن عائشة لم يكن مذهبها التحريم بلبن الفحل، وهي الراوية للحديث، ويصعب رد الأصول المنتشرة التي يقصد بها التأصيل والبيان عند وقت الحاجة بالأحاديث النادرة وبخاصة التي تكون في عين، ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس: لا نترك كتاب الله لحديث امرأة.

@-(المسألة الثامنة) وأما الشهادة على الرضاع فإن قوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين، وقوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة أربع، وبه قال الشافعي وعطاء؛ وقوما قالوا تقبل فيه شهادة امرأة واحدة؛ والذين قالوا تقبل فيه شهادة امرأتين منهم من اشترط في ذلك فشو قولهما بذلك قبل الشهادة. وهو مذهب مالك وابن القاسم؛ ومنهم من لم يشترطه، وهو قول مطرف وابن الماجشون. والذين أجازوا أيضا شهادة امرأة واحدة منهم من لم يشترط فشو قولها قبل الشهادة، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومنهم من اشترط ذلك، وهي رواية عن مالك، وقد روى عنه أنه لا تجوز فيه شهادة أقل من اثنتين. والسبب في اختلافهم، أما بين الأربع والاثنتين فاختلافهم في شهادة النساء هل عديل كل رجل هو امرأتان فيما ليس يمكن فيه شهادة الرجل أو يكفي في ذلك امرأتان، وستأتي هذه المسألة في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. وأما اختلافهم في قبول شهادة المرأة الواحدة فمخالفة الأثر الوارد في ذلك للأصل المجمع عليه، أعني أنه لا يقبل من الرجال أقل من اثنين، وأن حال النساء في ذلك إما أن يكون أضعف من حال الرجال، وإما أن تكون أحوالهم في ذلك مساوية للرجال، والإجماع منعقد على أنه لا يقضي بشهادة واحدة، والأمر الوارد في ذلك هو حديث عقبة بن الحارث قال "يا رسول الله إني تزوجت امرأة فأتت امرأة فقالت: قد أرضعتكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟ دعها عنك" وحمل بعضهم هذا الحديث على الندب جمعا بينه وبين الأصول وهو أشبه، وهي رواية عن مالك.

@-(المسألة التاسعة) وأما صفة المرضعة فإنهم اتفقوا على أنه يحرم لبن كل امرأة بالغ وغير بالغ، واليائسة من المحيض كان لها زوج أم لم يكن، حاملا كانت أم غير حامل؛ وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل، وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي، وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الإسم. واختلفوا من هذا الباب في لبن الميتة. وسبب الخلاف هل يتناولها العموم أو لا يتناولها، ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم، ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول.

*4*الفصل الرابع في مانع الزنا.

@-واختلفوا في زواج الزانية. فأجاز هذا الجمهور، ومنعها قوم. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الإشارة في قوله {وحرم ذلك على المؤمنين} إلى الزنا أو إلى النكاح؟ وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذم لا على التحريم لما جاء في الحديث "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته إنها لا ترد يد لامس، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: طلقها، فقال له: إني أحبها. فقال له: فأمسكها" وقال قوم أيضا: إن الزنا يفسخ النكاح بناء على هذا الأصل. وبه قال الحسن. وأما زواج الملاعنة من زوجها الملاعن فسنذكرها في كتاب اللعان.

*4*الفصل الخامس في مانع العدد.

@-واتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء معا، وذلك للأحرار من الرجال. واختلفوا في موضعين: في العبيد، وفيما فوق الأربع. وأما العبيد فقال مالك في المشهور عنه: يجوز أن ينكح أربعا، وبه قال أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز له الجمع إلا بين اثنتين فقط. وسبب اختلافهم هل العبودية لها تأثير في إسقاط هذا العدد كما لها تأثير في إسقاط نصف الحد الواجب على الحر في الزنا، وكذلك في الطلاق عند من رأى ذلك. وذلك أن المسلمين اتفقوا على تنصيف حده في الزنا: أعني أن حده نصف حد الحر، واختلفوا في غير ذلك. وأما ما فوق الأربع فإن الجمهور على أنه لا تجوز الخامسة لقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة "أمسك أربعا وفارق سائرهن" وقالت فرقة: يجوز تسع، ويشبه أن يكون من أجاز التسع ذهب مذهب الجمع في الآية المذكورة، أعني جمع الأعداد في قوله تعالى {مثنى وثلاث ورباع} .

*4*الفصل السادس في مانع الجمع.

@-واتفقوا على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح لقوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} واختلفوا في الجمع بينهما بملك اليمين، والفقهاء على منعه، وذهبت طائفة إلى إباحة ذلك. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} لعموم الاستثناء في آخر الآية، وهو قوله تعالى {إلا ما ملكت أيمانكم} وذلك أن هذا الاستثناء يحتمل أن يعود لأقرب مذكور، ويحتمل أن يعود لجميع ما تضمنته الآية من التحريم إلا ما وقع الإجماع على أنه لا تأثير له فيه، فيخرج من عموم قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} ملك اليمين، ويحتمل أن لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، فيبقى قوله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين} على عمومه، ولا سيما إن عللنا ذلك بعلة الأخوة أو بسبب موجود فيهما. واختلف الذين قالوا بالمنع في ملك اليمين إذا كانت إحداهما بنكاح والأخرى بملك يمين، فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي، وكذلك اتفقوا فيما أعلم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة وتواتره عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها" واتفقوا على أن العمة ههنا هي كل أنثى هي أخت لذكر له عليك ولادة إما بنفسه وإما بواسطة ذكر آخر، وأن الخالة: هي كل أنثى هي أخت لكل أنثى لها عليك ولادة إما بنفسها وإما بتوسط أنثى غيرها وهن الحرات من قبل الأم؛ واختلفوا هل هذا من باب الخاص أريد به الخاص، أم هو من باب الخاص أريد به العام؟ والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا أي عام هو المقصود به؟ فقال قوم وهم الأكثر وعليه الجمهور من فقهاء الأمصار: هو خاص أريد به الخصوص فقط، وأن التحريم لا يتعدى إلى غير من نص عليه؛ وقال قوم: هو خاص والمراد به العموم، وهو الجمع بين كل امرأتين بينهما رحم محرمة أو غير محرمة، فلا يجوز الجمع عند هؤلاء بين ابنتي عم أو عمة، ولا بين ابنتي خال أو خالة، ولا بين المرأة وبنت عمها أو بنت عمتها، أو بينها وبين بنت خالتها؛ وقال قوم: إنما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة محرمة، أعني لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى لم يجز لهما أن يتناكحا؛ ومن هؤلاء من اشترط في هذا المعنى أن يعتبر هذا من الطرفين جميعا، أعني إذا جعل كل واحد منهما ذكرا والآخر أنثى فلم يجز لهما أن يتناكحا، فهؤلاء لا يحل الجمع بينهما. وأما إن جعل في أحد الطرفين ذكر يحرم التزويج ولم يحرم من الطرف الآخر فإن الجمع يجوز كالحال في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها، فإنه إن وضعنا البنت ذكرا لم يحل نكاح المرأة منه لأنها زوج أبيه، وإن جعلنا المرأة ذكرا حل لها نكاح ابنة الزوج لأنها تكون ابنة لأجنبي، وهذا القانون هو الذي اختاره أصحاب مالك، وأولئك يمنعون الجمع بين زوج الرجل وابنته من غيرها.

*4*الفصل السابع في موانع الرق.

@-واتفقوا على أنه يجوز للعبد أن ينكح الأمة، وللحرة أن تنكح العبد إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها. واختلفوا في نكاح الحر الأمة، فقال قوم: يجوز بإطلاق، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم؛ وقال قوم: لا يجوز إلا بشرطين: عدم الطول، وخوف العنت، وهو المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والسبب في اختلافهم معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح} الآية، لعموم قوله {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين} الآية، وذلك أن مفهوم دليل الخطاب في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا} الآية، يقتضي أنه لا يحل نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما عدم الطول إلى الحرة، والثاني خوف العنت، وقوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم} يقتضي بعمومه إنكاحهن من حر أو عبد، واحدا كان الحر أو غير واحد، خائفا للعنت أو غير خائف، لكن دليل الخطاب أقوى ههنا {والله أعلم} من العموم، لأن هذا العموم لم يتعرض فيه إلى صفات الزوج المشترطة في نكاح الإماء، وإنما المقصود به الأمر بإنكاحهن وألا يجبرن على النكاح، وهو أيضا محمول على الندب عند الجمهور مع ما في ذلك من إرقاق الرجل ولده. واختلفوا من هذا الباب في فرعين مشهورين، أعني الذين لم يجيزوا النكاح إلا بالشرطين المنصوص عليهما: أحدهما إذا كانت تحته حرة هل هي طول أو ليست بطول؟ فقال أبو حنيفة: هي طول؛ وقال غيره: ليست بطول؛ وعن مالك في ذلك القولان. والمسألة الثانية هل يجوز لمن وجد فيه هذان الشرطان نكاح أكثر من أمه واحدة ثلاث أو أربع أو ثنتان؟ فمن قال إذا كانت تحته حرة فليس يخاف العنت لأنه غير عزب قال: إذا كانت تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة؛ ومن قال خوف العنت إنما يعتبر بإطلاق سواء كان عزبا أو متأهلا، لأنه قد لا تكون الزوجة الأولى مانعة من العنت، وهو لا يقدر على حرة تمنعه من العنت فله أن ينكح أمة، لأن حاله مع هذه الحرة في خوف العنت كحاله قبلها، وبخاصة إذا خشي العنت من الأمة التي يريد نكاحها، وهذا بعينه هو السبب في اختلافهم هل ينكح أمة ثانية على الأمة الأولى أو لا ينكحها؟ وذلك أن من اعتبر خوف العنت مع كونه عزبا إذ كان الخوف على العزب أكثر قال: لا ينكح أكثر من أمة واحدة، ومن اعتبره مطلقا قال: ينكح أكثر من أمة واحدة، وكذلك يقول إنه ينكح على الحرة، واعتباره مطلقا فيه نظر؛ وإذا قلنا أن له أن يتزوج على الحرة أمة فتزوجها بغير إذنها فهل لها الخيار في البقاء معه أو في فسخ النكاح؟ اختلف في ذلك قول مالك، واختلفوا إذا وجد طولا بحرة هل يفارق الأمة أم لا؟ ولم يختلفوا أنه إذا ارتفع عنه خوف العنت أنه لا يفارقها، أعني أصحاب مالك؛ واتفقوا من هذا الباب على أنه لا يجوز أن تنكح المرأة من ملكته وإنها إذا ملكت زوجها انفسخ النكاح.

*4*الفصل الثامن في مانع الكفر.

@-واتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} واختلفوا في نكاحها بالملك، واتفقوا على أنه يجوز أن ينكح الكتابية الحرة، إلا ما روى في ذلك عن ابن عمر. واختلفوا في إحلال الكتابية الأمة بالنكاح؛ واتفقوا على إحلالها بملك اليمين. والسبب في اختلافهم في نكاح الوثنيات بملك اليمين معارضة عموم قوله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وعموم قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} لعموم قوله {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وهن المسبيات، وظاهر هذا يقتضي العموم، سواء كانت مشركة أو كتابية، والجمهور على منعها، وبالجواز قال طاوس ومجاهد، ومن الحجة لهم ما روى من نكاح المسبيات في غزوة أوطاس إذ استأذنوه في العزل فأذن لهم؛ وإنما صار الجمهور لجواز نكاح الكتابيات الأحرار بالعقد، لأن الأصل بناء الخصوص على العموم: أعني أن قوله تعالى {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} هو خصوص، وقوله {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} هو عموم، فاستثنى الجمهور الخصوص من العموم؛ ومن ذهب إلى تحريم ذلك جعل العام ناسخا للخاص، وهو مذهب بعض الفقهاء؛ وإنما اختلفوا في إحلال الأمة الكتابية بالنكاح لمعارضة العموم في ذلك القياس، وذلك أن قياسها على الحرة يقتضي إباحة تزويجها، وباقي العموم إذا استثنى منه الحرة يعارض ذلك، لأنه يوجب تحريمها على قول من يرى أن العموم إذا خصص بقي الباقي على عمومه؛ فمن خصص العموم الباقي بالقياس، أو لم ير الباقي من العموم المخصوص عموما قال: يجوز نكاح الأمة الكتابية؛ ومن رجح باقي العموم بعدم التخصيص على القياس قال: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية؛ وهنا أيضا سبب آخر لاختلافهم، وهو معارضة دليل الخطاب للقياس، وذلك أن قوله تعالى {من فتياتكم المؤمنات} يوجب أن لا يجوز نكاح الأمة الغير مؤمنة بدليل الخطاب وقياسها على الحرة يوجب ذلك، والقياس (قوله والقياس، إلى قوله: وإنما اتفقوا هو زائد ببعض النسخ الخطية والمصرية وفيه خفاء، فليتأمل في معناه ا هـ مصححه). من كل جنس يجوز فيه النكاح بالتزويج، ويجوز فيه النكاح بملك اليمين أصله المسلمات؛ والطائفة الثانية أنه ثم لم يجز نكاح الأمة المسلمة بالتزويج إلا بشرط فأحرى أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية بالتزويج، وإنما اتفقوا على إحلالها بملك اليمين لعموم قوله تعالى {إلا ما ملكت أيمانكم} ولإجماعهم على أن السبي يحل المسبية الغير المتزوجة. وإنما اختلفوا في المتزوجة هل يهدم السبي نكاحها، وإن هدم فمتى يهدم؟ فقال قوم: إن سبيا معا أعني الزوج والزوجة لم يفسخ نكاحهما، وإن سبى أحدهما قبل الآخر انفسخ النكاح، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال قوم: بل السبي يهدم سبيا معا أو سبى أحدهما قبل الآخر وبه قال الشافعي؛ وعن مالك قولان: أحدهما أن السبي لا يهدم النكاح أصلا. والثاني أنه يهدم بإطلاق مثل قول الشافعي. والسبب في اختلافهم هل يهدم أو لا يهدم هو تردد المسترقين الذين أمنوا من القتل بين النساء الذميين أهل العهد وبين الكافرة التي لا زوج لها أو المستأجرة من كافر. وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يسبيا معا وبين أن يسبي أحدهما فلأن المؤثر عنده في الإحلال هو اختلاف الدار بهما لا الرق، والمؤثر في الإحلال عند غيره هو الرق، وإنما النظر هل هو الرق مع الزوجية أو مع عدم الزوجية؟ والأشبه أن لا يكون للزوجية ههنا حرمة لأن محل الرق وهو الكفر سبب الإحلال. وأما تشبيهها بالذمية فبعيد لأن الذمي إنما أعطى الجزية بشرط أن يقر على دينه فضلا عن نكاحه.

*4*الفصل التاسع في مانع الإحرام.

@-واختلفوا في نكاح المحرِم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد لا ينكح المحرم ولا يُنكح، فإن فعل ذلك فالنكاح باطل، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. وسبب اختلافهم تعارض النقل في هذا الباب، فمنها حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم" وهو حديث ثابت النقل خرجه أهل الصحيح وعارضه أحاديث كثيرة عن ميمونة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال" قال أبو عمر: رويت عنها من طرق شتى، من طريق أبي رافع، ومن طريق سليمان بن يسار وهو مولاها، وعن يزيد بن الأصم. وروى مالك أيضا من حديث عثمان بن عفان مع هذا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب" فمن رجح هذه الأحاديث على حديث ابن عباس قال: لا ينكح المحرم ولا يُنكح؛ ومن رجح حديث ابن عباس أو جمع بينه وبين حديث عثمان بن عفان بأن حمل النهى الوارد في ذلك على الكراهية قال: ينكح ويُنكح، وهذا راجع إلى تعارض الفعل والقول والوجه الجمع أو تغليب القول.

*4*الفصل العاشر في مانع المرض.

@-واختلفوا في نكاح المريض، فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز؛ وقال مالك في المشهور عنه: إنه لا يجوز، ويتخرج ذلك من قوله إنه يفرق بينهما وإن صح، ويتخرج من قوله إنه لا يفرق بينهما أن التفريق مستحب غير واجب. وسبب اختلافهم تردد النكاح بين البيع وبين الهبة، وذلك أنه لا تجوز هبة المريض إلا من الثلث ويجوز بيعه ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو هل يتهم على إضرار الورثة بإدخال وارث زائد أو لا يتهم؟ وقياس النكاح على الهبة غير صحيح، لأنهم اتفقوا على أن الهبة تجوز إذا حملها الثلث، ولم يعتبروا بالنكاح هنا بالثلث، ورد جواز النكاح بإدخال وارث قياس مصلحي لا يجوز عند أكثر الفقهاء، وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة، حتى إن قوما رأوا أن القول بهذا القول شرع زائد وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف، وأنه لا يجوز الزيادة فيه كما لا يجوز النقصان والتوقف أيضا عن اعتبار المصالح تطرق للناس أن يتسرعوا لعدم السنن التي في ذلك الجنس إلى الظلم، فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها؛ وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم؛ ووجه عمل الفاضل العالم في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال، فإن دلت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيرا لا يمنع النكاح وإن دلت على أنه قصد الإضرار بورثته منع من ذلك كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشيء وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد مؤقت صناعي، وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة.

*4*الفصل الحادي عشر في مانع العدة.

@-واتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة كانت عدة حيض أو عدة حمل أو عدة أشهر. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، فقال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا؛ وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: يفرق بينهما، وإذا انقضت العدة بينهما فلا بأس في تزويجه إياها مرة ثانية. وسبب اختلافهم هل قول الصاحب حجة أم ليس بحجة؟ وذلك أن مالكا روى عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشدا الثقفي لما تزوجها في العدة من زوج ثان وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب؛ وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدا. قال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها. وربما عضدوا هذا القياس بقياس شبه ضعيف مختلف في أصله، وهو أنه أدخل في النسب شبهة فأشبه الملاعن. وروي عن علي وابن مسعود مخالفة عمر في هذا. والأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم على ذلك دليل من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة. وفي بعض الروايات أن عمر كان قضى بتحريمها، وكون المهر في بيت المال، فلما بلغ ذلك عليا أنكره فرجع عن ذلك عمر، وجعل الصداق على الزوج ولم يقض بتحريمها عليه، رواه الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق. وأما من قال بتحريمها بالعقد فهو ضعيف. وأجمعوا على أنه لا توطأ حامل مسبية حتى تضع، لتواتر الأخبار بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا إن وطيء هل يعتق عليه الولد أو لا يعتق، والجمهور على أنه لا يعتق. وسبب اختلافهم هل ماؤه مؤثر في خلقته أو غير مؤثر؟ فإن قلنا أنه مؤثر كان له ابنا بجهة ما، وإن قلنا أنه ليس بمؤثر لم يكن ذلك. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "كيف يستعبده وقد غذاه في سمعه وبصره". وأما النظر في مانع التطليق ثلاثا، فسيأتي في كتاب الطلاق.

*4*الفصل الثاني عشر في مانع الزوجية.

@-وأما مانع الزوجية فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة وبين الذميين. واختلفوا في المسبية على ما تقدم؛ واختلفوا أيضا في الأمة إذا بيعت هل يكون بيعها طلاقا؟ فالجمهور على أنه ليس بطلاق؛ وقال قوم: هو طلاق، وهو مروي عن ابن عباس وجابر وابن مسعود وأبي بن كعب. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم حديث بريرة لعموم قوله تعالى {إلا ما ملكت أيمانكم} وذلك أن قوله تعالى {إلا ما ملكت أيمانكم} يقتضي المسبيات وغيرهن، وتخيير بريرة يوجب أن لا يكون بيعها طلاقا، لأنه لو كان بيعها طلاقا لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العتق، ولكان نفس شراء عائشة لها طلاقا من زوجها؛ والحجة للجمهور ما خرجه ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم وأصابوا نساء لهن أزواج، وكان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن، فأنزل الله عز وجل {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} وهذه المسألة هي أليق بكتاب الطلاق. فهذه هي جملة الأشياء المصححة للأنكحة في الإسلام، وهي كما قلنا راجعة إلى ثلاثة أجناس: صفة العاقد والمعقود عليها، وصفة العقد، وصفة الشروط في العقد. وأما الأنكحة التي انعقدت قبل الإسلام ثم طرأ عليها الإسلام، فإنهم اتفقوا على أن الإسلام إذا كان منهما معا: أعني من الزوج والزوجة، وقد كان عقد النكاح على من يصح ابتداء العقد عليها في الإسلام أن الإسلام يصحح ذلك؛ واختلفوا في موضعين: أحدهما إذا انعقد النكاح على أكثر من أربع أو على من لا يجوز الجمع بينهما في الإسلام. والموضع الثاني إذا أسلم أحدهما قبل الآخر.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا أسلم الكافر وعنده أكثر من أربع نسوة أو أسلم وعنده أختان، فإن مالكا قال: يختار منهن أربعا ومن الأختين واحدة أيتهما شاء، وبه قال الشافعي وأحمد وداود؛ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: يختار الأوائل منهن في العقد، فإن تزوجهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن؛ وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك: إذا أسلم وعنده أختان فارقهما جميعا ثم استأنف نكاح أيتهما شاء، ولم يقل بذلك أحد من أصحاب مالك غيره. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر، وذلك أنه ورد في ذلك أثران: أحدهما مرسل مالك "أن غيلان بن سلامة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة أسلمن معه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا" والحديث الثاني حديث قيس بن الحارث أنه أسلم على الأختين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إختر أيتهما شئت". وأما القياس المخالف لهذا الأثر فتشبيه العقد على الأواخر قبل الإسلام بالعقد عليهن بعد الإسلام: أعني أنه كما أن العقد عليهن فاسد في الإسلام كذلك قبل الإسلام وفيه ضعف. وأما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر، وهي المسألة الثانية ثم أسلم الآخر، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إنه إذا أسلمت المرأة قبله فإنه إن أسلم في عدتها كان أحق بها وإن أسلم هو وهي كتابية فنكاحها ثابت لما ورد في ذلك من حديث صفوان بن أمية، وذلك "أن زوجه عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله، ثم أسلم هو فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه" قالوا: وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. وأما إذا أسلم الزوج قبل إسلام المرأة فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا أسلم الزوج قبل المرأة وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فأبت؛ وقال الشافعي: سواء أسلم الرجل قبل المرأة أو المرأة قبل الرجل إذا وقع الإسلام المتأخر في العدة ثبت النكاح. وسبب اختلافهم معارضة العموم للأثر والقياس، وذلك أن عموم قوله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} يقتضي المفارقة على الفور. وأما الأثر المعارض لمقتضى هذا العموم فما روي من أن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرا على نكاحهما. وأما القياس المعارض للأثر فلأنه يظهر أنه لا فرق بين أن تسلم هي قبله أو هو قبلها، فإن كانت العدة معتبرة في إسلامها قبل فقد يجب أن تعتبر في إسلامه أيضا قبل.

*3*الباب الثالث في موجبات الخيار في النكاح.

@-وموجبات الخيار أربعة: العيوب، والإعسار بالصداق أو بالنفقة والكسوة، والثالث: الفقد: أعني فقد الزوج. والرابع: العتق للأمة المزوجة فينعقد في هذا الباب أربعة فصول:

*4*الفصل الأول في خيار العيوب.

@-اختلف العلماء في موجب الخيار بالعيوب لكل واحد من الزوجين، وذلك في موضعين: أحدهما هل يرد بالعيوب أو لا يرد؟. والمرضع الثاني إذا قلنا إنه يرد فمن أيها يرد، وما حكم ذلك؟. فأما الموضع الأول فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: العيوب توجب الخيار في الرد أو الإمساك: وقال أهل الظاهر: لا توجب خيار الرد والإمساك، وهو قول عمر بن عبد العزيز: وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل قول الصاحب حجة، والآخر قياس النكاح في ذلك على البيع؟ فأما قول الصاحب الوارد في ذلك فهو ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص وفي بعض الروايات: أو قرن فلها صداقها كاملا وذلك غرم لزوجها على وليها. وأما القياس على البيع فإن القائلين بموجب الخيار للعيب في النكاح قالوا: النكاح في ذلك شبيه بالبيع؛ وقال المخالفون لهم: ليس شبيها بالبيع لاجتماع المسلمين على أنه لا يرد النكاح بكل عيب ويرد به البيع. وأما الموضع الثاني في الرد بالعيوب فإنهم اختلفوا في أي العيوب يرد بها وفي أيها لا يرد وفي حكم الرد، فاتفق مالك والشافعي على أن الرد يكون من أربعة عيوب: الجنون والجذام والبرص وداء الفرج الذي يمنع الوطء، إما قرن أو رتق في المرأة أو عنة في الرجل أو خصاء. واختلف أصحاب مالك في أربع: في السواد والقرع وبخر الفرج وبخر الفم، فقيل ترد بها، وقيل لا ترد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا ترد المرأة في النكاح إلا بعيبين فقط: القرن والرتق. فأما أحكام الرد فإن القائلين بالرد اتفقوا على أن الزوج إذا علم بالعيب قبل الدخول طلق ولا شيء عليه. واختلفوا إن علم بعد الدخول والمسيس؛ فقال مالك: إن كان وليها الذي زوجها ممن يظن به لقربه منها أنه عالم بالعيب مثل الأب والأخ فهو غار يرجع عليه الزوج بالصداق وليس يرجع على المرأة بشيء وإن كان بعيدا رجع الزوج على المرأة بالصداق كله إلا ربع دينار فقط. وقال الشافعي: إن دخل لزمه الصداق كله بالمسيس ولا رجوع له عليها ولا على ولي. وسبب اختلافهم تردد تشبيه النكاح بالبيع أو بالنكاح الفاسد الذي وقع فيه المسيس، أعني اتفاقهم على وجوب المهر في الأنكحة الفاسدة بنفس المسيس، لقوله عليه الصلاة والسلام "أيما امرأة نكحت بغير إذن سيدها فنكاحها باطل ولها المهر بما استحل منها" فكان موضع الخلاف تردد هذا الفسخ بين حكم الرد بالعيب في البيوع، وبين حكم الأنكحة المفسوخة: أعني بعد الدخول؛ واتفق الذين قالوا بفسخ نكاح العنين أنه لا يفسخ حتى يؤجل سنة يخلى بينه وبينها بغير عائق. واختلف أصحاب مالك في العلة التي من أجلها قصر الرد على هذه العيوب الأربعة. فقيل لأن ذلك شرع غير معلل؛ وقيل لأن ذلك مما يخفى، ومحمل سائر العيوب على أنها مما لا تخفى؛ وقيل لأنها يخاف سرايتها إلى الأبناء، وعلى هذا التعليل يرد بالسواد والقرع، وعلى الأول يرد بكل عيب إذا علم أنه مما خفي على الزوج.

*4*الفصل الثاني في خيار الإعسار بالصداق والنفقة.

@-واختلفوا في الإعسار بالصداق، فكان الشافعي يقول: تخير إذا لم يدخل بها، وبه قال مالك. واختلف أصحابه في قدر التلوم له؛ فقيل ليس له في ذلك حد؛ وقيل سنة؛ وقيل سنتين؛ وقال أبو حنيفة: هي غريم من الغرماء لا يفرق بينهما ويؤخذ بالنفقة، ولها أن تمنع نفسها حتى يعطيها المهر. وسبب اختلافهم تغليب شبه النكاح في ذلك بالبيع أو تغليب الضرر اللاحق للمرأة في ذلك من عدم الوطء تشبيها بالإيلاء والعنة. وأما الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وجماعة: يفرق بينهما، وهو مروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب؛ وقال أبو حنيفة والثوري: لا يفرق بينهما، وبه قال أهل الظاهر. وسبب اختلافهم تشبيه الضرر الواقع من ذلك بالضرر الواقع من العنة، لأن الجمهور على القول بالتطليق على العنين حتى لقد قال ابن المنذر إنه إجماع، وربما قالوا النفقة في مقابلة الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور، فإذا لم يجد النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار. وأما من لا يرى القياس فإنهم قالوا قد ثبتت العصمة بالإجماع فلا تنحل إلا بإجماع أو بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه فسبب اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس.

*4*الفصل الثالث في خيار الفقد.

@-واختلفوا في المفقود الذي تجهل حياته أو موته في أرض الإسلام، فقال مالك يضرب لامرأته أجل أربع سنين من يوم ترفع أمرها إلى الحاكم، فإذا انتهى الكشف عن حياته أو موته فجهل ذلك ضرب لها الحاكم الأجل، فإذا انتهى اعتدت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وحلت، قال: وأما ماله فلا يورث حتى يأتي عليه من الزمان ما يعلم أن المفقود لا يعيش إلى مثله غالبا، فقيل سبعون، وقيل ثمانون، وقيل تسعون، وقيل مائة فيمن غاب وهو دون هذه الأسنان، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وهو مروي أيضا عن عثمان وبه قال الليث؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحل امرأة المفقود حتى يصح موته، وقولهم مروي عن علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس، وذلك أن استصحاب الحال يوجب أن لا تنحل عصمة إلا بموت أو طلاق حتى يدل الدليل على غير ذلك. وأما القياس فهو تشبيه الضرر اللاحق لها من غيبته بالإيلاء والعنة، فيكون لها الخيار كما يكون في هذين. والمفقودون عند المحصلين من أصحاب مالك أربعة مفقود في أرض الإسلام وقع الخلاف فيه، ومفقود في أرض الحرب، ومفقود في حروب الإسلام، أعني فيما بينهم ومفقود في حروب الكفار، والخلاف عن مالك وعن أصحابه في الثلاثة الأصناف من المفقودين كثير؛ فأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه عندهم حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يصح موته، ما خلا أشهب، فإنه حكم له بحكم المفقود في أرض المسلمين. وأما المفقود في حروب المسلمين فقال: إن حكمه حكم المقتول دون تلوم، وقيل يتلوم له بحسب بعد الموضع الذي كانت فيه المعركة وقربه وأقصى الأجل في ذلك سنة. وأما المفقود في حروب الكفار ففيه في المذهب أربعة أقوال: قيل حكمه حكم الأسير؛ وقيل حكمه حكم المقتول بعد تلوم سنة، إلا أن يكون بموضع لا يخفى أمره فيحكم له بحكم المفقود في حروب المسلمين وفتنهم؛ والقول الثالث أن حكمه حكم المفقود في بلاد المسلمين؛ والرابع حكمه حكم المقتول في زوجته، وحكم المفقود في أرض المسلمين في ماله أعني يعمر وحينئذ يورث، وهذه الأقاويل كلها مبناها على تجويز النظر بحسب الأصلح في الشرع، وهو الذي يعرف بالقياس المرسل، وبين العلماء فيه اختلاف: أعني بين القائلين بالقياس.

*4*الفصل الرابع في خيار العتق.

@-واتفقوا على أن الأمة إذا عتقت تحت عبد أن لها الخيار؛ واختلفوا إذا عتقت تحت الحر هل لها خيار أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة والأوزاعي وأحمد والليث لا خيار لها؛ وقال أبو حنيفة والثوري لها الخيار حرا كان أو عبدا. وسبب اختلافهم تعارض النقل في حديث بريرة، واحتمال العلة الموجبة للخيار أن يكون الجبر الذي كان في إنكاحها بإطلاق إذا كانت أمة، أو الجبر على تزويجها من عبد؛ فمن قال: العلة الجبر على النكاح بإطلاق قال: تخير تحت الحر والعبد؛ ومن قال الجبر على تزويج العبد فقط قال: تخير تحت العبد فقط. وأما اختلاف النقل فإنه روي عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود. وروي عن عائشة أن زوجها كان حرا، وكلا النقلين ثابت عند أصحاب الحديث؛ واختلفوا أيضا في الوقت الذي يكون لها الخيار فيه، فقال مالك والشافعي: يكون لها الخيار ما لم يمسها؛ وقال أبو حنيفة: خيارها على المجلس؛ وقال الأوزاعي: إنما يسقط خيارها بالمسيس إذا علمت أن المسيس يسقط خيارها.

*3*الباب الرابع في حقوق الزوجية.

@-واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} الآية. ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" ولقوله لهند "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فأما النفقة فاتفقوا على وجوبها، واختلفوا في أربعة مواضع في وقت وجوبها، ومقدارها، ولمن تجب؟، وعلى من تجب؟. فأما وقت وجوبها فإن مالكا قال: لا تجب النفقة على الزوج حتى يدخل بها أو يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يلزم غير البالغ النفقة إذا كانت هي بالغا، وأما إذا هو بالغا والزوجة صغيرة فللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك، والقول الثاني أن لها النفقة بإطلاق. وسبب اختلافهم هل النفقة لمكان الاستمتاع أو لمكان أنها محبوسة على الزوج كالغائب والمريض. وأما مقدار النفقة فذهب مالك إلى أنها غير مقدرة بالشرع وأن ذلك راجع إلى ما يقتضيه حال الزوج وحال الزوجة، وأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال، وبه قال أبو حنيفة؛ وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة، فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد. وسبب اختلافهم تردد حمل النفقة في هذا الباب على الإطعام في الكفارة أو على الكسوة، وذلك أنهم اتفقوا أن الكسوة غير محدودة وأن الإطعام محدود. واختلفوا من هذا الباب في هل يجب على الزوج نفقة خادم الزوجة؟ وإن وجبت فكم يجب؟ والجمهور على أن على الزوج النفقة لخادم الزوجة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها؛ وقيل بل على الزوجة خدمة البيت؛ واختلف الذين أوجبوا النفقة على خادم الزوجة على كم تجب نفقته؟ فقالت طائفة: ينفق على خادم واحدة، وقيل على خادمين إذا كانت المرأة ممن لا يخدمها إلا خادمان وبه قال مالك وأبو ثور. ولست أعرف دليلا شرعيا لإيجاب النفقة على الخادم إلا تشبيه الإخدام بالإسكان، فإنهم اتفقوا على أن الإسكان على الزوج للنص الوارد في وجوبه للمطلقة الرجعية. وأما لمن تجب النفقة فإنهم اتفقوا على أنها تجب للحرة الغير ناشز. واختلفوا في الناشز والأمة. فأما الناشز فالجمهور على أنها لا تجب لها نفقة، وشذ قوم فقالوا تجب لها النفقة. وسبب الخلاف معارضة العموم للمفهوم، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" يقتضي أن الناشز، وغير الناشز في ذلك سواء، والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز. وأما الأمة فاختلف فيها أصحاب مالك اختلافا كثيرا، فقيل لها النفقة كالحرة، وهو المشهور؛ وقيل لا نفقة لها وقيل أيضا إن كانت تأتيه فلها النفقة، وإن كان يأتيها فلا نفقة لها؛ وقيل لها النفقة في الوقت التي تأتيه؛ وقيل إن كان الزوج حرا فعليه النفقة، وإن كان عبدا فلا نفقة عليه. وسبب اختلافهم معارضة العموم للقياس، وذلك أن العموم يقتضي لها وجوب النفقة، والقياس يقتضي أن لا نفقة لها إلا على سيدها الذي يستخدمها، أو تكون النفقة بينهما لأن كل واحد منهما ينتفع بها ضربا من الانتفاع، ولذلك قال قوم: عليه النفقة في اليوم الذي تأتيه. وقال ابن حبيب: يحكم على مولى الأمة المزوجة أن تأتي زوجها في كل أربعة أيام. وأما على من تجب، فاتفقوا أيضا أنها تجب على الزوج الحر الحاضر؛ واختلفوا في العبد والغائب. فأما العبد فقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن على العبد نفقة زوجته؛ وقال أبو المصعب من أصحاب مالك: لا نفقة عليه.

وسبب الخلاف معارضة العموم لكون العبد محجورا عليه في ماله. وأما الغائب فالجمهور على وجوب النفقة عليه؛ وقال أبو حنيفة؛ لا تجب إلا بإيجاب السلطان. وإنما اختلفوا فيمن القول قوله إذا اختلفوا في الإنفاق، وسيأتي ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله. وكذلك اتفقوا على أن من حقوق الزوجات العدل بينهن في القسم لما ثبت من قسمه صلى الله عليه وسلم بين أزواجه ولقوله عليه الصلاة والسلام "إذا كان للرجل امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" ولما ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد السفر أقرع بينهن" واختلفوا في مقام الزوج عند البكر والثيب وهل يحتسب به أو لا يحتسب إذا كانت له زوجة أخرى؟ فقال مالك والشافعي وأصحابهما: يقيم عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا، ولا يحتسب إذا كان له امرأة أخرى بأيام التي تزوج؛ وقال أبو حنيفة: الإقامة عندهن سواء بكرا كانت أو ثيبا، ويحتسب بالإقامة عندها إن كانت له زوجة أخرى.

وسبب اختلافهم معارضة حديث أنس لحديث أم سلمة، وحديث أنس هو "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا" وحديث أم سلمة هو "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها فأصبحت عنده فقال: ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت فقالت: ثلث" وحديث أم سلمة هو مدني متفق عليه خرجه مالك والبخاري ومسلم، وحديث أنس حديث بصري خرجه أبو داود، فصار أهل المدينة إلى ما خرجه أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى ما خرجه أهل المدينة.

واختلف أصحاب مالك في هل مقامه عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا واجب أو مستحب؟ فقال ابن القاسم: هو واجب؛ وقال ابن عبد الحكم: يستحب. وسبب الخلاف حمل فعله عليه الصلاة والسلام على الندب أو على الوجوب. وأما حقوق الزوج على الزوجة بالرضاع وخدمة البيت على اختلاف بينهم في ذلك، وذلك أن قوما أوجبوا عليها الرضاع على الإطلاق؛ وقوم لم يوجبوا ذلك عليها بإطلاق وقوم أوجبوا ذلك على الدنيئة ولم يوجبوا ذلك على الشريفة، إلا أن يكون الطفل لا يقبل إلا ثديها، وهو مشهور قول مالك. وسبب اختلافهم هل آية الرضاع متضمنة حكم الرضاع: أعني إيجابه، أو متضمنة أمره فقط؟ فمن قال أمره قال: لا يجب عليها الرضاع إذ لا دليل هنا على الوجوب؛ ومن قال تتضمن الأمر بالرضاع وإيجابه وأنها من الأخبار التي مفهومها مفهوم الأمر قال: يجب عليها الإرضاع. وأما من فرق بين الدنيئة والشريفة فاعتبر في ذلك العرف والعادة. وأما المطلقة فلا رضاع عليها إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فعليها الإرضاع وعلى الزوج أجر الرضاع، هذا إجماع لقوله سبحانه وتعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} (والجمهور على أن الحضانة للأم إذا طلقها الزوج وكان الولد صغيرا لقوله عليه الصلاة والسلام "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" ولأن الأمة والمسبية إذا لم يفرق بينها وبين ولدها فأخص بذلك الحرة. واختلفوا إذا بلغ الولد حد التمييز فقال قوم يخير، ومنهم الشافعي، واحتجوا بأثر ورد في ذلك؛ وبقي قوم على الأصل لأنه لم يصح عندهم هذا الحديث؛ والجمهور على أن تزويجها لغير الأب يقطع الحضانة لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنت أحق به ما لم تنكحي" ومن لم يصح عنده هذا الحديث طرد الأصل. وأما نقل الحضانة من الأم إلى غير الأب فليس في ذلك شيء يعتمد عليه). (ما بين القوسين لم يوجد في النسخة الفاسية ولا المصرية، وهو موجود بالنسخة الخطية تعلق أحمد بك تيمور ا هـ مصححه).

*3*الباب الخامس في الأنكحة المنهى عنها بالشرع والأنكحة الفاسدة وحكمها.

@-والأنكحة التي ورد النهي عنها فيها مصرحا أربعة: نكاح الشغار، ونكاح المتعة، والخطبة على خطبة أخيه، ونكاح المحلل. فأما نكاح الشغار فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلا آخر على أن ينكحه الآخر وليته ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز لثبوت النهي عنه؛ واختلفوا إذا وقع هل يصحح بمهر المثل أم لا؟ فقال مالك: لا يصحح ويفسخ أبدا قبل الدخول وبعده، وبه قال الشافعي إلا أنه قال: إن سمى لإحدهما صداقا أو لهما معا فالنكاح ثابت بمهر المثل، والمهر الذي سمياه فاسد؛ وقال أبو حنيفة: نكاح الشغار يصح بفرض صداق المثل، وبه قال الليث وأحمد وإسحق وأبو ثور والطبري. وسبب اختلافهم هل النهي المعلق بذلك معلل بعدم العوض أو غير معلل، فإن قلنا غير معلل لزم الفسخ على الإطلاق؛ وإن قلنا العلة عدم الصداق صح بفرض صداق المثل مثل العقد على خمر أو على خنزير؛ وقد أجمعوا على أن النكاح المنعقد على الخمر والخنزير لا يفسخ إذا فات بالدخول، ويكون فيه مهر المثل؛ وكأن مالكا رضي الله عنه رأى أن الصداق وإن لم يكن من شرط صحة العقد ففساد العقد ههنا من قبل فساد الصداق مخصوص لتعلق النهي به، أو رأى أن النهي إنما يتعلق بنفس تعيين العقد، والنهي يدل على فساد المنهي.

وأما نكاح المتعة. فإنه وإن تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم، ففي بعض الروايات أنه حرمها يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها في عام أوطاس، وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، واشتهر عن ابن عباس تحليلها، وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن، ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك لقوله تعالى {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم} وفي حرف عنه إلى أجل مسمى، وروى عنه أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عز وجل رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي. وهذا الذي روي عن ابن عباس رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار. وعن عطاء قال: "سمعت جابر بن عبد الله يقول: "تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر" ثم نهى عنها عمر الناس.

وأما اختلافهم في النكاح الذي تقع فيه الخطبة على خطبه غيره، فقد تقدم أن فيه ثلاثة أقوال: قول بالفسخ، وقول بعدم الفسخ، وفرق بين أن ترد الخطبة على خطبة الغير بعد الركون والقرب من التمام أو لا ترد وهو مذهب مالك. وأما نكاح المحلل: أعني الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثا، فإن مالكا قال: هو نكاح مفسوخ؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: هو نكاح صحيح. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "لعن الله المحلل" الحديث فمن فهم من اللعن التأثيم فقط قال: النكاح صحيح؛ ومن فهم من التأثيم فساد العقل تشبيها بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه وقال: النكاح فاسد، فهذه هي الأنكحة الفاسدة بالنهي. وأما الأنكحة الفاسدة بمفهوم الشرع فإنها تفسد إما بإسقاط شرط من شروط صحة النكاح، أو لتغيير حكم واجب بالشرع من أحكامه مما هو عن الله عز وجل، وإما بزيادة تعود إلى إبطال شرط من شروط الصحة. وأما الزيادات التي تعرض من هذا المعنى فإنها لا تفسد النكاح باتفاق، وإنما اختلف العلماء في لزوم الشروط التي بهذه الصفة أو لا لزومها مثل أن يشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من بلدها، فقال مالك: إن اشترط ذلك لم يلزمه إلا أن يكون في ذلك يمين بعتق أو طلاق، فإن ذلك يلزمه إلا أن يطلق أو يعتق من أقسم عليه، فلا يلزم الشرط الأول أيضا، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال الأوزاعي وابن شبرمة: لها شرطها وعليه الوفاء؛ وقال ابن شهاب: كان من أدركت من العلماء يقضون بها، وقول الجماعة مروي عن علي، وقول الأوزاعي مروي عن عمر. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط" وأما الخصوص فحديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" والحديثان صحيحان خرجهما البخاري ومسلم، إلا أن المشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم وهو لزوم الشروط وهو ظاهر ما وقع في العتبية وإن كان المشهور خلاف ذلك. وأما الشروط المقيدة بوضع من الصداق فإنه قد اختلف فيها لمذهب اختلافا كثيرا: أعني في لزومها أو عدم لزومها، وليس كتابنا هذا موضوعا على الفروع.

(وأما حكم الأنكحة الفاسدة إذا وقعت) فمنها ما اتفقوا على فسخه قبل الدخول وبعده، وهو ما كان منها فاسدا بإسقاط شرط متفق على وجوب صحة النكاح بوجوده، مثل أن ينكح محرمة العين؛ ومنها ما اختلفوا فيه بحسب اختلافهم في ضعف علة الفساد وقوتهما ولماذا يرجع من الإخلال بشروط الصحة ومالك في هذا الجنس {وذلك في الأكثر} يفسخه قبل الدخول ويثبته بعده والأصل فيه عنده أن لا فسخ، ولكنه يحتاط بمنزلة ما يرى في كثير من البيع الفاسد أنه يفوت بحوالة الأسواق وغير ذلك، ويشبه أن تكون هذه عنده هي الأنكحة المكروهة، وإلا فلا وجه للفرق بين الدخول وعدم الدخول والاضطراب في المذهب في هذا الباب كثير، وكأن هذا راجع عنده إلى قوة دليل الفسخ وضعفه، فمتى كان الدليل عنده قويا فسخ قبله وبعده، ومتى كان ضعيفا فسخ قبل ولم يفسخ بعد، وسواء كان الدليل القوي متفقا عليه أو مختلفا فيه. ومن قبل هذا أيضا اختلف المذهب في وقوع الميراث في الأنكحة الفاسدة إذا وقع الموت قبل الفسخ، وكذلك وقوع الطلاق فيه، فمرة اعتبر فيه الاختلاف والاتفاق، ومرة اعتبر فيه الفسخ بعد الدخول أو عدمه، وقد نرى أن نقطع ههنا القول في هذا الكتاب، فإن ما ذكرنا منه كفاية بحسب غرضنا المقصود.

*2*كتاب الطلاق

@-والكلام في هذا الباب ينحصر في أربع جمل: الجملة الأولى: في أنواع الطلاق. الجملة الثانية: في أركان الطلاق. الجملة الثالثة: في الرجعة. الجملة الرابعة: في أحكام المطلقات.

*3*(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة خمسة أبواب

@-الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي. الباب الثاني: في معرفة الطلاق السني من البدعي. الباب الثالث: في الخلع. الباب الرابع: في تمييز الطلاق من الفسخ. الباب الخامس: في التخيير والتمليك.

*4*الباب الأول في معرفة الطلاق البائن والرجعي.

@-واتفقوا على أن الطلاق نوعان: بائن ورجعي. وأن الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج رجعتها من غير اختيارها وأن من شرطه أن يكون في مدخول بها، وإنما اتفقوا على هذا لقوله تعالى {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} إلى قوله تعالى {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} وللحديث الثابت أيضا من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجع زوجته لما طلقها حائضا ولا خلاف في هذا.

وأما الطلاق البائن، فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول ومن قبل عدم التطليقات ومن قبل العوض في الخلع على اختلاف بينهم هل الخلع طلاق أو فسخ على ما سيأتي بعد؛ واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات إذا وقعت مفترقات لقوله تعالى {الطلاق مرتان} الآية. واختلفوا إذا وقعت ثلاثا في اللفظ دون الفعل، وكذلك اتفق الجمهور على أن الرق مؤثر في إسقاط أعداد الطلاق، وأن الذي يوجب البينونة في الرق اثنتان. واختلفوا هل هذا معتبر برق الزوج أو برق الزوجة أم برق من رق منهما، ففي هذا الباب إذن ثلاث مسائل.

@-(المسألة الأولى) جمهور الفقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة؛ وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى {الطلاق مرتان} إلى قوله في الثالثة {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة لا مطلق ثلاث، واحتجوا أيضا بما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر؛ واحتجوا أيضا بما رواه ابن إسحق عن عكرمة عن ابن عباس قال "طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها" وقد احتج من انتصر لقول الجمهور بأن حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين إنما رواه عنه من أصحابه طاوس، وأن جلة أصحابه رووا عنه لزوم الثلاث منهم سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة غيرهم، وأن حديث ابن إسحق وهم، وإنما روى الثقات أنه طلق ركانة زوجه البتة لا ثلاثا. وسبب الخلاف هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال: لا يلزم؛ ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه، وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} .

@-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اعتبار نقص عدد الطلاق البائن بالرق فمنهم من قال المعتبر فيه الرجال، فإذا كان الزوج عبدا كان طلاقه البائن الطلقة الثانية، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وبهذا قال مالك والشافعي ومن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس، وإن كان اختلف عنده في ذلك، لكن الأشهر عنه هو هذا القول. ومنهم من قال إن الاعتبار في ذلك هو بالنساء، فإذا كانت الزوجة أمة كان طلاقها البائن الطلقة الثانية سواء كان الزوج عبدا أو حرا، وممن قال بهذا القول من الصحابة علي وابن مسعود، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة وغيره؛ وفي المسألة قول أشذ من هذين، وهو أن الطلاق يعتبر برق من رق منهما، قال ذلك عثمان البتي وغيره وروي عن ابن عمر. وسبب هذا الاختلاف هل المؤثر في هذا هو رق المرأة أو رق الرجل، فمن قال التأثير في هذا لمن بيده الطلاق قال: يعتبر بالرجال ومن قال التأثير في هذا للذي يقع عليه الطلاق قال: هو حكم من أحكام المطلقة فشبهوها بالعدة. وقد أجمعوا على أن العدة بالنساء: أي نقصانها تابع لرق النساء؛ واحتج الفريق الأول بما روي عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء" إلا أنه حديث لم يثبت في الصحاح. وأما من اعتبر من رق منهما فإنه جعل سبب ذلك هو الرق مطلقا ولم يجعل سبب ذلك لا الذكورية ولا الأنوثية مع الرق.

@-(المسألة الثالثة) وأما كون الرق مؤثرا في نقصان عدد الطلاق فإنه حكى قوم أنه إجماع؛ وأبو محمد بن حزم وجماعة من أهل الظاهر مخالفون فيه، ويرون أن الحر والعبد في هذا سواء. وسبب الخلاف معارضة الظاهر في هذا للقياس، وذلك أن الجمهور صاروا إلى هذا المكان قياس طلاق العبد والأمة على حدودهما؛ وقد أجمعوا على كون الرق مؤثرا في نقصان الحد. أما أهل الظاهر فلما كان الأصل عندهم أن حكم العبد في التكاليف حكم الحر إلا ما أخرجه الدليل، والدليل عندهم هو نص أو ظاهر من الكتاب أو السنة، ولم يكن هناك دليل مسموع صحيح وجب أن يبقى العبد على أصله، ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد، لأن المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه، وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر. وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ، لأن وقوع التحريم على الإنسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط، وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بين الزوجة لعنتت المرأة وشقيت، ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم، وكان ذلك عسيرا عليه، فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين، ولذلك ما نرى والله أعلم أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة، فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة.

*4*الباب الثاني في معرفة الطلاق السني من البدعي.

@-أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة، وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". واختلفوا من هذا الباب في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: هل من شرطه أن لا يتبعها طلاقا في العدة؟. والثاني: هل المطلق ثلاثا: أعني بلفظ الثلاث مطلق للسنة أم لا؟. والثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض.

@-(أما الموضع الأول) فإنه اختلف فيه مالك وأبو حنيفة ومن تبعهما، فقال مالك: من شرطها أن لا يتبعها في العدة طلاقا آخر. وقال أبو حنيفة: إن طلقها عند كل طهر طلقة واحدة كان مطلقا للسنة. وسبب هذا الاختلاف هل من شرط هذا الطلاق أن يكون في حال الزوجية بعد رجعة أم ليس من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتبعها فيه طلاقا، ومن قال ليس من شرطه أتبعها الطلاق ولا خلاف بينهم في وقوع الطلاق المتبع.

@-(وأما الموضع الثاني) فإن مالكا ذهب إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة، وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة. وسبب الخلاف معارضة إقراره عليه الصلاة والسلام للمطلق بين يديه ثلاثا في لفظة واحدة لمفهوم الكتاب في حكم الطلقة الثالثة. والحديث الذي احتج به الشافعي هو ما ثبت من أن العجلاني طلق زوجته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الملاعنة قال: فلو كان بدعة لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما مالك فلما رأى أن المطلق بلفظ الثلاث رافع للرخصة التي جعلها الله في العدد قال فيه إنه ليس للسنة، واعتذر أصحابه عن الحديث بأن المتلاعنين عنده قد وقعت الفرقة بينهما من قبل التلاعن نفسه، فوقع الطلاق على غير محله، فلم يتصف لا بسنة ولا ببدعة، وقول مالك - والله أعلم - أظهر ههنا من قول الشافعي.

@-(وأما الموضع الثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض) فإن الناس اختلفوا في ذلك في مواضع: منها أن الجمهور قالوا يمضي طلاقه؛ وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع؛ والذين قالوا ينفذ قالوا: يؤمر بالرجعة وهؤلاء افترقوا فرقتين فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك وأصحابه. وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار، فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره يجبر ما لم تنقض عدتها؛ وقال أشهب: لا يجبر إلا في الحيضة الأولى. والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وبه قال مالك والشافعي وجماعة؛ وقوم قالوا: بل يراجعها، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه، فهنا إذا أربع مسائل: أحدها: هل يقع الطلاق أم لا؟. والثانية: إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط؟. والثالثة: متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب، والرابعة متى يقع الإجبار.

@-(أما المسألة الأولى) فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به، وكان طلاقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "مره فليراجعها" قالوا: والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم، وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر. وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله صلى الله عليه وسلم "كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وقالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه. وبالجملة فسبب الاختلاف هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء، أم شروط كمال وتمام؟ فمن قال شروط إجزاء قال: لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة، ومن قال: شروط كمال وتمام قال: يقع ويندب إلى أن يقع كاملا، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر؟ فمن اعتمد ظاهر الأمر وهو الوجوب على ما هو عليه عند الجمهور قال: يجبر؛ ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال: هذا الأمر هو على الندب.

@-(وأما المسألة الثالثة) وهي متى يوقع الطلاق بعد الإجبار فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم قالوا: والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول. وبالجملة فقالوا إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عند الوهاب. وأما الذين لم يشترطوا ذلك، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس ابن جبير وسعيد ابن جبير وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال: يراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء، وقالوا: المعنى في ذلك أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذه المسألة وتعارض مفهوم العلة.

@-(وأما المسألة الرابعة) وهي متى يجبر فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها. وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث، لأن فيه "مره فليراجعها حتى تطهر" فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة، وأيضا فإنه قال: إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع فإن قلنا إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة. فسبب الاختلاف هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد.

*4*الباب الثالث في الخلع.

@-واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تئول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها والصلح ببعضه والفدية بأكثره والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه على ما زعم الفقهاء، والكلام ينحصر في أصول هذا النوع من الفراق في أربعة فصول: في جواز وقوعه أولا، ثم ثانيا في شروط وقوعه: أعني جواز وقوعه، ثم ثالثا في نوعه: أعني هل هو طلاق أو فسخ؟. ثم رابعا فيما يلحقه من الأحكام.

*5*الفصل الأول في جواز وقوعه.

@-فأما جواز وقوعه فعليه أكثر العلماء. والأصل في ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} . وأما السنة فحديث ابن عباس "أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها طلقة واحدة" خرجه بهذا اللفظ البخاري وأبو داود والنسائي، وهو حديث متفق على صحته، وشذ أبو بكر ابن عبد الله المزيني عن الجمهور فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئا، واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} منسوخ بقوله تعالى {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} الآية. والجمهور على أن معنى ذلك بغير رضاها، وأما برضاها فجائز. فسبب الخلاف حمل هذا اللفظ على عمومه أو على خصوصه.

*5*الفصل الثاني في شروط وقوعه.

@-فإما شروط جوازه فمنها ما يرجع إلى القدر الذي يجوز فيه؛ ومنها ما يرجع إلى صفة الشيء الذي يجوز به؛ ومنها ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها؛ ومنها ما يرجع إلى صفة من يجوز له الخلع من النساء أو من أوليائهن ممن لا تملك أمرها، ففي هذا الفصل أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) أما مقدار ما يجوز لها أن تختلع به، فإن مالكا والشافعي وجماعة قالوا: جائز أن تختلع المرأة بأكثر مما يصير لها من الزوج في صداقها إذا كان النشوز من قبلها وبمثله وبأقل منه؛ وقال قائلون: ليس له أن يأخذ أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت، فمن شبهه بسائر الأعواض في المعاملات رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا؛ ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك، وكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق.

@-(المسألة الثانية) وأما صفة العوض، فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب، ومالك يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد غير الموصوف. وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم. وسبب الخلاف تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع أو الأشياء الموهوبة والموصي بها؛ فمن شبهها بالبيوع اشترط ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع؛ ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك. واختلفوا إذا وقع الخلع بما لم يحل كالخمر والخنزير هل يجب لها عوض أم لا بعد اتفاقهم على أن الطلاق يقع؟ فقال مالك: لا تستحق عوضا، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: يجب لها مهر المثل (هكذا جميع النسخ. ولعل الصواب يجب عليها، فإن العوض راجع للزوج، فليتأمل ا هـ مصححه).

@-(المسألة الثالثة) وأما ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها الخلع من التي لا يجوز فإن الجمهور على أن الخلع جائز مع التراضي إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها، والأصل في ذلك قوله تعالى {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} وقوله تعالى {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وشذ أبو قلابة والحسن البصري فقالا: لا يحل للرجل الخلع عليها حتى يشاهدها تزني، وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا؛ وقال داود: لا يجوز إلا بشرط الخوف أن لا يقيما حدود الله على ظاهر الآية؛ وشذ النعمان فقال: يجوز الخلع مع الإضرار؛ والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل، فيتحصل في الخلع خمسة أقوال: قول إنه لا يجوز أصلا. وقوله إنه يجوز على كل حال: أي مع الضرر. وقول إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا. وقول مع خوف أن لا يقيما حدود الله. وقول إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر، وهو المشهور.

@-(المسألة الرابعة) وأما من يجوز له الخلع ممن لا يجوز فإنه لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها، وأن الأمة لا تخالع عن نفسها إلا برضا سيدها، وكذلك السفيه مع وليها عند من يرى الحجر؛ وقال مالك: يخالع الأب على ابنته الصغيرة كما ينكحها وكذلك على ابنه الصغير لأنه عنده يطلق عليه، والخلاف في الابن الصغير قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز لأنه لا يطلق عليه عندهم والله أعلم وخلع المريضة يجوز عند مالك إذا كان بقدر ميراثه منها؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز خلعها بالثلث كله؛ وقال الشافعي: لو اختلعت بقدر مهر مثلها جاز، وكان من رأس المال، وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث. وأما المهملة التي لا وصي لها ولا أب فقال ابن القاسم: يجوز خلعها إذا كان خلع مثلها، والجمهور على أنه يجوز خلع المالكة لنفسها؛ وشذ الحسن وابن سيرين فقالا: لا يجوز الخلع إلا بإذن السلطان.

*5*الفصل الثالث في نوعه.

@-وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق، وبه قال مالك، وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ؛ وقال الشافعي: هو فسخ، وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس. وقد روي عن الشافعي أنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقا وإلا كان فسخا، وقد قيل عنه في قوله الجديد إنه طلاق وفائدة الفرق هل يعتد به في التطليقات أم لا؟ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا، لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى وقال أبو ثور: إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة، وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة احتج من جعله طلاقا بأن الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق مما ليس يرجع إلى اختياره، وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ، واحتج من لم يره طلاقا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال {الطلاق مرتان} ثم ذكر الافتداء ثم قال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وعند هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي قياسا على فسوخ البيع: أعني الإقالة، وعند المخالف أن الآية إنما تضمنت حكم الاقتداء على أنه شيء يلحق جميع أنواع الطلاق لا أنه شيء غير الطلاق. فسبب الخلاف هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع الفسخ أم ليس يخرجها؟.

*5*الفصل الرابع فيما يلحقه من الأحكام.

@-وأما لواحقه ففروع كثيرة، لكن نذكر منها ما شهر: فمنها هل يرتدف على المختلعة طلاق أم لا؟ فقال مالك: لا يرتدف إلا إن كان الكلام متصلا؛ وقال الشافعي: لا يرتدف وإن كان الكلام متصلا؛ وقال أبو حنيفة: يرتدف ولم يفرق بين الفور والتراخي. وسبب الخلاف أن العدة عند الفريق الأول من أحكام الطلاق، وعند أبي حنيفة من أحكام النكاح، ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها، فمن رآها من أحكام النكاح ارتدف الطلاق عنده، ومن لم ير ذلك لم يرتدف؛ ومنها أن جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها، والفرق الذي ذكرناه عن أبي ثور بين أن يكون بلفظ الطلاق أو لا يكون؛ ومنها أن الجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها؛ وقالت فرقة من المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة. وسبب اختلافهم هل المنع من النكاح في العدة عبادة أو ليس بعبادة بل معلل؟. واختلفوا في عدة المختلعة وسيأتي بعد. واختلفوا إذا اختلف الزوج والزوجة في مقدار العدد الذي وقع به الخلع فقال مالك: القول قوله إن لم يكن هنالك بينة؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويكون عليها مهر المثل، شبه الشافعي اختلافهما باختلاف المتبايعين؛ وقال مالك: هي مدعى عليها وهو مدع. ومسائل هذا الباب كثيرة وليس مما يليق بقصدنا.

*4*الباب الرابع في تمييز الطلاق من الفسخ.

@-واختلف قول مالك رحمه الله في الفرق بين الفسخ الذي لا يعتد به في التطليقات الثلاث وبين الطلاق الذي يعتد به في الثلاث إلى قولين: أحدهما أن النكاح إن كان فيه خلاف خارج عن مذهبه: أعني في جوازه، وكان الخلاف مشهورا فالفرقة عنده فيه طلاق مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها والمحرم، فهذه على هذه الرواية هي طلاق لا فسخ. والقول الثاني أن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب للتفرق، فإن كان غير راجع إلى الزوجين مما لو أراد الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح أو العدة وإن كان مما لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا.

*4*الباب الخامس في التخيير والتمليك.

@-ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة: التمليك والتخيير، والتمليك عن مالك في المشهور غير التخيير، وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق، فهو يحتمل الواحدة فما فوقها، ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة، والخيار بخلاف ذلك لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة إلا أن يكون تخييرا مقيدا مثل أن يقول لها اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين، ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث، وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك، والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الأمر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس؛ والرواية الثانية أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها أن في التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق، وليس له ذلك في التمليك؛ وقال الشافعي: اختاري وأمرك بيدك سواء، ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه، وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاث، فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه، وفي العدد في الخيار أو التمليك، وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية، وكذلك هي عند مالك في التمليك؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخيار ليس بطلاق، فإن طلقت نفسها في التمليك واحدة فهي بائنة؛ وقال الثوري: الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما، وقد قيل القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك، وليس للزوج مناكرتها، وهذا القول مروي عن علي وابن المسيب، وبه قال الزهري وعطاء، وقد قيل إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة، وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، روى أنه جاء ابن مسعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثا، قال: أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها، وسألقى أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة فقال: صنع الله بالرجال وفعل: يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال: وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب، وقد قيل ليس التمليك بشيء لأن ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل. وكذلك التخيير وهو قول أبي محمد بن حزم وقول مالك في المملكة إن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة فقهاء الأمصار؛ وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة، وله أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق، وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو بالتخيير، وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قالت عائشة خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يكن طلاقا، لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق. وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم، لأن من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره.

وأما مالك فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه لأن المفهوم منه إنما كان البينونة وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها، وأما الشافعي فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية. فسبب الخلاف هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية، وكذلك فعل في التخيير، وإنما اتفقوا على أن له مناكرتها في العدد: أعني في لفظ التمليك، لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره، وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية، لأن الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة، وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة، لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك. وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك، فلأن معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق.

وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير، فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم واحتياطا للرجال لأن العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة، وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم. وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاث مواضع: أحدها أنه لا يقع بواحد منهما طلاق. والثاني أنه تقع بينهما فرقة. والثالث الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة، أعني أن تملك بالتخيير البينونة، وبالتمليك ما دون البينونة، وإذا قلنا بالبينونة فقيل تملك واحدة، وقيل تملك الثلاث؛ وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل رجعية، وقيل بائنة. وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة في الطلاق أو كناية أو محتملة، وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق.

*3*(الجملة الثانية) وفي هذه الجملة ثلاثة أبواب

@-الباب الأول: في ألفاظ الطلاق وشروطه. الباب الثاني: في تفصيل من يجوز طلاقه ممن لا يجوز. الباب الثالث في تفصيل من يقع عليها الطلاق من النساء ممن لا يقع.

*4*الباب الأول في ألفاظ الطلاق وشروطه.

@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة. الفصل الثاني: في أنواع ألفاظ الطلاق المقيدة.

*5*الفصل الأول في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة.

@-أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية وبلفظ صريح. واختلفوا هل يقع بالنية مع اللفظ الذي ليس بصريح، أو بالنية دون اللفظ، أو باللفظ دون النية؛ فمن اشترط فيه النية واللفظ الصريح فاتباعا لظاهر الشرع، وكذلك من أقام الظاهر مقام الصريح، ومن شبهه بالعقد في النذر وفي اليمين أوقعه بالنية فقط، ومن أعمل التهمة أوقعه باللفظ فقط. واتفق الجمهور على أن ألفاظ الطلاق المطلقة صنفان: صريح، وكناية. واختلفوا في تفصيل الصريح من الكناية وفي أحكامها وما يلزم فيها، ونحن إنما قصدنا من ذلك ذكر المشهور وما يجري مجرى الأصول، فقال مالك وأصحابه: الصريح هو لفظ الطلاق فقط، وما عدا ذلك كناية، وهي عنده على ضربين ظاهرة ومحتملة، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاث: الطلاق، والفراق، والسراح، وهي مذكورة في القرآن؛ وقال بعض أهل الظاهر: لا يقع طلاق إلا بهذه الثلاث. فهذا هو اختلافهم في صريح الطلاق من غير صريحه. وإنما اتفقوا على أن لفظ الطلاق صريح لأن دلالته على هذا المعنى الشرعي دلالة وضوعية بالشرع فصار أصلا في هذا الباب. وأما ألفاظ الفراق والسراح فهي مترددة بين أن يكون للشرع فيها تصرف: أعني أن تدل بعرف الشرع على المعنى الذي يدل عليه الطلاق، أو هي باقية على دلالتها اللغوية فإذا استعملت في هذا المعنى: أعني في معنى الطلاق كانت مجازا إذ هذا هو معنى الكناية: أعني اللفظ الذي يكون مجازا في دلالته، وإنما ذهب من ذهب إلى أنه لا يقع الطلاق إلا بهذه الألفاظ الثلاثة، لأن الشرع إنما ورد بهذه الألفاظ الثلاثة وهي عبادة، ومن شرطها اللفظ، فوجب أن يقتصر بها على اللفظ الشرعي الوارد فيها. فأما اختلافهم في أحكام صريح ألفاظ الطلاق ففيه مسئلتان مشهورتان: إحداهما اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة عليها. والثانية اختلفوا فيها. فأما التي اتفقوا عليها فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة قالوا: لا يقبل قول المطلق إذا نطق بألفاظ الطلاق أنه لم يرد به طلاقا إذا قال لزوجته أنت طالق، وكذلك السراح والفراق عند الشافعي؛ واستثنت المالكية بأن قالت: إلا أن تقترن بالحالة أو بالمرأة قرينة تدل على صدق دعواه، مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هي فيه وشبهه فيقول لها أنت طالق. وفقه المسألة عند الشافعي وأبي حنيفة أن الطلاق لا يحتاج عندهم إلى نية؛ وأما مالك فالمشهور عنه أن الطلاق عنده يحتاج إلى نية، لكن لم ينوه ههنا لموضع التهم، ومن رأيه الحكم بالتهم سدا للذرائع، وذلك مما خالفه فيه الشافعي وأبو حنيفة، فيجب على رأي من يشترط النية في ألفاظ الطلاق ولا يحكم بالتهم أن يصدقه فيما ادعى.

@-(وأما المسألة الثانية) فهي اختلافهم فيمن قال لزوجته أنت طالق، وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة إما ثنتين وإما ثلاثا، فقال مالك: هو ما نوى وقد لزمه، وبه قال الشافعي إلا أن يقيد فيقول طلقة واحدة، وهذا القول هو المختار عند أصحابه؛ وأما أبو حنيفة فقال: لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق لأن العدد لا يتضمنه لفظ الإفراد لا كناية ولا تصريحا. وسبب اختلافهم هل يقع الطلاق بالنية دون اللفظ أو بالنية مع اللفظ المحتمل؟ فمن قال بالنية أوجب الثلاث، وكذلك من قال بالنية واللفظ المحتمل ورأى أن لفظ الطلاق يحتمل العدد؛ ومن رأى أنه لا يحتمل العدد وأنه لابد من اشتراط اللفظ في الطلاق مع النية قال: لا يجب العدد وإن نواه؛ وهذه المسألة اختلفوا فيها، وهي من مسائل شروط ألفاظ الطلاق: أعني اشتراط النية مع اللفظ، أو بانفراد أحدهما، فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية، وبه قال أبو حنيفة، وقد روي عنه أنه يقع باللفظ دون النية؛ وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية، فمن اكتفى بالنية احتج بقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات" ومن لم يعتبر النية دون اللفظ احتج بقوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها" والنية دون قول حديث نفس قال: وليس يلزم من اشترط النية في العمل في الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها. واختلف المذهب هل يقع بلفظ الطلاق في المدخول بها طلاق بائن إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هنالك عوض؟ فقيل يقع، وقيل لا يقع، وهذه المسألة هي من مسائل أحكام صريح ألفاظ الطلاق. وأما ألفاظ الطلاق التي ليست بصريح، فمنها ما هي كناية ظاهرة عند مالك، ومنها ما هي كناية محتملة؛ ومذهب مالك أنه إذا ادعى في الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه في الصريح، وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة وذلك في المدخول بها إلا أن يكون قال ذلك في الخلع. وأما غير المدخول بها فيصدقه في الكناية الظاهرة فيما دون الثلاث، لأن طلاق غير المدخول بها بائن، وهذه هي مثل قولهم: حبلك على غاربك، ومثل البتة، ومثل قولهم: أنت خلية وبرية.

وأما مذهب الشافعي في الكنايات الظاهرة فإنه يرجع في ذلك إلى ما نواه، فإن كان نوى طلاقا كان طلاقا وإن كان نوى ثلاثا كان ثلاثا أو واحدة كان واحدة ويصدق في ذلك وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول الشافعي، إلا أنه إذا نوى على أصله واحدة أو اثنتين وقع عنده طلقة واحدة بائنة، وإن اقترنت به قرينة تدل على الطلاق وزعم أنه لم ينوه لم يصدق، وذلك إذا كان عنده في ذاكرته الطلاق؛ وأبو حنيفة يطلق بالكنايات كلها إذا اقترنت بها هذه القرينة إلا أربع: حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي، وتقنعي، لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيها نيته كالحال عند الشافعي في الكناية الظاهرة، وخالفه في ذلك جمهور العلماء فقالوا: ليس فيها شيء، وإن نوى طلاقا فيتحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال: قول أن يصدق بإطلاق، وهو قول الشافعي؛ وقول إنه لا يصدق بإطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة، وهو قول مالك؛ وقول إنه يصدق إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق، وهو قول أبي حنيفة. وفي المذهب خلاف في مسائل يتردد حملها بين الظاهر والمحتمل، وبين قوتها وضعفها في الدلالة على صفة البينونة فوقع فيها الاختلاف وهي راجعة إلى هذه الأصول؛ وإنما صار مالك إلى أنه لا يقبل قوله في الكنايات الظاهرة إنه لم يرد به طلاقا، لأن العرف اللغوي والشرعي شاهد عليه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تلفظ بها الناس غالبا، والمراد بها الطلاق، إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على خلاف ذلك، وإنما صار إلى أنه لا يقبل قوله فيما يدعيه دون الثلاث، لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة، والبينونة لا تقع إلا خلعا عنده في المشهور أو ثلاثا، وإذا لم تقع خلعا لأنه ليس هناك عوض فبقي أن يكون ثلاثا، وذلك في المدخول بها، ويتخرج على القول في المذهب بأن البائن تقع من دون عوض ودون عدد أن يصدق في ذلك وتكون واحدة بائنة، وحجة الشافعي أنه إذا وقع الإجماع على أنه يقبل قوله فيما دون الثلاث في صريح ألفاظ الطلاق كان أحرى أن يقبل قوله في كنايته لأن دلالة الصريح أقوى من دلالة الكناية، ويشبه أن تقول المالكية إن لفظ الطلاق وإن كان صريحا في الطلاق فليس بصريح في العدد ومن الحجة للشافعي حديث ركانة المتقدم، وهو مذهب عمر في حبلك على غاربك، وإنما صار الشافعي إلى أن الطلاق في الكنايات الظاهرة إذا نوى ما دون الثلاث يكون رجعيا لحديث ركانة المتقدم، وصار أبو حنيفة إلى أنه يكون بائنا لأنه المقصود به قطع العصمة، ولم يجعله ثلاثا لأن الثلاث معنى زائد على البينونة عنده. فسبب اختلافهم هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ؟

وإذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضي البينونة فقط أو العدد؟ فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ، ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية. ومما اختلف فيه الصدر الأول وفقهاء الأمصار من هذا الباب: أعني من جنس المسائل الداخلة في هذا الباب لفظ التحريم: أعني من قال لزوجته أنت على حرام، وذلك أن مالكا قال: يحمل في المدخول بها على البت: أي الثلاث وينوي في غير المدخول بها، وذلك على قياس قوله المتقدم في الكنايات الظاهرة وهو قول ابن أبي ليلى وزيد بن ثابت وعلي من الصحابة، وبه قال أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه قال: لا ينوي في غير المدخول بها وتكون ثلاثا،

فهذا هو أحد الأقوال في هذه المسألة،

والقول الثاني أنه إن نوى بذلك ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة، وإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها، وإن لم ينو به طلاقا ولا يمينا فليس بشيء، هي كذبة، وقال بهذا القول الثوري،

والقول الثالث أنه يكون أيضا ما نوى بها وإن نوى واحدة فواحدة أو ثلاثا فثلاث، وإن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها، وهذا القول قاله الأوزاعي.

والقول الرابع أن ينوي فيها في الموضعين في إرادة الطلاق وفي عدده، فما نوى كان ما نوى، فإن نوى واحدة كان رجعيا، وإن أراد تحريمها بغير طلاق فعليه كفارة يمين وهو قول الشافعي.

والقول الخامس أنه ينوي أيضا في الطلاق وفي العدد، فإن نوى واحدة كانت بائنة، فإن لم ينو طلاقا كان يمينا وهو مول، فإن نوى الكذب فليس بشيء، وهذا القول قاله أبو حنيفة وأصحابه.

والقول السادس إنها يمين يكفرها ما يكفر اليمين، إلا أن بعض هؤلاء قال يمين مغلظة، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال ابن عباس وقد سئل عنها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، خرجه البخاري ومسلم ذهب إلى الاحتجاج بقوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية.

والقول السابع أن تحريم المرأة كتحريم الماء، وليس فيه كفارة ولا طلاق لقوله تعالى {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} وهو قول مسروق والأجدع وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وغيرهم. ومن قال فيها إنها غير مغلظة بعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار، وبعضهم أوجب فيها عتق رقبة. وسبب الاختلاف هل هو يمين أو كناية؟ أو ليس بيمين ولا كناية؟ فهذه أصول ما يقع من الاختلاف في ألفاظ الطلاق.

*5*الفصل الثاني في ألفاظ الطلاق المقيدة.

@-والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين: إما تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء، والتقييد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة أو بخروج شيء مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس، أو إلى الوجود أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون. فأما تعليق الطلاق بالمشيئة فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة مخلوق، فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله، أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله، فإن مالكا قال: لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع لابد. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق. وسبب الخلاف هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق؟ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر؛ فمن قال لا يتعلق به قال: لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق؛ ومن قال يتعلق به قال: يؤثر فيه. وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ويتوصل إلى علمها فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته. وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له، ففيه خلاف في المذهب، قيل يلزمه الطلاق، وقيل لا يلزمه، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى؛ فمن شبهه بطلاق الهزل وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال: يقع هذا الطلاق؛ ومن اعتبر وجود الشرط قال: لا يقع لأن الشرط قد عدم ههنا. وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة، فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب: أحدها ما يمكن أن يقع أو لا يقع على السواء كدخول الدار وقدوم زيد، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف. وأما ما لابد من وقوعه كطلوع الشمس غدا، فهذا يقع ناجزا عند مالك، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط؛ فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال: لا يقع إلا بوقوع الشرط؛ ومن شبهه بالوطء الواقع في الأجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال: يقع الطلاق؛ والثالث هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيء الحيض والطهر، ففي ذلك روايتان عن مالك: إحداهما وقوع الطلاق ناجزا؛ والثانية وقوعه على وجود شرطه، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولابد، والخلاف فيه قوي، وأما تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول: إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا، وأما إن علقه بشيء يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول: إن ولدت أنثى فأنت طالق فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشيء إلى الوجود. وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى، فأن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت إنثى، وكان هذا من باب التغليظ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشيء أو ضده ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل ويوقف عنده عن وطء زوجته، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الإيلاء ضرب له أجل الإيلاء ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته، ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت. ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة، أو تبعيض الطلاق وإرداف الطلاق على الطلاق. فأما مسألة تبعيض المطلقة، فإن مالكا قال: إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه؛ وقال أبو حنيفة: لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها، مثل الثلث أو الربع؛ وقال داود: لا تطلق؛ وكذلك إذا قال عند مالك: طلقتك نصف تطليقة طلقت، لأن هذا كله عنده لا يتبعض؛ وعند المخالف إذا تبعض لم يقع، وأما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا، فإنه يكون ثلاثا عند مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يقع واحدة؛ فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد، أعني بقوله طلقتك ثلاثا قال: يقع الطلاق ثلاثا؛ ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال: لا يقع عليها الثاني والثالث، ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي.

وأما الطلاق المقيد بالاستثناء فإنما يتصور في العدد فقط، فإذا طلق أعدادا من الطلاق، فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يستثني ذلك العدد بعينه، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، أو اثنتين إلا اثنتين؛ وإما أن يستثني ما هو أقل.

وإذا استثنى ما هو أقل، فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل، فإذا استثنى الأقل من الأكثر فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى: مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة. وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان: أحدهما أن الاستثناء لا يصح، وهو مبني على منع أن يستثنى الأكثر من الأقل. والآخر أن الاستثناء يصح، وهو قول مالك. وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فإن مالكا قال: يقع الطلاق لأنه اتهمه على أنه رجوع منه. وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه، كما لو قال أنت طالق لا طالق معا، فإن وقوع الشيء مع ضده مستحيل. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: لا يقع الطلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع، لأن الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع، هذا قياس قوله عندي وحجته، وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك.

*4*الباب الثاني في المطلق الجائز الطلاق.

@-واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ الحر غير المكره، واختلفوا في طلاق المكره والسكران وطلاق المريض وطلاق المقارب للبلوغ. واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح، واختلفوا هل ترثه إن مات أم لا؟ فأما طلاق المكره فإنه غير واقع عند مالك والشافعي وأحمد وداود وجماعة، وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وابن عباس. وفرق أصحاب الشافعي بين أن ينوي الطلاق أو لا ينوي شيئا، فإن نوى الطلاق فعنهم قولان أصحهما لزومه: وإن لم ينو فقولان أصحهما أنه لا يلزم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واقع، وكذلك عتقه دون بيعه، ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق. وسبب الخلاف هل المطلق من قبل الإكراه مختار أم ليس بمختار؟ لأنه ليس يكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره. والمكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشيء أصلا، وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولكن الأظهر أن المكره على الطلاق وإن كان موقعا للفظ باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المكره لقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وإنما فرق أبو حنيفة بين البيع والطلاق، لأن الطلاق مغلظ فيه، ولذلك استوى جده وهزله. وأما طلاق الصبي، فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه حتى يبلغ؛ وقال في مختصر ما ليس في المختصر: أنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام، وبه قال أحمد بن حنبل إذا هو أطاق صيام رمضان؛ وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما طلاق السكران، فالجمهور من الفقهاء على وقوعه؛ وقال قوم: لا يقع منهم المزني وبعض أصحاب أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق؟ فمن قال هو والمجنون سواء إذ كان كلاهما فاقدا للعقل، ومن شرط التكليف العقل قال: لا يقع؛ ومن قال الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه. واختلف الفقهاء فيما يلزم السكران بالجملة من الأحكام وما لا يلزمه، فقال مالك: يلزمه الطلاق والعتق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع، وألزمه أبو حنيفة كل شيء؛ وقال الليث: كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه، ولا يلزمه طلاق ولا عتق ولا نكاح ولا بيع ولا حد في قذف، وكل ما جنته جوارحه فلازم له، فيحد في الشرب والقتل والزنى والسرقة. وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان لا يرى طلاق السكران. وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة. وقول من قال: إن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ليس نصا في إلزام السكران الطلاق لأن السكران معتوه ما، وبه قال داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين: أعني أن طلاقه ليس يلزم؛ وعن الشافعي القولان في ذلك، واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور، واختار المزني من أصحابه أن طلاقه غير واقع. وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه، فإن مالكا وجماعة يقول: ترثه زوجته، والشافعي وجماعة لا يورثها. والذين قالوا بتوريثها انقسموا ثلاث فرق: ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري؛ وقال قوم: لها الميراث ما لم تتزوج، وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى؛ وقال قوم: بل ترث كانت في العدة أو لم تكن، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث.

وسبب الخلاف اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع؛ وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته ليقطع حظها من الميراث؛ فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها؛ ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا، وذلك أن هذه الطائفة تقول: إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه، لأنهم قالوا: إنه لا يرثها إن ماتت وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها، ولابد لخصومهم من أحد الجوابين، لأنه يعسر أن يقال إن في الشرع نوعا من الطلاق توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية؛ وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح، لأن هذا يكون طلاقا موقوف الحكم إلى أن يصح أو لا يصح، وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع، ولكن إنما أنس القائلون به أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة، ولا معنى لقولهم فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور. وأما من رأى أنها ترث في العدة، فلأن العدة عنده من بعض أحكام الزوجية، وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية، وروي هذا القول عن عمر وعائشة. وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين، ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث.

واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها أمرها الزوج فطلقت نفسها، فقال أبو حنيفة: لا ترث أصلا؛ وفرق الأوزاعي بين التمليك والطلاق فقال: ليس لها ميراث في التمليك ولها في الطلاق وسوى مالك في ذلك كله حتى لقد قال: إن ماتت لا يرثها وترثه هي إن مات، وهذا مخالف للأصول جدا.

*4*الباب الثالث فيمن يتعلق به الطلاق من النساء ومن لا يتعلق.

@-وأما من يقع طلاقه من النساء، فإنهم اتفقوا على أن الطلاق يقع على النساء اللاتي في عصمة أزواجهن، أو قبل أن تنقضي عددهن في الطلاق الرجعي، وأنه لا يقع على الأجنبيات: أعني الطلاق المعلق. وأما تعليق الطلاق على الأجنبيات بشرط التزويج مثل أن يقول: إن نكحت فلانة فهي طالق، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول إن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وداود وجماعة؛ وقول إنه يتعلق بشرط التزويج عمم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة وقول إنه إن عم جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، أعني مثل أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، وكذلك في وقت كذا، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن. وسبب الخلاف هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية؛ ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال: يقع بالأجنبية. وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتا به وحرجا، وكأنه من باب نذر المعصية؛ وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق؛ واحتج الشافعي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا طلاق إلا من بعد نكاح" وفي رواية أخرى "لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك" وثبت ذلك عن علي ومعاذ وجابر ابن عبد الله وابن عباس وعائشة؛ وروي مثل قول أبي حنيفة عن عمر وابن مسعود، وضعف قوم الرواية بذلك عن عمر رضي الله عنهم.

*3*(الجملة الثالثة: في الرجعة بعد الطلاق)

@-ولما كان الطلاق على ضربين: بائن، ورجعي، وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان: الباب الأول: في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي. الباب الثاني: في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن.

*4*الباب الأول في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي.

@-وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها لقوله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له، واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد. واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط؟ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء؟ فأما الإشهاد فذهب مالك إلى أنه مستحب، وذهب الشافعي إلى أنه واجب. وسبب الخلاف معارضة القياس للظاهر، وذلك أن ظاهر قوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} يقتضي الوجوب، وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أن لا يجب الإشهاد، فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب. وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة، فإن قوما قالوا: لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط، وبه قال الشافعي؛ وقوم قالوا: تكون رجعتها بالوطء، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين: فقال قوم: لا تصح الرجعة بالوطء إلا إذا نوى بذلك الرجعة، لأن الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية، وهو قول مالك؛ وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطء إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية؛ فأما الشافعي فقاس الرجعة على النكاح وقال: قد أمر الله بالإشهاد، ولا يكون الإشهاد إلا على القول. وأما سبب الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة للوطء عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولأن الملك لم ينفصل عنده، ولذلك كان التوارث بينهما؛ وعند مالك أن وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها، فلابد عنده من النية، فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة. واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة، فقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها؛ وقال أبو حنيفة: لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل، وبه قال الثوري وأبو يوسف والأوزاعي، وكلهم قالوا: لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل. واختلفوا في هذا الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ثم يراجعها فيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة فتتزوج إذا انقضت عدتها، فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل، هذا قوله في الموطأ، وبه قال الأوزاعي والليث. وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول، وأنه قال: الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني، وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه قالوا: ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه، وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ؛ وأما الشافعي والكوفيون وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا: زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها دخل بها الثاني أو لم يدخل، وبه قال داود وأبو ثور، وهو مروي عن علي وهو الأبين، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة: إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها، وحجة مالك في الرواية الأولى ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ولكنها لمن تزوجها، وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط؛ وحجة الفريق الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول، وهو الأظهر إن شاء الله، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما".

*4*الباب الثاني في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن.

@-والطلاق البائن، إما بما دون الثلاث فذلك يقع في غير المدخول بها بلا خلاف، وفي المختلعة باختلاف، وهل يقع أيضا دون عوض؟ فيه خلاف، وحكم الرجعة بعد هذا الطلاق حكم ابتداء النكاح: أعني في اشتراط الصداق والولي والرضا، إلا أنه لا يعتبر فيه انقضاء العدة عند الجمهور؛ وشذ قوم فقالوا: المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره، وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة. وأما البائنة بالثلاث، فإن العلماء كلهم على أن المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد الوطء لحديث رفاعة بن سموءل "أنه طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة زوجها الأول أن ينكحها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزويجها وقال: لا تحل لك حتى تذوق العسيلة". وشذ سعيد بن المسيب فقال: إنه جائز أن ترجع إلى زوجها الأول بنفس العقد لعموم قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} والنكاح ينطلق على العقد، وكلهم قال: التقاء الختانين يحلها، إلا الحسن البصري فقال: لا تحل إلا بوطء بإنزال. وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد ويفسد الصوم والحج ويحل المطلقة ويحصن الزوجين ويوجب الصداق هو التقاء الختانين. وقال مالك وابن القاسم: لا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عندهما وطء زوج ذمي لمسلم، ولا وطء من لم يكن بالغا، وخالفهما في ذلك كله الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي فقالوا: يحل الوطء وإن وقع في عقد فاسد أو وقت غير مباح. وكذلك وطء المراهق عندهم يحل، ويحل وطء الذمي الذمية للمسلم، وكذلك المجنون عندهم، والخصي الذي يبقى له ما يغيبه في فرج، والخلاف في هذا كله آيل إلى هل يتناول اسم النكاح أصناف الوطء الناقص أم لا يتناوله؟ واختلفوا من هذا الباب في نكاح المحلل: أعني إذا تزوجها على شرط أن يحللها لزوجها الأول؛ فقال مالك: النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده، والشرط فاسد لا تحل به، ولا يعتبر في ذلك عنده إرادة المرأة التحليل، وإنما يعتبر عنده إرادة الرجل؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة النكاح جائز، ولا تؤثر النية في ذلك، وبه قال داود وجماعة وقالوا: هو محلل للزوج المطلق ثلاثا؛ وقال بعضهم: النكاح جائز والشرط باطل: أي ليس يحللها، هو قول ابن أبي ليلى، وروي عن الثوري؛ واستدل مالك وأصحابه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر أنه قال صلى الله عليه وسلم "لعن الله المحلل والمحلل له" فلعنه إياه كلعنه آكل الربا وشارب الخمر، وذلك يدل على النهي، والنهي يدل على فساد المنهى عنه، واسم النكاح الشرعي لا ينطلق على النكاح المنهي عنه. وأما الفريق الآخر فتعلق بعموم قوله تعالى {حتى تنكح زوجا غيره} وهذا ناكح، وقالوا: وليس في تحريم قصد التحليل ما يدل على أن عدمه شرط في صحة النكاح، كما أنه ليس النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، مما يدل على أن من شرط صحة الصلاة صحة ملك البقعة أو الإذن من مالكها في ذلك، قالوا: وإذا لم يدل النهي على فساد عقد النكاح فأحرى أن لا يدل على بطلان التحليل، وإنما لم يعتبر مالك قصد المرأة لأنه إذا لم يوافقها على قصدها لم يكن لقصدها معنى مع أن الطلاق ليس بيدها. واختلفوا في هل يهدم الزوج ما دون الثلاث؟ فقال أبو حنيفة يهدم، وقال مالك والشافعي لا يهدم: أعني إذا تزوجت قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول ثم راجعها هل يعتد بالطلاق الأول أم لا؟ فمن رأى أن هذا شيء يخص الثالثة بالشرع قال: لا يهدم ما دون الثالثة عنده؛ ومن رأى أنه إذا هدم الثالثة فهو أحرى أن يهدم ما دونها قال: يهدم ما دون الثلاث، والله أعلم.

*3*(الجملة الرابعة) وهذه الجملة فيها بابان، الأول: في العدة. والثاني: في المتعة.

*4*الباب الأول في العدة.

@-والنظر في هذا الباب في فصلين: الفصل الأول: في عدة الزوجات: الفصل الثاني: في عدة ملك اليمين.

*5*الفصل الأول في عدة الزوجات. والنظر في عدة الزوجات ينقسم إلى نوعين: أحدهما في معرفة العدة. والثاني في معرفة أحكام العدة.

@-(النوع الأول) وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا طلقت فلا يخلو أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها، فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها بإجماع لقوله تعالى {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} وأما المدخول بها فلا يخلو أن تكون من ذوات الحيض أو من غير ذوات الحيض. وغير ذوات الحيض إما صغار وإما يائسات، وذوات الحيض إما حوامل وإما جاريات على عاداتهن في الحيض، وإما مرتفعات الحيض، وإما مستحاضات. والمرتفعات الحيض في سن الحيض إما مرتابات بالحمل: أي بحس في البطن، وإما غير مرتابات. وغير مرتابات إما معروفات سبب انقطاع الحيض من رضاع أو مرض، وإما غير معروفات. فأما ذوات الحيض الأحرار الجاريات في حيضهن على المعتاد فعدتهن ثلاثة قروء، والحوامل منهن عدتهن وضع حملهن، واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا خلاف في هذا لأنه منصوص عليه في قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} الآية، وفي قوله تعالى {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم} الآية. واختلفوا من هذه الآية في الأقراء ما هي؟ فقال قوم: هي الأطهار: أعني الأزمنة التي بين الدمين: وقال قوم: هي الدم نفسه، وممن قال إن الأقراء هي الأطهار. أما من فقهاء الأمصار فمالك والشافعي وجمهور أهل المدينة وأبو ثور وجماعة، وأما من الصحابة فابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة؛ وممن قال إن الأقراء هي الحيض أما من فقهاء الأمصار فأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وجماعة، وأما من الصحابة فعلي وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري. وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الأقراء هي الحيض. وحكى أيضا عن الشعبي أنه قول أحد عشر أو اثني عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما أحمد بن حنبل فاختلفت الرواية عنه، فروي عنه أنه كان يقول: إنها الأطهار على قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة، ثم توقفت الآن من أجل قول ابن مسعود وعلي هو أنها الحيض، والفرق بين المذهبين هو أن من رأى أنها الأطهار رأى أنها إذا دخلت الرجعية عنده في الحيضة الثالثة لم يكن للزوج عليها رجعة وحلت للأزواج، ومن رأى أنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة. وسبب الخلاف اشتراك اسم القرء، فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار، وقد رام كلا الفريقين أن يدل على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه، فالذين قالوا إنها الأطهار قالوا: إن هذا الجمع خاص بالقرء الذي هو الطهر، وذلك أن القرء الذي هو الحيض يجمع على أقراء لا على قروء، وحكوا ذلك عن ابن الأنباري، وأيضا فإنهم قالوا: إن الحيضة مؤنثة والطهر مذكر، فلو كان القرء الذي يراد به الحيض لما ثبت في جمعه الهاء، لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة، وقالوا أيضا: إن الاشتقاق يدل على ذلك، لأن القرء مشتق من قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، فزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر، فهذا هو أقوى ما تمسك به الفريق الأول من ظاهر الآية. وأما ما تمسك به الفريق الثاني من ظاهر الآية فإنهم قالوا: إن قوله تعالى {ثلاثة قروء} ظاهر في تمام كل قرء منها، لأنه ليس ينطلق اسم القرء على بعضه إلا تجوزا، وإذا وصفت الأقراء بأنها هي الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرءين وبعض قرء، لأنها عندهم تعتد بالطهر الذي تطلق فيه وإن مضى أكثره وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطلق عليها اسم الثلاثة إلا تجوزا، واسم الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها، وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض لأن الإجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة أنها لا تعتد بها، ولكل واحد من الفريقين احتجاجات متساوية من جهة لفظ القرء، والذي رضيه الحذاق أن الآية مجملة في ذلك، وأن الدليل ينبغي أن يطلب من جهة أخرى؛ فمن أقوى ما تمسك به من رأى أن الأقراء هي الأطهار حديث ابن عمر المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" قالوا: وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه، وقوله عليه الصلاة والسلام "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" دليل واضح على أن العدة هي الأطهار لكي يكون الطلاق متصلا بالعدة. ويمكن أن يتأول قوله {فتلك العدة} أي فتلك مدة استقبال العدة لئلا يتبعض القرء بالطلاق في الحيض.

وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم، وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار، ولذلك كان عدة من ارتفع الحيض عنها بالأيام، والحيض هو سبب العدة بالأقراء، فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض واحتج من قال الأقراء هي الأطهار بأن المعتبر في براءة الرحم هو النقلة من الطهر إلى الحيض لا انقضاء الحيض، فلا معنى لاعتبار الحيضة الأخيرة، وإذا كان ذلك فالثلاث المعتبر فيهن التمام: أعني المشترط هي الأطهار التي بين الحيضتين، ولكلا الفريقين احتجاجات طويلة. ومذهب الحنفية أظهر من جهة المعنى، وحجتهم من جهة المسموع متساوية أو قريب من متساوية، ولم يختلف القائلون أن العدة هي الأطهار أنها تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة. واختلف الذين قالوا إنها الحيض، فقيل تنقضي بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، وبه قال الأوزاعي؛ وقيل حين تغتسل من الحيضة الثالثة، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، ومن الفقهاء الثوري وإسحاق ابن عبيد؛ وقيل حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها؛ وقيل إن للزوج عليها الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، حكى هذا عن شريك وقد قيل تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة، وهو أيضا شاذ، فهذه هي حال الحائض التي تحيض. وأما التي تطلق فلا تحيض وهي في سن الحيض وليس هناك ريبة حمل ولا سبب من رضاع ولا مرض، فإنها تنتظر عند مالك تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت بثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر اعتبرت الحيض واستقبلت انتظاره، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض الثانية اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر من العام الثاني انتظرت الحيضة الثالثة، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثالثة في الثلاثة الأشهر كانت قد استكملت عدة الحيض وتمت عدتها، ولزوجها عليها الرجعة ما لم تحل. واختلف عن مالك متى تعتد بالتسعة أشهر؟ فقيل من يوم طلقت، وهو قوله في الموطأ؛ وروى ابن القاسم عنه: من يوم رفعها حيضتها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور في التي ترتفع حيضتها وهي لا تيأس منها في المستأنف إنها تبقى أبدا تنتظر حتى تدخل في السن الذي تيأس فيه من المحيض، وحينئذ تعتد بالأشهر وتحيض قبل ذلك؛ وقول مالك مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وقول الجمهور قول ابن مسعود وزيد؛ وعمدة مالك من طريق المعنى هو أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنا غالبا بدليل أنه قد تحيض الحامل، وإذا كان ذلك كذلك فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم بل هي قاطعة على ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر عدة اليائسة، فإن حاضت قبل تمام السنة حكم لها بحكم ذوات الحيض، واحتسبت بذلك القرء، ثم تنتظر القرء الثاني أو السنة إلى أن تمضي لها ثلاثة قروء؛ وأما الجمهور فصاروا إلى ظاهر قوله تعالى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} والتي هي من أهل الحيض ليست بيائسة، وهذا الرأي فيه عسر وحرج؛ ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها، وكان قوله {إن ارتبتم} راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك عليه، فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية، فإنه فهم من اليائسة هنا من تقطع على أنها ليست من أهل الحيض، وهذا لا يكون إلا من قبل السن، ولذلك جعل قوله {إن ارتبتم} راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض: أي إن شككتم في حكمهن، ثم قال في التي تبقى تسعة أشهر لا تحيض وهي في سن من تحيض إنها تعتد بالأشهر؛ وأما إسمعيل وابن بكير من أصحابه، فذهبوا إلى أن الريبة ههنا في الحيض، وأن اليائس في كلام العرب هو مالم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع، فطابقوا تأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك، ونعم ما فعلوا لأنه إن فهم ههنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن: أعني سن اليائس وإن من فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي انقطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر، وهو قياس قول أهل الظاهر، لأن اليائسة في الطرفين ليس هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور. وأما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان. وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم مثل رضاع أو مرض، فإن المشهور عند مالك أنها تنتظر الحيض قصر الزمان أم طال؛ وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب.

وأما المستحاضة فعدتها عند مالك سنة إذا لم تميز بين الدمين، فإن ميزت بين الدمين فعنه روايتان: إحداهما أن عدتها السنة. والأخرى أنها تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء؛ وقال أبو حنيفة عدتها الأقراء إن تميزت لها وإن لم تتميز لها فثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي: عدتها بالتمييز إذا انفصل عنها الدم، فيكون الأحمر القاني من الحيضة، ويكون الأصفر من أيام الطهر، فإن طبق عليها الدم اعتدت بعدد أيام حيضتها في صحتها وإنما ذهب مالك إلى بقاء السنة لأنه جعلها مثل التي لا تحيض وهي من أهل الحيض؛ والشافعي إنما ذهب في العارفة أيامها أنها تعمل على معرفتها قياسا على الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة "اتركي الصلاة أيام أقرائك فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي الدم" وإنما اعتبر التمييز من اعتبره لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضي وصلي فإنما هو عرق" خرجه أبو داود، وإنما ذهب من ذهب إلى عدتها بالشهور إذا اختلط عليها الدم، لأنه معلوم في الأغلب أنها في كل شهر تحيض، وقد جعل الله العدة بالشهور عند ارتفاع الحيض وخفاؤه كارتفاعه.

وأما المسترابة: أعني التي تجد حسا في بطنها تظن به أنه حمل فإنها تمكث أكثر مدة حمل، وقد اختلف فيه فقيل في المذهب أربع سنين، وقيل خمس سنين؛ وقال أهل الظاهر: تسعة أشهر، ولا خلاف أن انقضاء عدة الحوامل لوضع حملهن: أعني المطلقات لقوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وأما الزوجات غير الحرائر فإنهن ينقسمن أيضا بتلك الأقسام بعينها، أعني حيضا ويائسات ومستحاضات ومرتفعات الحيض من غير يائسات.

فأما الحيض اللاتي يأتيهن حيضهن، فالجمهور على أن عدتهن حيضتان؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن عدتهن ثلاث حيض كالحرة، وبه قال ابن سيرين. فأهل الظاهر اعتمدوا عموم قوله تعالى {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وهي ممن ينطلق عليها اسم المطلقة. واعتمد الجمهور تخصيص هذا العموم بقياس الشبه، وذلك أنهم شبهوا الحيض بالطلاق والحد، أعني كونه متنصفا مع الرق، وإنما جعلوها حيضتين لأن الحيضة الواحدة لا تتبعض. وأما الأمة المطلقة اليائسة من المحيض أو الصغيرة فإن مالكا وأكثر أهل المدينة قالوا: عدتها ثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة عدتها شهر ونصف شهر نصف عدة الحرة، وهو القياس إذا قلنا بتخصيص العموم، فكأن مالكا اضطرب قوله، فمرة أخذ بالعموم وذلك في اليائسات، ومرة أخذ بالقياس وذلك في ذوات الحيض، والقياس في ذلك واحد. وأما التي ترتفع حيضتها من غير سبب فالقول فيها هو القول في الحرة والخلاف في ذلك، وكذلك المستحاضة واتفقوا على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها.

واختلفوا فيمن راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي ثم فارقها قبل أن يمسها هل تستأنف عدة أم لا؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: تستأنف؛ وقالت فرقة: تبقى في عدتها من طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي؛ وقال داود: ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستأنفة. وبالجملة فعند مالك أن كل رجعة تهدم العدة وإن لم يكن مسيس، ما خلا رجعة المولى: وقال الشافعي؛ إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطء ثبتت على عدتها الأولى، وقول الشافعي أظهر؛ وكذلك عند مالك رجعة المعسر بالنفقة تقف صحتها عنده على الإنفاق فإن أنفق صحت الرجعة وهدمت العدة إن كان طلاقا، وإن لم ينفق بقيت على عدتها الأولى، وإذا تزوجت ثانيا في العدة فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما تداخل العدتين. والأخرى نفيه، فوجه الأولى اعتبار براءة الرحم، لأن ذلك حاصل مع التداخل. ووجه الثانية كون العدة عبادة، فوجب أن تتعدد بتعدد الوطء الذي له حرمة، وإذا عتقت الأمة في عدة الطلاق مضت على عدة الأمة عند مالك، ولم تنتقل إلى عدة الحرة؛ وقال أبو حنيفة: تنتقل في الطلاق الرجعي دون البائن؛ وقال الشافعي: تنتقل في الوجهين معا. وسبب الخلاف هل العدة من أحكام الزوجية أم من أحكام انفصالها؟ فمن قال من أحكام الزوجية قال: لا تنتقل عدتها؛ ومن قال من أحكام انفصال الزوجية قال: تنتقل كما لو أعتقت وهي زوجة ثم طلقت؛ وأما من فرق بين البائن والرجعي فبين، وذلك أن الرجعي فيه شبه من أحكام العصمة، ولذلك وقع فيه الميراث باتفاق إذا مات وهي في عدة من طلاق رجعي، وأنها تنتقل إلى عدة الموت، فهذا هو القسم الأول من قسمي النظر في العدة.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -(النوع الأول) وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا... ...

(القسم الثاني) وأما النظر في أحكام العدد، فإنهم اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى، وكذلك الحامل لقوله تعالى في الرجعيات {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} الآية، ولقوله تعالى {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} . واختلفوا في سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال: أحدها أن لها السكنى والنفقة، وهو قول الكوفيين. والقول الثاني أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة. والثالث أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي وجماعة. وسبب اختلافهم اختلاف الرواية في حديث فاطمة بنت قيس ومعارضة ظاهر الكتاب له، فاستدل من لم يوجب لها نفقة ولا سكنى بما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت "طلقني زوجي ثلاثا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة" خرجه مسلم، وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة" وهذا القول مروي عن علي وابن عباس وجابر ابن عبد الله. وأما الذين أوجبوا لها السكنى دون النفقة فإنهم احتجوا بما رواه مالك في موطئه من حديث فاطمة المذكورة، وفيه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس لك عليه نفقة" وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ولم يذكر فيها إسقاط السكنى، فبقي على عمومه في قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} وعللوا أمره عليه الصلاة والسلام بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم بأنه كان في لسانها بذاء. وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الإسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية. وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة. وروي عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا: لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة، يريد قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} الآية. ولأن المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب النفقة حيث تجب السكنى، فلذلك الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الأمرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة، وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور. وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير، ووجه عسره ضعف دليله. وينبغي أن تعلم أن المسلمين اتفقوا على أن العدة تكون في ثلاثة أشياء: في طلاق، أو موت، أو اختيار الأمة نفسها إذا اعتقت. واختلفوا فيها في الفسوخ، والجمهور على وجوبها. ولما كان الكلام في العدة يتعلق فيه أحكام عدة الموت رأينا أن نذكرها ههنا فنقول: إن المسلمين اتفقوا على أن عدة الحرة من زوجها الحر أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} . واختلفوا في عدة الحامل وفي عدة الأمة إذا لم تأتها حيضتها في الأربعة الأشهر وعشر فماذا حكمها؟ فذهب مالك إلى أن من شرط تمام هذه العدة أن تحيض حيضة واحدة في هذه المدة، فإن لم تحض فهي عنده مسترابة فتمكث مدة الحمل؛ وقيل عنه إنها قد لا تحيض وقد لا تكون مسترابة، وذلك إذا كانت عادتها في الحيض أكثر من مدة العدة، وهذا إما غير موجود، أعني من تكون عادتها أن تحيض أكثر من أربعة أشهر إلى أكثر من أربعة أشهر، وإما نادر. واختلف عنه فيمن هذه حالها من النساء إذا وجدت، فقيل تنتظر حتى تحيض؛ وروى عنه ابن القاسم تتزوج إذا انقضت عدة الوفاة ولم يظهر بها حمل، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار أبي حنيفة والشافعي والثوري.

@-(وأما المسألة الثانية) وهي الحامل التي يتوفى عنها زوجها، فقال الجمهور وجميع فقهاء الأمصار: عدتها أن تضع حملها مصيرا إلى عموم قوله تعالى {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} وإن كانت الآية في الطلاق وأخذا أيضا بحديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر وفيه "فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت" وروى مالك عن ابن عباس أن عدتها آخر الأجلين، يريد أنها تعتد بأبعد الأجلين، إما الحمل، وإما انقضاء العدة عدة الموت، وروى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحجة لهم أن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين عموم آية الحوامل وآية الوفاة. وأما الأمة المتوفي عنها من تحل له، فإنها لا تخلو أن تكون زوجة أو ملك يمين أو أم ولد أو غير أم ولد، فأما الزوجة فقال الجمهور: إن عدتها نصف عدة الحرة قاسوا ذلك على العدة؛ وقال أهل الظاهر: بل عدتها عدة الحرة، وكذلك عندهم عدة الطلاق مصيرا إلى التعميم. وأما أم الولد فقال مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة: عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر. وقال مالك: وإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، ولها السكنى؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: عدتها ثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود؛ وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة المتوفي عنها زوجها؛ وقال قوم: عدتها عدة الحرة أربعة أشهر وعشر؛ وحجة مالك أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك ما لا خلاف فيه؛ وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة؛ ولا بأمة فتعتد عدة الأمة، فوجب أن تستبرئ رحمها بعدة الأحرار. وأما الذين أوجبوا لها عدة الوفاة فاحتجوا بحديث روي عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، وضعف أحمد هذا الحديث ولم يأخذ به. وأما من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيها بالزوجة الأمة. فسبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة. وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة، وهو مذهب أبي حنيفة.

*4*الباب الثاني في المتعة.

@-والجمهور على أن المتعة ليست واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم من أهل الظاهر: هي واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم: هي مندوب إليها وليست واجبة وبه قال مالك. والذين قالوا بوجوبها في بعض المطلقات اختلفوا في ذلك؛ فقال أبو حنيفة: هي واجبة على من طلق قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا مسمى؛ وقال الشافعي: هي واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، وعلى هذا جمهور العلماء. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} فاشترط المتعة مع عدم المسيس، وقال تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} فعلم أنه لا متعة لها مع التسمية والطلاق قبل المسيس، لأنه إذا لم يجب لها الصداق فأحرى أن لا تجب لها المتعة، وهذا لعمري مخيل، لأنه حيث لم يجب لها صداق أقيمت المتعة مقامه، وحيث ردت من يدها نصف الصداق لم يجب لها شيء. وأما الشافعي فيحمل الأوامر الواردة بالمتعة في قوله تعالى {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} على العموم في كل مطلقة إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول. وأما أهل الظاهر فحملوا الأمر على العموم، والجمهور على أن المختلعة لا متعة لها لكونها معطية من يدها كالحال في التي طلقت قبل الدخول وبعد فرض الصداق، وأهل الظاهر يقولون: هو شرع فتأخذ وتعطي. وأما مالك فإنه حمل الأمر بالمتعة على الندب لقوله تعالى في آخر الآية {حقا على المحسنين} أي على المتفضلين المتجملين، وما كان من باب الإجمال والإحسان فليس بواجب. واختلفوا في المطلقة المعتدة هل عليها إحداد؟ فقال مالك: ليس عليها إحداد.

*4*باب في بعث الحكمين.

@-اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر: أعني المحق من المبطل لقوله تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} الآية، وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين: أحدهما من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما؛ وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما؛ وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما في ذلك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا، إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق. وحجة مالك ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين. والجمع. وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا. والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك. وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال: فاعتبر في ذلك إذنه. ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين.

*2*كتاب الإيلاء.

@-(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

والأصل في هذا الباب قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} والإيلاء: هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر أو أربعة أشهر أو بإطلاق على الاختلاف المذكور في ذلك فيما بعد. واختلف فقهاء الأمصار في الإيلاء في مواضع: فمنها هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولى، أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر؟ فإما فاء وإما طلق. ومنها هل الإيلاء يكون بكل يمين أم بالأيمان المباحة في الشرع فقط؟. ومنها إن أمسك عن الوطء بغير يمين هل يكون موليا أم لا؟. ومنها هل المولي هو الذي قيد يمينه بمده من أربعة أشهر فقط أو أكثر من ذلك؟ أو المولي هو الذي لم يقيد يمينه بمده أصلا؟. ومنها هل طلاق الإيلاء بائن أو رجعي؟. ومنها إن أبى الطلاق والفيء هل يطلق القاضي عليه أم لا؟. ومنها هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها من غير إيلاء حادث في الزواج الثاني؟. ومنها هل من شروط رجعة المولي أن يطأها في العدة أم لا؟. ومنها هل إيلاء العبد حكمه أن يكون مثل إيلاء الحر أم لا؟. ومنها هل إذا طلقها بعد إنقضاء مدة الإيلاء تلزمها عدة أم لا؟. فهذه هي مسائل الخلاف المشهورة في الإيلاء بين فقهاء الأمصار التي تتنزل من هذا الباب منزلة الأصول، ونحن نذكر خلافهم في مسألة مسألة منها، وعيون أدلتهم وأسباب خلافهم على ما قصدنا.

@-(المسألة الأولى) أما اختلافهم هل تطلق بانقضاء الأربعة الأشهر نفسها أم لا تطلق وإنما الحكم أن يوقف فإما فاء وإما طلق؟ فإن مالكا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود والليث ذهبوا إلى أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فإما فاء وإما طلق، وهو قول علي وابن عمر، وإن كان قد روي عنهما غير ذلك، لكن الصحيح هو هذا؛ وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبالجملة الكوفيون إلى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر إلا أن يفيء فيها، وهو قول ابن مسعود وجماعة من التابعين. وسبب الخلاف هل قوله تعالى {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} أي فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة الأشهر أو بعدها؟ فمن فهم منه قبل انقضائها قال: يقع الطلاق، ومعنى العزم عنده في قوله تعالى {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} أن لا يفيء حتى تنقضي المدة فمن فهم من اشتراط الفيئة اشتراطها بعد انقضاء المدة قال: معنى قوله {وإن عزموا الطلاق} أي باللفظ {فإن الله سميع عليم} . وللمالكية في الآية أربعة أدلة: أحدها أنه جعل مدة التربص حقا للزوج دون الزوجة، فأشبهت مدة الأجل في الديون المؤجلة. الدليل الثاني أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله. وعندهم ليس يقع من فعله إلا تجوزا: أعني ليس ينسب إليه على مذهب الحنفية إلا تجوزا، وليس يصار إلى المجاز عن الظاهر إلا بدليل. الدليل الثالث قوله تعالى {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} قالوا: فهذا يقتضي وقوع الطلاق على وجه يسمع، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة. الرابع أن الفاء في قوله تعالى {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ظاهرة في معنى التعقيب، فدل ذلك على أن الفيئة بعد المدة، وربما شبهوا هذه المدة بمدة العتق. وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة بالعدة الرجعية إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم، وبالجملة فشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي، وقد روي ذلك عن ابن عباس.

@-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اليمين التي يكون بها الإيلاء، فإن مالكا قال: يقع الإيلاء بكل يمين، وقال الشافعي: لا يقع إلا بالأيمان المباحة في الشرع وهي اليمين بالله أو بصفة من صفاته. فمالك اعتمد العموم: أعني عموم قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} والشافعي يشبه الإيلاء بيمين الكفارة، وذلك أن كلا اليمينين يترتب عليهما حكم شرعي، فوجب أن تكون اليمين التي ترتب عليها حكم الإيلاء هي اليمين التي يترتب عليها الحكم الذي هو الكفارة.

@-(المسألة الثالثة) وأما لحوق حكم الإيلاء للزوج إذا ترك الوطء بغير يمين، فإن الجمهور على أنه لا يلزمه حكم الإيلاء بغير يمين، ومالك يلزمه وذلك إذا قصد الإضرار بترك الوطء، وإن لم يحلف على ذلك؛ فالجمهور اعتمدوا الظاهر، ومالك اعتمد المعنى، لأن الحكم إنما لزمه باعتقاده ترك الوطء، وسواء شد ذلك الاعتقاد بيمين أو بغير يمين، لأن الضرر يوجد في الحالتين جميعا.

@-(المسألة الرابعة) وأما اختلافهم في مدة الإيلاء، فإن مالكا ومن قال بقوله يرى أن مدة الإيلاء يجب أن تكون أكثر من أربعة أشهر إذ كان الفيء عندهم إنما هو بعد الأربعة الأشهر؛ وأما أبو حنيفة فإن مدة الإيلاء عنده هي الأربعة الأشهر فقط إذ كان الفيء عنده إنما هو فيها؛ وذهب الحسن وابن أبي ليلى إلى أنه إذا حلف وقتا ما وإن كان أقل من أربعة أشهر كان موليا يضرب له الأجل إلى انقضاء الأربعة الأشهر من وقت اليمين. وروي عن ابن عباس أن المولي هو من حلف أن لا يصيب امرأته على التأبيد. والسبب في اختلافهم في المدة إطلاق الآية، فاختلافهم في وقت الفيء، وفي صفة اليمين ومدته هو كون الآية عامة في هذه المعاني أو مجملة، وكذلك اختلافهم في صفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق على ما سيأتي بعد. وأما ما سوى ذلك فسبب اختلافهم فيه هو سبب السكوت عنها، وهذه هي أركان الإيلاء: أعني معرفة نوع اليمين ووقت الفيء والمدة وصفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق الواقع فيه.

@-(المسألة الخامسة) فأما الطلاق التي يقع بالإيلاء فعند مالك والشافعي أنه رجعي، لأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن؛ وقال أبو حنيفة وأبو ثور: هو بائن، وذلك أنه إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة. فسبب الاختلاف معارضة المصلحة المقصودة بالإيلاء للأصل المعروف في الطلاق، فمن غلب الأصل قال: رجعي، ومن غلب المصلحة قال: بائن.

@-(المسألة السادسة) وأما هل يطلق القاضي إذا أبى الفيء أو الطلاق أو يحبس حتى يطلق، فإن مالكا قال: يطلق القاضي عليه؛ وقال أهل الظاهر: يحبس حتى يطلقها بنفسه. وسبب الخلاف معارضة الأصل المعروف في الطلاق للمصلحة؛ فمن راعى الأصل المعروف في الطلاق قال: لا يقع الطلاق إلا من الزوج؛ ومن راعى الضرر الداخل من ذلك على النساء قال: يطلق السلطان وهو نظر إلى المصلحة العامة، وهذا هو الذي يعرف بالقياس المرسل والمنقول عن مالك العمل به، وكثير من الفقهاء يأبى ذلك.

@-(المسألة السابعة) وأما هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها؟ فإن مالكا يقول: إذا راجعها فلم يطأها تكرر الإيلاء عليه، وهذا عنده في الطلاق الرجعي والبائن. وقال أبو حنيفة: الطلاق البائن يسقط الإيلاء وهو أحد قولي الشافعي، وهذا القول هو الذي اختاره المزني وجماعة العلماء على أن الإيلاء لا يتكرر؛ بعد الطلاق إلا بإعادة اليمين. والسبب في اختلافهم معارضة المصلحة لظاهر شرط الإيلاء، وذلك أنه لا إيلاء في الشرع إلا حيث يكون يمين في ذلك النكاح بنفسه لا في نكاح آخر، ولكن إذا راعينا هذا وجد الضرر المقصود إزالته بحكم الإيلاء، ولذلك رأى مالك أنه لا يحكم بحكم الإيلاء بغير يمين إذا وجد معنى الإيلاء.

@-(المسألة الثامنة) وأما هل تلزم الزوجة المولي منها عدة أو ليس تلزمها؟ فإن الجمهور على أن العدة تلزمها؛ وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيض، وقال بقوله طائفة: وهو مروي عن ابن عباس. وحجته أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة. وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات. وسبب الخلاف أن العدة جمعت عبادة ومصلحة؛ فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة، ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة.

@-(المسألة التاسعة) وأما إيلاء العبد، فإن مالكا قال: إيلاء العبد شهران على النصف من إيلاء الحر، قياسا على حدوده وطلاقه؛ وقال الشافعي وأهل الظاهر: إيلاؤه مثل إيلاء الحر أربعة أشهر تمسكا بالعموم، والظاهر أن تعلق الأيمان بالحر والعبد سواء، والإيلاء يمين، وقياسا أيضا على مدة العنين؛ وقال أبو حنيفة: النقص الداخل على الإيلاء معتبر بالنساء لا بالرجال كالعدة، فإن كانت المرأة حرة كان الإيلاء إيلاء الحر وإن كان الزوج عبدا، وإن كانت أمة فعلى النصف؛ وقياس الإيلاء على الحد غير جيد، وذلك أن العبد إنما كان حده أقل من حد الحر، لأن الفاحشة منه أقل قبحا، ومن الحر أعظم قبحا، ومدة الإيلاء إنما ضربت جمعا بين التوسعة على الزوج وبين إزالة الضرر عن الزوجة، فإذا فرضنا مدة أقصر من هذه كان أضيق على الزوج وأنفى للضرر عن الزوجة، والحر أحق بالتوسعة ونفي الضرر عنه، فلذلك كان يجب على هذا القياس أن لا ينقص من الإيلاء إلا إذا كان الزوج عبدا والزوجة حرة فقط، وهذا لم يقل به أحد، فالواجب التسوية. والذين قالوا بتأثير الرق في مدة الإيلاء اختلفوا في زوال الرق بعد الإيلاء، هل ينتقل إلى إيلاء الأحرار أم لا؟ فقال مالك: لا ينتقل من إيلاء العبيد إلى إيلاء الأحرار؛ وقال أبو حنيفة: ينتقل؛ فعنده أن الأمة إذا عتقت وقد آلى زوجها منها انتقلت إلى إيلاء الأحرار؛ وقال ابن القاسم: الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا إيلاء عليها، فإن وقع وتمادى حسبت الأربعة الأشهر من يوم بلغت، وإنما قال ذلك لأنه لا ضرر عليها في ترك الجماع؛ وقال أيضا: لا إيلاء على خصي ولا على من لا يقدر على الجماع.

@-(المسألة العاشرة) وأما هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا؟ فإن الجمهور ذهبوا إلى أن ذلك ليس من شرطها؛ وأما مالك فإنه قال: إذا لم يطأ فيها من غير عذر مرض أو ما أشبه ذلك فلا رجعة عنده له عليها وتبقى على عدتها، ولا سبيل له إليها إذا انقضت العدة. وحجة الجمهور أنه لا يخلو أن يكون الإيلاء يعود برجعته إياها في العدة أو لا يعود، فإن عاد لم يعتبر واستؤنف الإيلاء من وقت الرجعة؛ أعني تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، وإن لم يعد إيلاء لم يعتبر أصلا إلا على مذهب من يرى أن الإيلاء يكون بغير يمين، وكيفما كان فلا بد من اعتبار الأربعة الأشهر من وقت الرجعة؛ وأما مالك فإنه قال: كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر، فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر، وأصله المعسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع، فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره. فسبب الخلاف قياس الشبه، وذلك أن من شبه الرجعة بابتداء النكاح أوجب فيها تجدد الإيلاء، ومن شبه هذه الرجعة برجعة المطلق لضرر لم يرتفع منه ذلك الضرر قال: يبقى على الأصل.

*2*كتاب الظهار.

@-والأصل في الظهار الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} الآية. وأما السنة فحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت "ظاهر مني زوجي أويس ابن الصامت، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك، فما خرجت حتى أنزل الله {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} الآيات، فقال: ليعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعرق من تمر، قالت: وأنا أعينه بعرق آخر، قال: لقد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا" خرجه أبو داود. وحديث سلمة بن صخر البياضي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والكلام في أصول الظهار ينحصر في سبعة فصول: منها في ألفاظ الظهار. ومنها في شروط وجوب الكفارة فيه. ومنها فيمن يصح فيه الظهار. ومنها فيما يحرم على المظاهر. ومنها هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح؟. ومنها هل يدخل الإيلاء عليه؟. ومنها القول في أحكام كفارة الظهار.

*3*الفصل الأول في ألفاظ الظهار.

@-واتفق العلماء على أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه ظهار، واختلفوا إذا ذكر عضوا غير الظهر، أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات النكاح على التأبيد غير الأم، فقال مالك: هو ظهار؛ وقال جماعة من العلماء: لا يكون ظهارا إلا بلفظ الظهر والأم. وقال أبو حنيفة: يكون بكل عضو يحرم النظر إليه. وسبب اختلافهم معارضة المعنى للظاهر، وذلك أن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات والظهر وغيره من الأعضاء، وأما الظاهر من الشرع، فإنه يقتضي أن لا يسمى ظهارا إلا ما ذكر فيه لفظ الظهر والأم. وأما إذا قال: هي علي كأمي ولم يذكر الظهر، فقال أبو حنيفة والشافعي: ينوي في ذلك لأنه قد يريد بذلك الإجلال لها وعظم منزلتها عنده؛ وقال مالك: هو ظهار. وأما من شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد، فإنه ظهار عند مالك، وعند ابن الماجشون ليس بظهار، وسبب الخلاف هل تشبيه الزوجة بمحرمة غير مؤبدة التحريم كتشبيهها بمؤبدة التحريم؟.

*3*الفصل الثاني في شروط وجوب الكفارة فيه.

@-وأما شروط وجوب الكفارة، فإن الجمهور على أنها لا تجب دون العود، وشذ مجاهد وطاوس فقالا: لا تجب دون العود، ودليل الجمهور قوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} وهو نص في معنى وجوب تعلق الكفارة بالعود، وأيضا فمن طريق القياس، فإن الظهار يشبه الكفارة في اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار. وحجة مجاهد وطاوس أنه معنى يوجب الكفارة العليا فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائد تشبيها بكفارة القتل والفطر؛ وأيضا قالوا: إنه كان طلاق الجاهلية فنسخ تحريمه بالكفارة، وهو معنى قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} والعود عندهم هو العود في الإسلام. فأما القائلون باشتراط العود في إيجاب الكفارة، فإنهم اختلفوا فيه ما هو؟ فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداهن أن العود هو أن يعزم على إمساكها والوطء معا. والثانية أن يعزم على وطئها فقط، وهي الرواية الصحيحة المشهورة عن أصحابه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. والرواية الثالثة أن العود هو نفس الوطء، وهي أضعف الروايات عند أصحابه. وقال الشافعي: العود هو الإمساك نفسه، قال: ومن مضى له زمان يمكنه أن يطلق فيه ولم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة، لأن إقامته زمانا يمكن أن يطلق فيه من غير أن يطلق يقوم مقام إرادة الإمساك منه، أو هو دليل ذلك. وقال داود وأهل الظاهر: العود هو أن يكرر لفظ الظهار ثانية، ومتى لم يفعل ذلك فليس بعائد ولا كفارة عليه، فدليل الرواية المشهورة لمالك ينبني على أصلين: أحدهما أن المفهوم من الظهار هو أن الوجوب الكفارة فيه إنما يكون بإرادته العود إلى ما حرم على نفسه بالظهار وهو الوطء، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون العودة هي إما الوطء نفسه، وإما العزم عليه وإرادته. والأصل الثاني ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو وطء لقوله تعالى في الآية {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ولذلك كان الوطء محرما حتى يُكَفَر. قالوا: ولو كان العود نفسه هو الإمساك لكان الظهار نفسه يحرم الإمساك فكان الظهار يكون طلاقا. وبالجملة فالمعول عليه عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم، وذلك أن معنى العود لا يخلو أن يكون تكرار اللفظ على ما يراه داود أو الوطء نفسه أو الإمساك نفسه أو إرادة الوطء، ولا يكون تكرار اللفظ، لأن ذلك تأكيد والتأكيد لا يوجب الكفارة ولا يكون إرادة الإمساك للوطء، فإن الإمساك موجود بعد، فقد بقي أن يكون إرادة الوطء، وإن كان إرادة الإمساك للوطء فقد أراد الوطء، فثبت أن العود هو الوطء. ومعتمد الشافعية في إجرائهم إرادة الإمساك، أو الإمساك مجرى إرادة الوطء أن الإمساك يلزم عنه الوطء فجعلوا لازم الشيء مشبها بالشيء، وجعلوا حكمهما واحدا، وهو قريب من الرواية الثانية؛ وربما استدلت الشافعية على أن إرادة الإمساك هو السبب في وجوب الكفارة أن الكفارة ترتفع بارتفاع الإمساك، وذلك إذا طلق أثر الظهار، ولهذا احتاط مالك في الرواية الثانية، فجعل العود هو إرادة الأمرين جميعا: أعني الوطء والإمساك؛ وإما أن يكون العود الوطء فضعيف مخالف للنص، والمعتمد فيها تشبيه الظهار باليمين: أي كما أن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث كذلك الأمر ههنا، وهو قياس شبه عارضه النص. وأما داود فإنه تعلق بظاهر اللفظ في قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} وذلك يقتضي الرجوع إلى القول نفسه. وعند أبي حنيفة أنه العود في الإسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية: وعند مالك والشافعي أن المعنى في الآية: ثم يعودون فيما قالوا. وسبب الخلاف بالجملة إنما هو مخالفة الظاهر للمفهوم؛ فمن اعتمد المفهوم جعل العودة إرادة الوطء أو الإمساك، وتأول معنى اللام في قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} بمعنى الفاء؛ وأما من اعتمد الظاهر فإنه جعل العودة تكرير اللفظ، وأن العودة الثانية إنما هي ثانية للأولى التي كانت منهم في الجاهلية. ومن تأول أحد هذين، فالأشبه له أن يعتقد أن بنفس الظهار تجب الكفارة كما اعتقد ذلك مجاهد، إلا أن يقدر في الآية محذوفا وهو إرادة الإمساك، فهنا إذا ثلاثة مذاهب: إما أن تكون العودة هي تكرار اللفظ، وإما أن تكون إرادة الإمساك، وإما أن تكون العودة التي هي في الإسلام، وهذان ينقسمان قسمين: أعني الأول والثالث. أحدهما أن يقدر في الآية محذوفا، وهو إرادة الإمساك فيشترط هذه الإرادة في وجوب الكفارة، وإما ألا يقدر فيها محذوفا فتجب الكفارة بنفس الظهار. واختلفوا من هذا الباب في فروع وهو: هل إذا طلق قبل إرادة الإمساك أو ماتت عنه زوجته هل تكون عليه كفارة أم لا؟ فجمهور العلماء على أن لا كفارة عليه إلا أن يطلق بعد إرادة العودة أو بعد الإمساك بزمان طويل على ما يراه الشافعي. وحكي عن عثمان البتي أن عليه الكفارة بعد الطلاق، وأنها إذا ماتت قبل إرادة العودة لم يكن له سبيل إلى ميراثها إلا بعد الكفارة، وهذا شذوذ مخالف للنص، والله أعلم.

*3*الفصل الثالث فيمن يصح فيه الظهار.

@-واتفقوا على لزوم الظهار من الزوجة التي في العصمة، واختلفوا في الظهار من الأمة ومن التي في غير العصمة، وكذلك اختلفوا في ظهار المرأة من الرجل، فأما الظهار من الأمة فقال مالك والثوري وجماعة: الظهار منها لازم كالظهار من الزوجة الحرة، وكذلك المدبرة وأم الولد؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: لا ظهار من أمة؛ وقال الأوزاعي: إن كان يطأ أمته فهو منها مظاهر، وإن لم يطأها فهي يمين وفيها كفارة يمين؛ وقال عطاء: هو مظاهر لكن عليه نصف كفارة. فدليل من أوقع ظهار الأمة عموم قوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم} والإماء من النساء. وحجة من لم يجعله ظهارا أنهم قد أجمعوا أن النساء في قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} هن ذوات الأزواج، فكذلك اسم النساء في آية الظهار، فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه للعموم: أعني تشبيه الظهار بالإيلاء وعموم لفظ النساء، أعني أن عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء في الظهار وتشبيهه بالإيلاء يقتضي خروجهن من الظهار. وأما هل من شرط الظهار كون المظاهر منها في العصمة أم لا؟ فمذهب مالك أن ذلك ليس من شرطه، وأن من عين امرأة ما بعينها وظاهر منها بشرط التزويج كان مظاهرا منها، وكذلك إن لم يعين وقال كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، وذلك بخلاف الطلاق وبقول مالك في الظهار قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي؛ وقال قائلون: لا يلزم الظهار إلا فيما يملك الرجل، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور وداود؛ وفرق قوم فقالوا: إن أطلق لم يلزمه ظهار وهو أن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، فإن قيد لزمه وهو أن يقول: إن تزوجت فلانة أو سمى قرية أو قبيلة، وقائل هذا القول هو ابن أبي ليلى والحسن بن حيي. ودليل الفريق الأول قوله تعالى {أوفوا بالعقود} ولأنه عقد على شرط الملك فأشبه إذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم وهو قول عمر. وأما حجة الشافعي فحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك" خرجه أبو داود والترمذي والظهار شبيه بالطلاق، وهو قول ابن عباس. وأما الذين فرقوا بين التعميم والتعيين، فإنهم رأوا أن التعميم في الظهار من باب الحرج، وقد قال الله تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} . واختلفوا أيضا من هذا الباب في هل تظاهر المرأة من الرجل؟ فعن العلماء في ثلاثة أقوال: أشهرها أنه لا يكون منها ظهار، وهو قول مالك والشافعي. والثاني أن عليها كفارة يمين. والثالث أن عليها كفارة الظهار. ومعتمد الجمهور تشبيه الظهار بالطلاق، ومن ألزم المرأة الظهار فتشبيهها للظهار باليمين؛ ومن فرق فلأنه رأى أن أقل اللازم لها في ذلك المعنى هو كفارة يمين وهو ضعيف. وسبب الخلاف تعارض الأشباه في هذا المعنى.

*3*الفصل الرابع فيما يحرم على المظاهر.

@-واتفقوا على أن المظاهر يحرم عليه الوطء، واختلفوا فيما دونه من ملامسة ووطء في غير الفرج ونظر اللذة، فذهب مالك إلى أنه يحرم الجماع وجميع أنواع الاستمتاع مما دون الجماع من الوطء فيما دون الفرج واللمس والتقبيل والنظر للذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها من سائر بدنها ومحاسنها، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه إنما كره النظر للفرج فقط؛ وقال الشافعي: إنما يحرم الظهار الوطء في الفرج فقط المجمع عليه لا ما عدا ذلك، وبه قال الثوري وأحمد وجماعة. ودليل مالك قوله تعالى {من قبل أن يتماسا} وظاهر لفظ التماس يقتضي المباشرة فيما فوقها، ولأنه أيضا لفظ حرمت به عليه فأشبه لفظ الطلاق، ودليل قول الشافعي أن المباشرة كناية عن الجماع بدليل إجماعهم على أن الوطء محرم عليه، وإذا دلت على الجماع لم تدل على ما فوق الجماع، لأنها إما أن تدل على ما فوق الجماع، وإما أن تدل على الجماع، وهي الدلالة المجازية، لكن قد اتفقوا على أنها دالة على الجماع فانتفت الدلالة المجازية، إذ لا يدل لفظ واحد دلالتين حقيقة ومجازا. قلت: الذين يرون أن اللفظ المشترك له عموم لا يبعد أن يكون اللفظ الواحد عندهم يتضمن المعنيين جميعا: أعني الحقيقة والمجاز، وإن كان لم تجر به عادة للعرب، ولذلك القول به في غاية من الضعف، ولو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز، وأيضا فإن الظهار مشبه عندهم بالإيلاء، فوجب أن يختص عندهم بالفرج.

*3*الفصل الخامس هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح.

@-وأما تكرر الظهار بعد الطلاق: أعني إذا طلقها بعد الظهار قبل أن يُكَفر ثم راجعها هل يتكرر عليها الظهار فلا يحل له المسيس حتى يكفر فيه خلاف. قال مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها فعليه الكفارة، وقال الشافعي: إن راجعها في العدة فعليه الكفارة، وإن راجعها في غير العدة فلا كفارة عليه؛ وعنه قول آخر مثل قول مالك. وقال محمد بن الحسن: الظهار راجع عليها نكحها بعد الثلاث أو بعد واحدة، وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق ثم يطلق ثم يراجع هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟. وسبب الخلاف هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها، أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم؛ ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم، وأحسب أن من الظاهرية من يرى أنه كله هادم.

*3*الفصل السادس في دخول الإيلاء عليه.

@-وأما هل يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا، وذلك بأن لا يُكَفِر مع قدرته على الكفارة؟ فإن فيه أيضا اختلافا، فأبو حنيفة والشافعي يقولان: لا يتداخل الحكمان لأن حكم الظهار خلاف حكم الإيلاء، وسواء كان عندهم مضارا أو لم يكن، وبه قال الأوزاعي وأحمد وجماعة. وقال مالك: يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضارا. وقال الثوري: يدخل الإيلاء على الظهار، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر من غير اعتبار المضارة، ففيه ثلاثة أقوال: قول إنه يدخل بإطلاق، وقول إنه لا يدخل بإطلاق، وقول إنه يدخل مع المضارة ولا يدخل مع عدمها. وسبب الخلاف مراعاة المعنى واعتبار الظاهر؛ فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان؛ ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر.

*3*الفصل السابع في أحكام كفارة الظهار.

@-والنظر في كفارة الظهار في أشياء منها في عدد أنواع الكفارة وترتيبها، وشروط نوع منها: أعني الشروط المصححة، ومتى تجب كفارة واحدة؟ ومتى تجب أكثر من واحدة. فأما أنواعها فإنهم أجمعوا على أنها ثلاثة أنواع: إعتاق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا، وأنها على الترتيب. فالإعتاق أولا، فإن لم يكن فالصيام، فإن لم يكن فالإطعام، هذا في الحر. واختلفوا في العبد يكفر بالعتق أو بالإطعام بعد اتفاقهم أن الذي يبدأ به الصيام أعني إذا عجز عن الصيام، فأجاز للعبد العتق إن أذن له سيده أبو ثور وداود وأبى ذلك سائر العلماء. وأما الإطعام فأجازه له مالك إن أطعم بإذن سيده، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، ومبنى الخلاف في هذه المسألة هل يملك العبد أو لا يملك؟. وأما اختلافهم في الشروط المصححة: فمنها اختلافهم إذا وطئ في صيام الشهرين هل عليه استئناف الصيام أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يستأنف الصيام، إلا أن أبا حنيفة شرط في ذلك العمد، ولم يفرق مالك بين العمد في ذلك والنسيان؛ وقال الشافعي: لا يستأنف على حال، وسبب الخلاف تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين والشرط الذي ورد في كفارة الظهار: أعني أن تكون قبل المسيس؛ فمن اعتبر هذا الشرط قال: يستأنف الصوم؛ ومن شبهه بكفارة اليمين قال: لا يستأنف، لأن الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق. ومنها هل من شرط الرقبة أن تكون مؤمنة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك شرط في الإجزاء؛ وقال أبو حنيفة: يجزي في ذلك رقبة الكافر، ولا يجزي عندهم إعتاق الوثنية والمرتدة. دليل الفريق الأول أنه إعتاق على وجه القربة فوجب أن تكون مسلمة أصله الإعتاق في كفارة القتل؛ وربما قالوا إن هذا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد، وذلك أنه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلقها في كفارة الظهار فيجب صرف المطلق إلى المقيد، وهذا النوع من حمل المطلق على المقيد فيه خلاف، والحنفية لا يجيزونه، وذلك أن الأسباب في القضيتين مختلفة.

وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد، فوجب عنده أن يحمل كل على لفظه. ومنها اختلافهم هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا؟ ثم إن كانت سليمة فمن أي العيوب تشترط سلامتها؟ فالذي عليه الجمهور أن للعيوب تأثيرا في منع إجزاء العتق؛ وذهب قوم إلى أنه ليس لها تأثير في ذلك. وحجة الجمهور تشبيهها بالأضاحي والهدايا لكون القربة تجمعها. وحجة الفريق الثاني إطلاق اللفظ في الآية. فسبب الخلاف معارضة الظاهر لقياس الشبه. والذين قالوا إن للعيوب تأثيرا في منع الإجزاء اختلفوا في عيب عيب مما يعتبر في الإجزاء أو عدمه. أما العمى وقطع اليدين أو الرجلين فلا خلاف عندهم في أنه مانع للإجزاء، واختلفوا فيما دون ذلك؛ فمنها هل يجوز قطع اليد الواحدة؟ أجازه أبو حنيفة، ومنعه مالك والشافعي. وأما الأعور فقال مالك: لا يجزي، وقال عبد الملك: يجزي. وأما قطع الأذنين فقال مالك: لا يجزي، وقال أصحاب الشافعي: يجزي. وأما الأصم فاختلف فيه في مذهب مالك، فقيل يجزي، وقيل لا يجزي. وأما الأخرس فلا يجزي عند مالك، وعن الشافعي في ذلك قولان. أما المجنون فلا يجزي، أما الخصي فقال ابن القاسم: لا يعجبني الخصي، وقال غيره: لا يجزي، وقال الشافعي: يجزي. وإعتاق الصغير جائز في قول عامة فقهاء الأمصار، وحكى عن بعض المتقدمين منعه، والعرج الخفيف في المذهب يجزي، أما العرج البين فلا. والسبب في اختلافهم: اختلافهم في قدر النقص المؤثر في القربة، وليس له أصل في الشرع إلا الضحايا. وكذلك لا يجزي في المذهب ما فيه شركة أو طرف حرية كالكتابة والتدبير لقوله تعالى {فتحرير رقبة} والتحرير هو إبداء الإعتاق، وإذا كان فيه عقد من عقود الحرية كالكتابة كان تنجيزا لا إعتاق، وكذلك الشركة لأن بعض الرقبة ليس برقبة. وقال أبو حنيفة: إن كان المكاتب أدى شيئا من مال الكتابة لم يجز، وإن كان لم يؤد جاز. واختلفوا هل يجزيه عتق مدبره؟ فقال مالك: لا يجزيه تشبيها بالكتابة لأنه عقد ليس له حله؛ وقال الشافعي: يجزيه؛ ولا يجزي عند مالك إعتاق أم ولده ولا المعتق إلى أجل مسمى. أما عتق أم الولد فلأن عقدها آكد من عقد الكتابة والتدبير، بدليل أنهما قد يطرأ عليهما الفسخ. أما في الكتابة فمن العجز عن أداء النجوم. وأما في التدبير فإذا ضاق عنه الثلث. وأما العتق إلى أجل فإنه عقد عتق لا سبيل إلى حله.

واختلف مالك والشافعي مع أبي حنيفة في إجزاء عتق من يعتق عليه بالنسب، فقال مالك والشافعي: لا يجزي عنه وقال أبو حنيفة: إذا نوى به عتقه عن ظهار أجزأ. فأبو حنيفة شبهه بالرقبة التي لا يجب عتقها، وذلك أن كل واحدة من الرقبتين غير واجب عليه شراؤها وبذل القيمة فيها على وجه العتق، فإذا نوى بذلك التكفير جاز؛ والمالكية والشافعية رأت أنه إذا اشترى من يعتق عليه عتق عليه من غير قصد إلى إعتاقه فلا يجزيه، فأبو حنيفة أقام القصد للشراء مقام العتق، وهؤلاء قالوا: لابد أن يكون قاصدا للعتق نفسه، فكلاهما يسمى معتقا باختياره، ولكن أحدهما معتق بالاختيار الأول، والآخر معتق بلازم الاختيار، فكأنه معتق على القصد الثاني ومشتر على القصد الأول، والآخر بالعكس. واختلف مالك والشافعي فيمن أعتق نصفي عبدين، فقال مالك: لا يجوز ذلك، وقال الشافعي: يجوز لأنه في معنى الواحد، ومالك تمسك بظاهر دلالة اللفظ، فهذا ما اختلفوا فيه من شروط الرقبة المعتقة.

وأما شروط الإطعام فإنهم اختلفوا من ذلك في القدر الذي يجزي لمسكين مسكين من الستين مسكينا الذين وقع عليهم النص، فعن مالك في ذلك روايتان أشهرهما أن ذلك مد بمد هشام لكل واحد، وذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل هو أقل، وقد قيل هو مد وثلث. وأما الرواية الثانية فمد مد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الشافعي. فوجه الرواية الأولى اعتبار الشبع غالبا: أعني الغذاء والعشاء، ووجه هذه الرواية الثانية اعتبار هذه الكفارة بكفارة اليمين، فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة.

وأما اختلافهم في مواضع تعددها ومواضع اتحادها، فمنها إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة هل يجزي ذلك في كفارة واحدة، أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة؟ فعند مالك أنه يجزي في ذلك كفارة واحدة، وعند الشافعي وأبي حنيفة أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن إن إثنتين فاثنتين، وإن ثلاثا فثلاثا، وإن أكثر فأكثر، فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة؛ ومن شبهه بالإيلاء أوجب فيه كفارة واحدة، وهو بالإيلاء أشبه. ومنها إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى هل عليه كفارة واحدة، أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها؟ فقال مالك: ليس عليه إلا كفارة واحدة، إلا أن يظاهر ثم يكفر ثم يظاهر فعليه كفارة ثانية، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لكل ظهار كفارة. وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة وعند أبي حنيفة أن ذلك راجع إلى نيته، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة، وإن أراد استئناف الظهار كان ما أراد ولزمه من الكفارات على عدد الظهار. وقال يحيى بن سعيد: تلزم الكفارة على عدد الظهار سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس شتى.

والسبب في هذا الاختلاف أن الظهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد، والمتعدد بلا خلاف هو الذي يكون بلفظتين من امرأتين في وقتين، فإن كرر اللفظ من امرأة واحدة، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظهار، أم لا يوجب ذلك فيه تعددا؟ وكذلك إن كان اللفظ واحد والمظاهر منها أكثر من واحدة؟ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين؛ فمن غلب عليه شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه؛ ومن غلب عليه شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه. ومنها إذا ظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا؟ فأكثر فقهاء الأمصار ومالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد أن في ذلك كفارة واحدة، والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي "أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا" وقال قوم: عليه كفارتان: كفارة العزم على الوطء، وكفارة الوطء، لأنه وطئ وطأ محرما، وهو مروي عن عمرو ابن العاص وقبيصة بن ذؤيب وسعيد بن جبير وابن شهاب؛ وقد قيل: إنه لا يلزمه شيء لا عن العود ولا عن الوطء، لأن الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس، فإذا مس فقد خرج وقتها فلا تجب إلا بأمر مجدد، وذلك معلوم في مسئلتنا وفيه شذوذ. وقال أبو محمد بن حزم: من كان فرضه الإطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الإطعام، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام.

*2*كتاب اللعان

@-والقول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه: الفصل الأول: في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها. الفصل الثاني: في صفات المتلاعنين. الثالث: في صفة اللعان. الرابع: في حكم نكول أحدهما أو رجوعه. الخامس: في الأحكام اللازمة لتمام اللعان.

@-فأما الأصل في وجوب اللعان، أما من الكتاب فقوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية. وأما من السنة فما رواه مالك وغيره من مخرجي الصحيح من حديث عويمر العجلاني "إذ جاء إلى عاصم بن عدي العجلاني رجل من قومه فقال له: يا عاصم أرايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟ سل يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم؟ إلى أهله جاء عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألت عنها، فقال: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، وقال مهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال مالك: قال ابن شهاب: فلم تزل تلك سنة المتلاعنين. وأيضا من جهة المعنى لما كان الفراش موجبا للحوق النسب كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده وتلك الطريق هي اللعان، فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والإجماع، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه، فهذا هو القول في إثبات حكمه.

*3*الفصل الأول في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها.

@-وأما صور الدعاوي التي يجب بها اللعان فهي أولا صورتان: إحداهما دعوى الزنى، والثانية نفي الحمل. ودعوى الزنى لا يخلو أن تكون مشاهدة: أعني أن يدعي أنه شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنى، وأن تكون دعوى مطلقة. وإذا نفي الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا، أو يزعم أنه لم يقربها بعد استبرائها، فهذه أربعة أحوال بسائط، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه، مثل أن يرميها بالزنى وينفي الحمل، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنى. فأما وجوب اللعان بالقذف بالزنا إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه، قالت المالكية: إذا زعم أنه لم يطأها بعد؛ وأما وجوب اللعان بمجرد القذف، فالجمهور على جوازه الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وداود وغيرهم. وأما المشهور عن مالك، فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف، وقد قال ابن القاسم أيضا إنه يجوز، وهي أيضا رواية عن مالك. وحجة الجمهور عموم قوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم} الآية. ولم يخص في الزنى صفة دون صفة، كما قال في إيجاب حد القذف. وحجة مالك ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك. منها قوله في حديث سعد "أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا" وحديث ابن عباس، وفيه "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه، فنزلت {والذين يرمون أزواجهم} الآية" وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة. وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول مالك، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما سقوط الحمل عنه، والأخرى لحوقه به. واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنى أن تكون في العصمة. واختلفوا فيمن قذف زوجته بدعوى الزنى ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا؟ فقال مالك والشافعي والأوزاعي وجماعة: بينهما لعان؛ وقال أبو حنيفة: لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد؛ وقال مكحول والحكم وقتادة يحد ولا يلاعن. وأما إن نفي الحمل فإنه كما قلنا على وجهين: أحدهما أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلف قول مالك في الاستبراء، فقال مرة: ثلاث حيض، وقال مرة: حيضة. وأما نفيه مطلقا، فالمشهور عن مالك أنه لا يجب بذلك لعان.

وخالفه في هذا الشافعي وأحمد وداود، وقالوا: لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم؛ وحكى عبد الوهاب عن أصحاب الشافعي أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف. واختلفوا من هذا الباب في فرع، وهو وقت نفي الحمل فقال الجمهور: ينفيه وهي حامل، وشرط مالك أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان؛ وقال الشافعي: إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد الولادة؛ وقال أبو حنيفة: لا ينفي الولد حتى تضع وحجة مالك ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث ابن عباس وابن مسعود وأنس وسهل بن سعد "أن النبي عليه الصلاة والسلام حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال: إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها" قالوا: وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان. وحجة أبي حنيفة أن الحمل قد ينفش ويضمحل، فلا وجه للعان إلا على يقين. ومن حجة الجمهور أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة: كالنفقة والعدة ومنع الوطء، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك، وعند أبي حنيفة أنه يلاعن وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة، وكذلك ما قرب من الولادة ولم يوقت في ذلك وقتا، ووقتا صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة؛ والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أنه له نفيه في وقت العصمة، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق، فذهب مالك إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده وذلك نحو من أربع سنين عنده أو خمس سنين، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له، وبقريب من هذا المعنى قال الشافعي وقال قوم: ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط، وإن نفاه في غير العدة حده وألحق به الولد، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك، فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك، وهي التسعة أشهر وما قاربها،

ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر: أعني أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو بإمكانه، لامن وقت العقد، وشذ أبو حنيفة فقال من وقت العقد وإن علم أن الدخول غير ممكن حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان، وهو في هذه المسألة ظاهري محض، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة، وهذا شيء ضعيف. واختلف قول مالك من هذا الباب في فرع، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل فعنه في ذلك ثلاث روايات: إحداها أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن. والثانية أنه يلاعن وينفي الولد. والثالثة أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه. وسبب الخلاف هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنى؟ واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع، وهو إذا أقام الشهود على الزنى هل له يلاعن أم لا؟ فقال أبو حنيفة وداود: لا يلاعن، لأن اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية. وقال مالك والشافعي: يلاعن، لأن الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش.

*3*الفصل الثاني في صفات المتلاعنين.

@-وأما صفة المتلاعنين، فإن قوما قالوا: يجوز اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما حر والآخر عبد محدودين كانا أو عدلين أو أحدهما، مسلمين كانا أو كان الزوج مسلما والزوجة كتابية، ولا لعان بين كافرين إلا أن يترافعا إلينا، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين. وبالجملة فاللعان عندهم إنما يجوز لمن كان من أهل الشهادة. وحجة أصحاب القول الأول عموم قوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} ولم يشترط في ذلك شرطا. ومعتمد الحنفية أن اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة، إذ قد سماهم الله شهداء لقوله {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} ويقولون إنه لا يكون لعان إلا بين من يجب عليه الحد في القذف الواقع بينهما. وقد اتفقوا على أن العبد لا يحد بقذفه، وكذلك الكافر، فشبهوا من يجب عليه اللعان بمن يجب في قذفه الحد، إذ كان اللعان إنما وضع لدرء الحد مع نفي النسب، وربما احتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا لعان بين أربعة: العبدين، والكافرين" والجمهور يرون أنه يمين وإن كان يسمى شهادة، فإن أحدا لا يشهد لنفسه، وأما أن الشهادة قد يعبر عنها باليمين فذلك بين في قوله تعالى {إذا جاءك المنافقون قالوا} الآية، ثم قال {اتخذوا أيمانهم جنة} وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، واختلفوا في الأخرس، فقال مالك والشافعي يلاعن الأخرس إذا فهم عنه، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة، وأجمعوا على أن من شرطه العقل والبلوغ.

*3*الفصل الثالث في صفة اللعان.

@-فأما صفة اللعان فمتقاربة عند جمهور العلماء، وليس بينهم في ذلك كبير خلاف، وذلك على ظاهر ما تقتضيه ألفاظ الآية، فيحلف الزوج أربع شهادات بالله لقد رأيتها تزني وأن ذلك الحمل ليس مني، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي أربع شهادات بنقيض ما شهد هو به ثم تخمس بالغضب، هذا كله متفق عليه. واختلف الناس هل يجوز أن يبدل مكان اللعنة الغضب، ومكان الغضب اللعنة، ومكان أشهد أقسم، ومكان قوله بالله غيره من أسمائه؟ والجمهور على أنه لا يجوز من ذلك إلا ما نص عليه من هذه الألفاظ أصله عدد الشهادات، وأجمعوا على أن من شرط صحته أن يكون بحكم حاكم.

*3*الفصل الرابع في حكم نكول أحدهما أو رجوعه.

@-فأما إذا نكل الزوج فقال الجمهور: إنه يحد، وقال أبو حنيفة: إنه لا يحد ويحبس. وحجة الجمهور عموم قوله تعالى {والذين يرمون المحصنات} الآية، وهذا عام في الأجنبي والزوج، وقد جعل الالتعان للزوج مقام الشهود، فوجب إذا نكل أن يكون بمنزلة من قذف ولم يكن له شهود: أعني أنه يحد، وما جاء أيضا من حديث ابن عمرو وغيره في قصة العجلاني من قوله عليه الصلاة والسلام "إن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ". واحتج الفريق الثاني بأن آية اللعان لم تتضمن إيجاب الحد عليه عند النكول والتعريض لأيجابه زيادة في النص، والزيادة عندهم نسخ، والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بأخبار الآحاد، قالوا: وأيضا لو وجب الحد لم ينفعه الالتعان ولا كان له تأثير في إسقاطه، لأن الالتعان يمين فلم يسقط به الحد عن الأجنبي، فكذلك الزوج، والحق أن الالتعان يمين مخصوصة، فوجب أن يكون لها حكم مخصوص، وقد نص على المرأة أن اليمين يدرأ عنها العذاب، فالكلام فيما هو العذاب الذي يندرئ عنها باليمين، وللاشتراك الذي في اسم العذاب اختلفوا أيضا في الواجب عليها إذا نكلت، فقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور: إنها تحد وحدها الرجم إن كان دخل بها ووجدت فيها شروط الإحصان، وإن لم يكن دخل بها فالجلد. وقال أبو حنيفة إذا نكلت وجب عليها الحبس حتى تلاعن، وحجته قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس" وأيضا فإن سفك الدم بالنكول حكم ترده الأصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول فكان بالحري أن لا يجب بذلك سفك الدماء. وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف، ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله. وقد اعترف أبو المعالي في كتابه البرهان بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي. واتفقوا على أنه إذا أكذب نفسه حد وألحق به الولد إن كان نفى ولدا. واختلفوا هل له أن يراجعها بعد اتفاق جمهورهم على أن الفرقة تجب باللعان، إما بنفسه وإما بحكم حاكم على ما نقوله بعد؛ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وأحمد وجمهور فقهاء الأمصار إنهما لا يجتمعان أبدا وإن أكذب نفسه؛ وقال أبو حنيفة وجماعة: إذا أكذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب؛ وقد قال قوم: ترد إليه امرأته. وحجة الفريق الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا سبيل لك عليها" ولم يستثن فأطلق التحريم. وحجة الفريق الثاني أنه إذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب، فإذا انكشف ارتفع التحريم.

*3*الفصل الخامس في الأحكام اللازمة لتمام اللعان.

@-فأما موجبات اللعان، فإن العلماء اختلفوا من ذلك في مسائل: منها هل تجب الفرقة أم لا؟ وإن وجبت فمتى تجب؟ وهل تجب بنفس اللعان أم بحكم حاكم؟ وإذا وقعت فهل هي طلاق أو فسخ؟ فذهب الجمهور إلى أن الفرقة تقع باللعان لما اشتهر من ذلك في أحاديث اللعان "من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بينهما" وقال ابن شهاب فيما رواه مالك عنه: فكانت تلك سنة المتلاعنين، ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا سبيل لك عليها" وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة: لا يعقب اللعان فرقة، واحتجوا بأن ذلك حكم لم تتضمنه آية اللعان، ولا هو صريح في الأحاديث، لأن في الحديث المشهور أنه طلقها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليه. وأيضا فإن اللعان إنما شرع لدرء حد القذف، فلم يوجب تحريما تشبيها بالبينة. وحجة الجمهور أنه قد وقع بينهما من التقاطع والتباغض والتهاتر وإبطال حدود الله ما أوجب أن لا يجتمعا بعدها أبدا، وذلك أن الزوجية مبناها على المودة والرحمة وهؤلاء قد عدموا ذلك كل العدم، ولا أقل من أن تكون عقوبتهما الفرقة. وبالجملة فالقبح الذي بينهما غاية القبح. وأما متى تقع الفرقة فقال مالك والليث وجماعة: إنها تقع إذا فرغا جميعا من اللعان. وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج لعانه وقعت الفرقة. وقال أبو حنيفة: لا تقع إلا بحكم حاكم، وبه قال الثوري وأحمد. وحجة مالك على الشافعي حديث ابن عمر قال "فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وقال: حسابكما على الله، أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها" وما روي أنه لم يفرق بينهما إلا بعد تمام اللعان. وحجة الشافعي أن لعانها إنما تدرء به الحد عن نفسها فقط، ولعان الرجل هو المؤثر في نفي النسب، فوجب إن كان للعان تأثير في الفرقة أن يكون لعان الرجل تشبيها بالطلاق. وحجتهما جميعا على أبي حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهما بوقوع الفرقة عند وقوع اللعان منهما، فدل ذلك على أن اللعان هو سبب الفرقة. وأما أبو حنيفة فيرى أن الفراق إنما نفذ بينهما بحكمه وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك حين قال "لا سبيل لك عليها" فرأى أن حكمه شرط في وقوع الفرقة كما أن حكمه شرط في صحة اللعان. فسبب الخلاف بين من رأى أنه تقع به الفرقة، وبين من لم ير ذلك أن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ليس هو بينا في الحديث المشهور، لأنه بادر بنفسه فطلق قبل أن يخبره بوجوب الفرقة، والأصل أن لا فرقة إلا بطلاق، وأنه ليس في الشرع تحريم يتأبد: أعني متفقا عليه، فمن غلب هذا الأصل على المفهوم لاحتماله نفي وجوب الفرقة (هكذا الأصول، ولعل فيه سقطا هكذا: ومن قال بالمفهوم قال بإيجابها، تأمل ا هـ مصححه). قال بإيجابها. وأما سبب اختلاف من اشترط حكم الحاكم أو لم يشترطه فتردد هذا الحكم بين أن يغلب عليه شبه الأحكام التي يشترط في صحتها حكم الحاكم أو التي لا يشترط ذلك فيها. وأما المسألة الرابعة، وهي إذا قلنا إن الفرقة تقع فهل ذلك فسخ أو طلاق، فإن القائلين بالفرقة اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: هو فسخ، وقال أبو حنيفة: هو طلاق بائن. وحجة مالك تأبيد التحريم به فأشبه ذات المحرم.

وأما أبو حنيفة فشبهها بالطلاق قياسا على فرقة العنين إذ كانت عنده بحكم حاكم.

*2*كتاب الإحداد.

@-أجمع المسلمون على أن الإحداد واجب على النساء الحرائر المسلمات في عدة الوفاة إلا الحسن وحده. واختلفوا فيما سوى ذلك من الزوجات وفيما سوى عدة الوفاة، وفيما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع، فقال مالك: الإحداد على المسلمة والكتابية والصغيرة والكبيرة. وأما الأمة يموت عنها سيدها سواء كانت أم ولد أم لم تكن فلا إحداد عليها عنده، وبه قال فقهاء الأمصار، وخالف قول مالك المشهور في الكتابية ابن نافع وأشهب، وروياه عن مالك، وبه قال الشافعي: أعني أنه لا إحداد على الكتابية؛ وقال أبو حنيفة: ليس على الصغيرة ولا على الكتابية إحداد؛ وقال قوم: ليس على الأمة المزوجة إحداد، وقد حكي ذلك عن أبي حنيفة، فهذا هو اختلافهم المشهور فيمن عليه إحداد من أصناف الزوجات ممن ليس عليه إحداد. وأما اختلافهم من قبل العدد فإن مالكا قال: لا إحداد إلا في عدة الوفاة. وقال أبو حنيفة والثوري: الإحداد في العدة من الطلاق البائن واجب؛ وأما الشافعي فاستحسنه للمطلقة ولم يوجبه. وأما الفصل الثالث وهو ما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع عنه، فإنها تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية للرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل إلا ما لم تكن فيه زينة ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد، فإنه لم يكره مالك لها لبس السواد، ورخص كلهم في الكحل عند الضرورة، فبعضهم اشترط فيه ما لم يكن فيه زينة، وبعضهم لم يشترطه، وبعضهم اشترط جعله بالليل دون النهار. وبالجملة فأقاويل الفقهاء فيما تجتنب الحادة متقاربة، وذلك ما يحرك الرجال بالجملة إليهن. وإنما صار الجمهور لإيجاب الإحداد في الجملة لثبوت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها حديث أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها أفتكتحلهما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لها لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول" وقال أبو محمد: فعلى هذا الحديث يجب التعويل على القول بإيجاب الإحداد. وأما حديث أم حبيبة حين دعت بالطيب فمسحت به عارضيها، ثم قالت: والله مالي به من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" فليس فيه حجة، لأنه استثناء من حظر فهو يقتضي الإباحة دون الإيجاب. وكذلك حديث زينب بنت جحش. قال القاضي: وفي الأمر إذا ورد بعد الحظر خلاف بين المتكلمين: أعني هل يقتضي الوجوب أو الإباحة. وسبب الخلاف بين من أوجبه على المسلمة دون الكافرة أن من رأى أن الإحداد عبادة لم يلزمه الكافرة؛ ومن رأى أنه معنى معقول، وهو تشوف الرجال إليها وهي إلى الرجال، سوى بين الكافرة والمسلمة؛ ومن راعى تشوف الرجال دون تشوف النساء فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا كانت الصغيرة لا يتشوف الرجال إليها. ومن حجة من أوجبه على المسلمات دون الكافرات قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج" قال: وشرطه الإيمان في الإحداد يقتضي أنه عبادة. وأما من فرق بين الأمة والحرة وكذلك الكتابية، فلأنه زعم أن عدة الوفاة أوجبت شيئين باتفاق: أحدهما الإحداد، والثاني ترك الخروج، فلما سقط ترك الخروج عن الأمة بتبذلها والحاجة إلى استخدامها سقط عنها منع الزينة. وأما اختلافهم في المكاتبة فمن قبل ترددها بين الحرة والأمة. وأما الأمة بملك اليمين وأم الولد، فإنما صار الجمهور إلى إسقاط الإحداد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج" فعلم بدليل الخطاب أن من عدا ذات الزوج لا يجب عليها إحداد ومن أوجبه على المتوفي عنها زوجها دون المطلقة فتعلق بالظاهر المنطوق به، ومن ألحق المطلقات بهن فمن طريق المعنى، وذلك أنه يظهر من معنى الإحداد أن المقصود به أن لا تتشوف إليها الرجال في العدة ولا تتشوف هي إليهم، وذلك سدا للذريعة لمكان حفظ الأنساب، والله أعلم. كمل كتاب الطلاق والحمد لله على آلائه، والشكر على نعمه؛ ويتلوه كتاب البيوع إن شاء الله تعالى.

*2*كتاب البيوع.

@-الكلام في البيوع ينحصر في خمس جمل: في معرفة أنواعها. وفي معرفة شروط الصحة في واحد واحد منها. وفي معرفة شروط الفساد. وفي معرفة أحكام البيوع الصحيحة. وفي معرفة أحكام البيوع الفاسدة. فنحن نذكر أنواع البيوع المطلقة، ثم نذكر شروط الفساد والصحة في واحد واحد منها، وأحكام بيوع الصحة، وأحكام البيوع الفاسدة. ولما كانت أسباب الفساد والصحة في البيوع منها عامة لجميع أنواع البيوع أو لأكثرها ومنها خاصة، وكذلك الأمر في أحكام الصحة والفساد اقتضى النظر الصناعي أن نذكر المشترك من هذه الأصناف الأربعة: أعني العام من أسباب الفساد وأسباب الصحة وأحكام الصحة وأحكام الفساد لجميع البيوع، ثم نذكر الخاص من هذه الأربعة بواحد واحد من البيوع، فينقسم هذا الكتاب باضطرار إلى ستة أجزاء: الجزء الأول: تعرف فيه أنواع البيوع المطلقة. والثاني: تعرف فيه أسباب الفساد العامة في البيوع المطلقة أيضا: أعني في كلها أو أكثرها إذ كانت أعرف من أسباب الصحة. الثالث: تعرف فيه أسباب الصحة في البيوع المطلقة أيضا. الرابع: نذكر فيه أحكام البيوع الصحيحة، أعني الأحكام المشتركة لكل البيوع الصحيحة أو لأكثرها. الخامس: نذكر فيه أحكام البيوع الفاسدة المشتركة: أعني إذا وقعت. السادس: نذكر فيه نوعا نوعا من البيوع بما يخصه من الصحة والفساد وأحكامها.

@-(الجزء الأول) إن كل معاملة وجدت بين اثنين، فلا يخلو أن تكون عينا بعين، أو عينا بشيء في الذمة، أو ذمة بذمة، وكل واحد من هذه الثلاث إما نسيئة وإما ناجز، وكل واحد من هذه أيضا إما ناجز من الطرفين وإما نسيئة من الطرفين، وإما ناجز من الطرف الواحد نسيئة من الطرف الآخر، فتكون كل أنواع البيوع تسعة. فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة، لأنه الدين بالدين المنهى عنه. وأسماء هذه البيوع منها ما يكون من قبل صفة العقد وحال العقد؛ ومنها ما يكون من قبل صفة العين المبيعة، وذلك أنها إذا كانت عينا بعين فلا تخلو أن تكون ثمنا بمثمون أو ثمنا بثمن، فإن كانت ثمنا بثمن سمى صرفا، وإن كانت ثمنا بمثمون سمي بيعا مطلقا وكذلك مثمونا بمثمون على الشروط التي تقال بعد، وإن كان عينا بذمة سمي سلما، وإن كان على الخيار سمي بيع خيار، وإن كان على المرابحة سمي بيع مرابحة، وإن كان على المزايدة سمي بيع مزايدة.

@-(الجزء الثاني) وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين المبيع. والثاني الربا. والثالث الغرر. والرابع الشروط التي تئول إلى أحد هذين أو لمجموعهما. وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع لا لأمر من خارج. وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج؛ فمنها الغش؛ ومنها الضرر؛ ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه؛ ومنها لأنها محرمة البيع. ففي هذا الجزء أبواب:

*3*الباب الأول في الأعيان المحرمة البيع.

@-وهذه على ضربين: نجاسات، وغير نجاسات. فأما بيع النجاسات فالأصل في تحريمها حديث جابر، ثبت في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها؟ فقال: لعن الله اليهود حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها" وقال في الخمر "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" والنجاسات على ضربين: ضرب اتفق المسلمون على تحريم بيعها وهي الخمر وأنها نجسة، إلا خلافا شاذا في الخمر: أعني في كونها نجسة، والميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تقبل الحياة. واختلف في الانتفاع بشعره، فأجازه ابن القاسم ومنه أصبغ. وأما القسم الثاني وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها كالرجيع والزبل الذي يتخذ في البساتين، فاختلف في بيعها في المذهب فقيل بمنعها مطلقا، وقيل بإجازتها مطلقا، وقيل بالفرق بين العذرة والزبل: أعني إباحة الزبل ومنع العذرة. واختلفوا فيما يتخذ من أنياب الفيل لاختلافهم هل هو نجس أم لا؟ فمن رأى أنه ناب جعله ميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن، والخلاف فيه في المذهب. وأما ما حرم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته، فمنها الكلب والسنور. أما الكلب فاختلفوا في بيعه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب أصلا. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. وفرق أصحاب مالك بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه وبين ما لا يجوز اتخاذه، فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به وإمساكه. فأما من أراده للأكل فاختلفوا فيه، فمن أجاز أكله أجاز بيعه، ومن لم يجزه على رواية ابن حبيب لم يجز بيعه. واختلفوا أيضا في المأذون في اتخاذه، فقيل هو حرام، وقيل مكروه. فأما الشافعي فعمدته شيئان: أحدهما ثبوت النهي الوارد عن ثمن الكلب عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني أن الكلب عنده نجس العين كالخنزير، وقد ذكرنا دليله في ذلك في كتاب الطهارة. وأما من أجاز فعمدته أنه طاهر العين غير محرم الأكل، فجاز بيعه كالأشياء الطاهرة العين، وقد تقدم أيضا في كتاب الطهارة استدلال من رأى أنه طاهر العين، وفي كتاب الأطعمة استدلال من رأى أنه حلال. ومن فرق أيضا فعمدته أنه غير مباح للأكل ولا مباح الانتفاع به، إلا ما استثناه الحديث من كلب الماشية أو كلب الزرع وما في معناه، ورويت أحاديث غير مشهورة اقترن فيها بالنهي من ثمن الكلب استثناء أثمان الكلاب المباحة الاتخاذ. وأما النهي عن ثمن السنور فثابت، ولكن الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح المنافع. فسبب اختلافهم في الكلاب تعارض الأدلة. ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الزيت النجس وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فقال مالك: لا يجوز بيع الزيت النجس، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: يجوز إذا بين، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وحجة من حرمه حديث جابر المتقدم "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: إن الله ورسوله حرما الخمر والميتة والخنزير". وعمدة من أجازه: أنه إذا كان في الشيء أكثر من منفعة واحدة وحرم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المحرمة كالحاجة إلى المحرمة، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير وبقيت سائر محرمات الأكل على الإباحة: أعني أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا جاز، ورووا عن علي وابن عباس وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس ليستصبح به، وفي مذهب مالك جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه، وأجاز ذلك الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه، وهذا كله ضعيف، وقد قيل إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به وهو ألزم للأصل: أعني لتحريم البيع. واختلف أيضا في المذهب في غسله وطبخه هل هو مؤثر في عين النجاسة ومزيل لها على قولين: أحدهما جواز ذلك، والآخر منعه، وهما مبنيان على أن الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فمن رآه نجاسة مجاورة طهره عند الغسل والطبخ، ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عند الطبخ والغسل. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدمية إذا حلب، فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه. وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه فأبيح بيعه قياسا على لبن سائر الأنعام، وأبو حنيفة يرى تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه أصله لبن الخنزير والأتان فسبب اختلافهم في هذا الباب تعارض أقيسة الشبه، وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما نذكر من المسائل في كل باب مشهور ليجري ذلك مجرى الأصول.

*3*الباب الثاني في بيوع الربا.

@-واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك. فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع "ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، والثاني "ضع وتعجل" وهو مختلف فيه وسنذكره فيما بعد: وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة وتفاضل، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا قي التفاضل لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا ربا إلا في النسيئة وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. والكلام في الربا ينحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النَّساء، وتبين علة ذلك. الثاني: معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء. الثالث: في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا. الرابع: في معرفة ما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا.

*4*الفصل الأول. في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء وتبيين علة ذلك. فنقول:

@-أجمع العلماء على أن التفاضل والنَّساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى" فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان.

وأما منع النَّسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء" فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النَّساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة "وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد" وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير.

واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا: إن النَّساء ممتنع في هذه الستة أيضا فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه: أعني امتناع النَّساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة.

فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص.

وأما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام.

واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف: أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النَّساء فيها.

فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما في الأربعة، فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار.

وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة، لأنها غير موجودة عندهم في غير الذهب والفضة.

وأما علة منع النَّساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة: أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النَّساء.

أما جواز التفاضل، فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد.

وأما منع النَّساء فيها فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا إن الطعم بإطلاق علة لمنع النَّساء في المطعومات.

وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد.

وأما علة النَّساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك.

وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النَّساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النَّساء، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل والنَّساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم، فنقول: إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع: أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين.

وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى، إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة، لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء: أعني من القائسين دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة.

وأما الشافعية فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فلما علق الحكم بالإسم المشتق وهو السارق علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة.

قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء من حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم.

وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الإدخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الإدخار والإقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود هو الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة أصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على مافي معناه، وهي كلها يجمعها الإقتيات والإدخار.

أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات.

وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره "إلا كيلا بكيل يدا بيد" رأوا أن التقدير أعني الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن.

منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنه المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها: وكذلك المكيال والميزان، هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمرمن طريق المعنى ظهر {والله أعلم} أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها: أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات: أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء لآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعصها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل.

وأما الأشياء المكيلة والموزونة، فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء أعني المكيلة والموزونة علتان: إحداهما وجود العدل فيها، والثاني منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف.

وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية.

روى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا.

وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الإنتفاع مطلقا????????

: أعني المالية، وهو مذهب ابن الماجشون.

*4*الفصل الثاني. في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء.

@-فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي. وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات. وأما أبو حنيفة فعلة منع النَّساء عنده هو الكيل في الربويات وفي غير الربويات الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه، لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة.

*4*الفصل الثالث في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا.

@-وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا: أعني التفاضل والنَّساء، فما لم يكن ربويا عند الشافعي. وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في الربويات، وفي النَّساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين، وإن كان الاسم واحدا، وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان الشافعي ليس الصنف عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط: أعني أنه يمنع التفاضل فيه، وليس هو عنده علة للنَّساء أصلا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث. فأما الأشياء التي لا تجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل. فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة مطعومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة. وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة. فأما المطعومة فالنَّساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم؛ وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النَّساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه؛ وقد قيل إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا؛ وقيل يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر؛ وقد قيل يعتبر. وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النَّساء ما عدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل هو اتفاق الصنف اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة وإن اختلفت منافعها. وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النَّساء، فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو بن العاص "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة" قالوا فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النَّساء. وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان" قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة. وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النَّساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو يحرم، وقد قيل عنه إنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين إنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلف الجنس أو اتفق على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له، لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع، فحمل حديث سمرة على اتفاق الأغراض، وحديث عمرو بن العاص على اختلافها، وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي، ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحيوان اثنان بواحد، لا يصلح النَّساء ولا بأس به يدا بيد" وقال ابن المنذر: ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس" وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه لا من قبل سد ذريعة. واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نَّساء، هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تبيعوا منها غائبا بناجز" فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل.

*4*الفصل الرابع في معرفة ما يعد صنفا واحدا، وما لا يعد صنفا واحدا.

@-واختلفوا من هذا الباب فيما يعد صنفا واحدا وهو المؤثر في التفاضل مما لا يعد صنفا واحدا في مسائل كثيرة، لكن نذكر منها أشهرها، وكذلك اختلفوا في صفات الصنف الواحد المؤثر في التفاضل، هل من شرطه أن لا يختلف بالجودة والرداءة، ولا باليبس والرطوبة؟ فأما اختلافهم فيما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا، فمن ذلك القمح والشعير، صار قوتا إلى أنهما صنف واحد، وصار آخرون إلى أنهما صنفان، فبالأول قال مالك والأوزاعي، وحكاه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب؛ وبالثاني قال الشافعي وأبو حنيفة، وعمدتهما السماع والقياس. أما السماع فقوله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا البر بالبر والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل" فجعلهما صنفين، وأيضا فإن في بعض طرق حديث عبادة بن الصامت "وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والبر بالشعير كيف شئتم، والملح بالتمر كيف شئتم يدا بيد" ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري، وصحح هذه الزيادة الترمذي. وأما القياس فلأنهما اختلفت أسماؤهما ومنافعهما، فوجب أن يكونا يكونا صنفين، أصله الفضة والذهب وسائر الأشياء المختلفة في الاسم والمنفعة. وأما عمدة مالك فإنه عمل سلفه بالمدينة. وأما أصحابه فاعتمدوا في ذلك أيضا السماع والقياس. أما السماع فما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "الطعام بالطعام مثلا بمثل" فقالوا: اسم الطعام يتناول البر والشعير وهذا ضعيف، فإن هذا عام يفسره الأحاديث الصحيحة. وأما من طريق القياس فإنهم عددوا كثيرا من اتفاقهما في المنافع، والمتفقة المنافع لا يجوز التفاضل فيها باتفاق، والسلت عند مالك والشعير صنف واحد، وأما القطية فإنها عنده صنف واحد في الزكاة، وعنه في البيوع روايتان: إحداهما أنها صنف واحد، والأخرى أنها أصناف. وسبب الخلاف تعارض اتفاق المنافع فيها واختلافها، فمن غلب الاتفاق قال: صنف واحد، ومن غلب الاختلاف قال: صنفان أو أصناف، والأرز والدخن والجاورس عنده صنف واحد.

@-(مسألة) واختلفوا من هذا الباب في الصنف الواحد من اللحم الذي لا يجوز فيه التفاضل، فقال مالك: اللحوم ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم ذوات الماء صنف، ولحم الطير كله صنف واحد أيضا، وهذه الثلاثة الأصناف مختلفة يجوز فيها التفاضل. وقال أبو حنيفة: كل واحد من هذه هو أنواع كثيرة، والتفاضل فيه جائز إلا في النوع الواحد بعينه. وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول أبي حنيفة، والآخر أن جميعها صنف واحد. وأبو حنيفة يجيز لحم الغنم بالبقر متفاضلا، ومالك لا يجيزه، والشافعي لا يجيز بيع لحم الطير بلحم الغنم متفاضلا، ومالك يجيزه. وعمدة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام "الطعام بالطعام مثلا بمثل" ولأنها إذا فارقتها الحياة زالت الصفات التي كانت بها تختلف، ويتناولها اسم اللحم تناولا واحدا. وعمدة المالكية أن هذه الأجناس مختلفة، فوجب أن يكون لحمها مختلفا. والحنفية تعتبر الاختلاف الذي في الجنس الواحد من هذه وتقول: إن الاختلاف الذي بين الأنواع التي في الحيوان، أعني في الجنس الواحد منه كأنك قلت الطائر هو وزان الاختلاف الذي بين التمر والبر والشعير. وبالجملة فكل طائفة تدعي أن وزان الاختلاف الذي بين الأشياء المنصوص عليها الذي تراه في اللحم، والحنفية أقوى من جهة المعنى، لأن تحريم التفاضل إنما هو عند اتفاق المنفعة.

@-(مسألة) واختلفوا من هذا الباب في بيع الحيوان بالميت على ثلاثة أقوال: قول إنه لا يجوز بإطلاق، وهو قول الشافعي والليث؛ وقول إنه يجوز في الأجناس المختلفة التي يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز ذلك في المتفقة: أعني الربوية لمكان الجهل الذي فيها من طريق التفاضل، وذلك في التي المقصود منها الأكل، وهو قول مالك، فلا يجوز شاة مذبوحة بشاة تراد للأكل، وذلك عنده في الحيوان المأكول، حتى أنه لا يجيز الحي بالحي إذا كان المقصود الأكل من أحدهما، فهي عنده من هذا الباب، أعني أن امتناع ذلك عنده من جهة الربا والمزابنة؛ وقول ثالث إنه يجوز مطلقا، وبه قال أبو حنيفة. وسبب الخلاف معارضة الأصول في هذا الباب لمرسل سعيد بن المسيب، وذلك أن مالكا روى عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم" فمن لم تنقدح عنده معارضة هذا الحديث لأصل من أصول البيوع التي توجب التحريم قال به. ومن رأى أن الأصول معارضة له وجب عليه أحد أمرين: إما أن يغلب الحديث فيجعله أصلا زائدا بنفسه أو يرده لمكان معارضة الأصول له. فالشافعي غلب الحديث وأبو حنيفة غلب الأصول، ومالك رده إلى أصوله في البيوع، فجعل البيع فيه من باب الربا، أعني بيع الشيء الربوي بأصله، مثل بيع الزيت بالزيتون وسيأتي الكلام على هذا الأصل، فإنه الذي يعرفه الفقهاء بالمزابنة، وهي داخلة في الربا بجهة، وفي الغرر بجهة، وذلك أنها ممنوعة في الربويات من جهة الربا والغرر، وفي غير الربويات من جهة الغرر فقط الذي سببه الجهل بالخارج عن الأصل.

@-(مسألة) ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الدقيق بالحنطة مثلا بمثل، فالأشهر عن مالك جوازه، وهو قول مالك في موطئه، وروي عنه أنه لا يجوز، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وابن الماجشون من أصحاب مالك؛ وقال بعض أصحاب مالك: ليس هو اختلافا من قوله، وإنما رواية المنع إذا كان اعتبار المثلية بالكيل، لأن الطعام إذا صار دقيقا اختلف كيله، ورواية الجواز إذا كان الاعتبار بالوزن. وأما أبو حنيفة فالمنع عنده في ذلك من قبل أن أحدهما مكيل والآخر موزون. ومالك يعتبر الكيل أو الوزن فيما جرت العادة أن يكال أو يوزن، والعدد فيما لا يكال ولا يوزن. واختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة مما أصله منع الربا فيه مثل الخبز بالخبز، فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع ذلك متفاضلا ومتماثلا، لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا، وقال الشافعي: لا يجوز متماثلا فضلا عن متفاضل، لأنه قد غيرته الصنعة تغيرا جهلت به مقاديره التي تعتبر فيها المماثلة. وأما مالك فالأشهر في الخبز عنده أنه يجوز متماثلا، وقد قيل فيه أنه يجوز فيه التفاضل والتساوي. وأما العجين بالعجين فجائز عنده مع المماثلة. وسبب الخلاف هل الصنعة تنقله من جنس الربويات أو ليس تنقله، وإن لم تنقله فهل تمكن المماثلة فيه أو لا تمكن؟ فقال أبو حنيفة: تنقله، وقال مالك والشافعي: لا تنقله. واختلفوا في إمكان المماثلة فيهما، فكان مالك يجيز اعتبار المماثلة في الخبز واللحم بالتقدير والحزر فضلا عن الوزن. وأما إذا كان أحد الربويين لم تدخله صنعة والآخر قد دخلته الصنعة، فإن مالكا يرى في كثير منها أن الصنعة تنقله من الجنس: أعني من أن يكون جنسا واحدا فيجيز فيها التفاضل، وفي بعضها ليس يرى ذلك، وتفصيل مذهبه في ذلك عسير الانفصال، فاللحم المشوي والمطبوخ عنده من جنس واحد، والحنطة المقلوة عنده وغير المقلوة جنسان، وقد رام أصحابه التفصيل في ذلك، والظاهر من مذهبه أنه ليس في ذلك قانون من قوله حتى ينحصر فيه أقواله فيها، وقد رام حصرها الباجي في المنتقي، وكذلك أيضا يعسر حصر المنافع التي توجب عنده الاتفاق في شيء شيء من الأجناس التي يقع بها التعامل، وتمييزها من التي لا توجب ذلك: أعني في الحيوان والعروض والنبات. وسبب العسر أن الإنسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادئ النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة، فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه، وأنت تتبين ذلك من كتبهم، فهذه هي أمهات هذا الباب.

@-(فصل) وأما اختلافهم في بيع الربوي الرطب بجنسه من اليابس مع وجود التماثل في القدر والتناجز، فإن السبب في ذلك ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك" فأخذ به أكثر العلماء وقال: لا يجوز بيع التمر بالرطب على حال مالك والشافعي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك، وخالفه في ذلك صاحباه محمد بن الحسن وأبو يوسف. وقال الطحاوي بقول أبي حنيفة. وسبب الخلاف معارضة ظاهر حديث عبادة وغيره له، واختلافهم في تصحيحه، وذلك أن حديث عبادة اشترط في الجواز فقط المماثلة والمساواة، وهذا يقتضي بظاهره حال العقد لا حال المآل؛ فمن غلب ظواهر أحاديث الربويات رد هذا الحديث؛ ومن جعل هذا الحديث أصلا بنفسه قال: هو أمر زائد ومفسر لأحاديث الربويات. والحديث أيضا اختلف الناس في تصحيحه ولم يخرجه الشيخان. قال الطحاوي: خولف فيه عبد الله، فرواه يحيى بن كثير عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة" وقال: إن الذي يروي عنه هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص هو مجهول، لكن جمهور الفقهاء صاروا إلى العمل به. وقال مالك في موطئه قياسا به على تعليل الحكم في هذا الحديث، وكذلك كل رطب بيابس من نوعه حرام: يعني منع المماثلة كالعجين بالدقيق واللحم اليابس بالرطب وهو أحد قسمي المزابنة عند مالك المنهى عنها عنده، والعرية عنده مستثناة من هذا الأصل، وكذلك عند الشافعي، والمزابنة المنهي عنها عند أبي حنيفة هو بيع التمر على الأرض بالتمر في روءس النخيل لموضع الجهل بالمقدار الذي بينهما أعني بوجود التساوي، وطرد الشافعي هذه العلة في الشيئين الرطبين، فلم يجز بيع الرطب بالرطب، ولا العجين بالعجين مع التماثل، لأنه زعم أن التفاضل يوجد بينهما عند الجفاف. وخالفه في ذلك جل من قال بهذا الحديث. وأما اختلافهم في بيع الجيد بالرديء في الأصناف الربوية، فذلك يتصور بأن يباع منها صنف واحد وسط في الجودة بصنفين: أحدهما أجود من ذلك الصنف، والآخر أردأ، مثل أن يبيع مدين من تمر وسط بمدين من تمر أحدهما أعلى من الوسط، والآخر أدون منه، فإن مالكا يرد هذا لأنه يهمه أن يكون إنما قصد أن يدفع مدين من الوسط في مد من الطيب، فجعل معه الرديء ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك، ووافقه الشافعي في هذا، ولكن التحريم عنده ليس هو فيما أحسب لهذه التهمة لأنه لا يعمل التهم، ولكن يشبه أن يعتبر التفاضل في الصفة، وذلك أنه متى لم تكن زيادة الطيب على الوسط مثل نقصان الرديء عن الوسط، وإلا فليس هناك مساواة في الصفة. ومن هذا الباب اختلافهم في جواز بيع صنف من الربويات بصنف مثله وعرض أو دنانير أو دراهم إذا كان الصنف الذي يجعل معه العرض أقل من ذلك الصنف المفرد أو يكون مع كل واحد منهما عرض والصنفان مختلفان في القدر، فالأول مثل أن يبيع كيلين من التمر بكيل من التمر ودرهم، والثاني مثل أن يبيع كيلين من التمر وثوب بثلاثة أكيال من التمر ودرهم، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز، وقال أبو حنيفة والكوفيون: إن ذلك جائز. فسبب الخلاف هل ما يقابل العرض من الجنس الربوي ينبغي أن يكون مساويا له في القيمة أو يكفي في ذلك رضا البائع، فمن قال الاعتبار بمساواته في القيمة قال: لا يجوز لمكان الجهل بذلك، لأنه إذا لم يكن العرض مساويا لفضل أحد الربويين على الثاني كان التفاضل ضرورة، مثال ذلك أنه إن باع كيلين من تمر بكيل وثوب فقد يجب أن تكون قيمة الثوب تساوي الكيل، وإلا وقع التفاضل ضرورة. وأما أبو حنيفة فيكتفي في ذلك بأن يرضى به المتبايعان، ومالك يعتبر أيضا في هذا سد الذريعة، لأنه إنما جعل جاعل ذلك ذريعة إلى بيع الصنف الواحد متفاضلا فهذه مشهورات مسائلهم في هذا الجنس.

*3*باب في بيوع الذرائع الربوية.

@-وههنا شيء يعرض للمتبايعين إذا قال أحدهما للآخر بزيادة أو نقصان، وللمتبايعين إذا اشترى أحدهما من صاحبه الشيء الذي باعه بزيادة أو نقصان وهو أن يتصور بينهما من غير قصد إلى ذلك تبايع ربوي، مثل أن يبيع إنسان من إنسان سلعة بعشرة دنانير نقدا ثم يشتريها منه بعشرين إلى أجل، فإذا أضيفت البيعة الثانية إلى الأولى استقر الأمر على أن أحدهما دفع عشرة دنانير في عشرين إلى أجل، وهذا هو الذي يعرف ببيوع الآجال. فنذكر من ذلك مسألة في الإقالة، ومسألة من بيوع الآجال إذ كان هذا الكتاب ليس المقصود به التفريع، وإنما المقصود فيه تحصيل الأصول.

@-(مسألة) لم يختلفوا أن من باع شيئا ما كأنك قلت عبدا بمائة دينار مثلا إلى أجل، ثم ندم البائع فسأل المبتاع أن يصرف إليه مبيعه ويدفع إليه عشرة دنانير مثلا نقدا أو إلى أجل، أن ذلك يجوز وأنه لا بأس بذلك، وأن الإقالة عندهم إذا دخلتها الزيادة والنقصان هي بيع مستأنف، ولا حرج في أن يبيع الإنسان الشيء بثمن ثم يشتريه بأكثر منه، لأنه في هذه المسألة اشترى منه البائع الأول العبد الذي باعه بالمائة التي وجبت له وبالعشرة مثاقيل التي زادها نقدا أو إلى أجل، وكذلك لا خلاف بينهم لو كان البيع بمائة دينار إلى أجل والعشرة مثاقيل نقدا أو إلى أجل. وأما إن ندم المشتري في هذه المسألة وسأل الإقالة على أن يعطي البائع العشرة المثاقيل نقدا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي وجبت فيه المائة، فهنا اختلفوا، فقال مالك؛ لا يجوز، وقال الشافعي: يجوز؛ ووجه ماكره من ذلك مالك أن ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب بالذهب إلى أجل وإلى بيع ذهب وعرض بذهب، لأن المشتري دفع العشرة مثاقيل والعبد في المائة دينار التي عليه، وأيضا يدخله بيع وسلف كأن المشتري باعه العبد بتسعين وأسلفه عشرة إلى الأجل الذي يجب عليه قبضها من نفسه لنفسه. وأما الشافعي فهذا عنده كله جائز لأنه شراء مستأنف، ولا فرق عنده بين هذه المسألة وبين أن تكون لرجل على رجل مائة دينار مؤجلة، فيشتري منه غلاما بالتسعين دينارا التي عليه ويتعجل له عشرة دنانير، وذلك جائز بإجماع. قال: وحمل الناس على التهم لا يجوز. وأما إن كان البيع الأول نقدا فلا خلاف في جواز ذلك، لأنه ليس يدخله بيع ذهب بذهب نسيئة، إلا أن مالكا كره ذلك لمن هو من أهل العينة: أعني الذي يداين الناس، لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع من غير أن تكون له حقيقة. وأما البيوع التي يعرفوها ببيوع الآجال، فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقدا.

( وهنا تسع مسائل إذا لم تكن هناك زيادة عرض اختلف منها في مسئلتين واتفق في الباقي) وذلك أنه من باع شيئا إلى أجل ثم اشتراه، فإما أن يشتريه إلى ذلك الأجل بعينه أو قبله أو بعده، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمثل الثمن الذي باعه به منه، وإما بأقل، وإما بأكثر يختلف من ذلك في اثنتين؛ وهو أن يشتريها قبل الأجل نقدا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن. فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز. وقال الشافعي وداود وأبو ثور يجوز، فمن منعه فوجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فاتهمه أن يكون إنما قصد دفع الدنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه فزور لذلك هذه الصورة ليتصلا بها إلى الحرام مثل أن يقول قائل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر وأرد إليك عشرين دينارا، فيقول: هذا لا يجوز، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر، ثم أشتريه منك بعشرة نقدا. وأما في الوجوه الباقية فليس يتهم فيها لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الأجل لم يتهم، وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، ومن الحجة لمن رأى هذا الرأي حديث أبي العالية عن عائشة أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار؟ قالت: نعم {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} وقال الشافعي وأصحابه: لا يثبت حديث عائشة، وأيضا فإن زيدا قد خالفها، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس، وروي مثل قول الشافعي عن ابن عمر. وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول، فإن الثوري وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقدا بأقل من ذلك الثمن وعن مالك في ذلك روايتان، والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلا، أو بيع ما لا يجوز نَساء، أو إلى بيع أو سلف، أو إلى ذهب وعرض بذهب أو إلى: ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفي، أو بيع أو صرف، فإن هذه هي أصول الربا. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن باع طعاما بطعام قبل أن يقبضه، فمنعه مالك وأبو حنيفة وجماعة، وأجازه الشافعي والثوري والأوزاعي وجماعة. وحجة من كرهه أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نَساء، ومن أجازه لم ير ذلك فيه اعتبارا بترك القصد إلى ذلك. ومن ذلك اختلافهم فيمن اشترى طعاما بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له فأجاز ذلك الشافعي وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه أو من المشتري نفسه؛ ومنع من ذلك مالك ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفي، لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه. وصورة الذريعة في ذلك أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال هذا لا يصح لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفي فيقول له: فبع طعاما مني وأرده عليك، فيعرض من ذلك ما ذكرناه، أعني أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه ويبقى الثمن المدفوع إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذمته.

وأما الشافعي فلا يعتبر التهم كما قلنا وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لإجماع العلماء على أنه إذا قال أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأنظرك بها حولا أو شهرا أنه لا يجوز، ولو قال له: أسلفني دراهم وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القصد وقرضه، ولما كانت أصول الربا كما قلنا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنساء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، فإنه يظن أنه من هذا الباب إذ فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ولا ضمان يتلق بذمته، فينبغي أن نذكر ههنا هذين الأصلين. أما: ضع وتعجل فأجازه ابن عباس من الصحابة وزفر من فقهاء الأمصار، ومنعه جماعة منهم ابن عمر من الصحابة ومالك وأبو حنيفة والثوري وجماعة من فقهاء الأمصار، واختلف قول الشافعي في ذلك، فأجاز مالك وجمهور من ينكر: ضع وتعجل، أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه وإن كانت قيمته أقل من دينه. وعمدة من لم يجز: ضع وتعجل أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا. وعمدة من أجازه ما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا" فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث.

وأما بيع الطعام قبل قبضه، فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه". واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:

*4*الفصل الأول فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.

@-وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه. وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور، إلا أنهما اشترطا مع الطعم الكيل والوزن. والرواية الأخرى الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول من الدور والعقار. وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس. وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز ابن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود، فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. والثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود. أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم. وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: قلت "يا رسول الله إني اشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه" قال أبو عمر: حديث حكيم من حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم ابن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين. ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية. وأما من اعتبر الكيل والوزن، فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.

*4*الفصل الثاني. في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.

@-وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات. والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها يختص بقصد المعاينة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا: أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق، كالشركة والإقالة والتولية وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام. أما ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد واحد من العلماء. وأما ما كان خالصا للرفق: أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه. واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع، فقال: يجوز بيعهما قبل القبض. وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع. فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى. أما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة. وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان، وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا.

*4*الفصل الثالث. في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا.

@-وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي. وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف. ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال "كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام جزافا، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواء قبل أن نبيعه، قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف، فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو متقدم في حفظ حديث نافع. وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى نقله من باب الذريعة إلى الربا. وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر؛ وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها، فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها. وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه. واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب الدين بالدين. وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو قياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. ومما أجازه مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتع (1) في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه من الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه. وأما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.

----------

(1) ["يبتع": الأصل غير واضح، فليتنبه. دار الحديث]

----------

*3*الباب الثالث. [في البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر]

@-وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر، والغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل على أوجه: إما من جهة الجهل بتعيين المعقود عليه، أو تعيين العقد، أو من جهة الجهل بوصف الثمن والمثمون المبيع، أو بقدره أو بأجله إن كان هنالك أجل، وإما من جهة الجهل بوجوده أو تعذر القدرة عليه، وهذا راجع إلى تعذر التسليم، وإما من جهة الجهل بسلامته: أعني بقاءه، وههنا بيوع تجمع أكثر هذه أو بعضها، ومن البيوع التي توجد فيها هذه الضروب من الغرر بيوع منطوق بها وبيوع مسكوت عنها، والمنطوق به أكثره متفق عليه، وإنما يختلف في شرح أسمائها، والمسكوت عنه مختلف فيه. ونحن نذكر أولا المنطوق به في الشرع، وما يتعلق به من الفقه، ثم نذكر بعد ذلك من المسكوت عنه ما شهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ليكون كالقانون في نفس الفقه: أعني في رد الفروع إلى الأصول. فأما المنطوق به في الشرع فمنه "نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة" ومنها "نهيه عن بيه ما لم يخلق، وعن بيع الثمار حتى تزهى، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وعن بيع الحصاة" ومنها "نهيه عن المعاومة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود" "ونهيه عن المضامين والملاقيح". أما بيع الملامسة فكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره أو يبتاعه ليلا، ولا يعلم ما فيه، وهذا مجمع على تحريمه، وسبب تحريمه الجهل بالصفة. وأما بيع المنابذة فكان أن ينبذ كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه الثوب من غير أن يعين أن هذا بهذا، بل كانوا يجعلون ذلك راجعا إلى الاتفاق. وأما بيع الحصاة، فكانت صورته عندهم أن يقول المشتري: أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي، وقيل أيضا إنهم كانوا يقولون: إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع وهذا قمار.

وأما بيع حبل الحبلة ففيه تأويلان: أحدهما أنها كانت بيوعا يؤجلونها إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم ينتج ما في بطنها، والغرر من جهة الأجل في هذا بين؛ وقيل إنما هو بيع جنين الناقة، وهذا من باب النهي عن بيع المضامين والملاقيح. والمضامين: هي ما في بطون الحوامل، والملاقيح: ما في ظهور الفحول، فهذه كلها بيوع جاهلية متفق على تحريمها، وهي محرمة من تلك الأوجه التي ذكرناها. وأما بيع الثمار، فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وحتى تزهى" ويتعلق بذلك مسائل مشهورة نذكر منها نحن عيونها. وذلك أن بيع الثمار لا يخلو أن تكون قبل أن تخلق أو بعد أن تخلق، ثم إذا خلقت لا يخلو أن تكون بعد الصرام أو قبله، ثم إذا كان قبل الصرام فلا يخلو أن تكون قبل أن تزهى أو بعد أن تزهى، وكل واحد من هذين لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بشرط التبقية أو بشرط القطع. أما القسم الأول وهو بيع الثمار قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق، ومن باب بيع السنين والمعاومة. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة، وهي بيع الشجر أعواما" إلا ما روي عن عمر ابن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين. وأما بيعها بعد الصرام فلا خلاف في جوازه. وأما بيعها بعد أن خلقت فأكثر العلماء على جواز ذلك على التفصيل الذي نذكره، إلا ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعن عكرمة أنه لا يجوز إلا بعد الصرام، فإذا قلنا بقول الجمهور إنه يجوز قبل الصرام، فلا يخلو أن تكون بعد أن تزهى أو قبل أن تزهى، وقد قلنا إن ذلك لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بيعا بشرط القطع أو بشرط التبقية. فأما بيعها قبل الزهو بشرط القطع فلا خلاف في جوازه إلا ما روي عن الثوري وابن أبي ليلى من منع ذلك، وهي رواية ضعيفة. وأما بيعها قبل الزهو بشرط التبقية فلا خلاف في أنه لا يجوز إلا ما ذكره اللخمي من جوازه تخريجا على المذهب. وأما بيعها قبل الزهو مطلقا، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار، فجمهورهم على أنه لا يجوز: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والليث والثوري وغيرهم. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إلا أنه يلزم المشتري عنده فيه القطع لا من جهة ما هو بيع ما لم يره بل من جهة أن ذلك شرط عنده في بيع الثمر على ما سيأتي بعد.

أما دليل الجمهور على منع بيعها مطلقا قبل الزهو، فالحديث الثابت عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري" فعلم أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق بشرط التبقية، ولما ظهر للجمهور أن المعنى في هذا خوف ما يصيب الثمار الجائحة غالبا قبل أن تزهى لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك بعد نهيه عن بيع الثمرة قبل الزهو "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الإزهاء بل رأى أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع. واختلفوا إذا ورد البيع مطلقا في هذه الحال هل يحمل على القطع وهو الجائز، أو على التبقية الممنوعة؟ فمن حمل الإطلاق على التبقية، أو رأى أن النهي يتناوله بعمومه قال: لا يجوز؛ ومن حمله على القطع قال: يجوز، والمشهور عن مالك أن الإطلاق محمول على التبقية، وقد قيل عنه إنه محمول على القطع. وأما الكوفيون فحجتهم في بيع الثمار مطلقا قبل أن تزهى حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" قالوا: فلما جاز أن يشترطه المبتاع جاز بيعه مفردا، وحملوا الحديث الوارد بالنهي عن بيع الثمار قبل أن تزهى على الندب، واحتجوا لذلك بما روي عن زيد بن ثابت قال: "كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: أصاب الثمر الزمان أصابه ما أضر به قشام ومراض لعاهات يذكرونها، فلما كثرت خصومتهم عند النبي قال كالمشورة يشير بها عليهم: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحها" وربما قالوا: إن المعنى الذي دل عليه الحديث في قوله "حتى يبدو صلاحه" هو ظهور الثمرة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟"

وقد كان يجب على من قال من الكوفيين بهذا القول ولم يكن يرى رأي أبو حنيفة في أن من ضرورة بيع الثمار القطع أن يجيز بيع الثمر قبل بدو صلاحها على شرط التبقية، فالجمهور يحملون جواز بيع الثمار بالشرط قبل الإزهاء على الخصوص: أعني إذا بيع الثمر مع الأصل. وأما شراء الثمر مطلقا بعد الزهو فلا خلاف فيه، والإطلاق فيه عند جمهور فقهاء الأمصار يقتضي التبقية، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة" الحديث. ووجه الدليل منه أن الجوائح إنما تطرأ في الأكثر على الثمار قبل بدو الصلاح، وأما بعد بدو الصلاح فلا تظهر إلا قليلا، ولو لم يجب في المبيع بشرط التبقية لم يكن هنالك جائحة تتوقع، وكان هذا الشرط باطلا. وأما الحنفية فلا يجوز عندهم بيع الثمر بشرط التبقية، والإطلاق عندهم كما قلنا محمول على القطع، وهو خلاف مفهوم الحديث، وحجتهم أن نفس بيع الشيء يقتضي تسليمه وإلا لحقه الغرر، ولذلك لم يجز أن تباع الأعيان إلى أجل. والجمهور على أن بيع الثمار مستثنى من بيع الأعيان إلى أجل لكون الثمر ليس يمكن أن ييبس كله دفعة، فالكوفيون خالفوا الجمهور في بيع الثمار في موضعين: أحدهما في جواز بيعها قبل أن تزهى.

والثاني في منع تبقيتها بالشرط بعد الإزهاء أو بمطلق العقد، وخلافهم في الموضع الأول أقوى من خلافهم في الموضع الثاني: أعني في شرط القطع وإن أزهى، وإنما كان خلافهم في الموضع الأول أقرب، لأنه من باب الجمع بين حديثي ابن عمر المتقدمين، لأن ذلك أيضا مروي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير، وأما بدو الصلاح الذي جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع بعده، فهو أن يصفر فيه البسر ويسود فيه العنب إن كان مما يسود، وبالجملة أن تظهر في الثمر صفة الطيب، هذا هو قول جماعة فقهاء الأمصار لما رواه مالك عن حميد عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله حتى يزهى، فقال: حتى يحمر" وروي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن بيع العنب حتى يسود، والحب حتى يشتد" وكان زيد بن ثابت في رواية مالك عنه لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيار وهو مايو، وهو قول ابن عمر أيضا "سئل عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهات، فقال عبد الله بن عمر: ذلك وقت طلوع الثريا" وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهات عن أهل البلد" وروى ابن القاسم عن مالك أنه لا بأس أن يباع الحائط وإن لم يزه إذا أزهى ما حوله من الحيطان إذا كان الزمان قد أمنت فيه العاهة، يريد {والله أعلم} طلوع الثريا، إلا أن المشهور عنه أنه لا يباع حائط حتى يبدو فيه الزهو، وقد قيل إنه لا يعتبر مع الإزهاء طلوع الثريا. فالمحصل في بدو الصلاح للعلماء ثلاثة أقوال: قول إنه الإزهاء، وهو المشهور، وقول إنه طلوع الثريا، وإن لم يكن في الحائط في حين البيع إزهاء؛ وقول: الأمران جميعا. وعلى المشهور من اعتبار الإزهاء يقول مالك إنه إذا كان في الحائط الواحد بعينه أجناس من الثمر مختلفة الطيب لم يبع كل صنف منها إلا بظهور الطيب فيه، وخالفه في ذلك الليث.

وأما الأنواع المتقاربة الطيب فيجوز عنده بيع بعضها بطيب البعض، وبدو الصلاح المعتبر عن مالك في الصنف الواحد من الثمر هو وجود الإزهاء في بعضه لا في كله إذا لك يكن ذلك الإزهاء مبكرا في بعضه تبكيرا يتراخى عنه البعض بل إذا كان متتابعا، لأن الوقت الذي تنجو الثمرة فيه في الغالب من العاهات هو إذا بدا الطيب في الثمرة ابتداء متناسقا غير منقطع. وعند مالك أنه إذا بدا الطيب في نخلة بستان جاز بيعه وبيع البساتين المجاورة له إذا كان نخل البساتين من جنس واحد. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بيع نخل البستان الذي يظهر فيه الطيب فقط. ومالك اعتبر الوقت الذي تؤمن فيه العاهة إذا كان الوقت واحدا للنوع الواحد. والشافعي اعتبر نقصان خلقة الثمر، وذلك أنه إذا لم يطب كان من بيع ما لم يخلق، وذلك أمن صفة الطيب فيه وهي مشتراة لم تخلق بعد، لكن هذا كما قال لا يشترط في كل الثمرة بل في بعض ثمرة جنة واحدة، وهذا لم يقل به أحد، فهذا هو مشهور ما اختلفوا فيه من بيع الثمار.

ومن المسموع الذي اختلفوا فيه من هذا الباب ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود، وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها دون السنبل، لأنه بيع ما لم تعلم صفته ولا كثرته. واختلفوا في بيع السنبل نفسه مع الحب، فجوز ذلك جمهور العلماء: مالك وأبو حنيفة وأهل المدينة وأهل الكوفة؛ وقال الشافعي: لا يجوز بيع السنبل نفسه وإن اشتد، لأنه من باب الغرر وقياسا على بيعه مخلوطا بتبنه بعد الدرس. وحجة الجمهور شيئان: الأثر والقياس: فأما الأثر فما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخيل حتى تزهى، وعن السنبل حتى تيبض وتأمن العاهة، نهي البائع والمشتري" وهي زيادة على ما رواه مالك من هذا الحديث، والزيادة إذا كانت من الثقة مقبولة وروي عن الشافعي أنه لما وصلته هذه الزيادة رجع عن قوله، وذلك أنه لا يصح عنده قياس مع وجود الحديث. وأما بيع السنبل إذا أفرك ولم يشتد فلا يجوز عند مالك إلا على القطع. وأما بيع السنبل غير محصود، فقيل عن مالك يجوز، وقيل لا يجوز، إلا إذا كان في حزمه. وأما بيعه في تبنه بعد الدرس فلا يجوز بلا خلاف فيما أحسب، هذا إذا كان جزافا، فأما إذا كان مكيلا فجائز عند مالك، ولا أعرف فيه قولا لغيره واختلف الذين أجازوا بيع السنبل إذا طاب على من يكون حصاده ودرسه؛ فقال الكوفيون: على البائع حتى يعمله حبا للمشتري؛ وقال غيرهم: هو على المشتري.

ومن هذا الباب ما ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة" وذلك من حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وأبي هريرة، قال أبو عمر: وكلها من نفل العدول، فاتفق الفقهاء على القول بموجب هذا الحديث عموما؛ واختلفوا في التفصيل، أعني في الصورة التي ينطلق عليها الاسم من التي لا ينطلق عليها واتفقوا أيضا على بعضها، وذلك يتصور على ثلاثة وجوه: أحدها إما في مثمونين بثمنين، أو مثمون واحد بثمنين، أو مثمونين بثمن واحد على أن أحد البيعين قد لزم. أما في مثمونين بثمنين، فإن ذلك يتصور على وجهين: أحدهما أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا؛ والثاني أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين. وأما بيع مثمون واحد بثمنين، فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين: أحدهما أن يكون أحد الثمنين نقدا والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بثمن كذا على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا، وأما مثمونان بثمن واحد، فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا، فأما الوجه الأول، وهو أن يقول له: أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا، فنص الشافعي على أنه لا يجوز، لأن الثمن في كليهما يكون مجهولا، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر، والغرر يوجد في... ...

وأصل الشافعي في رد بيعتين في بيعة إنما هو جهل الثمن أو المثمون. وأما الوجه الثاني، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز عند الجميع، وسواء كان النقد واحدا أو مختلفا؛ وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك، فأجازه إذا كان النقد زاحدا أو مختلفا، وعلة منعه عند الجميع الجهل؛ وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار، وذلك لا يجوز على أصل مالك. وأما الوجه الثالث، وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز، وأما إذا لم يكن البيع لازما في إحدهما فأجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي، لأنهما افترقا على ثمن غير معلوم؛ وجعله مالك من باب الخيار، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع، فعلة امتناع هذا الوجه الثالث عند الشافعي وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها؛ وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنقاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا. وأما إذا قال: أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل، فهو عندهم لا يجوز بإجماع، لأنه من باب العينة وهو بيع الرجل ما ليس عنده، ويدخله أيضا علة جهل الثمن. وأما إذا قال له: أبيعك أحدهذين الثوبين بدينار وقد لزمه أحدهما أيهما اختار وافترقا قبل الخيار، فإن كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف بين مالك والشافعي في أنه لا يجوز؛ وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إنه يجوز، وعلة المنع الجهل والغرر. وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك، ولا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي؛

وأما مالك فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك؛ وأما من لا يجيزه فتعتبره بالغرر الذي لا يجوز، لأنهما افترقا على بيع غير معلوم. وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز. ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر، فبعضهم بلحقها بالغرر الكثير، وبعضهم يلحقها بالغرر القليل المباح لترددها بين القليل والكثير؛ فإذا قلنا بالجواز على مذهب مالك، فقبض الثوبين من المشتري على أن يختار فهلك أحدهما أو أصابه عيب فمن يصيبه ذلك؟ فقيل تكون المصيبة بينهما، وقيل بل يضمنه كله المشتري، إلا أن تقوم البينة على هلاكه؛ وقيل فرق في ذلك بين الثياب وما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه كالعبد فيضمن فيما يغاب عليه ولا يضمن فيما لا يغاب عليه. وأما هل يلزمه أخذ الباقي؟ قيل يلزم، وقيل لا يلزم، وهذا يذكر في أحكام البيوع. وينبغي أن نعلم أن المسائل الداخلة في هذا المعنى هي: أما عند فقهاء الأمصار فمن باب الغرر؛ وأما عند مالك فمنها ما يكون عنده من باب ذرائع الربا، ومنها ما يكون من باب الغرر، فهذه هي المسائل التي تتعلق بالمنطوق به في هذا الباب. وأما نهيه عن بيع الثنيا وعن بيع وشرط فهو وإن كان سببه الغرر فالأشبه أن نذكرها في المبيعات الفاسدة من قبل الشروط.

@-(فصل) وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة، لكن نذكر منها أشهرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار.

@-(مسألة) المبيعات على نوعين: مبيع حاضر مرئي، فهذا لا خلاف في بيعه. ومبيع غائب أو متعذر الرؤية، فهنا اختلف العلماء؛ فقال قوم: بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال لا ما وصف ولا ما لم يوصف، وهذا أشهر قولي الشافعي وهو المنصوص عند أصحابه، أعني أن بيع الغائب على الصفة لا يجوز؛ وقال مالك وأكثر أهل المدينة: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته؛ وقال أبو حنيفة: يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة، ثم له إذا رآها الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة من شرطه عندهم خيار الرؤية وإن جاء على الصفة؛ وعند مالك أنه إذا جاء على الصفة فهو لازم؛ وعند الشافعي لا ينعقد البيع أصلا في الموضعين؛ وقد قيل في المذهب: يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية، وقع ذلك في المدونة، وأنكره عبد الوهاب وقال: هو مخالف لأصولنا. وسبب الخلاف هل نقصان العلم المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشيء فيكون من الغرر الكثير، أم ليس بمؤثر وأنه من الغرر اليسير المعفو عنه؟ فالشافعي رآه من الغرر الكثير؛ ومالك رآه من الغرر اليسير؛ وأما أبو حنيفة فإنه رأى أنه إذا كان له خيار الرؤية أنه لا غرر هناك وإن لم تكن له رؤية؛ وأما مالك فرأى أن الجهل المقترن بعدم الصفة مؤثر في انعقاد البيع، ولا خلاف عند مالك أن الصفة إنما تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع أو لمكان المشقة التي في نشره، وما يخاف أن يلحقه من الفساد بتكرار النشر عليه، ولهذا أجاز البيع على البرنامج على الصفة، ولم يجز بيع السلاح في جرابه، ولا الثوب المطوي في طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما في جرابها. واحتج أبو حنيفة بما روي عن ابن المسيب أنه قال قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن من عثمان بن عفان فرسا بأرض له أخرى بأربعين ألفا أو أربعة ألاف، فذكر تمام الخبر، وفيه بيع الغائب مطلقا، ولا بد عند أبي حنيفة من اشتراط الجنس، ويدخل البيع على الصفة أو على خيار الرؤية من جهة ما هو غائب غرر آخر، وهو هل هو موجود وقت العقد أو معدوم؟ ولذلك اشترطوا فيه أن يكون قريب الغيبة إلا أن يكون مأمونا كالعقار، ومن ههنا أجاز مالك بيع الشيء برؤية متقدمة، أعني إذا كان من القرب بحيث يؤمن أن تتغير فيه فاعلمه.

@-(مسألة) وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفقة، إلا أن مالكا وربيعة وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية الرفيعة على شرط المواضعة، ولم يجيزوا فيها النقد كما لم يجزه مالك في بيع الغائب، وإنما منع ذلك الجمهور لما يدخله من الدين بالدين، ومن عدم التسليم، ويشبه أن يكون بيع الدين بالدين من هذا الباب، أعني لما يتعلق بالغرر من عدم التسليم من الطرفين لا من باب الربا، وقد تكلمنا في علة الدين بالدين، ومن هذا الباب ما كان يرى ابن القاسم أنه لا يجوز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ويراه من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شيء منه، أعني أنه كان يرى أن قبض الأوائل من الأثمان يقوم مقام قبض الأواخر، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.

@-(مسألة) أجمع فقهاء الأمصار على بيع التمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا؛ واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة؛ وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل، فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز، فمثال المتميز جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة. ومثال غير المتميز المباطخ والمقاثئ والباذنجان والقرع، ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان: إحداهما الجواز والأخرى المنع. وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز، وخالفه الكوفيون وأحمد وإسحاق والشافعي في هذا كله، فقالوا: لا يجوز بيع بطن منها بشرط بطن آخر. وحجة مالك فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره، فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خلق وبدا صلاحه، أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب، لأن الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشيء، وكأنه رأى أن الرخصة ههنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار، أعني ما طاب مع ما لم يطب لموضع الضرورة، والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة، ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا. وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف.

وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق، ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة. واللفت والجزر والكرنب جائز عند مالك بيعه إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل، ولم يجزه الشافعي إلا مقلوعا، لأنه من باب بيع المغيب؛ ومن هذا الباب بيع الجوز واللوز والباقلا في قشره، أجازه مالك، ومنعه الشافعي. والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة، أو ما جمع الأمرين. ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير أو البركة اختلفوا فيه أيضا، فقال أبو حنيفة: يجوز، ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب، وهو الذي تقتضي أصوله. ومن ذلك بيع الآبق أجازه قوم بإطلاق، ومنعه قوم بإطلاق ومنهم الشافعي؛ وقال مالك: إذا كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز، وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق ويتواضعان الثمن، أعني أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري، لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون، وفيما كان من هذا الجنس. وممن قال بجواز بيع الآبق والبعير الشارد عثمان البتي. والحجة للشافعي حديث شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم" وأجاز مالك بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة، ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة؛ وقال سائر الفقهاء: لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب. ومن هذا الباب منع مالك بيع اللحم في جلده. ومن هذا الباب بيع المريض أجازه مالك إلا أن يكون ميئوسا منه؛ ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، وهي رواية أخرى عنه، ومن هذا الباب بيع تراب المعدن والصواغين، فأجاز مالك بيع تراب المعدن بنقد يخالفه أو بعرض، ولم يجز بيع تراب الصاغة؛ ومنع الشافعي البيع في الأمرين جميعا؛ وأجازه قوم في الأمرين جميعا، وبه قال الحسن البصري،

فهذه هي البيوع التي يختلف فيها أكثر ذلك من قبل الجهل بالكيفية. وأما اعتبار الكمية فإنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يباع شيء من المكيل أو الموزون أو المعدود أو المسموح إلا أن يكون معلوم القدر عند البائع والمشتري؛ واتفقوا على أن العلم الذي يكون بهذه الأشياء من قبل الكيل المعلوم أو الصنوج المعلومة مؤثر في صحة البيع، وفي كل ما كان غير معلوم الكيل والوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء المكيلة والموزونة والمعدودة والممسوحة، وأن العلم بمقادير هذه الأشياء التي تكون من قبل الحزر والتخمين وهو الذي يسمونه الجزاف يجوز في أشياء ويمنع في أشياء. وأصل مذهب مالك في ذلك أنه يجوز في كل ما المقصود منه الكثرة لا آحاد وهو عنده أصناف: منها ما أصله الكيل ويجوز جزافا، وهي المكيلات والموزونات؛ ومنها ما أصله الجزاف ويكون مكيلا، وهي الممسوحات كالأرضين والثياب؛ ومنها ما لا يجوز فيها التقدير أصلا بالكيل والوزن، بل إنما يجوز فيها العدد فقط ولا يجوز بيعها جزافا، وهي كما قلنا التي المقصود منها آحاد أعيانها.

وعند مالك أن التبر والفضة الغير المسكوكين يجوز بيعهما جزافا ولا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ويكره. ويجوز عند مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل: أي كل كيل منها بكذا، فما كان فيها من الأكيال وقع من تلك القيمة بعد كيلها والعلم بمبلغها؛ وقال أبو حنيفة: لا يلزم إلا في كيل واحد وهو الذي سمياه. ويجوز هذا البيع عند مالك في العبيد والثياب وفي الطعام، ومنعه أبو حنيفة في الثياب والعبيد، ومنع ذلك غيره في الكل فيما أحسب للجهل بمبلغ الثمن. ويجوز عند مالك أن يصدق المشتري البائع في كيلها إذا لم يكن البيع نسيئة، لأنه يتهمه أن يكون صدقه لينظره بالثمن؛ وعد غيره لا يجوز ذلك حتى يكتالها المشتري لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصيعان؛ وأجازه قوم على الإطلاق؛ وممن منعه أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ وممن أجازه بإطلاق عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة؛ ولا يجوز عند مالك أن يعلم البائع الكيل ويبيع المكيل جزافا ممن يجهل الكيل؛ ولا يجوز عند الشافعي وأبي حنيفة.

والمزابنة المنهي عنها هي عند مالك من هذا الباب، وهي بيع مجهول الكمية بمجهول الكمية، وذلك أما في الربويات فلموضع التفاضل، وأما في غير الربويات فلعدم تحقق القدر.

*3*الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيا.

@-وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر، ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة. والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث جابر قال "ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة" وهذا الحديث في الصحيح. والحديث الثاني حديث بريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط" والحديث متفق على صحته. والثالث حديث جابر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا" وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم. ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط" فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط، فقال قوم: البيع فاسد والشرط جائز، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة؛ وقال قوم: البيع جائز والشرط جائز، وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة؛ وقال قوم: البيع جائز والشرط باطل، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى؛ وقال أحمد: البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا، فمن أبطل البيع والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط، ولعموم نهيه عن الثنيا؛ ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط؛ ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة؛ ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل سلف وبيع، ولا يجوز شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس هو عندك".

وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معا؛ وشروط تجوز هي والبيع معا؛ وشروط تبطل ويثبت البيع؛ وقد يظن أن عنده قسما رابعا وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصا في الملك فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطا أبطل الشرط وأجاز البيع، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح، وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة، وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي، وتفصيله في ذلك أنه قال: إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين: أحدهما أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري، فمثل هذا قالوا: يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة.

والقسم الثاني أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك، وهذا قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه؛ وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص؛ وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع، وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون معنى من معاني البر. والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء. فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر، وقيل السنة، فذلك جائز على حديث جابر. وإما أن يشترط منعا من تصرف خاص أو عام، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا، ومثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه. وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط، وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ، لأن في بعض رواياته أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة، وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة. ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة. وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك. وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها، فذلك لا يجوز عند مالك، وقيل عنه البيع مفسوخ، وقيل بل يبطل الشرط فقط. وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف؛ إن جاء بالثمن كان سلفا، وإن لم يجيء كان بيعا. واختلف في المذهب هل يجوز له ذلك في الإقالة أم لا؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع؛ ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع. واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن، فقيل عن مالك يجوز ذلك لأن حكمه حكم الرهن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع أو غيره؛

وقيل عن ابن القاسم: لا يجوز ذلك، لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع بالمدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها، فوجب أن يمنع صحة البيع، ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير. ومن المسموع في هذا الباب نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء، وأجازه مالك وأصحابه إلا محمد بن عبد الحكم، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور؛ وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به. وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسلئة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال: أنا أدع الزق، قال: وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة، وهو أن قال له: الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه أو عدم تركه، وليس كذلك مسألة زق الخمر، وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق، وذلك أنه يقال له: لم كان هنا مخيرا ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ويصح البيع، والأشبه أن يقال إن التحريم ههنا لم يكن لشيء محرم بعينه وهو السلف لأن السلف مباح، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران: أعني اقتران البيع به، وكذلك البيع في نفسه جائز، وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط. ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع، كما لا يرتفع الفساد الللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي أو معقول؟ فإن قلنا حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط، وإن قلنا معقول ارتفع بارتفاع الشرط؛

فمالك رآه معقولا، والجمهور رأوه غير معقول والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي، لذلك ليس ينعقد عندهم أصلا، وإن ترك الربا بعد البيع أو ارتفع الغرر. واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة. ومن هذا الباب بيع العربان فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز؛ وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه، منهم مجاهد وابن سيرين ونافع بن الحارث وزيد بن أسلم، وصورته: أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة، وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به؛ وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، وكان زيد يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها، أعني هل تدخل تحت النهي عن الثنيا، أو ليست تدخل؟ فمن ذلك أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها، فجمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري على أنه لا يجوز؛ وقال أحمد وأبو ثور وداود ذلك جائز، وهو مروي عن ابن عمر. وسبب الخلاف هل المستثنى مبيع مع ما استثنى منه، أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع؟ فمن قال مبيع قال: لا يجوز وهو من الثنيا المنهي عنها لما قال فيها من الجهل بصفته وقلة الثقة بسلامة خروجه؛ ومن قال هو باق على ملك البائع أجاز ذلك؛ وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا أو معينا أو مقدرا، فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه. وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين، أو يكون غير مغيب، فإن كان مغيبا فلا يجوز، وإن كان غير مغيب كالرأس واليد والرجل، فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه أو لا يكون،

فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله، لأن حقه غير متميز ولا متبغض وذلك مما لا خلاف فيه، وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه، فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح، ففي المذهب فيه قولان: أحدهما أنه لا يجوز وهو المشهور؛ والثاني يجوز، وهو قول ابن حبيب جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس. وأما إذا لم يكن للمستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب، ووجه قول مالك إنه كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد عنه. ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما، فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله والجوز في قشره. وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوطا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما المنع، وهي رواية ابن وهب؛ والثانية الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط، وهي رواية ابن القاسم. وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها. واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثنى من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع، لأنه بيع ما لم يره المتبايعان. واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثني منه عدة نخلات بعد البيع، فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل؛ وروي عن مالك إجازته؛ ومنع ابن القاسم قوله في النخلات وأجازه في استثناء الغنم. وكذلك اختلف قول مالك وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم. وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيله من حائط؛ قال أبو عمر بن عبد البر: فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم، وألفت الكتاب على مذاهبهم لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع، لأنه استثناء مكيل من جزاف؛

وأما مالك وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه، وحملوا النهي على الثنيا على ما فوق الثلث، وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ويستثنى منها كيل ما، وهذا الأصل أيضا مختلف فيه، أعني إذا استثنى منها كيل معلوم. واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد، فأجازه مالك وأصحابه، ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي، لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا، ومالك يقول: إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا، وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة. وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا. واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة، فمرة أجاز ذلك ومرة منعه، وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها، ومن لم تقو عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا، ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير.

*3*الباب الخامس في البيوع المنهي عنها من أجل الضرر أوالغبن.

@-والمسموع من هذا الباب ما يثبت من نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن أن يسوم أحد على سوم أخيه، ونهيه عن تلقي الركبان، ونهيه عن أن يبيع حاضر لباد، ونهيه عن النجش. وقد اختلف العلماء في تفصيل معاني هذه الآثار اختلافا ليس بمتباعد، فقال مالك: معنى قوله عليه الصلاة والسلام "لا يبع بعضكم على بيع بعض" ومعنى نهيه عن أن يسوم أحد على سوم أخيه واحد، وهي في الحالة التي إذا ركن البائع فيها إلى السائم ولم يبق بينهما إلا شيء يسير مثل اختيار الذهب أو اشتراط العيوب أو البراءة منها، وبمثل تفسير مالك فسر أبو حنيفة هذا الحديث. وقال الثوري معنى "لا يبع بعضكم على بيع بعض" أن لا يطرأ رجل آخر على المتبايعين فيقول عندي خير من هذه السلعة ولم يحد وقت ركون ولا غيره. وقال الشافعي: معنى ذلك إذا تم البيع باللسان ولم يفترقا فأتى أحد يعرض عليه سلعة له هي خير منها، وهذا بناء على مذهبه في أن البيع إنما يلزم بالإفتراق فهو ومالك متفقان على أن النهي إنما يتناول حالة قرب لزوم البيع، ومختلفان في هذه الحالة ما هي لاختلافهما فيما به يكون اللزوم في البيع على ما سنذكره بعد، وفقهاء الأمصار على أن هذا البيع يكره، وإن وقع مضى لأنه سوم على بيع لم يتم؛ وقال داود وأصحابه: إن وقع فسخ في أي حالة وقع تمسكا بالعموم؛ وروي عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت؛ وأنكر ابن الماجشون ذلك في البيع فقال: وإنما قال بذلك مالك في النكاح، وقد تقدم ذلك. واختلفوا في دخول الذمي في النهي عن سوم أحد على سوم غيره، فقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين الذمي وغيره؛ وقال الأوزاعي: لابأس بالسوم على سوم الذمي لأنه ليس بأخي المسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم "لا يسم أحد على سوم أخيه" ومن ههنا منع قوم بيع المزايدة وإن كان الجمهور على جوازه. وسبب الخلاف بينهم هل يحمل هذا النهي على الكراهة أو على الحظر، ثم إذا حمل على الحظر فهل يحمل على جميع الأحوال، أو في حالة دون حالة؟.

@-(فصل) وأما نهيه عن تلقي الركبان للبيع، فاختلفوا في مفهوم النهي ما هو، فرأى مالك أن المقصود بذلك أهل الأسواق لئلا ينفرد المتلقي برخص السلعة، دون أهل الأسواق، ورأى أنه لا يجوز أن يشتري أحد سلعة حتى تدخل السوق، هذا إذا كان التلقي قريبا، فإن كان بعيدا فلا بأس به، وحد القرب في المذهب بنحو من ستة أميال، ورأى أنه إذا وقع جاز، ولكن يشرك المشتري أهل الأسواق في تلك السلعة التي من شأنها أن يكون ذلك سوقها. وأما الشافعي فقال إن المقصود بالنهي إنما هو لأجل البائع لئلا يغبنه المتلقي، لأن البائع يجهل سعر البلد، وكان يقول: إذا وقع فرب السلعة بالخيار إن شاء أنفذ البيع أو رده. ومذهب الشافعي هو نص في حديث أبي هريرة الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تتلقوا الجلب، فمن تلقى منه شيئا فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق" خرجه مسلم وغيره.

@-(فصل) وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الحاضر للباد، فاختلف العلماء في معنى ذلك، فقال قوم: لا يبع أهل الحضر لأهل البادية قولا واحدا. واختلف عنه في شراء الحضري للبدوي، فمرة أجازه، وبه قال ابن حبيب؛ ومرة منعه، وأهل الحضر عنده هم الأمصار؛ وقد قيل عنه إنه لا يجوز أن يبيع أهل القرى لأهل العمود المنتقلين، وبمثل قول مالك قال الشافعي والأوزاعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي ويخبره بالسعر، وكرهه مالك، أعني أن يخبر الحضري البادي بالسعر، وأجازه الأوزاعي. والذين منعوه اتفقوا على أن القصد بهذا النهي هو إرفاق أهل الحضر، لأن الأشياء عند أهل البادية أيسر من أهل الحاضرة، وهي عندهم أرخص، بل أكثر ما يكون مجانا عندهم: أي بغير ثمن، فكأنهم رأوا أنه يكره أن ينصح الحضري للبدوي، وهذا مناقض لقوله عليه الصلاة والسلام "الدين النصيحة" وبهذا تمسك في جوازه أبو حنيفة. وحجة الجمهور حديث جابر خرجه مسلم وأبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبيع حاضر لباد ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" وهذه الزيادة انفرد بها أبو داود فيما أحسب، والأشبه أن يكون من باب غبن البدوي لأنه يرد والسعر مجهول عنده، إلا أن تثبت هذه الزيادة، ويكون على هذا معنى الحديث معنى النهي عن تلقي الركبان على ما تأوله الشافعي وجاء في الحديث الثابت. واختلفوا إذا وقع فقال الشافعي: إذا وقع فقد تم وجاز البيع لقوله عليه الصلاة والسلام "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" واختلف في هذا المعنى أصحاب مالك؛ فقال بعضهم: يفسخ؛ وقال بعضهم: لا يفسخ.

@-(فصل) وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن النجش، فاتفق العلماء على منع ذلك، وأن النجش هو أن يزيد أحد في سلعة وليس في نفسه شراؤها، يريد بذلك أن ينفع البائع ويضر المشتري؛ واختلفوا إذا وقع هذا البيع، فقال أهل الظاهر: هو فاسد؛ وقال مالك: هو كالعيب والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: إن وقع أثم وجاز البيع. وسبب الخلاف هل يتضمن النهي فساد المنهي وإن كان النهي ليس في نفس الشيء بل من خارج؛ فمن قال يتضمن فسخ البيع لم يجزه؛ ومن قال ليس يتضمن أجازه. والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي عنه أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد، ويشبه أن يدخل في هذا الباب نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الماء لقوله عليه الصلاة والسلام في بعض ألفاظه "إنه نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وقال أبو بكر بن المنذر: ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء، ونهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ" وقال: لا يمنع وهو بئر ولا بيع ماء. واختلف العلماء في تأويل هذا النهي، فحمله جماعة من العلماء على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء بحال كان من بئر أو غدير أو عين في أرض مملكة أو غير مملكة، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه، وبه قال يحيى بن يحيى قال: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وبعضهم خصص هذه الأحاديث معارضة الأصول لها، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه كما قال عليه الصلاة والسلام وانعقد عليه الإجماع، والذين خصصوا هذا المعنى اختلفوا في جهة تخصيصه، فقال قوم: معنى ذلك أن البئر يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا يوما، فيروي زرع أحدهما في بعض يومه، ولا يروي في اليوم الذي لشريكه زرعه، فيجب عليه أن لا يمنع شريكه من الماء بقية ذلك اليوم. وقال بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره، والتأويلان قريبان، ووجه التأويلين أنهم حملوا المطلق في هذين الحديثين على المقيد وذلك أنه نهى عن بيع الماء مطلقا، ثم نهى عن منع فضل الماء، فحملوا المطلق في هذا الحديث على المقيد وقالوا: الفضل هو الممنوع في الحديثين، وأما مالك فأصل مذهبه أن الماء متى كان متملكة منبعه فهو لصاحب الأرض له بيعه ومنعه، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم ويخاف عليهم الهلاك، وحمل الحديث على آبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين الغير متملكة، فرأى أن صاحبها: أعني الذي حفرها أولى بها، فإذا روت ماشيته ترك الفضل للناس، وكأنه رأى أن البئر لا تتملك بالإحياء. ومن هذا الباب التفرقة بين الوالدة وولدها، وذلك أنهم اتفقوا على منع التفرقة في المبيع بين الأم وولدها، لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" واختلفوا من ذلك في موضعين في وقت جواز التفرقة وفي حكم البيع إذا وقع. فأما حكم البيع فقال مالك: يفسخ، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفسخ وأثم البائع والمشتري. وسبب الخلاف هل النهي يقتضي فساد المنهي إذا كان لعلة من خارج. وأما الوقت الذي ينتقل فيه المنع إلى الجواز؛ فقال مالك: حد ذلك الإثغار؛ وقال الشافعي: حد ذلك سبع سنين أو ثمان؛ وقال الأوزاعي: حده فوق عشر سنين، وذلك أنه إذا نفع نفسه واستغنى في حياته عن أمه. ويلحق بهذا الباب إذا وقع في البيع غبن لا يتغابن الناس بمثله هل يفسخ البيع أم لا؟ فالمشهور في المذهب أن لا يفسخ. وقال عبد الوهاب: إذا كان فوق الثلث رد، وحكاه عن بعض أصحاب مالك؛ وجعله عليه الصلاة والسلام الخيار لصاحب الجلب إذا تلقى خارج المصر دليل على اعتبار الغبن، وكذلك ما جعل لمنقذ بن حبان من الخيار ثلاثا لما ذكر له أنه يغبن في البيوع، ورأى قوم من السلف الأول أن حكم الوالد في ذلك حكم الوالدة، وقوم رأوا ذلك في الأخوة.

*3*الباب السادس في النهي من قبل وقت العبادات.

@-وذلك إنما ورد في الشرع في وقت وجوب المشي إلى الجمعة فقط لقوله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} وهذا أمر مجمع عليه فيما أحسب، أعني منع البيع عند الأذان الذي يكون بعد الزوال والإمام على المنبر. واختلفوا في حكمه إذا وقع هل يفسخ أو لا يفسخ؟، فإن فسخ فعلى من يفسخ؟ وهل يلحق سائر العقود في هذا المعنى بالبيع أم لا يلحق؟ فالمشهور عن مالك أنه يفسخ، وقد قيل لا يفسخ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف كما قلنا غير ما مرة هل النهي الوارد لسبب من خارج يقتضي فساد المنهي عنه أو لا يقتضيه؟ وأما على من يفسخ؟ فعند مالك على من تجب عليه الجمعة لا على من لا تجب عليه. وأما أهل الظاهر فتقتضي أصولهم أن يفسخ على كل بائع. وأما سائر العقود فيحتمل أن تلحق بالبيوع، لأن فيها المعنى الذي في البيع من الشغل به عن السعي إلى الجمعة، ويحتمل أن لا يلحق به لأنها تقع في هذا الوقت نادرا بخلاف البيوع. وأما سائر الصلوات فيمكن أن تلحق بالجمعة على جهة الندب لمرتقب الوقت، فإذا فات فعلى جهة الحظر، وإن كان لم يقل به أحد في مبلغ علمي، ولذلك مدح الله تاركي البيوع لمكان الصلاة، فقال تعالى {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} . وإذ قد أثبتت أسباب الفساد العامة للبيوع فَلْنَصِرْ إلى ذكر الأسباب والشروط المصححة له وهو القسم الثاني من النظر العام في البيوع.

@-(القسم الثاني) والأسباب والشروط المصححة للبيع هي بالجملة ضد الأسباب المفسدة له، وهي منحصرة في ثلاثة أجناس: النظر الأول: في العقد. والثاني: في المعقود عليه. والثالث: في العاقدين، ففي هذا القسم ثلاثة أبواب.

*3*الباب الأول في العقد.

@-والعقد لا يصح إلا بألفاظ البيع والشراء التي صيغتها ماضية مثل أن يقول البائع: قد بعت منك، ويقول المشتري: قد اشتريت منك، وإذا قال له بعني سلعتك بكذا وكذا فقال قد بعتها. فعند مالك أن البيع قد وقع وقد لزم المستفهم إلا أن يأتي في ذلك بعذر، وعند الشافعي أنه لا يتم حتى يقول المشتري قد اشتريت، وكذلك إذا قال المشتري للبائع: بكم تبيع سلعتك؟ فيقول المشتري بكذا وكذا، فقال: قد اشتريت منك. اختلف هل يلزم البيع أم لا حتى يقول قد بعتها منك، وعند الشافعي أنه يقع البيع بالألفاظ الصريحة وبالكناية، ولا أذكر لمالك في ذلك قولا، ولا يكفي عند الشافعي المعاطاة دون قول، ولا خلاف فيما أحسب أن الإيجاب والقبول المؤثرين في اللزوم لا يتراخى أحدهما عن الثاني حتى يفترق المجلس، أعني أنه متى قال للبائع قد بعت سلعتي بكذا وكذا فسكت المشتري ولم يقبل حتى افترقا ثم أتى بعد ذلك فقال: قد قبلت أنه لا يلزم ذلك البائع. واختلفوا متى يكون اللزوم. فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول وإن لم يفترقا؛ وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم: البيع لازم بالافتراق من المجلس وأنهما مهما لم يفترقا، فليس يلزم البيع ولا ينعقد، وهو قول ابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة وابن المبارك وسوار القاضي وشريح القاضي وجماعة من التابعين وغيرهم، وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي من الصحابة ولا مخالف لهما من الصحابة وعمدة المشترطين لخيار المجلس حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار" وفي بعض روايات هذا الحديث "إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها، حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الإسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد. وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث. فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال: "أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان" فكأنه حمل هذا على عمومه، وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس، ولو كان المجلس شرطا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لأن البيع بعد لم ينعقد ولا لزم بل الافتراق من المجلس، وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول، وبخاصة أنه لا يعارضه إلا من توهم العموم فيه، والأولى أن ينبني هذا على ذلك، وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندا فيما أحسب، فهذا هو الذي اعتمده مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث. وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية، وعلى القياس، فمن أظهر الظاهر في ذلك قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} والعقد هو الإيجاب والقبول والأمر على الوجوب، وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد، لأن له عندهم أن يرجع في البيع بعد ما أنعم ما لم يفترقا. وأما القياس فإنهم قالوا: عقد معاوضة، فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر أصله سائر العقود مثل النكاح والكتابة والخلع والرهون والصلح على دم العمد، فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور، فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس، فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية، وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب، وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين. قالوا: ولنا فيه تأويلان: أحدهما أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع، فقيل لهم إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقول. وأما التأويل الآخر فقالوا إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة، والحقيقة هي التفرق بالأبدان، ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس فيغلب الأقوى، والحكمة في ذلك هي لموضع الندم، فهذه هي أصول الركن الأول الذي هو العقد.

@-(وأما الركن الثاني) الذي هو المعقود عليه، فإنه يشترط فيه سلامته من الغرر والربا، وقد تقدم المختلف في هذه من المتفق عليه وأسباب الاختلاف في ذلك، فلا معنى لتكراره. والغرر ينتفي عن الشيء بأن يكون معلوم الوجود معلوم الصفة معلوم القدر مقدورا على تسليمه، وذلك في الطرفين الثمن والمثمون معلوم الأجل أيضا إن كان بيعا مؤجلا.

@-(وأما الركن الثالث) وهما العاقدان، فإنه يشترط فيهما أن يكونا مالكين تامي الملك أو وكيلين تامي الوكالة بالغين، وأن يكونا مع هذا غير محجور عليهما أو على أحدهما، إما لحق أنفسهما كالسفيه عند من يرى التحجير عليه أو لحق الغير كالعبد إلا أن يكون العبد مأذونا له في التجارة. واختلفوا من هذا في بيع الفضولي، هل ينعقد أم لا؟ وصورته أن يبيع الرجل مال غيره بشرط إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرضى فسخ، وكذلك في شراء الرجل للرجل بغير إذنه، على أنه إن رضي المشتري صح الشراء وإلا لم يصح، فمنعه الشافعي في الوجهين جميعا، وأجازه مالك في الوجهين جميعا؛ وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء فقال: يجوز في البيع ولا يجوز في الشراء. وعمدة المالكية ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي دينار وقال: اشتر لنا من هذا الجلب شاة، قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة والدينار، فقلت: يا رسول الله هذه شاتكم وديناركم، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه" ووجه الاستدلال منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع، فصار ذلك حجة على أبي حنيفة في صحة الشراء للغير، وعلى الشافعي في الأمرين جميعا. وعمدة الشافعي النهي الوارد عن بيع الرجل ما ليس عنده، المالكية تحمله على بيعه لنفسه لا لغيره، قالوا: والدليل على ذلك أن النهي إنما ورد في حكيم بن حزام وقضيته مشهورة، وذلك أنه كان يبيع لنفسه ما ليس عنده. وسبب الخلاف المسألة المشهورة، هل إذا ورد النهي على سبب حمل على سببه أو يعم؟ فهذه هي أصول هذا القسم، وبالجملة فالنظر في هذا القسم هو منطو بالقوة في الجزء الأول، ولكن النظر الصناعي الفقهي يقتضي أن يفرد بالتكلم فيه. وإذ قد تكلمنا في هذا الجزء بحسب غرضنا فلنصر إلى القسم الثالث، وهو القول في الأحكام العامة للبيوع الصحيحة.

@-(القسم الثالث: في الأحكام العامة للبيوع الصحيحة) وهذا القسم تنحصر أصوله التي لها تعلق قريب بالمسموع في أربع جمل: الجملة الأولى: في أحكام وجود العيب في المبيعات. والجملة الثانية: في الضمان في المبيعات متى ينتقل من ملك البائع إلى ملك المشتري. والثالثة: في معرفة الأشياء التي تتبع المبيع مما هي موجودة فيه في حين البيع من التي لا تتبعه. والرابعة: في اختلاف المتبايعين، وإن كان الأليق به كتاب الأقضية. وكذلك أيضا من أبواب أحكام البيوع الاستحقاق، وكذلك الشفعة هي أيضا من الأحكام الطارئة عليه، لكن جرت العادة أن يفرد لها كتاب.

*3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها بابان: الباب الأول: في أحكام وجود العيوب في البيع المطلق. والباب الثاني: في أحكامهما في البيع بشرط البراءة.

*3*الباب الأول في أحكام العيوب في البيع المطلق.

@-والأصل في وجود الرد بالعيب قوله تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وحديث المصراة المشهور، ولما كان القائم بالعيب لا يخلو أن يقوم في عقد يوجب الرد، أو يقوم في عقد لا يوجب ذلك، ثم إذا قام في عقد يوجب الرد، فلا يخلو أيضا من أن يقوم بعيب يوجب حكما أو لا يوجبه، ثم إن قام بعيب يوجب حكما فلا يخلو المبيع أيضا أن يكون قد حدث فيه تغير بعد البيع أو لا يكون، فإن كان لم يحدث فما حكمه؟ وإن كان حدث فيه فكم أصناف التغييرات وما حكمها؟ كانت الفصول المحيطة بأصول هذا الباب خمسة: الفصل الأول: في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب حكم، من التي لا يجب ذلك فيها. الثاني: في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها. الثالث: في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير. الرابع: في معرفة أصناف التغيرات الحادثة عند المشتري وحكمها. الخامس: في القضاء في هذا الحكم عند اختلاف المتبايعين، وإن كان أليق بكتاب الأقضية.

*4*الفصل الأول. في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب حكم من التي لا يجب فيها.

@-أما العقود التي يجب فيها العيب حكم بلا خلاف، فهي العقود التي المقصود منها المعاوضة، كما أن العقود التي ليس المقصود منها المعاوضة لا خلاف أيضا في أنه لا تأثير للعيب فيها، كالهبات لغير الثواب والصدقة؛ وأما ما بين هذين الصنفين من العقود، أعني ما جمع قصد المكارمة والمعاوضة مثل هبة الثواب، فالأظهر في المذهب أنه لا حكم فيها بوجود العيب، وقد قيل يحكم به إذا كان العيب مفسدا.

*4*الفصل الثاني. في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها.

@-وفي هذا الفصل نظران: أحدهما: في العيوب التي توجب الحكم. والنظر الثاني في الشرط الموجب له.

@-(النظر الأول) فأما العيوب التي توجب الحكم: فمنها عيوب في النفس؛ ومنها عيوب في البدن، وهذه منها ما هي عيوب بأن تشترط أضدادها في المبيع وهي التي تسمى عيوبا من قبل الشرط؛ ومنها ما هي عيوب توجب الحكم وإن لم يشترط وجود أضدادها في المبيع، وهذه هي التي فقدها نقص في أصل الخلقة؛ وأما العيوب الأخر فهي التي أضدادها كمالات، وليس فقدها نقصا مثل الصنائع، وأكثر ما يوجد هذا الصنف في أحوال النفس، وقد يوجد في أحوال الجسم. والعيوب الجسمانية، منها ما هي في أجسام ذوات الأنفس، ومنها ما هي في غير ذوات الأنفس. والعيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانا له تأثير في ثمن المبيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان والعوائد والأشخاص، فربما كان النقص في الخلقة فضيلة في الشرع، كالخفاض في الإماء، والختان في العبيد، ولتقارب هذه المعاني في شيء شيء مما يتعامل الناس به وقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه، أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره، فمن ذلك وجود الزنى في العبيد. اختلف العلماء فيه؛ فقال مالك والشافعي: هو عيب؛ وقال أبو حنيفة: ليس بعيب وهو نقص في الخلق الشرعي الذي هو العفة؛ والزواج عند مالك عيب، وهو من العيوب العائقة عن الاستعمال، وكذلك الدين، وذلك أن العيب بالجملة هو ما عاق فعل النفس أو فعل الجسم وهذا العائق قد يكون في الشيء وقد يكون من خارج؛ وقال الشافعي: ليس الدين ولا الزواج بعيب فيما أحسب. والحمل في الرائعة عيب عند مالك. وفي كونه عيبا في الوخش خلاف في المذهب. والتصرية عند مالك والشافعي عيب وهو حقن اللبن في الثدي أياما حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير، وحجتهم حديث المصراة المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لا تصروا الإبل والبقر، فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر" قالوا: فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية، وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا. قالوا: وأيضا فإنه مدلس، فأشبه التدليس بسائر العيوب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الإنسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب. قالوا: وحديث المصراة يجب أن لا يوجب عملا لمفارقته الأصول، وذلك أنه مفارق للأصول من وجوه: فمنها أنه معارض لقوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وهو أصل متفق عليه؛ ومنها أن فيه معارضة منع بيع طعام بطعام نسيئة، وذلك لا يجوز باتفاق؛ ومنها أن الأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلا ومنها بيع الطعام المجهول: أي الجزاف بالمكيل المعلوم، لأن اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر، وأيضا فإنه يقل ويكثر، والعوض ههنا محدود، ولكن الواجب أن يستثني هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب وإنما هو حكم خاص. ولكن اطرد إليه القول فلنرجع إلى حيث كنا نقول: إنه لا خلاف عندهم في العور والعمى وقطع اليد والرجل أنها عيوب مؤثرة، وكذلك المرض في أي عضو كان، أو كان في جملة البدن، والشيب في المذهب عيب في الرائعة، وقيل لابأس باليسير منه فيها، وكذلك الاستحاضة عيب في الرقيق والوخش، وكذلك ارتفاع الحيض عيب في المشهور من المذهب، والزعر عيب، وأمراض الحواس والأعضاء كلها عيب باتفاق. وبالجملة فأصل المذهب أن كل ما أثر في القيمة: أعني نقص منها فهو عيب، والبول في الفراش عيب، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: ترد الجارية به، ولا يرد العبد به، والتأنيث في الذكر والتذكير في الأنثى عيب هذا كله في المذهب إلا ما ذكرنا فيه الاختلاف.

@-(النظر الثاني) وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثا قبل أمد التبايع باتفاق أو في العهدة عند من يقول بها، فيجب ههنا أن نذكر اختلاف الفقهاء في العهدة فنقول: انفرد مالك بالقول بالعهدة دون سائر فقهاء الأمصار، وسلفه في ذلك أهل المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم، ومعنى العهدة أن كل عيب حدث فيها عند المشتري فهو من البائع، وهي عند القائلين بها عهدتان: عهدة الثلاثة الأيام، وذلك من جمع العيوب الحادثة فيها عند المشتري. وعهدة السنة، وهي من العيوب الثلاثة: الجذام والبرص والجنون، فما حدث في السنة من هذه الثلاث بالمبيع فهو من البائع، وما حدث من غيرها من العيوب كان من ضمان المشتري على الأصل. وعهدة الثلاث عند المالكية بالجملة بمنزلة أيام الخيار وأيام الاستبراء والنفقة فيها والضمان من البائع. وأما عهدة السنة فالنفقة فيها والضمان من المشتري إلا من الأدواء الثلاثة، وهذه العهدة عند مالك في الرقيق، وهي أيضا واقعة في أصناف البيوع في كل ما القصد منه المماكسة والمحاكرة وكان بيعا لا في الذمة، هذا ما لا خلاف فيه في المذهب، واختلف في غير ذلك. وعهدة السنة تحسب عنده بعد عهدة الثلاث في الأشهر من المذهب، وزمان المواضعة يتداخل مع عهدة الثلاث إن كان زمان المواضعة أطول من عهدة الثلاث. وعهدة السنة لا تتداخل مع عهدة الاستبراء، هذا هو الظاهر من المذهب، وفيه اختلاف. وقال الفقهاء السبعة: لا يتداخل منها عهدة مع ثانية، فعهدة الاستبراء أولا، ثم عهدة الثلاث، ثم عهدة السنة. واختلف أيضا عن مالك هل تلزم العهدة في كل البلاد من غير أن يحمل أهلها عليها؟ فروي عنه الوجهان، فإذا قيل لا يلزم أهل هذه البلد إلا أن يكونوا قد حملوا على ذلك فهل يجب أن يحمل عليها أهل كل بلد أم لا؟ فيه قولان في المذهب، ولا يلزم النقد في عهدة الثلاث وإن اشترط، ويلزم في عهدة السنة؛ والعلة في ذلك أنه لم يكمل تسليم البيع فيها للبائع قياسا على بيع الخيار لتردد النقد فيها بين السلف والبيع، فهذه كلها مشهورات أحكام العهدة في مذهب مالك وهي كلها فروع مبنية على صحة العهدة، فلنرجع إلى تقرير حجج المثبتين لها والمبطلين. وأما عمدة مالك رحمه الله في العهدة وحجته التي عول عليها، فهي عمل أهل المدينة. وأما أصحابه المتأخرون فإنهم احتجوا بما رواه الحسن عن عقبة ابن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عهدة الرقيق ثلاثة أيام" وروي أيضا "لا عهدة بعد أربع" وروى هذا الحديث أيضا الحسن عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه، وكلا الحديثين عند أهل العلم معلول، فإنهم اختلفوا في سماع الحسن عن سمرة، وإن كان الترمذي قد صححه وأما سائر فقهاء الأمصار فلم يصح عندهم في العهدة أثر، ورأوا أنها لو صحت مخالفة للأصول، وذلك أن المسلمين مجمعون على أن كل مصيبة تنزل بالمبيع قبل قبضه فهي من المشتري، فالتخصيص لمثل هذا الأصل المتقرر إنما يكون بسماع ثابت، ولهذا ضعف عند مالك في أحد الروايتين عنه أن يقضي بها في كل بلد إلا أن يكون ذلك عرفا في البلد أو يشترط وبخاصة عهدة السنة، فإنه لم يأت في ذلك أثر. وروي عن الشافعي عن ابن جريح قال: سألت ابن شهاب عن عهدة السنة والثلاث فقال: ما علمت فيها أمرا سالفا. وإذ قد تقرر القول في تمييز العيوب التي توجب حكما من التي لا توجبه وتقرر الشرط في ذلك، وهو أن يكون العيب حادثا قبل البيع أو في العهدة عند من يرى العهدة، فلنصر إلى ما بقي.

*4*الفصل الثالث. في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير.

@-وإذا وجدت العيوب، فإن لم يتغير المبيع بشيء من العيوب عند المشتري فلا يخلو أن يكون في عقار أو عروض أو في حيوان، فإن كان في حيوان فلا خلاف أن المشتري مخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له. وأما إن كان عقار فمالك يفرق في ذلك بين العيب اليسير والكثير فيقول: إن كان العيب يسيرا لم يجب الرد، ووجبت قيمة العيب وهو الأرش، وإن كان كثيرا وجب الرد، هذا هو الموجود المشهور في كتب أصحابه، ولم يفصل البغداديون هذا التفصيل. وأما العروض فالمشهور في المذهب أنها ليست في هذا الحكم بمنزلة الأصول، وقد قيل إنها بمنزلة الأصول في المذهب، وهذا الذي كان يختاره الفقيه أبو بكر بن رزق شيخ جدي رحمة الله عليهما، وكان يقول: إنه لا فرق في هذا المعنى بين الأصول والعروض، وهذا الذي قاله يلزم من يفرق بين العيب الكثير والقليل في الأصول: أعني أن يفرق في ذلك أيضا في العروض، والأصل أن كل ما حط القيمة أنه يجب به الرد، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، ولذلك لم يعول البغداديون فيما أحسب على التفرقة التي قلت في الأصول، ولم يختلف قولهم في الحيوان إنه لا فرق فيه بين العيب القليل والكثير.

@-(فصل) وإذ قلنا إن المشتري يخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شيء له، فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك، إلا ابن سريج من أصحاب الشافعي فإنه قال: ليس لهما ذلك لأنه خيار في مال، فلم يكن له إسقاطه بعوض كخيار الشفعة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا غلط، لأن ذلك حق للمشتري فله أن يستوفيه: أعني أن يرد ويرجع بالثمن، وله أن يعاوض على تركه، وما ذكره من خيار الشفعة فإنه شاهد لنا، فإن له عندنا تركه إلى عوض يأخذه، وهذا لا خلاف فيه. وفي هذا الباب فرعان مشهوران من قبل التبعيض: أحدهما هل إذا اشترى المشتري أنواعا من المبيعات في صفقة واحدة فوجد أحدها معيبا، فهل يرجع بالجميع، أو بالذي وجد فيه العيب؟ فقال قوم: ليس له إلا أن يرد الجميع أو يمسك، وبه قال أبو ثور والأوزاعي، إلا أن يكون قد سمى ما لكل واحد من تلك الأنواع من القيمة، فإن هذا مما لا خلاف فيه أنه يرد المبيع بعينه فقط، وإنما الخلاف إذا لم يسم. وقال قوم: يرد المعيب بحصته من الثمن وذلك بالتقدير، وممن قال بهذا القول سفيان الثوري وغيره. وروي عن الشافعي القولان معا. وفرق مالك فقال: ينظر في المعيب، فإن كان ذلك وجه الصفقة والمقصود بالشراء رد الجميع، وإن لم يكن وجه الصفقة رده بقيمته. وفرق أبو حنيفة تفريقا آخر وقال: إن وجد العيب قبل القبض رد الجميع، وإن وجده بعد القبض رد المعيب بحصته من الثمن. ففي هذه المسألة أربعة أقوال. فحجة من منع التبغيض في الرد أن المردود يرجع فيه بقيمة لم يتفق عليها المشتري والبائع، وكذلك الذي يبقى إنما يبقى بقيمة لم يتفقا عليها. ويمكن أنه لو بعضت السلعة لم يشتر البعض بالقيمة التي أقيم بها. وأما حجة من رأى الرد في البعض المعيب ولابد فلأنه موضع ضرورة، فأقيم فيه التقويم والتقدير مقام الرضا قياسا على أن ما فات في البيع فليس فيه إلا القيمة. وأما تفريق مالك بين ما هو وجه الصفقة أو غير وجهها فاستحسان منه، لأنه رأى أن ذلك المعيب إذا لم يكن مقصودا في المبيع فليس كبير ضرر في أن لا يوافق الثمن الذي أقيم به أراده المشتري أو البائع. وأما عند ما يكون مقصودا أو جل المبيع فيعظم الضرر في ذلك. واختلف عنه هل يعتبر تأثير العيب في قيمة الجميع أو في قيمة المعيب خاصة. وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يقبض أو لا يقبض، فإن القبض عنده شرط من شروط تمام البيع، وما لم يقبض المبيع فضمانه عنده من البائع، وحكم الاستحقاق في هذه المسألة حكم الرد بالعيب.

@-(وأما المسألة الثانية) فإنهم اختلفوا أيضا في رجلين يبتاعان شيئا واحدا في صفقة واحدة فيجدان به عيبا فيريد أحدهما الرجوع ويأبى الآخر، فقال الشافعي: لمن أراد الرد أن يرد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وقيل ليس له أن يرد؛ فمن أوجب الرد شبهه بالصفقتين المفترقتين، لأنه قد اجتمع فيها عاقدان؛ ومن لم يوجبه شبهه بالصفقة الواحدة إذا أراد المشتري فيها تبغيض رد المبيع بالعيب.

*4*الفصل الرابع. في معرفة أصناف التغيرات الحادثة عند المشتري وحكمها.

@-وأما إن تغير المبيع عند المشتري ولم يعلم بالعيب إلا بعد تغير المبيع عنده فالحكم في ذلك يختلف عند فقهاء الأمصار بحسب التغيير. فأما إن تغير بموت أو فساد أو عتق، ففقهاء الأمصار على أنه فوت، ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يرجع في الموت والعتق بشيء. وكذلك عندهم حكم من اشترى جارية فأولدها. وكذلك التدبير عندهم، وهو القياس في الكتابة. وأما تغيره في البيع فإنهم اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا باعه لم يرجع بشيء، وكذلك قال الليث. وأما مالك فله في البيع تفصيل، وذلك أنه لا يخلو أن يبيعه من بائعه منه أو من غير بائعه، ولا يخلو أيضا أن يبيعه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإن باعه من بائعه منه بمثل الثمن فلا رجوع له بالعيب. وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بقيمة العيب، وإن باعه بأكثر من الثمن نظر، فإن كان البائع الأول مدلسا: أي عالما بالعيب لم يرجع الأول على الثاني بشيء، وإن لم يكن مدلسا رجع الأول على الثاني في الثمن والثاني على الأول أيضا، وينفسخ البيعان ويعود المبيع إلى ملك الأول، فإن باعه من عند بائعه منه، فقال ابن القاسم: لا رجوع له بقيمة العيب، مثل قول أبي حنيفة والشافعي؛ وقال ابن عبد الحكم: له الرجوع بقيمة العيب؛ وقال أشهب: يرجع بالأقل من قيمة العيب أو بقيمة الثمن، هذا إذا باعه بأقل مما اشتراه، وعلى هذا لا يرجع إذا باعه بمثل الثمن أو أكثر، وبه قال عثمان البتي. ووجه قول ابن القاسم والشافعي وأبي حنيفة أنه إذا فات بالبيع فقد أخذ عوضا من غير أن يعتبر تأثير بالعيب في ذلك العوض الذي هو الثمن، ولذلك متى قام عليه المشتري منه بعيب رجع على البائع الأول بلا خلاف. ووجه القول الثاني تشبيهه البيع بالعتق. ووجه قول عثمان وأشهب أنه لو كان عنده المبيع لم يكن له إلا الإمساك أو الرد للجميع، فإذا باعه فقد أخذ عوض ذلك الثمن، فليس له إلا ما نقص إلا أن يكون أكثر من قيمة العيب. وقال مالك: إن وهب أو تصدق رجع بقيمة العيب؛ وقال أبو حنيفة لا يرجع، لأن هبته أو صدقته تفويت للملك بغير عوض ورضي منه بذلك طلبا للأجر، فيكون رضاه بإسقاط حق العيب أولى وأحرى بذلك. وأما مالك فقاس الهبة على العتق، وقد كان القياس أن لا يرجع في شيء من ذلك إذا فات ولم يمكنه الرد، لأن إجماعهم على أنه إذا كان في يده فليس يجب له إلا الرد أو الإمساك، دليل على أنه ليس للعيب تأثير في إسقاط شيء من الثمن، وإنما له تأثير في فسخ البيع فقط. وأما العقود التي يتعاقبها الاسترجاع كالرهن والإجازة فاختلف في ذلك أصحاب مالك، فقال ابن القاسم: لا يمنع ذلك من الرد بالعيب إذا رجع إليه المبيع؛ وقال أشهب: إذا لم يكن زمان خروجه عن يده زمانا بعيدا كان له الرد بالعيب، وقول ابن القاسم أولى، والهبة للثواب عند مالك كالبيع في أنها فوت، فهذه هي الأحوال التي تطرأ على المبيع من العقود الحادثة فيها وأحكامها.

*3*باب في طرو النقصان.

@-وأما إن طرأ على المبيع نقص فلا يخلو أن يكون النقص في قيمته أو في البدن أو في النفس. فأما نقصان القيمة لاختلاف الأسواق، فغير مؤثر في الرد بالعيب بإجماع. وأما النقصان الحادث في البدن، فإن كان يسيرا غير مؤثر في القيمة فلا تأثير له في الرد بالعيب، وحكمه حكم الذي لم يحدث، وهذا نص مذهب مالك وغيره.

وأما النقص الحادث في البدن المؤثر في القيمة، فاختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:

أحدها أنه ليس له أن يرجع إلا بقيمة العيب فقط وليس له غير ذلك إذا أبى البائع من الرد، وبه قال الشافعي في قوله الجديد وأبو حنيفة.

وقال الثوري: ليس له إلا أن يرد، ويرد مقدار العيب الذي حدث عنده، وهو قول الشافعي الأول.

والقول الثالث قول مالك: إن المشتري بالخيار بين أن يمسك ويضع عنه البائع من الثمن قدر العيب أو يرده على البائع ويعطيه ثمن العيب الذي حدث عنده، وأنه إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع للمشتري: أنا أقبض المبيع وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، وقال المشتري: بل أنا أمسك المبيع، وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، فالقول قول المشتري والخيار له، وقد قيل في المذهب القول قول البائع، وهذا إنما يصح على قول من يرى أنه ليس للمشتري إلا أن يمسك أو يرد وما نقص عنده. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: له أن يرد ولا شيء عليه.

وأما حجة من قال: إنه ليس للمشتري إلا أن يرد ويرد قيمة العيب، أو يمسك، فلأنه قد أجمعوا على أنه إذا لم يحدث بالمبيع عيب عند المشتري فليس إلا الرد، فوجب استصحاب حال هذا الحكم، وإن حدث عند المشتري عيب مع إعطائه قيمة العيب الذي حدث عنده.

وأما من رأى أنه لا يرد المبيع بشيء وإنما له قيمة العيب الذي كان عند البائع، فقياسا على العتق والموت لكون هذا الأصل غير مجمع عليه، وقد خالف فيه عطاء.

وأما مالك فلما تعارض عنده حق البائع وحق المشتري غلب المشتري وجعل له الخيار، لأن البائع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مفرطا في أنه لم يستعلم العيب ويعلم به المشتري، أو يكون علمه فدلس به على المشتري. وعند مالك أنه إذا صح أنه دلس بالعيب وجب عليه الرد من غير أن يدفع إليه المشتري قيمة العيب الذي حدث عنده، فإن مات من ذلك العيب كان ضمانه على البائع بخلاف الذي لم يثبت أنه دلس فيه.

وأما حجة أبي محمد، فلأنه أمر حدث من عند الله كما لو حدث في ملك البائع، فإن الرد بالعيب دال على أن البيع لم ينعقد في نفسه، وإنما انعقد في الظاهر، وأيضا فلا كتاب ولا سنة يوجب على مكلف غرم ما لم يكن له تأثير في نقصه إلا أن يكون على جهة التغليظ عند من ضمن الغاصب ما نقص عنده بأمر من الله، فهذا حكم العيوب الحادثة في البدن.

وأما العيوب التي في النفس كالإباق والسرقة، فقد قيل في المذهب إنها تُفِيتُ [أي يفوت بها استطاعة الرد] الرد كعيوب الأبدان، وقيل لا، ولا خلاف أن العيب الحادث عند المشتري إذا ارتفع بعد حدوثه أنه لا تأثير له في الرد إلا أن لا تؤمن عاقبته. واختلفوا من هذا الباب في المشتري يطأ الجارية، فقال قوم: إذا وطئ فليس له الرد وله الرجوع بقيمة العيب، وسواء كانت بكرا أو ثيبا؛ وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: يرد قيمة الوطء في البكر ولا يردها في الثيب؛ وقال قوم: بل يردها ويرد مهر مثلها، وبه قال ابن أبي شبرمة وابن أبي ليلى؛ وقال سفيان الثوري: إن كانت ثيبا رد نصف العشر من ثمنها، وإن كانت بكرا رد العشر من ثمنها؛ وقال مالك: ليس عليه في وطء الثيب شيء لأنه غلة وجبت له بالضمان. وأما البكر فهو عيب يثبت عنده للمشتري الخيار على ما سلف من رأيه، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي؛ وقال عثمان البتي: الوطء معتبر في العرف في ذلك النوع من الرقيق، فإن كان له أثر في القيمة رد البائع ما نقص، وإن لم يكن له أثر لم يلزمه شيء، فهذا هو حكم النقصان الحادث في المبيعات.

وأما الزيادة الحادثة في المبيع: أعني المتولدة المنفصلة منه، فاختلف العلماء فيها، فذهب الشافعي إلى أنها غير مؤثرة في الرد وأنها للمشتري لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان". وأما مالك فاستثنى من ذلك الولد فقال: يرد للبائع، وليس للمشتري إلا الرد الزائد مع الأصل أو الإمساك. قال أبو حنيفة: الزوائد كلها تمنع الرد وتوجب أرش العيب إلا الغلة والكسب. وحجته أن ما تولد عن المبيع داخل في العقد، فلما لم يكن رده ورد ما تولد عنه كان ذلك فوتا يقتضي أرش العيب إلا ما نصصه الشرع من الخراج والغلة. وأما الزيادة الحادثة في نفس المبيع الغير المنفصلة عنه فإنها إن كانت مثل الصبغ في الثوب والرقم فإنها توجب الخيار في المذهب، إما الإمساك والرجوع بقيمة العيب، وإما في الرد وكونه شريكا مع البائع بقيمة الزيادة. وأما النماء في البدن مثل السمن فقد قيل في المذهب يثبت به الخيار للمشتري، وقيل لا يثبت، وكذلك النقص الذي هو الهزال، فهذا هو القول في حكم التغيير.

*4*الفصل الخامس. في القضاء في اختلاف الحكم عند اختلاف المتبايعين.

@-وأما صفة الحكم في القضاء بهذه الأحكام فإنه إذا تقار البائع والمشتري على حالة من هذه الأحوال المذكورة ههنا وجب الحكم الخاص بتلك الحال، فإن أنكر البائع دعوى القائم، فلا يخلو أن ينكر وجود العيب أو ينكر حدوثه عنده. فإن أنكر وجود العيب بالمبيع فإن كان العيب يستوي في إدراكه جميع الناس كفى في ذلك شاهدان عدلان ممن اتفق من الناس، وإن كان مما يختص بعلمه أهل صناعة ما، شهد به أهل تلك الصناعة، فقيل في المذهب عدلان. وقيل لا يشترط في ذلك العدالة ولا العدد ولا الإسلام، وكذلك الحال إن اختلفوا في كونه مؤثرا في القيمة، وفي كونه أيضا قبل أمد التبايع أو بعده، فإن لم يكن للمشتري بينة حلف البائع أنه ما حدث عنده، وإن لم تكن له بينة (لعله وإن كانت له بينة) على وجود العيب بالمبيع لم يجب له يمين على البائع. وأما إذا وجب الأرش فوجه الحكم في ذلك أن يقوم الشيء سليما ويقوم معيبا ويرد المشتري ما بين ذلك، فإن وجب الخيار قوم ثلاث تقويمات: تقويم وهو سليم، وتقويم بالعيب الحادث عند البائع، وتقويم بالعيب الحادث عند المشتري، فيرد البائع من الثمن ويسقط عنه ما قدر منه قدر ما تنقص به القيمة المعيبة عن القيمة السليمة، وإن أبى المشتري الرد وأحب الإمساك رد البائع من الثمن ما بين القيمة الصحيحة والمعيبة عنده.

*3*الباب الثاني في بيع البراءة.

@-اختلف العلماء في جواز هذا البيع. وصورته أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم، فقال أبو حنيفة: يجوز البيع بالبراءة من كل عيب سواء علمه البائع أو لم يعلمه، سماه أو لم يسميه، أبصره أو لم يبصره، وبه قال أبو ثور. وقال الشافعي في أشهر قوليه وهو المنصور عند أصحابه لا يبرأ البائع إلا من عيب يريه للمشتري، وبه قال الثوري. وأما مالك فالأشهر عنه أن البراءة جائزة مما يعلم البائع من العيوب، وذلك في الرقيق خاصة، إلا البراءة من الحمل في الجواري الرائعات، فإنه لا يجوز عنده لعظم الغرر فيه، ويجوز في الوخش. وعنه في رواية ثانية: أنه يجوز في الرقيق والحيوان. وفي رواية ثالثة مثل قول الشافعي. وقد روي عنه أن بيع البراءة إنما يصح من السلطان فقط، وقيل في بيع السلطان وبيع المواريث، وذلك من غير أن يشترطوا البراءة. وحجة من رأى القول بالبراءة على الاطلاق أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع، فإذا أسقطه سقط أصله سائر الحقوق الواجبة. وحجة من لم يجزه على الاطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما علمه، ولذلك اشترط جهل البائع مالك. وبالجملة فعمدة مالك ما رواه في الموطأ أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه، فاختصما إلى عثمان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي، وقال عبد الله: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على عبد الله أن يحلف لقد باع العبد وما به داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد. وروي أيضا أن زيد بن ثابت كان يجيز بيع البراءة. وإنما خص مالك بذلك الرقيق لكون عيوبهم في الأكثر خافية. وبالجملة خيار الرد بالعيب حق ثابت للمشتري، ولما كان ذلك يختلف اختلافا كثيرا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على الجهل به أن لا يجوز أصله إذا اتفقا على جهل صفة المبيع المؤثرة في الثمن، ولذلك حكى ابن القاسم في المدونة عن مالك أن آخر قوله كان إنكار بيع البراءة إلا ما خفف فيه السلطان، وفي قضاء الديون خاصة. وذهب المغيرة من أصحاب مالك إلى أن البراءة إنما تجوز فيما كان من العيوب لا يتجاوز فيها ثلث المبيع، والبراءة بالجملة إنما تلزم عند القائلين بالشرط: أعني إذا اشترطها إلا بيع السلطان والمواريث عند مالك فقط. فالكلام بالجملة في بيع البراءة هو في جوازه وفي شرط جوازه، وفيما يجوز من العقود والمبيعات والعيوب، ولمن يجوز بالشرط أو مطلقا، وهذه كلها قد تقدمت بالقوة في قولنا فاعلمه.

*3*(الجملة الثانية: في وقت ضمان المبيعات) واختلفوا في الوقت الذي يتضمن فيه المشتري المبيع أنى تكون خسارته إن هلك منه. فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يضمن المشتري إلا بعد القبض. وأما مالك فله في ذلك تفصيل، وذلك أن المبيعات عنده في هذا الباب ثلاثة أقسام: بيع يجب على البائع فيه حق توفية من وزن أو كيل وعدد. وبيع ليس فيه حق توفية، وهو الجزاف أو ما لا يوزن ولا يكال ولا يعد. فأما ما كان فيه حق توفية فلا يضمن المشتري إلا بعد القبض. وأما ما ليس فيه حق توفية وهو حاضر فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من المشتري وإن لم يقبضه. وأما المبيع الغائب، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: أشهرها أن الضمان من البائع إلا أن يشترطه على المبتاع. والثانية أنه من المبتاع إلا أن يشترطه على البائع. والثالثة الفرق بين ما ليس بمأمون البقاء إلى وقت الاقتضاء كالحيوان والمأكولات، وبين ما هو مأمون البقاء. والخلاف في هذه المسألة مبني هل على القبض شرط من شروط العقد، أو حكم من أحكام العقد، والعقد لازم دون القبض؟ فمن قال القبض من شروط صحة العقد أو لزومه أو كيفما شئت أن تعبر في هذا المعنى كان الضمان عنده من البائع حتى يقبضه المشتري؛ ومن قال هو حكم لازم من أحكام المبيع والبيع قد انعقد ولزم قال: العقد يدخل في ضمان المشتري. وتفريق مالك بين الغائب والحاضر، والذي فيه حق توفية والذي ليس فيه حق توفية استحسان، ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو التفات إلى المصلحة والعدل. وذهب أهل الظاهر إلى أن بالعقد يدخل في ضمان المشتري وفيما أحسب، وعمدة من رأى ذلك اتفاقهم على أن الخراج قبل القبض للمشتري، وقد قال عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وعمدة المخالف حديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى مكة قال له "انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا" وقد تكلمنا في شرط القبض في المبيع فيما سلف، ولا خلاف بين المسلمين أنه من ضمان المشتري بعد القبض إلا في العهدة والجوائح. وإذ قد ذكرنا العهدة فينبغي أن نذكر ههنا الجوائح.

*4*القول في الجوائح.

@-اختلف العلماء في وضع الجوائح في الثمار، فقال بالقضاء بها مالك وأصحابه، ومنعها أبو حنيفة والثوري والشافعي في قوله الجديد والليث. فعمدة من قال بوضعها حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه؟" خرجه مسلم عن جابر. وما روي عنه أنه قال "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح". فعمدة من أجاز الجوائح حديثا جابر هذان، وقياس الشبه أيضا، وذلك أنهم قالوا: إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي فيها حق توفية، والفرق عندهم بين هذا المبيع وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع والمبيع لم يكمل بعد، فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق، فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات. وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض. وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري ومن طريق السماع أيضا حديث أبي سعيد الخدري قال "أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" قالوا: فلم يحكم بالجائحة. فسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيهما وتعارض مقاييس الشبه، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل، فقال من منع الجائحة: يشبه أن يكون الأمر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، قالوا: ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه، وذلك في حديث زيد بن ثابت المشهور، وقال من أجازها في حديث أبي سعيد: يمكن أن يكون البائع عديما فلم يقض عليه بجائحة أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب. وأما الشافعي فروى حديث جابر عن سليمان بن عتيق عن جابر، وكان يضعفه ويقول: إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ولكنه قال: إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير، ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها.

والكلام في أصول الجوائح على مذهب مالك ينحصر في أربعة فصول: الأول: في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح. الثاني: في محل الجوائح من المبيعات. الثالث: في مقدار ما يوضع منه فيه. الرابع: في الوقت الذي توضع فيه.

*4*الفصل الأول في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح.

@-وأما ما أصاب الثمرة من السماء مثل البرد والقحط وضده والعفن، فلا خلاف في المذهب أنه جائحة. وأما العطش كما قلنا فلا خلاف بين الجميع أنه جائحة. وأما ما أصاب من صنع الآدميين فبعض من أصحاب مالك رآه جائحة وبعض لم يره جائحة. والذين رأوه جائحة انقسموا إلى قسمين: فبعضهم رأى منه جائحة ما كان غالبا كالجيش ولم ير ما كان منه بمغافصة (غافصة: أخذه على غرة) جائحة مثل السرقة، وبعضهم جعل كل ما يصيب الثمرة من جهة الآدميين جائحة بأي وجه كان، فمن جعلها في الأمور السماوية فقط اعتمد ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت إن منع الله الثمرة؟" ومن جعلها في أفعال الآدميين شبهها بالأمور السماوية، ومن استثنى اللص قال: يمكن أن يتحفظ منه.

*4*الفصل الثاني في محل الجوائح من المبيعات.

@-ومحل الجوائح هي الثمار والبقول. فأما الثمار فلا خلاف فيها في المذهب، وأما البقول ففيها خلاف، والأشهر فيها الجائحة. وإنما اختلفوا في البقول لاختلافهم في تشبيهها بالأصل الذي هو الثمر.

*4*الفصل الثالث في مقدار ما يوضع منه فيه.

@-وأما المقدار الذي تجب فيه الجائحة، أما في الثمار فالثلث، وأما في البقول فقيل في القليل والكثير، وقيل في الثلث، وابن القاسم يعتبر ثلث الثمر بالكيل وأشهب يعتبر الثلث في القيمة، فإذا ذهب من الثمر عند أشهب ما قيمته الثلث من الكيل وضع عنه الثلث من الثمن، وسواء كان ثلثا في الكيل أو لم يكن. وأما ابن القاسم فإنه إذا ذهب من الثمر الثلث من الكيل، فإن كان نوعا واحدا ليس تختلف قيمة بطونه حط عنه من الثمن الثلث، وإن كان الثمر أنواعا كثيرة مختلفة القيم، أو كان بطونا مختلفة القيم أيضا اعتبر قيمة ذلك الثلث الذاهب من قيمة الجميع، فما كان قدره حط بذلك القدر من الثمن، ففي موضع يعتبر المكيلة فقط، حيث تستوي القيمة في أجزاء الثمرة وبطونها وفي موضع يعتبر أمرين جميعا حيث تختلف القيمة، والمالكية يحتجون في مصيرهم إلى التقدير في وضع الجوائح وإن كان الحديث الوارد فيها مطلقا بأن القليل في هذا معلوم من حكم العادة أنه يخالف الكثير إذ كان معلوما أن القليل يذهب من كل ثمر، فكأن المشتري دخل على هذا الشرط بالعادة وإن لم يدخل بالنطق، وأيضا فإن الجائحة التي علق الحكم بها تقتضي الفرق بين القليل والكثير. قالوا: وإذا وجب الفرق وجب أن يعتبر فيه الثلث، إذ قد اعتبره الشرع في مواضع كثيرة، وإن كان المذهب يضطرب في هذا الأصل، فمرة يجعل الثلث من حيز الكثير كجعله إياه ههنا، ومرة يجعله في حيز القليل ولم يضطرب في أنه الفرق بين القليل والكثير، والمقدارات يعسر إثباتها بالقياس عند جمهور الفقهاء، ولذلك قال الشافعي: لو قلت بالجائحة لقلت فيها بالقليل والكثير، وكون الثلث فرقا بين القليل والكثير هو نص في الوصية في قوله عليه الصلاة والسلام "الثلث، والثلث كثير".

*4*الفصل الرابع في الوقت الذي توضع فيه.

@-وأما زمان القضاء بالجائحة، فاتفق المذهب على وجوبها في الزمان الذي يحتاج فيه إلى تبقية الثمر على رءوس الشجر حيث يستوفي طيبه. واختلفوا إذا أبقاه المشتري في الثمار ليبيعه على النضارة وشيئا شيئا، فقيل فيه الجائحة تشبيها بالزمان المتفق عليه، وقيل ليس فيه جائحة تفريقا بينه وبين الزمان المتفق على وجوب القضاء بالجائحة فيه، وذلك أن هذا الزمان يشبه الزمان المتفق عليه من جهة ويخالفه من جهة؛ فمن غلب الاتفاق أوجب فيه الجائحة؛ ومن غلب الاختلاف لم يوجب فيه جائحة، أعني من رأى أن النضارة مطلوبة بالشراء كما الطيب مطلوب قال: بوجوب الجائحة فيه؛ ومن لم ير الأمر فيهما واحدا قال: ليس فيه جائحة، ومن ههنا اختلفوا في وجوب الجوائح في البقول.

*3*(الجملة الثالثة من جمل النظر في الأحكام) وهو في تابعات المبيعات، ومن مسائل هذا الباب المشهورة اثنتان: الأولى بيع النخيل وفيها الثمر متى يتبع بيع الأصل ومتى لا يتبعه؟ فجمهور الفقهاء على أن من باع نخلا فيها ثمر قبل أن يؤبر فإن الثمر للمشتري، وإذا كان البيع بعد الإبار فالثمر للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، والثمار كلها في هذا المعنى في معنى النخيل، وهذا كله لثبوت حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" قالوا: فلما حكم صلى الله عليه وسلم بالثمن للبائع بعد الإبار علمنا بدليل الخطاب أنها للمشتري قبل الإبار بلا شرط، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي للبائع قبل الإبار وبعده، ولم يجعل المفهوم ههنا من باب دليل الخطاب بل من باب مفهوم الأحرى والأولى ، قالوا: وذلك أنه إذا وجبت للبائع بعد الإبار فهي أحرى أن تجب له قبل الإبار. وشبهوا خروج الثمر بالولادة، وكما أن من باع أمة لها ولد فولدها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع كذلك الأمر في الثمن، وقال ابن أبي ليلى: سواء أبر أو لم يؤبر إذا بيع الأصل فهو للمشتري اشترطها أو لم يشترطها، فرد الحديث بالقياس، لأنه رأى أن الثمر جزء من المبيع، ولا معنى لهذا القول إلا أن كان لم يثبت عنده الحديث. وأما أبو حنيفة فلم يرد الحديث، وإنما خالف مفهوم الدليل فيه. فإذا سبب الخلاف في هذه المسألة بين أبي حنيفة والشافعي ومالك ومن قال بقولهم معارضة دليل الخطاب لدليل مفهوم الأحرى والأولى، وهو الذي يسمى فحوى الخطاب لكنه ههنا ضعيف، وإن كان في الأصل أقوى من دليل الخطاب. وأما سبب مخالفة ابن أبي ليلى فمعارضة القياس للسماع، وهو كما قلنا ضعيف. والإبار عند العلماء أن يجعل طلع ذكور النحل في طلع إناثها، وفي سائر الشجر أن تنور وتعقد، والتذكير في شجر التين التي تذكر في معنى الإبار، وإبار الزرع مختلف فيه في المذهب، فروى ابن القاسم عن مالك أن إباره أن يفرك قياسا على سائر الثمر، وهل الموجب لهذا الحكم هو الإبار أو وقت الإبار؟ قيل الوقت، وقيل الإبار، وعلى هذا ينبني الاختلاف إذا أبر بعض النخيل ولم يؤبر البعض، هل يتبع ما لم يؤبر ما أبر أو لا يتبعه؟ واتفقوا فيما أحسبه على أنه إذا بيع ثمر وقد دخل وقت الإبار فلم يؤبر أن حكمه حكم المؤبر.

@-(المسألة الثانية) وهي اختلافهم في بيع مال العبد، وذلك أنهم اختلفوا في مال العبد هل يتبعه في البيع والعتق؟ على ثلاثة أقوال: أحدها أن ماله في البيع والعتق لسيده، وكذلك في المكاتب، وبه قال الشافعي والكوفيون. والثاني أن ماله تبع له في البيع والعتق، وهو قول داود وأبي ثور. والثالث أنه تبع له في العتق لا في البيع إلا أن يشترطه المشتري، وبه قال مالك والليث. فحجة من رأى أن ماله في البيع لسيده إلا أن يشترطه المبتاع حديث ابن عمر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع" ومن جعله لسيده في العتق فقياسا على البيع. وحجة من رأى أنه تبع للعبد في كل حال انبنت على كون العبد مالكا عندهم وهي مسألة اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا: أعني هل يملك العبد أو لا يملك؟ ويشبه أن يكون هؤلاء إنما غلبوا القياس على السماع، لأن حديث ابن عمر هو حديث خالف فيه نافع سالما، لأن نافعا رواه عن ابن عمر وسالم رواه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما مالك فغلب القياس في العتق والسماع في البيع. وقال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو عرضا أو دينا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أعتق غلاما فماله له إلا أن يستثنيه سيده" ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم، وإن كان مال العبد دراهم أو فيه دراهم. وخالفه أبو حنيفة والشافعي إذا كان مال العبد نقدا، وقالوا: العبد وماله بمنزلة من باع شيئين لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في سائر البيوع. واختلف أصحاب مالك في اشتراط المشتري لبعض مال العبد في صفقة البيع، فقال ابن القاسم: لا يجوز، وقال أشهب: جائز أن يشترط بعضه، وفرق بعضهم فقال: إن كان ما اشترى به العبد عينا وفي مال العبد عين لم يجز ذلك لأنه يدخله دراهم بعرض ودراهم، وإن كان ما اشترى به عروضا أو لم يكن في مال العبد دراهم جاز. ووجه قول ابن القاسم إنه لا يجوز أن يشترط بعض تشبيهه بثمر النخل بعد الإبار. ووجه قول أشهب تشبيه الجزء بالكل، وفي هذا الباب مسائل مسكوت عنها كثيرة ليست مما قصدناه. ومن مشهور مسائلهم في هذا الباب الزيادة والنقصان اللذان يقعان في الثمن الذي انعقد عليه البيع بعد البيع بما يرضى به المتبايعان، أعني أن يزيد المشتري البائع بعد البيع على الثمن الذي انعقد عليه البيع أو يحط منه البائع، هل يتبع حكم الثمن أم لا؟ وفائدة الفرق أن من قال هي من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق وفي الرد بالعيب وما أشبه ذلك، وأيضا من جعلها في حكم الثمن الأول إن كانت فاسدة البيع، ومن لم يجعلها من الثمن: أعني الزيادة لم يوجب شيئا من هذا، فذهب أبو حنيفة إلى أنها من الثمن إلا أنه قال لا تثبت الزيادة في حق الشفيع ولا في بيع المرابحة، بل الحكم للثمن الأول، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة والنقصان بالثمن أصلا وهو في حكم الهبة، واستدل من ألحق الزيادة بالثمن بقوله عز وجل {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} قالوا: وإذا لحقت الزيادة في الصداق بالصداق لحقت في البيع بالثمن. واحتج الفريق الثاني باتفاقهم على أنها لا تلحق في الشفعة وبالجملة من رأى أن العقد الأول قد تقرر قال: الزيادة هبة؛ ومن رأى أنها فسخ للعقد الأول وعقد ثان عدها من الثمن.

*3*(الجملة الرابعة) وإذا اتفق المتبايعان على البيع واختلفا في مقدار الثمن ولم تكن هناك بينة ففقهاء الأمصار متفقون على أنهما يتحالفان ويتفاسخان بالجملة ومختلفون في التفصيل، أعني في الوقت الذي يحكم فيه بالأيمان والتفاسخ، فقال أبو حنيفة وجماعة: إنهما يتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت عين السلعة، فإن فاتت فالقول قول المشتري مع يمينه. وقال الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأشهب صاحب مالك: يتحالفان في كل وقت. وأما مالك فعنه روايتان: إحداهما أنهما يتحالفان ويتفاسخان قبل القبض وبعد القبض القول قول المشتري. والرواية الثانية مثل قول أبي حنيفة، وهي رواية ابن القاسم، والثانية رواية أشهب، والفوت عنده يكون بتغيير الأسواق وبزيادة المبيع ونقصانه. وقال داود وأبو ثور: القول قول المشتري على كل حال، وكذلك قال زفر، إلا أن يكونا اختلفا في جنس الثمن، فحينئذ يكون التفاسخ عندهم والتحالف، ولا خلاف أنهم إذا اختلفوا في جنس الثمن أو المثمون أن الواجب هو التحالف والتفاسخ، وإنما صار فقهاء الأمصار إلى القول على الجملة بالتحالف والتفاسخ عند الاختلاف في عدد الثمن لحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان" فمن حمل هذا الحديث على وجوب التفاسخ وعمومه قال: يتحالفان في كل حال ويتفاسخان، والعلة في ذلك عنده أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه. وأما من رأى أن الحديث إنما يجب أن يحمل على الحالة التي يجب أن يتساوى فيها دعوى البائع والمشتري قال: إذا قبض السلعة أو فاتت فقد صار القبض شاهدا للمشتري وشبهه لصدقه، واليمين إنما يجب على أقوى المتداعيين شبهة، وهذا هو أصل مالك في الأيمان، ولذلك يوجب في مواضع اليمين على المدعي، وفي مواضع على المدعى عليه، وذلك أنه لم يجب اليمين بالنص على المدعى عليه من حيث هو مدعى عليه، وإنما وجبت عليه من حيث هو في الأكثر أقوى شبهة، فإذا كان المدعي في مواطن أقوى شبهة وجب أن يكون اليمين في حيزه. وأما من رأى القول قول المشتري، فإنه رأى أن البائع مقر للمشتري بالشراء ومدع عليه عددا ما في الثمن. وأما داود ومن قال بقوله فردوا حديث ابن مسعود لأنه منقطع ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وإنما خرجه مالك. وعن مالك: إذا نكل المتبايعان عن الأيمان روايتان: إحداهما الفسخ، والثانية أن القول قول البائع. وكذلك من يبدأ باليمين في المذهب فيه خلاف، فالأشهر البائع على ما في الحديث، وهل إذا وقع التفاسخ يجوز لأحدهما أن يختار قول صاحبه؟ فيه خلاف في المذهب.

@-(القسم الرابع من النظر المشترك في البيوع) وهو النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع، فنقول: اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء أو نقصان أو حوالة سوق أن حكمها الرد أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون. واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق أو هبة أو بيع أو رهن أو غير ذلك من سائر التصرفات هل ذلك فوت يوجب القيمة، وكذلك إذا نمت أو نقصت فقال الشافعي: ليس ذلك كله فوتا ولا شبهة ملك في البيع الفاسد وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت، ومثل ذلك قال أبو حنيفة. والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة وإلى مكروهة. فأما المحرمة فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة. وأما المكروهة فإنها إذا فاتت صحت عنده، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك، فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه كبيع الخمر والخنزير فليس عندهم فيه فوت، ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها، أعني بيوع الربا والغرر، فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة، لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفا وترد وهي تساوي خمسمائة أو بالعكس، ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد، ومالك يرى في البيع والسلف أنه إذا فات وكان البائع هو المسلف رد المشتري القيمة ما لم تكن أزيد من الثمن، لأن المشتري قد رفع له في الثمن لمكان السلف فليس من العدل أن يرد أكثر من ذلك، وإن كان المشتري هو الذي أسلف البائع فقد حط البائع عنه من الثمن لمكان السلف، فإذا وجبت على المشتري القيمة ردها ما لم تكن أقل من الثمن، لأن هذه البيوع إنما وقع المنع فيها لمكان ما جعل فيها من العوض مقابل السلف الذي هو موضوع لعون الناس بعضهم لبعض، ومالك في هذه المسألة أفقه من الجميع. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض: أعني شرط السلف، هل يصح البيع أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء: البيع مفسوخ؛ وقال مالك وأصحابه: البيع غير مفسوخ إلا ابن عبد الحكم قال: البيع مفسوخ. وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي فإذا انعقد البيع فاسدا لم يصححه بعد رفع الشرط الذي من قبله وقع الفساد، كما أن رفع السبب المفسد في المحسوسات بعد فساد الشيء ليس يقتضي عودة الشيء إلى ما كان عليه قبل الفساد من الوجود فاعلمه. وروي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر، فلما انعقد البيع بينهما قال: أنا أدع الزق، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فوجب أن يكون بيع السلف كذلك، فجاوب عن ذلك بجواب لا تقوم به حجة، وقد تقدم القول في ذلك. وإذ قد انقضى القول في أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة، وفي أصول أحكام البيوع الصحيحة، وأصول الأحكام الفاسدة المشتركة العامة لجميع البيوع أو لكثير منها فلنصر إلى ما يخص واحدا واحدا من هذه الأربعة الأجناس، وذلك بأن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول.

*2*كتاب الصرف.

@-ولما كان يخص هذا البيع شرطان: أحدهما عدم النسيئة وهو الفور، والآخر عدم التفاضل وهو اشتراط المثلية كان النظر في هذا الباب ينحصر في خمسة أجناس: الأول: في معرفة ما هو نسيئة مما ليس بنسيئة. الثاني: في معرفة ما هو مماثل مما ليس بمماثل، إذ هذان القسمان ينقسمان بفصول كثيرة فيعرض هنالك الخلاف. الثالث: فيما وقع أيضا من هذا البيع بصورة مختلف فيها هل هو ذريعة إلى أحد هذين أعني الزيادة والنسيئة أو كليهما عند من قال بالذرائع وهو مالك وأصحابه، وهذا ينقسم أيضا إلى نوعين كانقسام أصله. الخامس: في خصائص أحكام هذا البيع من جهة ما يعتبر فيه هذان الشرطان: أعني عدم النَّساء والتفاضل أو كليهما، وذلك أنه يخالف هذا البيع البيوع لمكان هذين الشرطين فيه في أحكام كثيرة. وأنت إذا تأملت الكتب الموضوعة في فروع الكتاب الذي يرسمونه بكتاب الصرف وجدتها كلها راجعة إلى هذه الأجناس الخمسة، أو إلى ما تركب منها ما عدا المسائل التي يدخلون في الكتاب الواحد بعينه مما ليس هو من ذلك الكتاب مثل إدخال الملكية في الصرف مسائل كثيرة هي من باب الاقتضاء في السلف، لكن لما كان الفاسد منها يئول إلى أحد هذين الأصلين، أعني إلى صرف بنسيئة أو بتفاضل أدخلوها في هذا الكتاب مثل مسائلهم في اقتضاء القائمة والمجموعة والفرادى بعضها من بعض، لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر في هذا الكتاب سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب، فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت وإذ قد خرجنا عما كنا بسبيله فلنرجع إلى حيث كنا من ذكر المسائل التي وعدنا بها.

@-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد، إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين فإنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس لذلك لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا ربا إلا في النسيئة" وهو حديث صحيح، فأخذ ابن عباس بظاهر هذا الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة. وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز" وهو من أصح ما روي في هذا الباب. وحديث عبادة بن الصامت حديث صحيح أيضا في هذا الباب، فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث إذ كانت نصا في ذلك. وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك لأنه روي فيه لفظان: أحدهما أنه قال "إنما الربا في النسيئة" وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب وهو ضعيف ولا سيما إذا عارضه النص. وأما اللفظ الآخر وهو "لا ربا إلا في النسيئة" فهو أقوى من هذا اللفظ لأن ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا، لكن يحتمل أن يريد بقوله "لا ربا إلا في النسيئة" من جهة أن الواقع في الأكثر، وإذا كان هذا محتملا والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما. وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك، إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء. وأجاز مالك بدل الدينار الناقص بالوازن أو بالدينارين على اختلاف بين أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك من الذي لا يجوز على جهة المعروف.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في السيف والمصحف المحلى يباع بالفضة وفيه حلية فضة، أو بالذهب وفيه حلية ذهب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك لجهل المماثلة المشترطة في بيع الفضة بالفضة في ذلك والذهب بالذهب، وقال مالك: إن كان قيمة ما فيه من الذهب أو الفضة الثلث فأقل جاز بيعه، أعني بالفضة إن كانت حليته فضة، أو بالذهب إن كانت حليته ذهبا وإلا لم يجز، وكأنه رأى أنه إذا كانت الفضة قليلة لم تكن مقصودة في البيع وصارت كأنها هبة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لابأس ببيع السيف المحلى بالفضة إذا كانت الفضة أكثر من الفضة التي في السيف، وكذلك الأمر في بيع السيف المحلى بالذهب، لأنهم رأوا أن الفضة التي فيه أو الذهب يقابل مثله من الذهب أو الفضة المشتراة به، ويبقى الفضل قيمة السيف. وحجة الشافعي عموم الأحاديث والنص الوارد في ذلك من حديث فضالة بن عبد الله الأنصاري أنه قال "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة ينزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن" خرجه مسلم. وأما معاوية كما قلنا فأجاز ذلك على الإطلاق، وقد أنكره عليه أبو سعيد وقال: لا أسكن في أرض أنت فيها لما رواه من الحديث.

@-(المسألة الثالثة) اتفق العلماء على أن من شرط الصرف أن يقع ناجزا. واختلفوا في الزمان الذي يحد هذا المعنى، فقال أبو حنيفة والشافعي: الصرف يقع ناجزا ما لم يفترق المتصارفان تعجل أو تأخر القبض؛ وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا حتى كره المواعدة فيه. وسبب الخلاف ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إلا هاء وهاء" وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر؛ فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس، أعني أنه يطلق عليه أنه باع هاء وهاء قال: يجوز التأخير في المجلس؛ ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف لاتفاقهم على هذا المعنى لم يجز عندهم في الصرف حوالة ولا حمالة ولا خيار، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه أجاز فيه الخيار. واختلف في المذهب في التأخير الذي يغلب عليه المتصارفان أو أحدهما، فمرة قيل فيه إنه مثل الذي يقع بالاختيار، ومرة قيل إنه ليس كذلك في تفاصيل لهم في ذلك ليس قصدنا ذكرها في هذا الكتاب.

@-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء فيمن اصطرف دراهم بدنانير ثم وجد فيها درهما زائفا، فأراد رده، فقال مالك: ينتقض الصرف، وإن كانت دنانير كثيرة انتقض منها دينار للدرهم فما فوقه إلى صرف الدينار، فإن زاد درهم على دينار انتقض منها دينار آخر، وهكذا ما بينه وبين أن ينتهي إلى صرف دينار. قال: وإن رضي بالدرهم الزائف لم يبطل من الصرف شيء. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الصرف بالدرهم الزائف، ويجوز تبديله إلا أن تكون الزيوف نصف الدراهم أو أكثر، فإن ردها بطل الصرف في المردود. وقال الثوري: إذا رد الزيوف كان مخيرا إن شاء أبدلها أو يكون شريكا له بقدر ذلك في الدنانير: أعني لصاحب الدنانير. وقال أحمد: لا يبطل الصرف بالرد قليلا كان أو كثيرا. وابن وهب من أصحاب مالك يجيز البدل في الصرف، وهو مبني على أن الغلبة على النظرة في الصرف ليس لها تأثير ولا سيما في البعض وهو أحسن. وعن الشافعي في بطلان الصرف بالزيوف قولان، فيتحصل لفقهاء الأمصار في هذه المسألة أربعة أقوال: قول بإبطال الصرف مطلقا عند الرد؛ وقول بإثبات الصرف ووجوب البدل؛ وقول بالفرق بين القليل والكثير؛ وقول بالتخيير بين بدل الزائف أو يكون شريكا له. وسبب الخلاف في هذا كله: هل الغلبة على التأخير في الصرف مؤثرة فيه أو غير مؤثرة؟ وإن كانت مؤثرة فهل هي مؤثرة في القليل أو في الكثير؟ وأما وجود النقصان فإن المذهب اضطرب فيه، فمرة قال فيه إنه إن رضي بالنقصان جاز الصرف، وإن طلب البدل انتقض الصرف قياسا على الزيوف، ومرة قال: يبطل الصرف وإن رضي به، وهو ضعيف. واختلفوا أيضا إذا قبض بعض الصرف وتأخر بعضه، أعني الصرف المنعقد على التناجز، فقيل يبطل الصرف كله، وبه قال الشافعي؛ وقيل يبطل منه المتأخر فقط، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف، والقولان في المذهب؛ ومبني الخلاف الخلاف في الصفقة الواحدة يخالطها حرام وحلال هل تبطل الصفقة كلها، أو الحرام منها فقط؟.

@-(المسألة الخامسة) أجمع العلماء على أن المراطلة جائزة في الذهب بالذهب وفي الفضة بالفضة، وإن اختلف العدد لاتفاق الوزن، وذلك إذا كانت صفة الذهبين واحدة. واختلفوا في المراطلة في موضعين: أحدهما أن تختلف صفة الذهبين. والثاني أن ينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الآخر أن يزيد بذلك عرضا أو دراهم إن كانت المراطلة بذهب، أو ذهبا إن كانت المراطلة بدراهم، فذهب مالك، أما في الموضع الأول، وهو أن يختلف جنس المراطل بهما في الجودة والرداءة أنه متى راطل بأحدهما بصنف من الذهب الواحد وأخرج الآخر ذهبين، أحدهما أجود من ذلك الصنف الواحد والآخر أردأ، فإن ذلك عنده لا يجوز، وإن كان الصنف الواحد من الذهبين، أعني الذي أخرجه وحده أجود من الذهبين المختلفين اللذين أخرجهما الآخر أو أردأ منهما معا، أو مثل أحدهما وأجود من الثاني جازت المراطلة عنده. وقال الشافعي: إذا اختلف الذهبان فلا يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة وجميع الكوفيين والبصريين يجوز جميع ذلك. وعمدة مذهب مالك في منعه ذلك الاتهام، وهو مصير إلى القول بسد الذرائع، وذلك أنه يتهم أن يكون المراطل إنما قصد بذلك بيع الذهبين متفاضلا، فكأنه أعطى جزءا من الوسط بأكثر منه من الأردأ، أو بأقل منه من الأعلى، فيتذرع من ذلك إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا، مثال ذلك أن إنسانا قال لآخر: خذ مني خمسة وعشرين مثقالا وسطا بعشرين من الأعلى، فقال: لا يجوز هذا لنا، ولكن أعطيك عشرين من الأعلى وعشرة أدنى من ذهبك، وتعطيني أنت ثلاثين من الوسط، فتكون العشرة الأدنى يقابلها خمسة من ذهبك، ويقابل العشرين من ذهب الوسط العشرين من ذهبك الأعلى. وعمدة الشافعي اعتبار التفاضل الموجود في القيمة. وعمدة أبي حنيفة اعتبار وجود الوزن من الذهبين ورد القول بسد الذرائع. وكمثل اختلافهم في المصارفة التي تكون بالمراطلة اختلفوا في هذا الموضع في المصارفة التي تكون بالعدد، أعني إذا اختلفت جودة الذهبين أو الأذهاب. وأما اختلافهم إذا نقصت المراطلة، فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، فقريب من هذا الاختلاف، مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهب بذهب، فينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عرضا، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة؛ وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيون. وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل مقابل العرض. وعمدة مالك التهمة في أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا. وعمدة الشافعي عدم المماثلة بالكيل أو الوزن أو العدد الذي بالفضل، ومثل هذا يختلفون إذا كانت المصارفة بالعدد.

@-(المسألة السادسة) واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم، هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟ فقال مالك: ذلك جائز إذا كانا قد حلا معا؛ وقال أبو حنيفة يجوز في الحال وفي غير الحال؛ وقال الشافعي والليث: لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا. وحجة من لم يجزه أنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز كان أحرى أن لا يجوز غائب بغائب. وأما مالك فأقام حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، وإنما اشترط أن يكونا حالين معا، لئلا يكون ذلك من بيع الدين بالدين. وبقول الشافعي قال ابن وهب وابن كنانة من أصحاب مالك؛ وقريب من هذا اختلافهم في جواز الصرف على ما ليس عندهما إذا دفعه أحدهما إلى صاحبه قبل الافتراق مثل أن يستقرضاه في المجلس فتقابضاه قبل الافتراق فأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وكرهه ابن القاسم من الطرفين واستخفه من الطرف الواحد، أعني إذا كان أحدهما هو المستقرض فقط. وقال زفر: لا يجوز ذلك إلا أن يكون من طرف واحد. ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الأجل ذهبا أو بالعكس؟ فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه أجاز ذلك وإن لم يحل الأجل ولم يجز ذلك جماعة من العلماء، سواء كان الأجل حالا أو لم يكن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وحجة من أجاز ذلك حديث ابن عمر قال "كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه" خرجه أبو داود. وحجة من لم يجزه ما جاء في حديث أبي سعيد وغيره "ولا تبيعوا منها غائبا بناجز".

@-(المسألة السابعة) اختلف في البيع والصرف في مذهب مالك فقال: إنه لا يجوز إلا أن يكون أحدهما الأكثر والآخر تبع لصاحبه، وسواء كان الصرف في دينار واحد أو في دنانير؛ وقيل إن كان الصرف في دينار واحد جاز كيفما وقع، وإن كان في أكثر اعتبر كون أحدهما تابعا للآخر في الجواز، فإن كانا معا مقصودين لم يجز، وأجاز أشهب الصرف والبيع وهو أجود، لأنه ليس في ذلك ما يؤدي إلى ربا ولا إلى غرر.

*2*كتاب السلم

@-وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب: الباب الأول: في محله وشروطه. الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير. الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.

*3*الباب الأول في محله وشروطه.

@-أما محله، فإنهم اجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور قال "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار. وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث. والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد. واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود. وعن عمر في ذلك قولان. وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان" وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول. وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة" وحديث أبي رافع أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا" قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة. فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما تعارض الآثار في هذا المعنى. والثاني تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس قال: لا تنضبط؛ ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط. ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض وأجازه مالك بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة؛ وكذلك السلم في الرءوس والأكارع، أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي؛ وكذلك السلم في الدر والفصوص، أجازه مالك، ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع، لأن ذلك غير منحصر.

(وأما شروطه) فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها، فأما المجمع عليها فهي ستة: منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النَّساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النَّساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النَّساء. ومنها أن يكون مقدرا إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة. ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل. ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة. واشترطوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وأجاز تأخيره بلا شرط. وذهب أبو حنيفة إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف، فهذه ستة متفق عليها. واختلفوا في أربعة: أحدها الأجل، هل هو شرط فيه أم لا؟ والثاني هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا؟. والثالث اشتراط مكان دفع المسلم فيه. والرابع أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا وإما موزونا وإما معدودا وأن لا يكون جزافا. فأما الأجل فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك؛ وأما مالك فالظاهر من مذهبه، والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحالّ. وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حالّ، وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة. وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس؛ والثاني أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه. وعمدة الشافعي أنه إذا أجاز مع الأجل فهو حالا أجوز لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه" قالوا: فهذا هو شراء حالّ بتمر في الذمة، وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى. واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟. والثاني في مقداره من الأيام. وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضي بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضي بغير البلد الذي وقع فيه السلم؛ فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها. وروي عن ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة؛ وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. وأما ما يقتضي ببلد آخر، فإن الأجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أم كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام؛ فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم؛ ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا. وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي؛ فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير أجاز ذلك، إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان؛ ومن رأى أنه كثير، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه. وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم، فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه. فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه. وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها" وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق.

(وأما الشرط الثالث) وهو مكان القبض، فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر. وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه. وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك.

(وأما الشرط الرابع) وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا، فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترطه الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه. وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد. وإن لم يكن فيه أحد هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين؛ وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.

*3*الباب الثاني. فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.

@-وفي هذا الباب فروع كثيرة، لكن نذكر منها المشهور:

@-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصير إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم؛ وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار. وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ. وقال سحنون: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهى عنه إنما هو المقصود، لا الذي يدخل اضطرارا.

@-(مسألة) اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه؛ فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره". وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترطه في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل. وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير. والإحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين. وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى: ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.

@-(مسألة) اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة؛ فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق؛ ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه؛ ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري. وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز. قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة.

@-(مسألة) اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز؛ وقال قوم: يجوز؛ واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقبله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفي؛ وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين؛ والذين رأوه جائزا رأوه أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".

@-(مسألة) أجمع العلماء على أنه كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل فدفعها إليه عند محل الأجل وبعده أنه يلزمه أخذها. واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم وغيره، فقال مالك والجمهور: إن أتى بها قبل محل الأجل لم يلزمه أخذها. وقال الشافعي: إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس والحديد، وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه. وأما إذا أتى به بعد محل الأجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك فروي عنه أنه يلزمه قبضه مثل أن يسلم في قطائف الشتاء فيأتي بها في الصيف، فقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك. وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الأجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده، ولما كان عليه من المؤنة في ذلك، وليس كذلك الدنانير والدراهم، إذ لا مؤنة فيها، ومن لم يلزمه بعد الأجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره. وأمر من أجاز ذلك في الوجهين، أعني بعد الأجل أو قبله فشبهه بالدنانير والدراهم.

@-(مسألة) اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشتري بكيل الطعام، هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله وأن يعمل في ذلك على تصديقه؟ فقال مالك: ذلك جائز في السلم وفي البيع بشرط النقد، وإلا خيف أن يكون من باب الربا، كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث: لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد أن كاله لنفسه بحضرة البائع. وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له، لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض واحتجوا بما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري. واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري قبل الكيل، فاختلفا في الكيل، فقال الشافعي: القول قول المشتري، وبه قال أبو ثور؛ وقال مالك: القول قول البائع لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه، وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفس تصديقه.

*3*الباب الثالث في اختلاف المتبايعين في السلم.

@-والمتبايعان في السلم إما أن يختلفا في قدر الثمن أو المثمون، وإما في جنسهما، وإما في الأجل، وإما في مكان قبض السلم. فأما اختلافهم في قدر المسلم فيه، فالقول فيه قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فالقول أيضا قول المسلم إن أتى أيضا بما يشبه، فإن أتيا بما لا يشبه فالقياس أن يتحالفا ويتفاسخا. وأما اختلافهم في جنس المسلم فيه، فالحكم في ذلك التحالف والتفاسخ، مثل أن يقول أحدهما: أسلمت في تمر، ويقول الآخر: في قمح. وأما اختلافهم في الأجل فإن كان في حلوله فالقول قول المسلم إليه، وإن كان في قدره فالقول أيضا قول المسلم إليه إلا أن يأتي بما لا يشبه، مثل أن يدعي المسلم وقت إبان المسلم فيه، ويدعي المسلم إليه غير ذلك الوقت، فالقول قول المسلم. وأما اختلافهم في موضع القبض، فالمشهور أن من ادعى موضع عقد السلم فالقول قوله، وإن لم يدعه واحد منهما فالقول قول المسلم إليه. وخالف سحنون في الوجه الأول فقال: القول قول المسلم إليه وإن ادعى القبض في موضع العقد وخالف أبو الفرج في الموضع الثاني فقال: إذا لم يدع واحد منهما موضع العقد تحالفا وتفاسخا. وأما اختلافهم في الثمن فحكمه حكم اختلاف المتبايعين قبل القبض، وقد تقدم ذلك.

*2*كتاب بيع الخيار.

@-والنظر في أصول هذا الباب، أما أولا فهل يجوز أم لا؟ وإن جاز، فكم مدة الخيار؟ وهل يشترط النقدية فيه أم لا؟ وممن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ وهل يورث الخيار أم لا؟ ومن يصح خياره ممن لا يصح؟ وما يكون من الأفعال خيارا كالقول؟. أما جواز الخيار فعليه الجمهور، إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر. وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه "ولك الخيار ثلاثا" وما روي في حديث ابن عمر "البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار". وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع. قالوا: وحديث حبان إما أنه ليس بصحيح، وإما أنه خاص لما شكي إليه صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. قالوا: وأما حديث ابن عمر وقوله فيه "إلا بيع الخيار" فقد فسر المعنى المراد بهذا اللفظ، وهو ما ورد فيه من لفظ آخر وهو "أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" وأما مدة الخيار عند الذين قالوا بجوازه فرأى مالك أن ذلك ليس له قدر محدود في نفسه وأنه إنما يتقدر بتقدير الحاجة إلى اختلاف المبيعات، وذلك يتفاوت بتفاوت المبيعات فقال: مثل اليوم واليومين في اختيار الثوب، والجمعة والخمسة أيام في اختيار الجارية، والشهر ونحوه في اختيار الدار. وبالجملة فلا يجوز عنده الأجل الطويل الذي فيه فضل عن اختيار المبيع. وقال الشافعي وأبو حنيفة: أجل الخيار ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطت، وبه قال داود. واختلفوا في الخيار المطلق دون المقيد بمدة معلومة، فقال الثوري والحسن ابن جني وجماعة بجواز اشتراط الخيار مطلقا ويكون له الخيار أبدا، وقال مالك: يجوز الخيار المطلق ولكن السلطان يضرب فيه أجل مثله. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز بحال الخيار المطلق ويفسد البيع. واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في الثلاثة الأيام زمن الخيار المطلق، فقال أبو حنيفة: إن وقع في الثلاثة الأيام جاز، وإن مضت الثلاثة فسد البيع؛ وقال الشافعي: بل هو فاسد على كل حال، فهذه هي أقاويل فقهاء الأمصار في مدة الخيار، وهي هل يجوز مطلقا أو مقيدا؟ وإن جاز مقيدا فكم مقداره؟ وإن لم يجز مطلقا فهل من شرط ذلك أن لا يقع الخيار في الثلاث أم لا يجوز بحال؟ وإن وقع في الثلاث.

فأما أدلتهم فإن عمدة من لم يجز الخيار هو ما قلناه. وأما عمدة من لم يجز الخيار إلا ثلاثا فهو أن الأصل هو أن لا يجوز الخيار فلا يجوز منه إلا ما ورد فيه النص في حديث منقذ بن حبان أو حبان بن منقذ، وذلك كسائر الرخص المستثناة من الأصول مثل استثناء العرايا من المزابنة وغير ذلك. قالوا: وقد جاء تحديد الخيار بالثلاث في حديث المصراة وهو قوله "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأما حديث منقذ، فأشبه طرقه المتصلة ما رواه محمد ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمنقذ وكان يخدع في البيع "إذا بعت فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا". وأما عمدة أصحاب مالك، فهو أن المفهوم من الخيار هو اختيار المبيع، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدودا بزمان إمكان اختيار المبيع، وذلك يختلف بحسب مبيع مبيع، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيها على هذا المعنى، وهو عندهم من باب الخاص أريد به العام، وعند الطائفة الأولى من باب الخاص أريد به الخاص.

وأما اشتراط النقد فإنه لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه لتردده عندهم بين السلف والبيع، وفيه ضعف. وأما ممن ضمان المبيع في مدة الخيار فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي: مصيبته من البائع والمشتري أمين، وسواء كان الخيار لهما أو لأحدهما؛ وقد قيل في المذهب إنه إن كان هلك بيد البائع فلا خلاف في ضمانه إياه، وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية إن كان مما يغاب عليه فضمانه منه، وإن كان مما لا يغاب عليه فضمانه من البائع. وقال أبو حنيفة: إن كان شرط الخيار لكليهما أو للبائع وحده فضمانه من البائع والمبيع على ملكه، وأما إن كان شرطه المشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، وبقي معلقا حتى ينقضي الخيار، وقد قيل عنه إن على المشتري الثمن، وهذا يدل على أنه دخل عنده في ملك المشتري.

وللشافعي قولان: أشهرهما أن الضمان من المشتري لأيهما كان الخيار. فعمدة من رأى أن الضمان من البائع على كل حال أنه عقد غير لازم، فلم ينتقل الملك عن البائع كما لو قال بعتك ولم يقل المشتري قبلت. وعمدة من رأى أنه من المشتري تشبيهه بالبيع اللازم وهو ضعيف لقياسه موضع الخلاف على موضع الاتفاق. وأما من جعل الضمان لمشترط الخيار إذا شرطه أحدهما ولم يشترطه الثاني فلأنه إن كان البائع هو المشترط فالخيار له إبقاء للمبيع على ملكه، وإن كان المشتري هو المشترط له فقط فقد صرفه البائع من ملكه وأبانه فوجب أن يدخل في ملك المشتري إذا كان المشتري هو الذي شرطه فقط قال: قد خرج عن ملك البائع لأنه لم يشترط خيارا ولم يلزم أن يدخل في ملك المشتري لأنه شرط الخيار في رد الآخر له، ولكن هذا القول يمانع الحكم، فإنه لابد أن تكون مصيبته من أحدهما، والخلاف آيل إلى هل الخيار مشترط لإيقاع الفسخ في البيع أو لتتميم البيع، فإذا قلنا لفسخ البيع فقد خرج من ضمان البائع، وإن قلنا لتتميمه فهو في ضمانه.

@-(وأما المسألة الخامسة) وهي هل يورث خيار المبيع أم لا؟ فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يورث، وإنه إذا مات صاحب الخيار فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يبطل الخيار بموت من له الخيار ويتم البيع، وهكذا عنده خيار الشفعة وخيار قبول الوصية وخيار الإقالة. وسلم لهم أبو حنيفة خيار الرد بالعيب: أعني أنه قال يورث، وكذلك خيار استحقاق الغنيمة قبل القسم وخيار القصاص وخيار الرهن. وسلم لهم مالك خيار رد الأب ما وهبه لابنه، أعني أنه لم ير لورثة الميت من الخيار في رد ما وهبه لابنه ما جعل له الشرع من ذلك: أعني للأب، وكذلك خيار الكتابة والطلاق واللعان. ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت، فيموت الرجل المجعول له الخيار، فإن ورثته لا يتنزلون منزلته عند مالك. وسلم الشافعي ما سلمت المالكية للحنفية من هذه الخيارات، وسلم زائدا خيار الإقالة والقبول فقال: لا يورثان. وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفية أن الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال، فموضع الخلاف هل الأصل هو أن تورث الحقوق كالأموال أم لا؟ وكل واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلمه له خصمه منها بما يسلمه منها له ويحتج على خصمه؛ فالمالكية والشافعية تحتج على أبي حنيفة بتسلميه وراثة خيار الرد بالعيب، ويشبه سائر الخيارات التي يورثها به؛ والحنفية تحتج أيضا على المالكية والشافعية بما تمنع من ذلك، وكل واحد منهم يروم أن يعطي فارقا فيما يختلف فيه قوله ومشابها فيما يتفق فيه قوله، ويروم في قوله خصمه بالضد، أعني أن يعطي فارقا فيما يضعه الخصم متفقا، ويعطي اتفاقا فيما يضعه الخصم متباينا، ومثل ما تقول المالكية: إنما قلنا إن خيار الأب في رد هبته لا يورث، لأن ذلك خيار راجع إلى صفة في الأب لا توجد في غيره وهي الأبوة، فوجب أن لا تورث لا إلى صفة في العقد. وهذا هو سبب اختلافهم في خيار خيار، أعني أنه من انقدح له في شيء منها أنه صفة للعقد ورثه، ومن انقدح له أنه صفة خاصة بذي الخيار لم يورثه.

@-(وأما المسألة السادسة) وهي من يصح خياره فإنهم اتفقوا على صحة خيار المتبايعين، واختلفوا في اشتراط خيار الأجنبي، فقال مالك: يجوز ذلك والبيع صحيح؛ وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز إلا أن يوكله الذي جعل له الخيار ولا يجوز الخيار عنده على هذا القول لغير العاقد، وهو قول أحمد؛ وللشافعي قول آخر مثل قول مالك، وبقول مالك قال أبو حنيفة؛ واتفق المذهب على أن الخيار للأجنبي إذا جعله له المتبايعان، وأن قوله لهما. واختلف المذهب إذا جعله أحدهما فاختلف البائع ومن جعل له البائع الخيار أو المشتري ومن جعل له المشتري الخيار، فقيل القول في الإمضاء، والرد قول الأجنبي سواء اشترط خياره البائع أو المشتري، وقال عكس هذا القول من جعل خياره هنا كالمشورة، وقيل بالفرق بين البائع والمشتري: أي أن القول في الإمضاء والرد قول البائع دون الأجنبي، وقول الأجنبي دون المشتري إن كان المشتري هو المشترط الخيار؛ وقيل القول قول من أراد منهما الإمضاء، وإن أراد البائع الإمضاء، وأراد الأجنبي الذي اشترط خياره الرد ووافقه المشتري، فالقول قول البائع في الإمضاء، وإن أراد البائع الرد وأراد الأجنبي الإمضاء ووافقه المشتري فالقول قول المشتري؛ وكذلك إن اشتراط الخيار للأجنبي المشتري، فالقول فيهما قول من أراد الإمضاء، وكذلك الحال في المشتري؛ وقيل بالفرق في هذا بين البائع والمشتري: أي إن اشترطه البائع فالقول قول من أراد الإمضاء منهما، وإن اشترطه المشتري فالقول قول الأجنبي، وهو ظاهر ما في المدونة، وهذا كله ضعيف. واختلفوا فيمن اشترط من الخيار ما لا يجوز، مثل أن يشترط أجلا مجهولا وخيارا فوق الثلاث عند من لا يجوز الخيار فوق الثلاث، أو خيار رجل بعيد الموضع بعينه: أعني أجنبيا، فقال مالك والشافعي: لا يصح البيع وإن أسقط الشرط الفاسد؛ وقال أبو حنيفة: يصح البيع مع إسقاط الشرط الفاسد، فأصل الخلاف هل الفساد الواقع في البيع من قبل الشرط يتعدى إلى العقد أم لا يتعدى، وإنما هو في الشرط فقط؟ فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقطه؛ ومن قال لا يتعدى قال: البيع يصح إذا أسقط الشرط الفاسد لأنه يبقى العقد صحيحا.

*2*كتاب بيع المرابحة.

@-أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة ومرابحة؛ وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا ما للدينار أو الدرهم. واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين: أحدهما فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال. والموضع الثاني إذا كذب البائع للمشتري فأخبره أنه اشتراه بأكثر مما اشترى السلعة به، أو وهم فأخبر بأقل مما اشترى به السلعة ثم ظهر له أنه اشتراها بأكثر، ففي هذا الكتاب بحسب اختلاف فقهاء الأمصار بابان: الباب الأول: فيما يعد من رأس مال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبني عليه الربح. الثاني: في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.

*3*الباب الأول. فيما يعد من رأس المال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبني عليه الربح.

@-فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد، فإن تحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصبغ. وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع فيها. وأما ما لا يحتسب فيه الأمرين جميعا، فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد. وقال أبو حنيفة: بل يحمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها. وقال أبو ثور: لا يجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط إلا أن يفصل ويفسخ عنده إن وقع قال لأنه كذب، لأنه يقول له: ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الأمر كذلك، وهو عنده من باب الغش. وأما صفة رأس الثمن الذي يجوز أن يخبر به فإن مالكا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يعلم يوم باعها بالدنانير التي اشتراها لأنه من باب الكذب والخيانة، وكذلك إن اشتراها بدراهم ثم باعها بدنانير وقد تغير الصرف. واختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز؟ فإذا قلنا بالجواز فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه؟ فقال ابن القاسم: يجوز له بيعها على ما اشتراه به من العروض ولا يجوز على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة بشيء من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه، وفي الغالب ليس يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. واختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير فأخذ في الدنانير عروضا أو دراهم هل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك: لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم؛ قال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل. وقال الشافعي إن وقع كان للمشتري مثل أجله؛ وقال أبو ثور: هو كالعيب وله الرد به، وفي هذا الباب في المذهب فروع كثيرة ليست مما قصدناه.

*3*الباب الثاني. في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن.

@-واختلفوا فيمن ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره وإما ببينة أن الثمن كان أقل والسلعة قائمة؛ فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار، إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح وإن ألزمه لزمه؛ وقال أبو حنيفة وزفر: بل المشتري بالخيار على الإطلاق، ولا يلزمه الأخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه؛ وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة: بل يبقى البيع لازما لهما بعد حط الزيادة؛ وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقا، والقول باللزوم بعد الحط. فحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك، فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر، كما لو أخذه بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل أنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أن الخيار مطلقا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب، أعني أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب. وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي: يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح؛ وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أو يوم البيع على خلاف عنه في ذلك مثل ما وزن المبتاع أو أقل فلا يرجع عليه المشتري بشيء، وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أو رده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك وهي قائمة، فقال الشافعي: لا يسمع من تلك البينة لأنه كذبها؛ وقال مالك: يسمع منها ويجبر المبتاع على ذلك الثمن، وهذا بعيد لأنه بيع آخر. وقال مالك في هذه المسألة: إذا فاتت السلعة أن المبتاع مخير بين أن يعطي قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح، فهذه هي مشهورات مسائلهم في هذا الباب. ومعرفة أحكام هذا البيع تنبني في مذهب مالك على معرفة أحكام ثلاثة مسائل وما تركب منها، حكم مسألة الكذب، وحكم مسألة الغش، وحكم مسألة وجود العيب. فأما حكم الكذب فقد تقدم. وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا، وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب، هذا عند ابن القاسم. وأما عند أشهب، فإن الغش عنده ينقسم قسمين: قسم مؤثر في الثمن، وقسم غير مؤثر. فأما غير المؤثر فلا حكم عنده فيه. وأما المؤثر فحكمه عنده حكم الكذب. وأما التي تتركب فهي أربع مسائل: كذب وغش، وكذب وتدليس، وغش وتدليس بعيب، وكذب وغش وتدليس بعيب؛ وأصل مذهب ابن القاسم فيها أنه يأخذ بالذي بقي حكمه إن كان فات بحكم أحدهما أو بالذي هو أرجح له إن لم يفت حكم أحدهما، إما على التخيير حيث يمكن التخيير، أو الجمع حيث يمكن الجمع، وتفصيل هذا لائق بكتب الفروع، أعني مذهب ابن القاسم وغيره.

*2*كتاب بيع العرية.

@-اختلف الفقهاء في معنى العرية والرخصة التي أتت فيها في السنة، فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي أن العرية في مذهب مالك هي أن يهب الرجل ثمرة نخلة أو نخلات من حائطه لرجل بعينه، فيجوز للمعرى شراؤها من المعري له بخرصها تمرا على شروط أربعة: أحدها: أن تزهي. والثاني أن تكون خمسة أوسق فما دون، فإن زادت فلا يجوز. والثالث أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجذاذ، فإن أعطاه نقدا لم يجز. والرابع أن يكون التمر من صنف تمر العرية ونوعها، فعلى مذهب مالك الرخصة في العرية إنما هي في حق المعري فقط، والرخصة فيها إنما هي استثناؤها من المزابنة، وهي بيع الرطب بالتمر الجاف الذي ورد النهي عنه، ومن صنفي الربا أيضا: أعني التفاضل والنَّساء، وذلك أن بيع ثمر معلوم الكيل بثمر معلوم بالتخمين وهو الخرص، فيدخله بيع الجنس الواحد متفاضلا، وهو أيضا ثمر بثمر إلى أجل، فهذا هو مذهب مالك فيما هي العرية، وماهي الرخصة فيها، ولمن الرخصة فيها؟. وأما الشافعي فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمعري خاصة، وإنما هي لكل أحد من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من التمر: أعني الخمسة أوسق أو ما دون ذلك بتمر مثلها؛ وروي أن الرخصة فيها إنما هي معلقة بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رطبا وذلك لمن ليس عنده رطب ولا تمر (هكذا بالنسخ، ولعله: وعنده تمر يشتري، إذ هي فسحة لمن عنده تمر وليس عنده رطب أن يشتري الرطب بالتمر، ولذلك اشتراط الشافعي دفع التمر نقدا، فتأمل ا هـ مصححه) يشتري به الرطب.

والشافعي يشترط في إعطاء التمر الذي تباع في العرية أن يكون نقدا، ويقول: إن تفرقا قبل القبض فسد البيع. والعرية جائزة عند مالك في كل ما ييبس ويدخر، وهي عند الشافعي في التمر والعنب فقط ولا خلاف في جوازها فيما دون الخمسة الأوسق عند مالك والشافعي، وعنهما الخلاف إذا كانت خمسة أوسق، فروي الجواز عنهما والمنع، والأشهر عند مالك الجواز. فالشافعي يخالف مالكا في العرية في أربعة مواضع: أحدها في سبب الرخصة كما قلنا. والثاني أن العرية التي رخص فيها ليست هبة، وإنما سميت هبة على التجوز. والثالث في اشتراط النقد عند البيع. والرابع في محلها. فهي عنده كما قلنا في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يدخر وييبس. وأما أحمد بن حنبل فيوافق مالكا في أن العرية عنده هي الهبة، ويخالفه في أن الرخصة إنما هي عنده فيها للموهوب له أعني المعرى له لا المعري، وذلك أنه يرى أن له أن يبيعها ممن شاء بهذه الصفة لا من المعري خاصة كما ذهب إليه مالك.

وأما أبو حنيفة فيوافق مالكا في أن العرية هي الهبة، ويخالفه في صفة الرخصة، وذلك أن الرخصة عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المزابنة ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرخصة فيها عنده من باب رجوع الواهب في هبته إذ كان الموهوب له لم يقبضها وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوع في الهبة على صفة مخصوصة، وهو أن يعطي بدلها تمرا بخرصها. وعمدة مذهب مالك في العرية أنها بالصفة التي ذكر سنتها المشهورة عندهم بالمدينة، قالوا: وأصل هذا أن الرجل كان يهب النخلات من حائطه فيشق عليه دخول الموهوب له عليه، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرا عند الجذاذ. ومن الحجة له في أن الرخصة إنما هي للمعري حديث سهل بن أبي حثمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا" قالوا: فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها.

ويمكن أن يقال إن أهلها هم الذين اشتروها كائنا من كان، لكن قوله رطبا هو تعليل لا يناسب المعري، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رطب ولا تمر يشترونها به، ولذلك كانت الحجة للشافعي. وأما أن العرية عنده هي الهبة فالدليل على ذلك من اللغة، فإن أهل اللغة قالوا: العرية هي الهبة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل لأنها عريت من الثمن، وقيل إنها مأخوذة من عروت الرجل أعروه إذا سألته، ومنه قوله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} وإنما اشترط مالك نقد الثمن عند الجذاذ أعني تأخيره إلى ذلك الوقت، لأنه تمر ورد الشرع بخرصه، فكان من سنته أن يتأجل إلى الجذاذ أصله الزكاة، وفيه ضعف، لأنه مصادمة بالقياس لأصل السنة. وعنده أنه إذا تطوع بعد تمام العقد بتعجيل التمر جاز، وأما اشتراطه جوازها في الخمسة الأوسق أو فيما دونها، فلما رواه عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق" وإنما كان عن مالك في الخمسة الأوسق روايتان الشك الواقع في هذا الحديث من الراوي. وأما اشتراطه أن يكون من ذلك الصنف بعينه إذا يبس، فلما روي عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا" خرجه مسلم. وأما الشافعي فعمدته حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم فيه وقوله "فيها يأكلها أهلها رطبا". والعرية عندهم هي اسم لما دون الخمسة الأوسق من التمر، وذلك أنه لما كان العرف عندهم أن يهب الرجل في الغالب من نخلاته هذا القدر فما دونه، خص هذا القدر الذي جاءت فيه الرخصة باسم الهبة لموافقته في القدر للهبة، وقد احتج لمذهبه بما رواه بإسناد منقطع عن محمود بن لبيد أنه قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما زيد بن ثابت وإما غيره: ما عراياكم هذه؟ قال: فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب أتى وليس بأيديهم نقد يبتاعون به الرطب فيأكلونه مع الناس، وعندهم فضل من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم يأكلونها رطبا، وإنما لم يجز تأخير نقد التمر لأنه بيع الطعام بالطعام نسيئة.

وأما أحمد فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره. وأما أبو حنيفة فلما لم يجز عنده المزابنة وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب باعطاء خرصها تمرا، أو تسميته إياها بيعا عنده مجازا، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشيء من الأشياء سوى الخرص، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك. وقد قيل إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع منها أنه لم يسمها بيعا، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا. ومنها أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة، لأن المزابنة هي في البيع. والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع، وهي المزابنة، والله أعلم.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الإجارات.

@-والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع: أعني أصوله تنحصر بالنظر في أنواعها وفي شروط الصحة فيها والفساد وفي أحكامها، وذلك في نوع نوع منها، أعني فيما يخص نوعا نوعا منها، وفيما يعم أكثر من واحد منها فهذا الكتاب ينقسم أولا إلى قسمين: القسم الأول: في أنواعها وشروط الصحة والفساد. والثاني: في معرفة أحكام الإجارات، وهذا كله بعد قيام الدليل على جوازها. فلنذكر أولا ما في ذلك من الخلاف ثم نصير إلى ذكر ما في ذينك القسمين من المسائل المشهورة، إذ كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري من هذه الأشياء مجرى الأمهات، وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار. فنقول: إن الإجارة جائزة عند جميع فقهاء الأمصار والصدر الأول. وحكي عن الأصم وابن علية منعها. ودليل الجمهور قوله تعالى {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} الآية، وقوله {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} . ومن السنة الثابتة ما خرجه البخاري عن عائشة قالت "استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خِرّيتا [أي دليلا حاذقا عالما بالطرق. دار الحديث] وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما" وحديث جابر "أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة" وما جاز استيفاؤه بالشرط جاز استيفاؤه بالأجر، وشبهة من منع ذلك أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة، فكان ذلك غررا ومن بيع ما لم يخلق، ونحن نقول: إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفاؤه على السواء.

@-(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له وصفتها. فأما الثمن فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه، وقد تقدم ذلك في باب البيوع. وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه، وفي كل هذه مسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها؛ فمما اجتمعوا على إبطال إجارته كل منفعة كانت لشيء محرم العين، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع، مثل أجر النوائح وأجر المغنيات، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها، واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة، وكذلك الثياب والبسط. واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن، وفي الإجارة على تعليم القرآن، وفي إجارة نزو الفحول. فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا؛ فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل، وبه قال طاوس وأبو بكر ابن عبد الرحمن؛ وقال الجمهور بجواز ذلك. واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها؛ فقال قوم: لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط، وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب؛ وقال قوم: يجوز كراء الأرض بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط؛ وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام، وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين، وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ؛ وقال قوم: يجوز كراؤها بكل شيء وبجزء مما يخرج منها، وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة. وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع" قالوا: وهذا عام، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه، قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال: لا بأس به. وروي هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه، وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخصص العموم بقول الراوي. وروي عن رافع ابن خديج عن أبيه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين" قال أبو عمر بن عبد البر.

واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها ولا يؤاجرها" فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض. وقالوا أيضا من جهة المعنى: إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر، لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق، فيكون قد لزمه كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشيء. قال القاضي: ويشبه أن يقال في هذا إن المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة. وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنما يزرع ثلاثة، رجل له أرض فيزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل اكترى بذهب أو فضة" قالوا: فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث والأحاديث الأخر مطلقة وهذا مقيد، ومن الواجب حمل المطلق على المقيد. وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام، وسواء كان الطعام مدخرا أو لم يكن حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه بثلث ولا ربع ولا بطعام معين" قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا، وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة. قالوا: وأيضا فإنه من باب بيع الطعام بالطعام نسيئة.

وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشيء مما يخرج منها، أما بالطعام فحجته حجة من لم يجز كراءها بالطعام. وأما حجته على منع كرائها مما تنبت فهو ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قالوا: وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا هو قول مالك وكل أصحابه. وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم، فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع، وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع. روي عن سالم ابن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا: اكترى رافع. قالوا: وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال "كنا أكثر أهل المدينة حقلا، قال: وكان أحدنا يكري أرضه ويقول: هذه القطعة لي وهذه لك، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم "خرجه البخاري. وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها، فعمدته النظر والأثر. وأما الأثر فما ورد من النهي عن المخابرة، وما ورد من حديث ابن خديج عن ظهير بن رافع قال "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان رفقا بنا، فقلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ازرعوها أو زارعوها أو أمسكوها" وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الإمامان البخاري ومسلم. وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها فعمدته حديث ابن عمر الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" قالوا: وهذا الحديث أولى من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون، وإن صحت أحاديث رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر، بدليل ما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال: إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيرا له من أن يأخذ منه شيئا" قالوا: وقد قدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يخابرون فأقرهم. (وأما إجارة المؤذن) فإن قوما لم يروا في ذلم بأسا؛ وقوما كرهوا ذلك. والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة، وهذا هو سبب الاختلاف، أعني هل هو واجب أم ليس بواجب؟.

وأما الاستئجار على تعليم القرآن فقد اختلفوا فيه أيضا، وكرهه قوم، وأجازه آخرون. والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال، واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت عن عمه قال: "أقبلنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتينا على حي من أحياء العرب فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الرجل فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوها في القيود، فقلنا لهم نعم، فجاءوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بريقي ثم أتفل عليه، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جعلا، فقلت لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطلا فلقد أكلت برقية حقا" وبما روي عن أبي سعيد الخدري "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل عندكم من راق، فإن سيد الحي قد لدغ أو قد عرض له، قال: فرقي رجل بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطى قطيعا من الغنم، فأبى أن يقبلها، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب، قال: وما يدريك أنها رقية؟ قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم". وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا: هو من باب الجعل على تعليم الصلاة. قالوا: ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن وإنما كان على الرقي، وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات. قالوا: وليس واجبا على الناس، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس. وأما إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب، فأجاز مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ولا الشافعي.

وحجة من لم يجز ذلك ما جاء من النهي عن عسيب الفحل؛ ومن أجازه شبهه بسائر المنافع، وهذا ضعيف لأنه تغليب القياس على السماع. واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب، وهو لا يجوز عند الشافعي ولا عند مالك. والشافعي يشترط في جواز استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها، فلا يجوز استئجار تفاحة للشم، ولا طعام لتزين الحانوت، إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها، فهو لا يجوز عند مالك ولا عند الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير، بالجملة كل ما لا يعرف بعينه، فقال ابن القاسم: لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض، وكان أبو بكر الأبهري وغيره أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه، وإنما منع من منع إجارتها، لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها؛ ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة، مثل أن يتحمل بها أو يتكثر أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب، فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة. وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز.

ومما ورد النهي فيه من هذا الباب ما روي "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسيب الفحل وعن كسب الحجام وعن قفيز الطحان" قال الطحاوي: ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه، قالوا: وهذا لا يجوز عندنا، وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده، ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم، ووافقه الشافعي على هذا. وقال أصحابه: لو استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان، وهذا على مذهب مالك جائز، لأنه استأجره على جزء من الطعام؛ معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا. وأما كسب الحجام؛ فذهب قوم إلى تحريمه، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: كسبه رديء يكره للرجل؛ وقال آخرون: بل هو مباح. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب؛ فمن رأى أنه حرام احتج بما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من السحت كسب الحجام"، وبما روي عن أنس بن مالك قال "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كسب الحجام" وروي عن عون بن أبي جحيفة قال: اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه، فقلت له يا أبت لم كسرتها؟ فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم". وأما من رأى إباحة ذلك، فاحتج بما روي عن ابن عباس قال "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره" قالوا: ولو كان حراما لم يعطه، وحديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا طيبة فحجمه، فسأله كم ضريبتك؟ فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعا" وعنه أيضا "أنه أمر للحجام بصاع من طعام" وأمر موالية أن يخففوا عنه"

(يتبع...)

@(تابع... 1): -(القسم الأول) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي... ...

وأما الذين قالوا بكراهيته فاحتجوا بما روي أن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة جاء إلى مجلس الأنصار فقال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وأمرنا أن نطعمه ناضحنا" وبما روي "عن رجل من بني حارثة كان له حجام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهاه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعلف كسبه ناضحك وأطعمه رقيقك". ومن هذا الباب أيضا اختلافهم في إجارة دار بسكنى دار أخرى، فأجار ذلك مالك ومنعه أبو حنيفة، ولعله رآها من باب الدين بالدين، وهذا ضعيف، فهذه مشهورات مسائلهم فيما يتعلق بجنس الثمن وبجنس المنفعة. وأما ما يتعلق بأوصافها فنذكر أيضا المشهور منها؛ فمن ذلك أن جمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي اتفقوا بالجملة أن من شرط الإجارة أن يكون الثمن معلوما والمنفعة معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب، وإما بضرب الأجل إذا لم تكن لها غاية مثل خدمة الأجير، وذلك إما بالزمان إن كان عملا واستيفاء منفعة متصلة الوجود مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان مشيا مثل كراء الرواحل. وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز إجارات المجهولات مثل أن يعطي الرجل حماره لمن يسقي عليه أو يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه. وعمدة الجمهور أن الإجارة بيع فامتنع فيها من الجهل {لمكان الغبن} ما امتنع في المبيعات. واحتج الفريق الثاني بقياس الإجارة على القراض والمساقاة؛ والجمهور على أن القراض والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول؛ واتفق مالك والشافعي على أنهما إذا ضربا للمنفعة التي لبس لها غاية أمدا من الزمان محدودا، وحددوا أيضا أول ذلك الأمد، وكان أوله عقب العقد أن ذلك جائز. واختلفوا إذا لم يحددوا أول الزمان أو حددوه ولم يكن عقب العقد، فقال مالك: يجوز إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله، مثل أن يقول له: استأجرت منك هذه الدار سنة بكذا أو شهرا بكذا، ولا يذكر أول ذلك الشهر ولا أول تلك السنة؛ وقال الشافعي لا يجوز، ويكون أول الوقت عند مالك وقت عقد الإجارة، فمنعه الشافعي لأنه غرر، وأجازه مالك لأنه معلوم بالعادة، وكذلك لم يجز الشافعي إذا كان أول العقد متراخيا عن العقد، وأجازه مالك. واختلف قول أصحابه في استئجار الأرض غير المأمونة، والتغيير فيما بعد من الزمان؛ وكذلك اختلف مالك والشافعي في مقدار الزمان الذي تقدر به هذه المنافع؛ فمالك يجيز ذلك السنين الكثيرة، مثل أن يكري الدار لعشرة أعوام أو أكثر، مما لا تتغير الدار في مثله؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لأكثر من عام واحد. واختلف قول ابن القاسم وابن الماجشون في أرض المطر وأرض السقي بالعيون وأرض السقي بالآبار والأنهار؛ فأجاز ابن القاسم فيها الكراء بالسنين الكثيرة؛

وفصل ابن الماجشون فقال: لا يجوز الكراء في أرض المطر إلا لعام واحد، وأما أرض السقي بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام وأربعة؛ وأما أرض الآبار والأنهار فلا يجوز إلا لعشرة أعوام فقط. فالاختلاف ههنا في ثلاثة مواضع: في تحديد أول المدة، وفي طولها، وفي بعدها عن وقت العقد. وكذلك اختلف مالك والشافعي إذا لم يحدد المدة وحدد القدر الذي يجب لأقل المدة مثل أن يقول: أكتري منك هذه الدار الشهر بكذا، ولا يضربان لذلك أمدا معلوما، فقال الشافعي: لا يجوز؛ وقال مالك وأصحابه: يجوز على قياس: أبيعك من هذه الصبرة بحساب القفيز بدرهم، وهذا لا يجوز غيره. وسبب الخلاف اعتبار الجهل الواقع في هذه الأشياء هل هو من الغرر المعفو عنه أو المنهي عنه؟ ومن هذا الباب اختلافهم في البيع والإجارة، أجازه مالك، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يجز مالك أن يقترن بالبيع إلا الإجارة فقط. ومن هذا الباب اختلافهم في إجارة المشاع؛ فقال مالك والشافعي: هي جائزة؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز، لأن عنده أن الانتفاع بها مع الإشاعة متعذر؛ وعند مالك والشافعي أن الانتفاع بها ممكن مع شريكه كانتفاع المكري بها مع شريكه: أعنى رب المال. ومن هذا الباب استئجار الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر، فمنع الشافعي ذلك على الإطلاق، وأجاز ذلك مالك على الإطلاق: أعني في كل أجير؛ وأجاز ذلك أبو حنيفة في الظئر فقط. وسبب الخلاف هل هي إجارة مجهولة، أم ليست مجهولة؟ فهذه هي شرائط الإجارة الراجعة إلى الثمن والمثمون. وأما أنواع الإجارة فإن العلماء على أن الإجارة على ضربين: إجارة منافع أعيان محسوسة، وإجارة منافع في الذمة قياسا على البيع. والذي في الذمة من شرطه الوصف. والذي في العين من شرطه الرؤية أو الصفة عنده كالحال في المبيعات، ومن شرط الصفة عنده ذكر الجنس والنوع، وذلك في الشيء الذي تستوفي منافعه، وفي الشيء الذي تستوفي به منافعه فلابد من وصف المركوب مثلا، والحمل الذي تستوفي به منفعة المركوب. وعند مالك أن الراكب لا يحتاج أن يوصف، وعند الشافعي يحتاج إلى الوصف، وعند ابن القاسم أنه إذا استأجر الراعي على غنم بأعيانها أن من شرط صحة العقد اشتراط الخلف، وعند غيره تلزم الجملة بغير شرط. ومن شرط إجارة الذمة أن يعجل النقد عند مالك ليخرج من الدين بالدين؛ كما أن من شرط إجارة الأرض غير المأمونة السقي عنده أن لا يشترط فيها النقد إلا بعد الري. واختلفوا في الكراء هل يدخل في أنواعه الخيار أم لا؟ فقال مالك: يجوز الخيار في الصنفين من الكراء المضمون والمعين؛ وقال الشافعي: لا يجوز، فهذه هي المشهورات من المسائل الواقعة في هذا القسم الأول من هذا الكتاب، وهو الذي يشتمل على النظر في محال هذا العقد وأوصافه وأنواعه، وهي الأشياء التي تجري من هذا العقد مجرى الأركان، وبها يوصف العقد إذا كان على الشروط الشرعية بالصحة وبالفساد إذا لم يكن على ذلك، وبقي النظر في الجزء الثاني، وهو أحكام هذا العقد.

*2*الجزء الثاني من هذا الكتاب. وهو النظر في أحكام الإجارات.

@-وأحكام الإجارات كثيرة، ولكنها بالجملة تنحصر في جملتين: الجملة الأولى في موجبات هذا العقد ولوازمه من غير حدوث طارئ عليه. الجملة الثانية: في أحكام الطوارئ. وهذه الجملة تنقسم في الأشهر إلى معرفة موجبات الضمان وعدمه، ومعرفة وجوب الفسخ وعدمه، ومعرفة حكم الاختلاف.

*3*(الجملة الأولى) ومن مشهورات هذا الباب متى يلزم المكري دفع الكراء إذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الثمن؟ فعند مالك وأبي حنيفة: أن الثمن إنما يلزم جزءا فجزءا بحسب ما يقبض من المنافع، إلا أن يشترط ذلك أو يكون هنالك ما يوجب التقديم، مثل أن يكون عوضا معينا أو يكون كراء في الذمة. وقال الشافعي: يجب عليه الثمن بنفس العقد. فمالك رأى أن الثمن إنما يستحق منه بقدر ما يقبض من العوض؛ والشافعي كأنه رأى أن تأخره من باب الدين بالدين. ومن ذلك اختلافهم فيمن اكترى دابة أو دارا وما أشبه ذلك، هل له أن يكري ذلك بأكثر مما اكتراه؟ فأجازه مالك والشافعي وجماعة قياسا على البيع، ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه. وعمدتهم أنه من باب ربح ما لم يضمن، لأن ضمان الأصل هو من ربه: أعني من المكري، وأيضا فإنه من باب بيع ما لم يقبض، وأجاز ذلك بعض العلماء إذا أحدث فيها عملا. وممن لم يكره ذلك إذا وقع بهذه الصفة سفيان الثوري والجمهور، رأوا أن الإجارة في هذا شبيهة بالبيع، ومنها أن يكري الدار من الذي أكراها منه، فقال مالك: يجوز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وكأنه رأى أنه إذا كان التفاضل بينهما في الكراء فهو من باب أكل المال بالباطل. ومنها إذا اكترى أرضا ليزرعها حنطة فأراد أن يزرعها شعيرا، أو ما ضرره مثل ضرر الحنطة أو دونه، فقال مالك له ذلك، وقال داود: ليس له ذلك. ومنها اختلافهم في كنس مراحيض الدور المكتراة، فالمشهور عن ابن القاسم أنه على أرباب الدور، وروي عنه أنه على المكتري، وبه قال الشافعي؛ واستثنى ابن القاسم من هذه الفنادق التي تدخلها قوم وتخرج قوم، فقال: الكنس في هذه على رب الدار. ومنها اختلاف أصحاب مالك في الانهدام اليسير من الدار، هل يلزم رب الدار إصلاحه، أم ليس يلزم؟ وينحط عنه من الكراء ذلك القدر؟ فقال ابن القاسم: لا يلزمه، وقال غيره من أصحابه يلزمه. وفروع هذا الباب كثيرة، وليس قصدنا التفريع في هذا الكتاب.

*3*(الجملة الثانية: وهي النظر في أحكام الطوارئ)

*3*الفصل الأول منه، وهو النظر في الفسوخ.

@-فنقول: إن الفقهاء اختلفوا في عقد الإجارة؛ فذهب الجمهور إلى أنه عقد لازم، وحكي عن قوم أنه عقد جائز تشبيها بالجعل والشركة. والذين قالوا إنه عقد لازم اختلفوا فيما ينفسخ به؛ فذهب جماعة فقهاء الأمصار مالك والشافعي وسفيان الثوري وأبو ثور وغيرهم إلى أنه لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز فسخ عقد الإجارة للعذر الطارئ على المستأجر، مثل أن يكري دكانا يتجر فيه فيحترق متاعه أو يسرق. وعمدة الجمهور قوله تعالى {أوفوا بالعقود} لأن الكراء عقد على منافع فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معاوضة فلم ينفسخ أصله البيع. وعمدة أبي حنيفة أنه شبه ذهاب ما به تستوفي المنفعة بذهاب العين التي فيها المنفعة. وقد اختلف قول مالك إذا كان الكراء في غير مخصوص على استيفاء منفعة من جنس مخصوص؛ فقال عبد الوهاب الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وإن عين فذلك كالوصف لا ينفسخ ببيعه أو ذهابه، بخلاف العين المستأجرة إذا تلفت قال: وذلك مثل أن يستأجر على رعاية غنم بأعيانها أو خياطة قميص بعينه فتهلك الغنم ويحترق الثوب فلا ينفسخ العقد، وعلى المستأجر أن يأتي بغنم مثلها ليرعاها أو قميص مثله ليخيطه، قال: وقد قيل إنها تتعين بالتعيين فينفسخ العقد بتلف المحل. وقال بعض المتأخرين: إن ذلك ليس اختلافا في المذهب وإنما ذلك على قسمين: أحدهما أن يكون المحل المعين لاستيفاء المنافع مما تقصد عينه أو مما لا تقصد عينه، فإن كان مما تقصد عينه انفسخت الإجارة كالظئر إذا مات الطفل، وإن كان مما لا يقصد عينه لم تنفسخ الإجارة على رعاية الغنم أو بيع طعام في حانوت وما أشبه ذلك. واشتراط ابن القاسم في المدونة أنه إذا استأجر على غنم بأعيانها فإنه لا يجوز إلا أن يشترط الخلف هو التفات منه إلى أنها تنفسخ بذهاب محل استيفاء المعين، لكن لما رأى التلف سائقا إلى الفسخ رأى أنه من باب الغرر، فلم يجز الكراء عليها إلا باشتراط الخلف. ومن نحو هذا اختلافهم في هل ينفسخ الكراء بموت أحد المتعاقدين: أعني المكري والمكتري؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا ينفسخ ويورث عقد الكراء؛ وقال أبو حنيفة والثوري والليث: ينفسخ. وعمدة من لم يقل بالفسخ أنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين أصله البيع. وعمدة الحنفية أن الموت نقلة لأصل الرقبة المكتراة من ملك إلى ملك، فوجب أن يبطل أصله البيع في العين المستأجرة مدة طويلة: أعني أنه لا يجوز فلما كان لا يجتمع العقدان معا غلب ههنا انتقال الملك وإلا بقي الملك ليس له وارث، وذلك خلاف الإجماع، وربما شبهوا الإجارة بالنكاح إذ كان كلاهما استيفاء منافع، والنكاح يبطل بالموت وهو بعيد، وربما احتجوا على المالكية فقط بأن الأجرة عندهم تستحق جزءا فجزءا بقدر ما يقبض من المنفعة، قالوا: وإن كان هذا هكذا فإن مات المالك وبقيت الإجارة، فإن المستأجر يستوفي في ملك الوارث حقا بموجب عقد في غير ملك العاقد وذلك لا يصح، وإن مات المستأجر فتكون الأجرة مستحقة عليه بعد موته، والميت لا يثبت عليه دين بإجماع بعد موته. وأما الشافعية فلا يلزمهم هذا لأن استيفاء الأجرة يجب عندهم بنفس العقد على ما سلف من ذلك، وعند مالك أن أرض المطر إذا أكريت فمنع القحط من زراعتها أو زرعها فلم ينبت الزرع لمكان القحط أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة، فلم يتمكن المكتري من أن يزرعها وسائر الجوائح التي تصيب الزرع لا يحط عنه من الكراء شيء، وعنده أن الكراء الذي يتعلق بوقت ما أنه إن كان ذلك الوقت مقصودا مثل كراء الرواحل في أيام الحج فغاب المكري عن ذلك الوقت أنه ينفسخ الكراء. وأما إن لم يكن الوقت مقصودا فإنه لا ينفسخ، هذا كله عنده في الكراء الذي يكون في الأعيان. فأما الكراء الذي يكون في الذمة فإنه لا ينفسخ عنده بذهاب العين التي قبض المستأجر ليستوفي منها المنفعة إذ كان لم ينعقد الكراء على عين بعينها وإنما انعقد على موصوف في الذمة. وفروع هذا الباب كثيرة، وأصوله هي هذه التي ذكرناها.

*3*الفصل الثاني وهو النظر في الضمان.

@-والضمان عند الفقهاء على وجهين: بالتعدي، أو لمكان المصلحة وحفظ الأموال. فأما بالتعدي فيجب على المكري باتفاق، والخلاف إنما هو في نوع التعدي الذي يوجب ذلك أو لا يوجبه وفي قدره؛ فمن ذلك اختلاف العلماء في القضاء فيمن اكترى دابة إلى موضع ما فتعدى بها إلى موضع زائد على الموضع الذي انعقد عليه الكراء، فقال الشافعي وأحمد: عليه الكراء الذي التزمه إلى المسافة المشترطة، ومثل كراء المسافة التي تعدى فيها؛ وقال مالك: رب الدابة بالخيار في أن يأخذ كراء دابته في المسافة التي تعدى فيها أو يضمن له قيمة الدابة؛ وقال أبو حنيفة: لا كراء عليه في المسافة المتعداة، ولا خلاف أنها إذا تلفت في المسافة المتعداة أنه ضامن لها. فعمدة الشافعي أنه تعدى على المنفعة فلزمه أجرة المثل أصله التعدي على سائر المنافع. وأما مالك فكأنه لما حبس الدابة عن أسواقها رأى أنه قد تعدى عليها فيها نفسها فشبهه بالغاصب، وفيه ضعف. وأما مذهب أبي حنيفة فبعيد جدا عما تقتضيه الأصول الشرعية، والأقرب إلى الأصول في هذه المسألة هو قول الشافعي. وعند مالك أن عثار الدابة لو كانت عثور تعد من صاحب الدابة يضمن بها الحمل، وكذلك إن كانت الحبال رثة، ومسائل هذا الباب كثيرة. وأما الذين اختلفوا في ضمانهم من غير تعد إلا من جهة المصلحة فهم الصناع، ولا خلاف عندهم أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى ما عدا حامل الطعام والطحان، فإن مالكا ضمنه ما هلك عنده، إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير سببه. وأما تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف: يضمنون ما هلك عندهم، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجر ولا الخاص، ويضمن المشترك ومن عمل بأجر. وللشافعي قولان في المشترك. والخاص عندهم هو الذي يعمل في منزل المستأجر، وقيل هو الذي لم ينتصب للناس، وهو مذهب مالك في الخاص، وهو عنده غير ضامن، وتحصيل مذهب مالك على هذا أن الصانع المشترك يضمن، وسواء عمل بأجر أو بغير أجر، وبتضمين الصناع قال علي وعمر، وإن كان قد اختلف عن علي في ذلك. وعمدة من لم ير الضمان عليهم أنه شبه الصانع بالمودع عنده والشريك والوكيل وأجير الغنم ومن ضمنه فلا دليل له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة. وأما من فرق بين أن يعملوا بأجر أو لا يعملوا بأجر، فلأن العامل بغير أجر إنما قبض المعمول لمنفعة صاحبه فقط فأشبه المودع، وإذا قبضها بأجر فالمنفعة لكليهما، فغلبت منفعة القابض، أصله القرض والعارية عند الشافعي، وكذلك أيضا من لم ينصب نفسه لم يكن في تضمينه سد ذريعة، والأجير عند مالك كما قلنا لا يضمن إلا أنه استحسن تضمين حامل القوت وما يجري مجراه، وكذلك الطحان وما عدا غيرهم فلا يضمن إلا بالتعدي، وصاحب الحمام لا يضمن عنده، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل يضمن. وشذ أشهب فضمن الصناع ما قامت البينة على هلاكه عندهم من غير تعد منهم ولا تفريط وهو شذوذ، ولا خلاف أن الصناع لا يضمنون ما لم يقبضوا في منازلهم. واختلف أصحاب مالك إذا قامت البينة على هلاك المصنوع وسقط الضمان عنهم هل تجب لهم الأجرة أم لا، إذا كان هلاكه بعد إتمام الصنعة أو بعد تمام بعضها؟ فقال ابن القاسم: لا أجرة لهم، وقال ابن المواز: لهم الأجرة؛ ووجه ما قال ابن المواز أن المصيبة إذا نزلت بالمستأجر فوجب أن لا يمضي عمل الصانع باطلا؛ ووجه ما قال ابن القاسم أن الأجرة إنما استوجبت في مقابلة العمل، فأشبه ذلك إذا هلك بتفريط من الأجير، وقول ابن المواز أقيس، وقول ابن القاسم أكثر نظرا إلى المصلحة لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة. ومن هذا الباب اختلافهم في ضمان صاحب السفينة، فقال مالك: لا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة: عليه الضمان إلا من الموج، وأصل مذهب مالك أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من حرق أو كسر في المصنوع أو قطع إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال، مثل ثقب الجواهر ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران والطبيب يموت العليل من معالجته وكذلك البيطار إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ. وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله، وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث وفي ماله فيما دون الثلث، وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية، قيل في ماله، وقيل على العاقلة.

*3*الفصل الثالث في معرفة حكم الاختلاف.

@-وهو النظر في الاختلاف، وفي هذا الباب أيضا مسائل: فمنها أنهم اختلفوا إذا اختلف الصانع ورب المصنوع في صفة الصنعة، فقال أبو حنيفة: القول قول رب المصنوع، وقال مالك وابن أبي ليلى: القول قول الصانع. وسبب الخلاف من المدعي منهما على صاحبه، ومن المدعى عليه؟. ومنها إذا ادعى الصناع رد ما استصنعوا فيه وأنكر ذلك الدافع، فالقول عند مالك قول الدافع، وعلى الصناع البينة لأنهم كانوا ضامنين لما في أيديهم؛ وقال ابن الماجشون: القول قول الصناع إن كان ما دفع إليهم دفع بغير بينة، وإن كان دفع إليهم ببينة فلا يبرءون إلا ببينة. وإذا اختلف الصانع ورب المتاع في دفع الأجرة، فالمشهور في المذهب أن القول قول الصانع مع يمينه إن قام يحدثان ذلك، وإن تطاول فالقول قول رب المصنوع، وكذلك إذا اختلف المكري والمكتري، وقيل بل القول قول الصانع وقول المكري وإن طال، وهو الأصل. وإذا اختلف المكري والمكتري أو الأجير والمستأجر في مدة الزمان الذي وقع فيه استيفاء المنفعة إذا اتفقا على أن المنفعة لم تستوف في جميع الزمان المضروب في ذلك، فالمشهور في المذهب أن القول قول المكتري والمستأجر لأنه الغارم، والأصول على أن القول قول الغارم؛ وقال ابن الماجشون: القول قول المكتري له والمستأجر إذا كانت العين المستوفاة منها المنافع في قبضهما مثل الدار وما أشبه ذلك. وأما ما لم يكن في قبضه مثل الأجير فالقول قول الأجير. ومن مسائل المذهب المشهورة في هذا الباب اختلاف المتكاريين في الدواب وفي الرواحل، وذلك أن اختلافهما لا يخلو أن يكون في قدر المسافة أو نوعها، أو قدر الكراء أو نوعه، فإن كان اختلافهما في نوع المسافة، أو في نوع الكراء، فالتحالف والتفاسخ كاختلاف المتبايعين في نوع الثمن، قال ابن القاسم: انعقد أو لم ينعقد، وقال غيره: القول قول رب الدابة إذا انعقد وكان يشبه ما قال. وإن كان اختلافهما في قدر المسافة، فإن كان قبل الركوب أو بعد ركوب يسير، فالتحالف والتفاسخ، وإن كان بعد ركوب كثير، أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة فالقول قول رب الدابة في المسافة إن انتقد وكان يشبه ما قال، وإن لم ينتقد وأشبه قوله تحالفا ويفسخ الكراء على أعظم المسافتين، فما جعل منه للمسافة التي ادعاها رب الدابة أعطيه، وكذلك إن انتقد ولم يشبه قوله وإن اختلفا في الثمن واتفقا على المسافة فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد لأنه مدعى عليه. وإن اختلفا في الأمرين جميعا في المسافة والثمن مثل أن يقول رب الدابة بقرطبة: اكتريت منك إلى قرمونة بدينارين ويقول المكتري بل بدينار إلى إشبيلية، فإن كان أيضا قبل الركوب أو بعد ركوب لا ضرر عليهما في الرجوع تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعد سير كثير أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة، فإن كان لم ينقد المكتري شيئا كان القول قول رب الدابة في المسافة، والقول قول المكتري في الثمن، ويغرم من الثمن ما يجب له من قرطبة إلى قرمونة، على أنه لو كان الكراء به إلى إشبيلية وذلك أنه أشبه قول المكتري، وإن لم يشبه ما قال وأشبه رب الدابة غرم دينارين وإن كان المكتري نقد الثمن الذي يدعى أنه للمسافة الكبرى وأشبه قول رب الدابة كان القول قول رب الدابة في المسافة ويبقى له ذلك الثمن الذي قبضه لا يرجع عليه بشيء منه إذ هو مدعي عليه في بعضه، وهو يقول: بل هو لي وزيادة، فيقبل قوله فيه لأنه قبضه، ولا يقبل قوله في الزيادة، ويسقط عنه ما لم يقرب به من المسافة أشبه ما قال أو لم يشبه، إلا أنه إذا لم يشبه قسم الكراء الذي أقر به المكتري على المسافة كلها، فيأخذ رب الدابة من ذلك ما ناب المسافة التي ادعاها، وهذا القدر كاف في هذا الباب.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الجعل.

@-والجعل هو الإجارة على منفعة مظنون حصولها، مثل مشارطة الطبيب على البرء والمعلم على الحذاق والناشد على وجود العبد الآبق. وقد اختلف العلماء في منعه وجوازه؛ فقال مالك: يجوز ذلك في اليسير بشرطين: أحدهما أن لا يضرب لذلك أجلا. والثاني أن يكون الثمن معلوما؛ وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ وللشافعي قولان وعمدة من أجازه قوله تعالى {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} وإجماع الجمهور على جوازه في الإباق والسؤال. وما جاء في الأثر من أخذ الثمن على الرقية بأم القرآن، وقد تقدم ذلك. وعمدة من منعه الغرر الذي فيه قياسا على سائر الإجارات، ولا خلاف في مذهب مالك أن الجعل لا يستحق شيء منه إلا بتمام العمل وأنه ليس بعقد لازم. واختلف مالك وأصحابه في هذا الباب في كراء السفينة، هل هو جعل أو إجارة فقول مالك: ليس لصاحبها كراء إلا بعد البلوغ، وهو قول ابن القاسم ذهابا إلى أن حكمها حكم الجعل. وقال ابن نافع من أصحابه: له قدر ما بلغ من المسافة، فأجرى حكمه مجرى الكراء. وقال أصبغ: إن لجج فهو جعل وإن لم يلجج فهو إجارة له بحسب الموضع الذي وصل إليه. والنظر في هذا الباب في جوازه ومحله وشروطه وأحكامه ومحله هو ما كان من الأفعال لا ينتفع الجاعل بجزء منه، لأنه إذا انتفع الجاعل بجزء مما عمل الملتزم للجعل (هكذا بالنسخ، ولعله للعمل، لأن الملتزم للجعل هو المنتفع، أو تجعل اللام للعلة، تأمل ا هـ مصححه)، ولم يأت بالمنفعة التي انعقد الجعل عليها، وقلنا على حكم الجعل إنه إذا لم يأت بالمنفعة التي انعقد الجعل عليها لم يكن له شيء، فقد انتفع الجاعل بعمل المجعول من غير أن يعوضه من عمله بأجر وذلك ظلم، ولذلك يختلف الفقهاء في كثير من المسائل هل هو جعل أو إجارة مثل مسألة السفينة المتقدمة هل هي مما يجوز فيها الجعل أولا يجوز مثل اختلافهم في المجاعلة على حفر الآبار، وقالوا في المغارسة إنها تشبه الجعل من جهة والبيع من جهة، وهي عند مالك أن يعطي الرجل أرضه لرجل على أن يغرس فيه عددا من الثمار معلوما، فإذا استحق الثمر كان للغارس جزء من الأرض متفق عليه.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب القراض.

@-ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام. وأجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أي جزء كان مما يتفقان عليه ثلثا أو ربعا أو نصفا، وأن هذا مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد، وإن كان اختلفوا فيما هو تعد مما ليس بتعد. وكذلك أجمعوا بالجملة على أنه لا يقترن به شرط يزيد في مجهلة الربح أو في الغرر الذي فيه وإن كان اختلفوا فيما يقتضي ذلك من الشروط مما لا يقتضي. وكذلك اتفقوا على أنه يجوز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في غير ذلك. وبالجملة فالنظر فيه: في صفته وفي محله وفي شروطه وفي أحكامه، ونحن نذكر في باب باب من هذه الثلاثة الأبواب مشهورات مسائلهم.

*3*الباب الأول في محله.

@-أما صفته فقد تقدمت وأنهم أجمعوا عليها. وأما محله فإنهم أجمعوا على أنه جائز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في العروض فجمهور فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز القراض بالعروض، وجوزه ابن أبي ليلى. وحجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضا كان غررا لأنه يقبض العرض وهو يساوي قيمة ما، ويرده وهو يساوي قيمة غيرها، فيكون رأس المال والربح مجهولا. وأما إن كان رأس المال ما به يباع العروض، فإن مالكا منعه والشافعي أيضا، وأجازه أبو حنيفة. وعمدة مالك أنه قارضه على ما بيعت به السلعة وعلى بيع السلعة نفسها، فكأنه قراض ومنفعة، مع أن ما يبيع به السلعة مجهول، فكأنه إنما قارضه على رأس مال مجهول، ويشبه أن يكون أيضا إنما منع المقارضة على قيم العروض لمكان ما يتكلف المقارض في ذلك من البيع، وحينئذ ينض رأس مال القراض، وكذلك إن أعطاه العرض بالثمن الذي اشتراه به، ولكنه أقرب الوجوه إلى الجواز، ولعل هذا هو الذي جوزه ابن أبي ليلى، بل هو الظاهر من قولهم؛ فإنهم حكوا عنه أنه يجوز أن يعطي الرجل ثوبا يبيعه، فما كان فيه من ربح فهو بينهما، وهذا إنما هو على أن يجعلا أصل المال الثمن الذي اشترى به الثوب، ويشبه أيضا إن جعل رأس المال الثمن أن يتهم المقارض في تصديقه رب المال بخرصه على أخذ القراض منه. واختلف قول مالك في القراض بالنقد من الذهب والفضة، فروي عنه أشهب منع ذلك، وروى ابن القاسم جوازه، ومنعه في المصوغ، وبالمنع في ذلك قال الشافعي والكوفي، فمن منع القراض بالنقد شبهها بالعروض، ومن أجازه شبهها بالدراهم والدنانير لقلة اختلاف أسواقها. واختلف أيضا أصحاب مالك في القراض بالفلوس، فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب، وبه قال محمد بن الحسن؛ وجمهور العلماء مالك والشافعي وأبو حنيفة على أنه إذا كان لرجل على رجل دين لم يجز أن يعطيه له قراضا قبل أن يقبضه؛ أما العلة عند مالك فمخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن يؤخره عنه على أن يزيد فيه، فيكون الربا المنهي عنه. وأما العلة عند الشافعي وأبي حنيفة، فإن ما في الذمة لا يتحول ويعود أمانة. واختلفوا فيمن أمر رجلا أن يقبض دينا له على رجل آخر، ويعمل فيه على جهة القراض فلم يجز ذلك مالك وأصحابه، لأنه رأى أنه ازداد على العامل كلفة، وهو ما كلفه من قبضه، وهذا على أصله أن من اشترط منفعة زائدة في القراض أنه فاسد؛ وأجاز ذلك الشافعي والكوفي، قالوا: لأنه وكله على القبض، لا أنه جعل القبض شرطا في المصارفة، فهذا هو القول في محله. وأما صفته فهي الصفة التي قدمناها.

*3*الباب الثاني في مسائل الشروط.

@-وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما أدى عندهم إلى غرر أو إلى مجهلة زائدة. ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما لنفسه من الربح شيئا زائدا غير ما انعقد عليه القراض أن ذلك لا يجوز، لأنه يصير ذلك الذي انعقد عليه القراض مجهولا، وهذا هو الأصل عند مالك في أن لا يكون مع القراض بيع ولا كراء ولا سلف ولا عمل ولا مرفق يشترطه أحدهما لصاحبه مع نفسه، فهذه جملة ما اتفقوا عليه وإن كانوا قد اختلفوا في التفصيل؛ فمن ذلك اختلافهم إذا شرط العامل الربح كله له، فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: هو قرض لا قراض؛ فمالك رأى أنه إحسان من رب المال وتطوع، إذ كان يجوز له أن يأخذ منه الجزء القليل من المال الكثير والشافعي رأى أنه غرر، لأنه إن كان خسران فعلى رب المال وبهذا يفارق القرض، وإن كان ربح فليس لرب المال فيه شيء. ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه؛ القراض جائز والشرط باطل. وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض ففسد؛ وأما أبو حنيفة فشبهه بالشرط الفاسد في البيع على رأيه أن البيع جائز والشرط باطل اعتمادا على حديث بريرة المتقدم. واختلفوا في المقارض يشترط رب المال عليه خصوص التصرف، مثل أن يشترط عليه تعيين جنس ما من السلع، أو تعيين جنس ما من البيع، أو تعيين موضع ما من التجارة، أو تعيين صنف ما من الناس يتجر معهم. فقال مالك والشافعي في اشتراط جنس من السلع: لا يجوز ذلك إلا أن يكون ذلك الجنس من السلع لا يختلف وقتا ما من أوقات السنة؛ وقال أبو حنيفة: يلزمه ما اشترط عليه، وإن تصرف في غير ما اشترط عليه ضمن. فمالك والشافعي رأيا أن هذا الاشتراط من باب التضييق على المقارض فيعظم الغرر بذلك؛ وأبو حنيفة استخف الغرر الموجود في ذلك، كما لو اشترط عليه أن لا يشتري جنسا ما من السلع لكان على شرطه في ذلك باجماع. ولا يجوز القراض المؤجل عند الجمهور، وأجازه أبو حنيفة إلا أن يتفاسخا؛ فمن لم يجزه رأى أن في ذلك تضييقا على العامل يدخل عليه مزيد غرر، لأنه ربما بارت عنده سلع فيضطر عند بلوغ الأجل إلى بيعها فيلحقه في ذلك ضرر؛ ومن أجاز الأجل شبه القراض بالإجارة ومن هذا الباب اختلافهم في جواز اشتراط رب المال زكاة الربح على العامل في حصته من الربح، فقال مالك في الموطأ: لا يجوز، ورواه عنه أشهب؛ وقال ابن القاسم: ذلك جائز، ورواه عن مالك، وبقول مالك قال الشافعي. وحجة من لم يجزه أنه تعوض حصة العامل ورب المال مجهولة، لأنه لا يدري كم يكون المال في حين وجوب الزكاة فيه، وتشبيها باشتراط زكاة أصل المال عليه: أعني على العامل، فإنه لا يجوز باتفاق وحجة ابن القاسم أنه يرجع إلى جزء معلوم النسبة وإن لم يكن معلوم القدر، لأن الزكاة معلومة النسبة من المال المزكى، فكأنه اشترط عليه في الربح الثلث إلا ربع العشر، أو النصف إلا ربع العشر، أو الربع إلا ربع العشر، وذلك جائز وليس مثل اشتراطه زكاة رأس المال، لأن ذلك معلوم القدر غير معلوم النسبة، فكان ممكنا أن يحيط بالربح فيبقى عمل المقارض باطلا، وهل يجوز أن يشترط ذلك المقارض على رب المال؟ في المذهب فيه قولان: قيل بالفرق بين العامل ورب المال، وقيل يجوز أن يشترطه العامل على رب المال، ولا يجوز أن يشترطه رب المال على العامل؛ وقيل عكس هذا. واختلفوا في اشتراط العامل على رب المال غلاما بعينه على أن يكون للغلام نصيب من المال، فأجازه مالك والشافعي وأبو حنيفة؛ وقال أشهب من أصحاب مالك: لا يجوز ذلك، فمن أجاز ذلك شبهه بالرجل يقارض الرجلين، ومن لم يجز ذلك رأى أنها زيادة ازدادها العامل على رب المال. فأما إن اشترط العامل غلامه، فقال الثوري: لا يجوز، وللغلام فيما عمل أجرة المثل، وذلك أن حظ العامل يكون عنده مجهولا.

*4*القول في أحكام القراض.

@-والأحكام، منها ما هي أحكام القراض الصحيح، ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد. وأحكام القراض الصحيح، منها ما هي من موجبات العقد، أعني أنها تابعة لموجب العقد، ومختلف فيها هل هي تابعة أو غير تابعة؟ ومنها أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه من نفس العقد، مثل التعدي والاختلاف وغير ذلك. ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء الأمصار. ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول: إنه أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض. واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وهو عقد يورث، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء، وليس هو عقد يورث. فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر، ورآه من العقود الموروثة. والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل. ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال، وأنه إن خسر ثم أتجر ثم ربح جبر الخسران من الربح. واختلفوا في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه، ثم يعمل فيه فيربح، فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك، هل له ذلك أم لا؟ فقال مالك وجمهور العلماء: إن صدقه رب المال، أو دفع رجل مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل فأخبره بذلك فصدقه ثم قال له يكون الباقي عندك قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول. وقال ابن حبيب من أصحاب مالك إنه يلزمه في ذلك القول، ويكون الباقي قراضا، وهذه المسألة هي من أحكام الطوارئ، ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت وجوب القسمة، وهي من أحكام العقد. واختلفوا هل للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقال الشافعي في أشهر أقواله: لا نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال؛ وقال قوم: له نفقته، وبه قال إبراهيم النخعي والحسن، وهو أحد ما روي عن الشافعي؛ وقال آخرون: له النفقة في السفر من طعامه وكسوته، وليس له شيء في الحضر، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء، إلا أن مالكا قال: إذا كان المال يحمل ذلك؛ وقال الثوري: ينفق ذاهبا ولا ينفق راجعا؛ وقال الليث: يتغدى في المصر ولا يتعشى؛ وروي عن الشافعي أن له نفقته في المرض، والمشهور عنه مثل قول الجمهور: أن لا نفقة له في المرض. وحجة من لم يجزه أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم يجز. أصله المنافع. وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول، ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر. وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بينة ولا غيرها.

*4*القول في أحكام الطوارئ.

@-واختلفوا إذا أخذ المقارض حصته من غير حضور رب المال، ثم ضاع المال أو بعضه؛ فقال مالك: إن أذن له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: ما أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال، ثم يقتسمان فضلا إن كان هنالك. واختلفوا إذا هلك مال القراض بعد أن اشترى العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع. فقال مالك: البيع لازم للعامل، ورب المال مخير إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية، ثم تكون بينهما على ما شرطا من المقارضة، وإن شاء تبرأ عنها؛ وقال أبو حنيفة: بل يلزم ذلك الشراء رب المال شبه بالوكيل، إلا أنه قال: يكون رأس المال في ذلك القراض الثمنين، ولا يقتسمان الربح إلا بعد حصوله عينا: أعني ثمن تلك السلعة التي تلفت أولا، والثمن الثاني الذي لزمه بعد ذلك. واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع القراض، فكره ذلك مالك، وأجازه أبو حنيفة على الإطلاق، وأجازه الشافعي بشرط أن يكونا قد تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله. ووجهة ما كره من ذلك مالك أن يكون يرخص له في السلعة من أجل ما قارضه، فكأن رب المال أخذ من العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه. ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على العامل لا على رب المال، لأن رب المال إنما دفع ماله إليه ليتجر به، فما كان من خسران في المال فعليه، وكذلك ما زاد على المال واستغرقه. واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع مال القراض، فقال مالك: ذلك لا يجوز؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ذلك جائز، ويكون الربح بينهما على شرطهما. وحجة مالك أنه كما لا يجوز أن يستدين على المقارضة، كذلك لا يجوز أن يأخذ دينا فيها. واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم يأمره به رب المال؟ فقال مالك: ليس له ذلك، فإن فعل ضمن، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: له ذلك. والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا في أكثر الأحوال؛ فمن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه؛ ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال، فقال هؤلاء كلهم ما عدا مالكا: هو تعد ويضمن؛ وقال مالك: ليس بتعد. ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه، فيوفيه حظه مما بقي من المال. وقال المزني عن الشافعي: ليس له إلا أجرة مثله، لأنه عمل على فساد.

*4*القول في حكم القراض الفاسد.

@-واتفقوا على أن حكم القراض الفاسد فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل. واختلفوا إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه في واجب عمله على أقوال: أحدها أنه يرد جميعه إلى قراض مثله، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك، وهو قوله وقول أشهب. والثاني أنه يرد جميعه إلى إجارة مثله، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وعبد العزيز بن أبي سلمة من أصحاب مالك، وحكى عبد الوهاب أنها رواية عن مالك. والثالث أنه يرد إلى قراض مثله ما لم يكن أكثر مما سماه، وإنما له الأقل مما سمي أو من قراض مثله إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارض، أو الأكثر من قراض مثله، أو من الجزء الذي سمى له إن كان المقارض هو مشترط الشرط الذي يقتضي الزيادة التي من قبلها فسد القراض، وهذا القول يتخرج رواية عن مالك. والرابع أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في المال مما ليس ينفرد أحدهما بها عن صاحبه، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين خالصة لمشترطها مما ليست في المال وفي كل قراض فاسد من قبل الغرر والجهل، وهو قول مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، واختاره ابن حبيب؛ وأما ابن القاسم فاختلف قوله في القراضات الفاسدة، فبعضها وهو الأكثر قال: إن فيها أجرة المثل، وفي بعضها قال: فيها قراض المثل. فاختلف الناس في تأويل قوله؛ فمنهم من حمل اختلاف قوله فيها على الفرق الذي ذهب إليه ابن عبد الحكم ومطرف، وهو اختيار ابن حبيب واختيار جدي رحمة الله عليه. ومنهم من لم يعلل قوله وقال: إن مذهبه أن كل قراض فاسد ففيه أجرة المثل إلا تلك التي نص فيها قراض المثل وهي سبعة: القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل، والقراض المبهم، وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركا، وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد، أو على أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمر به. وهذه المسائل يجب أن ترد إلى علة واحدة، وإلا فهو اختلاف من قول ابن القاسم، وحكى عبد الوهاب عن ابن القاسم أنه فصل فقال: إن كان الفساد من جهة العقد رد إلى قراض المثل، وإن كان من جهة زيادة ازدادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة المثل، والأشبه أن يكون الأمر في هذا بالعكس. والفرق بين الأجرة وقراض المثل أن الأجرة تتعلق بذمة رب المال سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل هو على سنة القراض إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له.

*4*القول في اختلاف المتقارضين.

@-واختلف الفقهاء إذا اختلف العامل ورب المال في تسمية الجزء الذي تقارضا عليه، فقال مالك: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن، وكذلك الأمر عنده في جميع دعاويه إذا أتى بما يشبه، وقال الليث: يحمل على قراض مثله، وبه قال مالك إذا أتى بما لا يشبه؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: القول قول رب المال، وبه قال الثوري؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، ويكون له أجرة مثله. وسبب اختلاف مالك وأبو حنيفة اختلافهم في سبب ورود النص بوجوب اليمين على المدعى عليه، هل ذلك لأنه مدعى عليه، أو لأنه في الأغلب أقوى شبهة؛ فمن قال لأنه مدعى عليه قال القول قول رب المال؛ ومن قال لأنه أقواهما شبهة في الأغلب قال: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن؛ وأما الشافعي فقاس اختلافهما على اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة. وهذا كاف في هذا الباب.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما)

*2*كتاب المساقاة.

*3*القول في المساقاة. أما أولا ففي جوازها. والثاني: في معرفة الفساد والصحة فيها. والثالث: في أحكامها.

*4*القول في جواز المساقاة.

@-فأما جوازها فعليه جمهور العلماء مالك والشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وأحمد وداود، وهي عندهم مستثناة بالسنة من بيع ما لم يخلق، ومن الإجارة المجهولة؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة أصلا. وعمدة الجمهور في إجازتها حديث ابن عمر الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها" خرجه البخاري ومسلم وفي بعض رواياته "أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" وما رواه مالك أيضا من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر يوم افتتح خيبر "أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" وكذلك مرسله أيضا عن سليمان بن يسار في معناه، وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فعمدتهم مخالفة هذا الأثر للأصول مع أنه حكم مع اليهود، واليهود يحتمل أن يكون أقرهم على أنهم عبيد، ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم ذمة، إلا أنا إذا أنزلنا أنهم ذمة كان مخالفا للأصول، لأنه بيع ما لم يخلق؛ وأيضا فإنه من المزابنة، وهو بيع التمر بالتمر متفاضلا، لأن القسمة بالخرص بيع الخرص، واستدلوا على مخالفته للأصول بما روي في حديث عبد الله بن رواحة أنه كان يقول لهم عند الخرص "إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم" وهذا حرام بإجماع. وربما قالوا إن النهي الوارد عن المخابرة هو ما كان من هذا الفعل بخيبر. والجمهور يرون أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، قالوا: ومما يدل على نسخ هذا الحديث، أو أنه خاص باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها، لأن المساقاة تقتضي جواز ذلك، وهو خاص أيضا في بعض روايات أحاديث المساقاة، ولهذا المعنى لم يقل بهذه الزيادة مالك ولا الشافعي، أعني بما جاء من "أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة" وهي زيادة صحيحة وقال بها أهل الظاهر.

*4*القول في صحة المساقاة.

@-والنظر في الصحة راجع إلى النظر في أركانها، وفي وقتها، وفي شروطها المشترطة في أركانها. وأركانها أربعة: المحل المخصوص بها. والجزء الذي تنعقد عليه. وصفة العمل الذي تنعقد عليه. والمدة التي تجوز فيها وتنعقد عليها.

@-(الركن الأول: في محل المساقاة) واختلفوا في محل المساقاة، فقال داود: لا تكون المساقاة إلا في النخيل فقط؛ وقال الشافعي: في النخل والكرم فقط؛ وقال مالك: تجوز في كل أصل ثابت كالرمان والتين والزيتون وما أشبه ذلك من غير ضرورة، وتكون في الأصول غير الثابتة كالمقاثئ والبطيخ مع عجز صاحبها عنها، وكذلك الزرع، ولا تجوز في شيء من البقول عند الجميع إلا ابن دينار، فإنه أجازها فيه إذا نبتت قبل أن تستغل؛ فعمدة من قصره على النخل أنها رخصة، فوجب أن لا يتعدى بها محلها الذي جاءت فيه السنة. وأما مالك فرأى أنها رخصة ينقدح فيها سبب عام، فوجب تعدية ذلك إلى الغير. وقد يقاس على الرخص عند قوم إذا فهم هنالك أسباب أعم من الأشياء التي علقت الرخص بالنص بها؛ وقوم منعوا القياس على الرخص؛ وأما داود فهو يمنع القياس على الجملة، فالمساقاة على أصوله مطردة؛ وأما الشافعي فإنما أجازها في الكرم من قبل أن الحكم في المساقاة هو بالخرص، وقد جاء في حديث عتاب بن أسيد الحكم بالخرص في النخل والكرم وإن كان ذلك في الزكاة، فكأنه قاس المساقاة في ذلك على الزكاة، والحديث الذي ورد عن عتاب بن أسيد هو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب وتؤدى زكاته زبيبا، كما تؤدى زكاة النخل تمرا" ودفع داود حديث عتاب ابن أسيد لأنه مرسل، ولأنه انفرد به عبد الرحمن بن إسحاق وليس بالقوي. واختلفوا إذا كان مع النخل أرض بيضاء أو مع الثمار، هل يجوز أن تساقى الأرض مع النخل بجزء من النخل أو بجزء من النخل وبجزء مما يخرج من الأرض؟ فذهب إلى جواز ذلك طائفة، وبه قال صاحبا أبي حنيفة والليث وأحمد والثوري وابن أبي ليلى وجماعة؛ وقال الشافعي وأهل الظاهر: لا تجوز المساقاة إلا في التمر فقط؛ وأما مالك فقال: إذا كانت الأرض تبعا للثمر وكان الثمر أكثر ذلك فلا بأس بدخولها في المساقاة اشترط جزءا خارجا منها أو لم يشترطه، وحد ذلك الجزء بأن يكون الثلث فما دونه، أعني أن يكون مقدار كراء الأرض الثلث من الثمر فما دونه، ولم يجز أن يشترط رب الأرض أن يزرع البياض لنفسه، لأنها زيادة ازدادها عليه؛ وقال الشافعي: ذلك جائز (هكذا بالنسخ، ولعله متناقض في النقل عن الشافعي، فإنه نقل عنه أولا أنه لا يجوز إلا في الثمرة وهنا أنه تجوز المساقاة في الأرض والنخل معا فلعل له قولين، تأمل ا هـ مصححه). وحجة من أجاز المساقاة عليهما جميعا، أعني على الأرض بجزء مما يخرج منها حديث ابن عمر المتقدم. وحجة من لم يجز ذلك ما روي من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها في حديث رافع بن خديج، وقد تقدم ذلك؛ وقال أحمد بن حنبل: أحاديث رافع مضطربة الألفاظ، وحديث ابن عمر أصح. وأما تحديد مالك ذلك بالثلث فضعيف، وهو استحسان مبني على غير الأصول، لأن الأصول تقتضي أنه لا يفرق بين الجائز من غير الجائز بالقليل والكثير من الجنس الواحد. ومنها اختلافهم في المساقاة في البقل؛ فأجازها مالك والشافعي وأصحابه ومحمد بن الحسن؛ وقال الليث: لا تجوز المساقاة في البقل، وإنما أجازها الجمهور لأن العامل وإن كان ليس عليه فيها سقي فيبقى عليه أعمال أخر، مثل الإبار وغير ذلك؛ وأما الليث فيرى السقي بالماء هو الفعل الذي تنعقد عليه المساقاة، ولمكانه وردت الرخصة فيه.

@-(الركن الثاني) وأما الركن الذي هو العمل، فإن العلماء بالجملة أجمعوا على أن الذي يجب على العامل هو السقي والإبار. واختلفوا في الجذاذ على من هو؟ وفي سد الحظار وتنقية العين والسانية. أما مالك فقال في الموطأ: السنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط أن يشترطه سد الحظار وخم العين وشرب الشراب وإبار النخل وقطع الجريد وجذ الثمر، هذا وأشباهه هو على العامل، وهذا الكلام يحتمل أن يفهم منه دخول هذه في المساقاة بالشرط، ويمكن أن يفهم منه دخولها فيها بنفس العقد. وقال الشافعي: ليس عليه سد الحظار لأنه ليس من جنس ما يؤثر في زيادة الثمرة مثل الإبار والسقي. وقال محمد بن الحسن: ليس عليه تنقية السواني والأنهار. وأما الجذاذ فقال مالك والشافعي: هو على العامل، إلا أن مالكا قال: إن اشترطه العامل على رب المال جاز؛ وقال الشافعي: لا يجوز شرطه وتنفسخ المساقاة إن وقع؛ وقال محمد بن الحسن: الجذاذ بينهما نصفان؛ وقال المحصلون من أصحاب مالك: إن العمل في الحائط على وجهين: عمل ليس له تأثير في إصلاح الثمرة، وعمل له تأثير في إصلاحها. والذي له تأثير في إصلاحها منه ما يتأبد ويبقى بعد الثمر، ومنه ما لا يبقى بعد الثمر. فأما الذي ليس له تأثير في إصلاح الثمر فلا يدخل في المساقاة لا بنفس العقد ولا بالشرط إلا الشيء اليسير منه. وأما ماله تأثير في إصلاح الثمر ويبقى بعد الثمر فيدخل عنده بالشرط في المساقاة لا بنفس العقد، مثل إنشاء حفر بئر، أو إنشاء ظفيرة للماء، أو إنشاء غرس، أو إنشاء بيت يجني فيه الثمر. وأما ما له تأثير في إصلاح الثمر ولا يتأبد، فهو لازم بنفس العقد، وذلك مثل الحفر والسقي وزبر الكرم وتقليم الشجر والتذكير والجذاذ وما أشبه ذلك؛ وأجمعوا على أن ما كان في الحائط من الدواب والعبيد أنه ليس من حق العامل. واختلفوا في شرط العامل ذلك على المساقي، فقال مالك: يجوز ذلك فيما كان منها في الحائط قبل المساقاة. وأما إن اشترط فيها ما لم يكن في الحائط فلا يجوز؛ وقال الشافعي: لابأس بذلك وإن لم يكن في الحائط، وبه قال ابن نافع من أصحاب مالك؛ وقال محمد بن الحسن: لا يجوز أن يشترطه العامل على رب المال، ولو اشترطه رب المال على العامل جاز ذلك؛ ووجه كراهيته ذلك ما يلحق في ذلك من الجهل بنصيب رب المال؛ ومن أجازه رأى أن ذلك تافه ويسير، ولتردد الحكم بين هذين الأصلين استحسن مالك ذلك في الرقيق الذي يكون في الحائط في وقت المساقاة ومنعه في غيرهم، لأن اشتراط المنفعة في ذلك أظهر، وإنما فرق محمد بن الحسن لأن اشتراطهما على العامل هو من جنس ما وجب عليه من المساقاة، وهو العمل بيده. واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت النفقة كلها على رب الحائط وليس على العامل إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز، لأنها إجارة بما لم يخلق، فهذه هي صفات هذا الركن والشروط الجائزة فيه من غير الجائزة.

@-(الركن الثالث) وأجمعوا على أن المساقاة تجوز بكل ما اتفقا عليه من أجزاء الثمر، فأجاز مالك أن تكون الثمرة كلها للعامل كما فعل في القراض، وقد قيل إن ذلك منحة لا مساقاة، وقيل لا يجوز. واتفقوا على أنه لا يجوز فيها اشتراط منفعة زائدة، مثل أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دراهم أو دنانير ولا شيئا من الأشياء الخارجة عن المساقاة إلا الشيء اليسير عند مالك مثل سد الحظار وإصلاح الظفيرة وهي مجتمع الماء؛ ولا يجوز عند مالك أن يساقي على حائطين: أحدهما على جزء، والآخر على جزء آخر، واحتج بفعله عليه الصلاة والسلام في خيبر، وذلك أنه ساقي على حوائط مختلفة بجزء واحد، وفيه خلاف. وأكثر العلماء على أن القسمة بين العامل والمساقي في الثمر لا تكون إلا بالكيل، وكذلك في الشركة، وأنها لا تجوز بالخرص؛ وأجاز قوم قسمتها بالخرص. واختلف في ذلك أصحاب مالك، واختلفت الرواية عنه، فقيل يجوز، وقيل لا يجوز من الثمار في الربوية ويجوز في غير ذلك، وقيل يجوز بلإطلاق إذ اختلفت حاجة الشريكين. وحجة الجمهور أن ذلك يدخله الفساد من جهة المزابنة ويدخله بيع الرطب بالتمر، وبيع الطعام بالطعام نسيئة. وحجة من أجاز قسمتها بالخرص تشبيهها بالعرية وبالخرص في الزكاة، وفيه ضعف. وأقوى ما اعتمدوا عليه في ذلك ما جاء من الخرص في مساقاة خيبر من مرسل سعيد ابن المسيب وعطاء بن يسار.

@-(الركن الرابع) وأما اشتراط الوقت في المساقاة فهو صنفان: وقت هو مشترط في جواز المساقاة، ووقت هو شرط في صحة العقد، وهو المحدد لمدتها. فأما الوقت المشترط في جواز عقدها فإنهم اتفقوا على أنها تجوز قبل بدو الصلاح. واختلفوا في جواز ذلك بعد بدو الصلاح، فذهب الجمهور من القائلين بالمساقاة على أنه لا يجوز بعد الصلاح. وقال سحنون: من أصحاب مالك لا بأس بذلك. واختلف قول الشافعي في ذلك؛ فمرة قال: لا يجوز، ومرة قال: يجوز، وقد قيل عنه إنها لا تجوز إذا خلق الثمر. وعمدة الجمهور أن المساقاة ما بدا صلاحه من الثمر ليس فيه عمل ولا ضرورة داعية إلى المساقاة إذ كان يجوز بيعه في ذلك الوقت. قالوا: وإنما هي إجارة إن وقعت. وحجة من أجازها أنه إذا جازت قبل أن يخلق الثمر فهي بعد بدو الصلاح أجوز، ومن هنا لم تجز عندهم مساقاة البقول لأنه يجوز بيعها، أعني عند الجمهور. وأما الوقت الذي هو شرط في المساقاة، فإن الجمهور على أنه لا يجوز يكون مجهولا: أعني مدة غير مؤقتة، وأجاز طائفة أن يكون إلى مدة غير مؤقتة منهم أهل الظاهر. وعمدة الجمهور ما يدخل في ذلك من الغرر قياسا على الإجارة؛ وعمدة أهل الظاهر ما وقع في مرسل مالك من قوله صلى الله عليه وسلم "أقركم ما أقركم الله" وكره مالك المساقاة فيما طال من السنين، وانقضاء السنين فيها هو بالجذ لا بالأهلة. وأما هل اللفظ شرط في هذا العقد، فاختلفوا في ذلك؛ فذهب ابن القاسم إلى أن من شرط صحتها أن لا تنعقد إلا بلفظ المساقاة، وأنه ليس تنعقد بلفظ الإجارة، وبه قال الشافعي؛ وقال غيرهم: تنعقد بلفظ الإجارة، وهو قياس قول سحنون.

*4*القول في أحكام الصحة.

@-والمساقاة عند مالك من العقود اللازمة باللفظ لا بالعمل بخلاف القراض عنده الذي ينعقد بالعمل لا باللفظ، وهو عند مالك عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعليه العمل إن أبى الورثة من تركته؛ وقال الشافعي إذا لم يكن له تركة سلم إلى الورثة رب المال أجرة ما عمل وفسد العقد، وإن كانت له تركة لزمته المساقاة؛ وقال الشافعي: تنفسخ المساقاة بالعجز ولم يفصل؛ وقال مالك إذا عجز وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره ووجب عليه أن يستأجر من يعمل وإن يكن له شيء استؤجر من حظه من الثمر، وإن كان العامل لصا أو ظالما لم ينفسخ العقد بذلك عند مالك. وحكي عن الشافعي أنه قال: يلزمه أن يقيم غيره للعمل؛ وقال الشافعي: إذا هرب العامل قبل تمام العمل استأجر القاضي عليه من يعمل عمله، ويجوز عند مالك أن يشترط كل واحد منهما على صاحبه الزكاة بخلاف القراض، ونصابهما عنده نصاب الرجل الواحد بخلاف قوله في الشركاء. وإذا اختلف رب المال والعامل في مقدار ما وقعت عليه المساقاة من الثمر، فقال مالك: القول قول العامل مع يمينه إذا أتى بما يشبه؛ وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، وتكون للعامل الأجرة شبهة بالبيع؛ وأوجب مالك اليمين في حق العامل لأنه مؤتمن، ومن أصله أن اليمين تجب على أقوى المتداعيين شبهة. وفروع هذا الباب كثيرة، لكن التي اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء هي هذه التي ذكرناها.

*4*أحكام المساقاة الفاسدة.

@-واتفقوا على أن المساقاة إذا وقعت على غير الوجه الذي جوزها الشرع أنها تنفسخ ما لم تفت بالعمل. واختلفوا إذا فاتت بالعمل ماذا يجب فيها؟ فقيل إنها ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد، وهو قياس قول الشافعي وقياس إحدى الروايتين عن مالك؛ وقيل إنها ترد إلى مساقاة المثل بإطلاق، هو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك؛ وأما ابن القاسم فقال في بعضها: ترد إلى مساقاة مثلها، وفي بعضها: إلى إجارة المثل. واختلف التأويل عنه في ذلك، فقيل في مذهبه إنها ترد إلى إجارة المثل إلا في أربع مسائل فإنها ترد إلى مساقاة مثلها: إحداها المساقاة في حائط فيه تمر قد أطعم. والثانية إذا اشترط المساقي على رب المال أن يعمل معه. والثالثة المساقاة مع البيع في صفقة واحدة. والرابعة إذا ساقاه في حائط سنة على الثلث وسنة على النصف؛ وقيل إن الأصل عنده في ذلك أن المساقاة إذا لحقها الفساد من قبل ما دخلها من الإجارة الفاسدة أو من بيع الثمر من قبل أن يبدو صلاحه، وذلك مما يشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة رد فيها إلى أجرة المثل، مثل أن يساقيه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير أو دراهم، وذلك أن هذه الزيادة إن كانت من رب الحائط كانت إجارة فاسدة، وإن كانت من العامل كانت بيع الثمر قبل أن يخلق. وأما فساده من قبل الغرر مثل المساقاة على حوائط مختلفة فيرد إلى مساقاة المثل، وهذا كله استحسان جار على غير قياس. وفي المسألة قول رابع، وهو أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم يكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان للمساقي، أو أقل إن كان الشرط للمساقي، وهذا كاف بحسب غرضنا.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الشركة.

@-والنظر في الشركة، في أنواعها، وفي أركانها الموجبة للصحة في الأحكام ونحن نذكر من هذه الأبواب ما اتفقوا عليه، وما اشتهر الخلاف فيه بينهم على ما قصدناه في هذا الكتاب. والشركة بالجملة عند فقهاء الأمصار على أربعة أنواع: شركة العنان: وشركة الأبدان. وشركة المفاوضة. وشركة الوجوه. واحدة منها متفق عليها، وهي شركة العنان، وإن كان بعضهم لم يعرف هذا اللفظ ، وإن كانوا اختلفوا في بعض شروطها على ما سيأتي بعد. والثلاثة مختلف فيها، ومختلف في بعض شروطها عند من اتفق منهم عليها.

*3*القول في شركة العنان.

@-وأركان هذه الشركة ثلاثة: الأول: محلها من الأموال. والثاني: في معرفة قدر الربح من قدر المال المشترك فيه. والثالث في معرفة قدر العمل من الشريكين من قدر المال.

@-(الركن الأول) فأما محل الشركة، فمنه ما اتفقوا عليه، ومنه ما اختلفوا فيه؛ فاتفق المسلمون على أن الشركة تجوز في الصنف الواحد من العين: أعني الدنانير والدراهم، وإن كانت في الحقيقة بيعا لا تقع فيه مناجزة، ومن شرط البيع في الذهب وفي الدراهم المناجزة، لكن الإجماع خصص هذا المعنى في الشركة، وكذلك اتفقوا فيما أعلم على الشركة بالعرضين يكونان بصفة واحدة واختلفوا في الشركة بالعرضين المختلفين وبالعيون المختلفة، مثل الشركة بالدنانير. من أحدها والدراهم من الآخر، وبالطعام الربوي إذا كان صنفا واحدا، فههنا ثلاث مسائل:

@-(المسألة الأولى) فأما إذا اشتركا في صنفين من العروض، أو في عروض ودراهم ودنانير، فأجاز ذلك ابن القاسم، وهو مذهب مالك، وقد قيل عنه إنه كره ذلك. وسبب الكراهية اجتماع الشركة فيها والبيع، وذلك أن يكون العرضان مختلفين، كأن كل واحد منهما باع جزءا من عرضه بجزء من العرض الآخر؛ ومالك يعتبر في العروض إذا وقعت فيها الشركة القيم؛ والشافعي يقول: لا تنعقد الشركة إلا على أثمان العروض؛ وحكى أبو حامد أن ظاهر مذهب الشافعي يشير إلى أن الشركة مثل القراض لا تجوز إلا بالدراهم والدنانير، قال: والقياس أن الإشاعة فيها تقوم مقام الخلط.

@-(المسألة الثانية) وإما إن كان الصنفان مما لا يجوز فيهما النَّساء مثل الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، أو بالطعامين المختلفين، فاختلف في ذلك قول مالك، فأجازه مرة، ومنعه مرة، وذلك لما يدخل الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر من الشركة والصرف معا وعدم التناجز، ولما يدخل الطعامين المختلفين من الشركة وعدم التناجز؛ وبالمنع قال ابن القاسم، ومن لم يعتبر هذه العلل أجازها.

@-(المسألة الثالثة) وأما الشركة بالطعام من صنف واحد، فأجازها ابن القاسم قياسا على إجماعهم على جوازها في الصنف الواحد من الذهب أو الفضة ومنعها مالك في أحد قوليه وهو المشهور بعدم المناجزة الذي يدخل فيه، إذ رأى أن الأصل هو أن لا يقاس على موضع الرخصة بالإجماع؛ وقد قيل إن وجه كراهية مالك لذلك أن الشركة تفتقر إلى الاستواء في القيمة، والبيع يفتقر إلى الاستواء في الكيل، فافتقرت الشركة بالطعامين من صنف واحد إلى استواء القيمة والكيل وذلك لا يكاد يوجد، فكره مالك ذلك، فهذا هو استواء القيمة والكيل وذلك لا يكاد يوجد، فكره مالك ذلك فهذا هو اختلافهم في جنس محل الشركة. واختلفوا هل من شرط مال الشركة أن يختلطا إما حسا وإما حكما، مثل أن يكونا في صندوق واحد وأيديهما مطلقة عليهما؛ وقال الشافعي: لا تصح الشركة حتى يخلطا ماليهما خلطا لا يتميز به مال أحدهما من مال الآخر؛ وقال أبو حنيفة: تصح الشركة وإن كان مال كل واحد منهما بيده. فأبو حنيفة اكتفى في انعقاد الشركة بالقول؛ ومالك اشترط إلى ذلك اشتراك التصرف في المال؛ والشافعي اشترط إلى هذين الاختلاط. والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم، لأن النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه، فهذا هو القول في هذا الركن وفي شروطه.

@-(فأما الركن الثاني) وهو وجه اقتسامهما الربح، فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان الربح تابعا لرؤوس الأموال، أعني إن كان أصل مال الشركة متساويين كان الربح بينهما نصفين. واختلفوا هل يجوز أن يختلف رؤوس أموالهما ويستويان في الربح؟ فقال مالك والشافعي: ذلك لا يجوز؛ وقال أهل العراق: يجوز ذلك. وعمدة من منع ذلك أن تشبيه الربح بالخسران، فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم يجز كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن ماله وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي بين الشريكين: أعني أن المنفعة بينهما تكون على نسبة أصل الشركة. وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض، وذلك أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من الربح ما اصطلحا عليه، والعامل ليس يجعل مقابله إلا عملا فقط كان في الشركة أحرى أن يجعل للعمل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من كل واحد منهما وعملا، فيكون ذلك الجزء من الربح مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه، فإن الناس يتفاوتون في العمل كما يتفاوتون في غير ذلك.

@-(وأما الركن الثالث) الذي هو العمل، فإنه تابع كما قلنا عند مالك للمال فلا يعتبر بنفسه، وهو عند أبي حنيفة يعتبر مع المال؛ وأظن أن من العلماء من لا يجيز الشركة إلا أن يكون مالاهما متساويين التفاتا إلى العمل، فإنهم يرون أن العمل في الغالب مستو فإذا لم يكن المال بينهما على التساوي كان هنالك غبن على أحدهما في العمل، ولهذا قال ابن المنذر: أجمع العلماء على جواز الشركة التي يخرج فيها كل واحد من الشريكين مالا مثل مال صاحبه من نوعه: أعني دراهم أو دنانير، ثم يخلطانهما حتى يصيرا مالا واحدا لا يتميز. على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارة، وعلى أن ما كان من فضل فهو بينهما بنصفين، وما كان من خسارة فهو كذلك، وذلك إذا باع كل واحد منهما بحضرة صاحبه، واشتراطه هذا الشرط يدل على أن فيه خلافا والمشهور عند الجهمور أنه ليس من شرط الشركاء أن يبيع كل واحد منهما بحضرة صاحبه.

*3*القول في شركة المفاوضة.

@-واختلفوا في شركة المفاوضة؛ فاتفق مالك وأبو حنيفة بالجملة على جوازها، وإن كان اختلفوا في بعض شروطها؛ وقال الشافعي: لا تجوز. ومعنى شركة المفاوضة أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته وحضوره، وذلك واقع عندهم في جميع أنواع الممتلكات. وعمدة الشافعي أن اسم الشركة إنما ينطلق على اختلاط الأموال، فإن الأرباح فروع، ولا يجوز أن تكون الفروع مشتركة إلا باشتراك أصولها؛ وأما إذا اشترط كل واحد منهما ربحا لصاحبه في ملك نفسه فذلك من الغرر ومما لا يجوز، وهذه صفة شركة المفاوضة. وأما مالك فيرى أن كل واحد منهما قد باع جزءا من ماله بجزء من مال شريكه، ثم وكل واحد منهما صاحبه على النظر في الجزء الذي بقي في يده. والشافعي يرى أن الشركة ليست هي بيعا ووكالة. وأما أبو حنيفة فهو ههنا على أصله في أنه لا يراعي في شركة العنان إلا النقد فقط. وأما ما يختلف فيه مالك وأبو حنيفة من شروط هذه الشركة، فإن أبا حنيفة يرى أن من شرط المفاوضة التساوي في رؤوس الأموال؛ وقال مالك: ليس من شرطها ذلك تشبيها بشركة العنان؛ وقال أبو حنيفة: لا يكون لأحدهما شيء إلا أن يدخل في الشركة. وعمدتهم أن اسم المفاوضة يقتضي هذين الأمرين، أعني تساوي المالين وتعميم ملكهما.

*3*القول في شركة الأبدان.

@-وشركة الأبدان بالجملة عند أبي حنيفة والمالكية جائزة، ومنع منها الشافعي. وعمدة الشافعية أن الشركة إنما تختص بالأموال لا بالأعمال، لأن ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم، إذ كان عمل كل واحد منهما مجهولا عند صاحبه. وعمدة المالكية اشتراك الغانمين في الغنيمة، وهم إنما استحقوا ذلك بالعمل. وما روي من أن ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر، فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما. وأيضا فإن المضاربة إنما تنعقد على العمل فجاز أن تنعقد عليه الشركة؛ وللشافعي أن المفارضة خارجة عن الأصول فلا يقاس عليها، وكذلك يشبه أن يكون حكم الغنيمة خارجا عن الشركة؛ ومن شرطها عند مالك اتفاق الصنعتين والمكان؛ وقال أبو حنيفة: تجوز مع اختلاف الصنعتين، فيشترك عنده الدباغ والقصار، ولا يشتركان عند مالك. وعمدة مالك زيادة الغرر الذي يكون عند اختلاف الصنعتين أو اختلاف المكان. وعمدة أبي حنيفة جواز الشركة على العمل.

*3*القول في شركة الوجوه.

@-وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة؛ وقال أبو حنيفة: جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة مع ما في ذلك من الغرر، لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا عمل مخصوص؛ وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة.

*3*القول في أحكام الشركة الصحيحة.

@-وهي من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة: أي لأحد الشريكين أن ينفصل من الشركة متى شاء، وهي عقد غير موروث، ونفقتهما وكسوتهما من مال الشركة إذا تقاربا في العيال ولم يخرجا عن نفقة مثلهما ويجوز لأحد الشريكين أن يبضع وأن يقارض وأن يودع إذا دعت إلى ذلك ضرورة، ولا يجوز له أن يهب شيئا من مال الشركة، ولا أن يتصرف فيه إلا تصرفا يرى أنه نظر لهما؛ وأما من قصر في شيء أو تعدى فهو ضامن مثل أن يدفع مالا من التجارة فلا يشهد وينكره القابض، فإنه يضمن لأنه قصر إذ لم يشهد، وله أن يقبل الشيء المعيب في الشراء وإقرار أحد الشريكين في مال لمن يتهم عليه لا يجوز، وتجوز إقالته وتوليته، ولا يضمن أحد الشريكين ما ذهب من مال التجارة باتفاق، ولا يجوز للشريك المفاوض أن يقارض غيره إلا بإذن شريكه ويتنزل كل واحد منهما منزلة صاحبه فيما له وفيما عليه في مال التجارة، وفروع هذا الباب كثيرة.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم)

*2*كتاب الشفعة

@-والنظر في الشفعة أولا قسمين: القسم الأول: في تصحيح هذا الحكم وفي أركانه. القسم الثاني: في أحكامه.

*3*(القسم الأول)

@-فأما وجوب الحكم بالشفعة، فالمسلمون متفقون عليه، لما ورد في ذلك من الأحاديث الثابتة، إلا ما يتأمل على من لا يرى بيع الشقص المشاع [قال في النهاية: ... الشِّقصُ والشَّقِيص: النصيبُ في العين المُشْتركة من كل شيء. دار الحديث]، وأركانها أربعة: الشافع، والمشفوع عليه، والمشفوع فيه، وصفة الأخذ بالشفعة.

*4*(الركن الأول) وهو الشافع، وذهب مالك والشافعي وأهل المدينة إلى أن لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم؛ وقال أهل العراق: الشفعة مرتبة، فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة، ثم الجار الملاصق؛ وقال أهل المدينة: لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم. وعمدة أهل المدينة مرسل مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة، وحديث جابر أيضا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود. وكان أحمد بن حنبل يقول: حديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أصح ما روي في الشفعة. وكان ابن معين يقول: مرسل مالك أحب إلي، إذ كان مالك إنما رواه عن ابن شهاب موقوفا، وقد جعل قوم هذا الاختلاف على ابن شهاب في إسناده توهينا له، وقد روي عن مالك في غير الموطأ عن ابن شهاب عن أبي هريرة، ووجه استدلالهم من هذا الأثر ما ذكر فيه من أنه إذا وقعت الحدود فلا شفعة، وذلك أنه إذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى أن لا تكون واجبة للجار، وأيضا فإن الشريك المقاسم هو جار إذا قاسم. وعمدة أهل العراق حديث رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الجار أحق بصقبه" وهو حديث متفق عليه، وخرج الترمذي وأبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "جار الدار أحق بدار الجار" وصححه الترمذي ومن طريق المعنى لهم أيضا أنه لما كانت الشفعة إنما المقصود منها دفع الضرر الداخل من الشركة، وكان هذا المعنى موجودا في الجار وجب أن يلحق به؛ ولأهل المدينة أن يقولوا: وجود الضرر في الشركة أعظم منه في الجوار. وبالجملة فعمدة المالكية أن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه، وأن من اشترى شيئا فلا يخرج من يده إلا برضاه حتى يدل الدليل على التخصيص، وقد تعارضت الآثار في هذا الباب، فوجب أن يرجح ما شهدت له الأصول، ولكلا القولين سلف متقدم لأهل العراق من التابعين لأهل المدينة من الصحابة.

*4*(الركن الثاني) وهو المشفوع فيه، اتفق المسلمون على أن الشفعة واجبة في الدور والعقار والأرضين كلها، واختلفوا فيما سوى ذلك، فتحصيل مذهب مالك أنها في ثلاثة أنواع: احدها مقصود، وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين. والثاني ما يتعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول، وذلك كالبئر ومحال النخل، ما دام الأصل فيها على صفة تجب فيها الشفعة عنه، وهو أن يكون الأصل الذي هو الأرض مشاعا بينه وبين شريكه غير مقسم، والثالث ما تعلق بهذه كالثمار، وفيها عنه خلاف، وكذلك كراء الأرض للزرع وكتابة المكاتب. واختلف عنه في الشفعة في الحمام والرحا، وأما ما عدا هذا من العروض والحيوان فلا شفعة فيها عنده، وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار. واختلف عنه في أكرية الدور وفي المساقاة وفي الدين، هل يكون الذي عليه الدين أحق به، وكذلك الذي عليه الكتابة، وبه قال عمر بن عبد العزيز. وروى "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في الدين" وبه قال أشهب من أصحاب مالك؛ وقال ابن القاسم: لا شفعة في الدين. ولم يختلفا في إيجابها في الكتابة لحرمة العتق، وفقهاء الأمصار على أن لا شفعة إلا في العقار فقط. وحكي عن قوم أن الشفعة في كل شيء ما عدا المكيل والموزون؛ ولم يجز أبو حنيفة الشفعة في البئر والفحل، وأجازها في العرصة والطريق؛ ووافق الشافعي مالكا في العرصة وفي الطريق وفي البئر، وخالفاه جميعا في الثمار. وعمدة الجمهور في قصر الشفعة على العقار ما ورد في الحديث الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فكأنه قال: الشفعة فيما تمكن فيه القسمة ما دام لم يقسم، وهذا استدلال بدليل الخطاب، وقد أجمع عليه في هذا الموضع فقهاء الأمصار مع اختلافهم في صحة الاستدلال به. وأما عمدة من أجازها في كل شيء فما خرجه الترمذي عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الشريك شفيع والشفعة في كل شيء" ولأن معنى ضرر الشركة والجوار موجود كل شيء وإن كان في العقار أظهر؛ ولما لحظ هذا مالك أجرى ما يتبع العقار مجرى العقار. واستدل أبو حنيفة على منع الشفعة في البئر بما روى "لا شفعة في بئر" ومالك حمل هذا الأثر على آبار الصحاري التي تعمل في الأرض الموات، لا التي تكون في أرض متمكلة.

*4*(الركن الثالث) وأما المشفوع عليه فإنهم اتفقوا على أنه من انتقل إليه الملك بشراء من شريك غير مقاسم أو من جار عند من يرى الشفعة للجار. واختلفوا فيمن انتقل إليه الملك بغير شراء، فالمشهور عند مالك. أن الشفعة إنما تجب إذا كان انتقال الملك بعوض كالبيع والصلح والمهر وأرش الجنايات وغير ذلك، وبه قال الشافعي؛ وعنه رواية ثانية أنها تجب بكل ملك انتقل بعوض أو بغير عوض، كالهبة لغير الثواب والصدقة، ما عدا الميراث فإنه لا شفعة عند الجميع فيه باتفاق. وأما الحنفية فالشفعة عندهم في المبيع فقط، وعمدة الحنفية ظاهر الأحاديث، وذلك أن مفهومها يقتضي أنها في المبيعات بل ذلك نص فيها لا في بعضها فلا يبع حتى يستأذن شريكه. وأما المالكية فرأت أن كل ما انتقل بعوض فهو في معنى البيع، ووجه الرواية الثانية أنها اعتبرت الضرر فقط. وأما الهبة للثواب فلا شفعة فيها عند أبي حنيفة ولا الشافعي؛ وأما أبو حنيفة فلأن الشفعة عنده في المبيع، وأما الشافعي فلأن هبة الثواب عنده باطلة، وأما مالك فلا خلاف عنده وعند أصحابه في أن الشفعة فيها واجبة. واتفق العلماء على أن المبيع الذي بالخيار أنه إذا كان الخيار فيه للبائع أن الشفعة لا تجب حتى يجب البيع. واختلفوا إذا كان الخيار للمشتري؟ فقال الشافعي والكوفيون: الشفعة واجبة عليه لأن البائع قد صرم الشقص [قال في النهاية: ... الشِّقصُ والشَّقِيص: النصيبُ في العين المُشْتركة من كل شيء. دار الحديث] عن ملكه وأبانه منه، وقيل إن الشفعة غير واجبة عليه لأنه غير ضامن وبه قال جماعة من أصحاب مالك. واختلف في الشفعة في المساقاة، وهي تبديل أرض بأرض، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: الجواز، والمنع، والثالث أن تكون المناقلة بين الأشراك والأجانب فلم يرها في الأشراك ورآها في الأجانب.

*4*(الركن الرابع في الأخذ بالشفعة) والنظر في هذا الركن بماذا يأخذ الشفيع، وكم يأخذ، ومتى يأخذ؟ فإنهم اتفقوا على أنه يأخذ في البيع بالثمن إذا كان حالا؛ واختلفوا إذا كان البيع إلى أجل هل يأخذه الشفيع بالثمن إلى ذلك الأجل، أو يأخذ المبيع بالثمن حالا، وهو مخير؟ فقال مالك: يأخذه بذلك الأجل إذا كان مليا أو يأتي بضامن مليء، وقال الشافعي: الشفيع مخير، فإن عجل تعجلت الشفعة وإلا تتأخر إلى وقت الأجل، وهو نحو قول الكوفيين؛ وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد لأنها قد دخلت في ضمان الأول، قال: ومنا من يقول تبقى في يد الذي باعها، فإن بلغ الأجل أخذها الشفيع. والذين رأوا الشفعة في سائر المعاوضات مما ليس ببيع، فالمعلوم عنهم أنه يأخذ الشفعة بقيمة الشقص إن كان العوض مما ليس يتقدر، مثل أن يكون معطى في خلع. وإما أن يكون معطى في شيء يتقدر ولم يكن دنانير ولا دراهم ولا بالجملة مكيلا ولا موزونا، فإنه يأخذه بقيمة ذلك الشيء الذي دفع الشقص فيه؛ وإن كان ذلك الشيء محدود القدر بالشرع أخذ ذلك الشقص بذلك القدر، مثل أن يدفع الشقص في موضحة وجبت عليه أو منقلة، فإنه يأخذه بدية الموضحة أو المنقلة. وأما كم يأخذ؟ فإن الشفيع لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر، والمشفوع عليه أيضا لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر. فأما أن الشفيع واحد والمشفوع عليه واحدا فلا خلاف في أن الواجب على الشفيع أن يأخذ الكل أو يدع، وأما إذا كان المشفوع عليه واحدا والشفعاء أكثر من واحد فإنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما في كيفية قسمة المشفوع فيه بينهم. والثاني إذا اختلفت أسباب شركتهم هل يحجب بعضهم بعضا عن الشفعة أم لا؟ مثل أن يكون بعضهم شركاء في المال الذي ورثوه، لأنهم أهل سهم واحد، وبعضهم لأنهم عصبة.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي كيفية توزيع المشفوع فيه، فإن مالكا والشافعي وجمهور أهل المدينة يقولون: إن المشفوع فيه يقتسمونه بينهم على قدر حصصهم، فمن كان نصيبه من أصل المال الثلث مثلا أخذ من الشقص بثلث الثمن، ومن كان نصيبه الربع أخذ الربع. وقال الكوفيون: هي على عدد الرؤوس على السواء، وسواء في ذلك الشريك ذو الحظ الأكبر وذو الحظ الأصغر. وعمدة المدنيين أن الشفعة حق يستفاد وجوبه بالملك المتقدم، فوجب أن يتوزع على مقدار الأصل، أصله الأكرية في المستأجرات المشتركة والربح في شركة الأموال؛ وأيضا فإن الشفعة إنما هي لإزالة الضرر، والضرر داخل على كل واحد منهم على غير استواء، لأنه إنما يدخل على كل واحد منهم بحسب حصته، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفعه على تلك النسبة. وعمدة الحنفية أن وجوب الشفعة إنما يلزم بنفس الملك فيستوفي ذلك أهل الحظوظ المختلفة لستوائهم في نفس الملك، وربما شبهوا ذلك بالشركاء في العبد يعتق بعضهم نصيبه أنه يقوم على المعتقين على السوية: أعني حظ من لم يعتق.

@-(وأما المسألة الثانية) فإن الفقهاء اختلفوا في دخول الأشراك الذين هم عصبة في الشفعة مع الأشراك الذين شركتهم من قبل السهم الواحد فقال مالك: أهل السهم الواحد أحق بالشفعة إذا باع أحدهم من الأشراك معهم في المال من قبل التعصيب، وأنه لا يدخل ذو العصبة في الشفعة على أهل السهام المقدرة ويدخل ذوو السهام على ذوي التعصيب، مثل أن يموت ميت فيترك عقارا ترثه عنه بنتان وابنا عم ثم تبيع البنت الواحدة حظها، فإن البنت الثانية عند مالك هي التي تشفع في ذلك الحظ الذي باعته أختها فقط دون ابني العم، وإن باع أحد ابني العم نصيبه يشفع فيه البنات وابن العم الثاني، وبهذا القول قال ابن القاسم، وقال أهل الكوفة: لا يدخل ذوو السهام على العصبات ولا العصبات على ذوي السهام، ويتشافع أهل السهم الواحد فيما بينهم خاصة، وبه قال أشهب، وقال الشافعي في أحد قوليه: يدخل ذوو السهام على العصبات والعصبات على ذوي السهام، وهو الذي اختاره المزني، وبه قال المغيرة من أصحاب مالك. وعمدة مذهب الشافعي عموم قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة بين الشركاء، ولم يفصل ذوي سهم من عصبة. ومن خصص ذوي السهام من العصبات فلأنه رأى أن الشركة مختلفة الأسباب: أعني بين ذوي السهام وبين العصبات فشبه الشركات المختلفة الأسباب بالشركات المختلفة من قبل محالها الذي هو المال بالقسمة بالأموال. ومن أدخل ذوي السهام على العصبة ولم يدخل العصبة على ذوي السهام فهو استحسان على غير قياس، ووجه الاستحسان أنه رأى أن ذوي السهام أقعد من العصبة. وأما إذا كان المشفوع عليهما اثنين فأكثر فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني، فقال ابن القاسم: إما أن يأخذ الكل أو يدع؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: له أن يشفع على أيهما أحب، وبه قال أشهب. فأما إذا باع رجلان شقصا من رجل، فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني، فإن أبا حنيفة منع ذلك، وجوزه الشافعي. وأما إذا كان الشافعون أكثر من واحد: أعني الأشراك، فأراد بعضهم أن يشفع وسلم له الباقي في البيوع، فالجمهور على أن للمشتري أن يقول للشريك إما أن تشفع في الجميع أو تترك، وأنه ليس له أن يشفع بحسب حظه إلا أن يوافقه المشتري على ذلك، وأنه ليس له أن يبعض الشفعة على المشتري إن لم يرض بتبعيضها. وقال أصبغ من أصحاب مالك: إن كان ترك بعضهم الأخذ بالشفعة رفقا بالمشتري لم يكن للشفيع إلا أن يأخذ حصته فقط. ولا خلاف في مذهب مالك أنه إذا كان بعض الشفعاء غائبا وبعضهم حاضرا، فأراد الحاضر أن يأخذ حصته فقط أنه ليس له ذلك، إلا أن يأخذ الكل أو يدع، فإذا قدم الغائب فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. واتفقوا على أن من شرط الأخذ بالشفعة أن تكون الشركة متقدمة على البيع. واختلفوا هل من شرطها أن تكون موجودة في حال البيع، وأن تكون ثابتة قبل البيع؟.

@-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا لم يكن شريكا في حال البيع، وذلك يتصور بأن يكون يتراخى عن الأخذ بالشفعة بسبب من الأسباب التي لا يقطع له الأخذ بالشفعة حتى يبيع الحظ الذي كان به شريكا. فروى أشهب أن قول مالك اختلف في ذلك، فمرة قال: له الأخذ بالشفعة، ومرة قال: ليس له ذلك؛ واختار أشهب أنه لا شفعة له، وهو قياس قول الشافعي والكوفيين، لأن المقصود بالشفعة إنما هو إزالة الضرر من جهة الشركة، وهذا ليس بشريك. وقال ابن القاسم: له الشفعة إذا كان قيامه في أثره، لأنه يرى أن الحق الذي وجب له لم يرتفع ببيعه حظه.

@-(وأما المسألة الثانية) فصورتها أن يستحق إنسان شقصا في أرض قد بيع منها قبل وقت الاستحقاق شقص ما، هل له أن يأخذ بالشفعة أم لا؟ فقال قوم: له ذلك، لأنه وجبت له الشفعة بتقدم شركته قبل البيع، ولا فرق في ذلك كانت يده عليه أو لم تكن؛ وقال قوم: لا تجب له الشفعة، لأنه إنما ثبت له مال الشركة يوم الاستحقاق، قالوا: ألا ترى أنه لا يأخذ الغلة من المشتري؛ فأما مالك فقال: إن طال الزمان فلا شفعة، وإن لم يطل ففيه الشفعة، وهو استحسان. وأما متى يأخذ وهو له الشفعة؟ فإن الذي له الشفعة رجلان حاضر أو غائب. فأما الغائب فأجمع له العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه؛ واختلفوا إذا علم وهو غائب؛ فقال قوم: تسقط شفعته؛ وقال قوم: لا تسقط، وهو مذهب مالك، والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال "الجار أحق بصقبه" أو قال "بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا" وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة، فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. وأما الحاضر، فإن الفقهاء اختلفوا في وقت وجوب الشفعة له، فقال الشافعي وأبو حنيفة: هي واجبة له على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن الطلب، ولم يطلب بطلت شفعته، إلا أن أبا حنيفة قال: إن أشهد بالأخذ لم تبطل وإن تراخى. وأما مالك فليست عنده على الفور، بل وقت وجوبها متسع، واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود وأنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت؛ ومرة حدد هذا الوقت، فروى عنه السنة وهو الأشهر، وقيل أكثر من سنة، وقد قيل عنه إن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة. واحتج الشافعي بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال "الشفعة كحل العقال" وقد روي عن الشافعي أن أمدها ثلاثة أيام. وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت واعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه، وكان هذا أشبه بأصول الشافعي، لأن عنده أنه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل، وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر، فهذا هو القول في أركان الشفعة وشروطها المصححة لها وبقي القول في الأحكام.

*3*القسم الثاني القول في أحكام الشفعة.

@-وهذه الأحكام كثيرة، ولكن نذكر منها ما اشتهر فيه الخلاف بين فقهاء الأمصار، فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة، فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع؛ وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال وقد تقدم. سبب الخلاف في هذه المسائل في مسألة الرد بالعيب، ومنها اختلافهم في عهدة الشفيع هل هي على المشتري أو على البائع؟ فقال مالك والشافعي: هي على المشتري؛ وقال ابن أبي ليلى: هي على البائع. وعمدة مالك أن الشفعة إنما وجبت للشريك بعد حصول ملك المشتري وصحته، فوجب أن تكون عليه العهدة. وعمدة الفريق الآخر أن الشفعة إنما وجبت للشريك بنفس البيع، فطروؤها على البيع فسخ له وعقد لها. وأجمعوا على أن الإقالة لا تبطل الشفعة من رأى أنها بيع، ومن رأى أنها فسخ: أعني الإقالة. واختلف أصحاب مالك على من عهدة الشفيع في الإقالة؟ فقال ابن القاسم: على المشتري؛ وقال أشهب: هو مخير. ومنها اختلافهم إذا أحدث المشتري بناء أو غرسا أو ما يشبه في الشقص قبل قيام الشفيع، ثم قام الشفيع يطلب شفعته، فقال مالك: لا شفعة إلا أن يعطي المشتري قيمة ما بنى وما غرس؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو متعد وللشفيع أن يعطيه قيمة بنائه مقلوعا أو يأخذه بنقضه. والسبب في اختلافهم تردد تصرف المشفوع عليه العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق وقد بني في الأرض وغرس، وذلك أنه وسط بينهما، فمن غلب عليه شبه الاستحقاق لم يكن له أن يأخذ القيمة، ومن غلب عليه شبه التعدي قال: له أن يأخذه بنقضه أو يعطيه قيمته منقوضا. ومنها اختلافهم إذا اختلف المشتري والشفيع في مبلغ الثمن، فقال المشتري: اشتريت الشقص بكذا، وقال الشفيع: بل اشتريته بأقل، ولم يكن لواحد منهما بينة، فقال جمهور الفقهاء: القول قول المشتري، لأن الشفيع مدع والمشفوع عليه مدعى عليه وخالف في ذلك بعض التابعين فقالوا: القول قول الشفيع، لأن المشتري قد أقر له بوجوب الشفعة وادعى عليه مقدارا من الثمن لم يعترف له به. وأما أصحاب مالك فاختلفوا في هذه المسألة، فقال ابن القاسم: القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه باليمين، فإن أتى بما لا يشبه فالقول قول الشفيع وقال أشهب: إذا أتى بما يشبه فالقول قول المشتري بلا يمين وفيما لا يشبه باليمين. وحكي عن مالك أنه قال: إذا كان المشتري ذا سلطان يعلم بالعادة أنه يزيد في الثمن قبل قول المشتري بغير يمين وقيل إذا أتى المشتري بما لا يشبه رد الشفيع إلى القيمة، وكذلك فيما أحسب إذا أتى كل واحد منهما بما لا يشبه. واختلفوا إذا أتى كل واحد منهما ببينة وتساوت العدالة فقال ابن القاسم يسقطان معا ويرجع إلى الأصل من أن القول قول المشتري مع يمينه. وقال أشهب: البينة بينة المشتري لأنها زادت علما.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب القسمة.

@-والأصل في هذا الكتاب قوله {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} وقوله {مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام" والنظر في هذا الكتاب في القاسم والمقسوم عليه والقسمة والنظر في القسمة في أبواب. الباب الأول: في أنواع القسمة. الثاني: في تعيين محل نوع نوع من أنواعها: أعني ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، وصفة القسمة فيها وشروطها أعني فيما يقبل القسمة. الثالث: في معرفة أحكامها.

*3*الباب الأول في أنواع القسمة.

@-والنظر في القسمة ينقسم أولا إلى قسمين: قسمة رقاب الأموال. والثاني: منافع الرقاب.

(القسم الأول من هذا الباب) فأما قسمة الرقاب التي لا تكال ولا توزن، فتنقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام: قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل. وقسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل. وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن.

(القسم الثاني) وأما الرقاب، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما لا ينقل ولا يحول، وهي الرباع والأصول. وما ينقل ويحول، وهذان قسمان: إما غير مكيل ولا موزون، وهو الحيوان والعروض؛ وإما مكيل أو موزون. ففي هذا الباب ثلاثة فصول: الأول: في الرباع. والثاني: في العروض. والثالث: في المكيل والموزون.

*4*الفصل الأول في الرباع.

@-فأما الرباع والأصول، فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه. والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الأجزاء بالانقسام ويجبر الشركاء على ذلك. وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه، فاختلف في ذلك مالك وأصحابه، فقال مالك: إنها تقسم بينهم إذا دعا أحدهم إلى ذلك ولو لم يصر لواحد منهم إلا ما لا منفعة فيه مثل قدر القدم، وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعمدتهم في ذلك قوله تعالى {مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} وقال ابن القاسم: لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة، وإن كان لا يراعي في ذلك نقصان الثمن. وقال ابن الماجشون: يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به، وإن كان من غير جنس المنفعة التي كانت في الاشتراك أو كانت أقل. وقال مطرف من أصحابه: إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم وإن صار في حظ بعضهم ما ينتفع به، وفي حظ بعضهم ما لا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك سواء دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير، وقيل يجبر إن دعا صاحب النصيب القليل، ولا يجبر إن دعا صاحب النصيب الكثير، وقيل بعكس هذا وهو ضعيف. واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل الحمام، فقال مالك: يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين، وبه قال أشهب؛ وقال ابن القاسم: لا يقسم، وهو قول الشافعي. فعمدة من منع القسمة قوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" وعمدة من رأى القسمة قوله تعالى {مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} ومن الحجة لمن لم ير القسمة حديث جابر عن أبيه "لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم" والتعضية: التفرقة، يقول: لا قسمة بينهم. وأما إذا كانت الرباع أكثر من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد أو مختلفة الأنواع، فإذا كانت متفقة الأنواع فإن فقهاء الأمصار في ذلك مختلفون؛ فقال مالك: إذا كانت متفقة الأنواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهيمة، وقال أبو حنيفة والشافعي: بل يقسم كل عقار على حدته؛ فعمدة مالك أنه أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة. وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار تعينه بنفسه لأنه تتعلق به الشفعة. واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الأنواع المتفقة في النفاق وإن تباعدت مواضعها على ثلاثة أقوال؛ وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور ومنها حوائط ومنها أرض، فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمة. ومن شرط قسمة الحوائط المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدا صلاحها باتفاق في المذهب، لأنه يكون بيع الطعام بالطعام على رؤوس الثمر وذلك مزابنة. وأما قسمتها قبل بدو الصلاح ففيه اختلاف بين أصحاب مالك: أما ابن القاسم فلا يجيز ذلك قبل الإبار بحال من الأحوال، ويعتل لذلك لأنه يؤدي إلى بيع طعام بطعام متفاضلا، ولذلك زعم أنه لم يجز مالك شراء الثمر الذي لم يطب بالطعام لا نسيئة ولا نقدا؛ وأما إن كان بعد الإبار، فإنه لا يجوز عنده إلا بشرط أن يشترط أحدهما على الآخر أن ما وقع من الثمر في نصيبه فهو داخل في القسمة، وما لم يدخل في نصيبه فهم فيه على الشركة، والعلة في ذلك عنده أنه يجوز اشتراط المشتري الثمر بعد الإبار ولا يجوز قبل الإبار، فكأن أحدهما اشترى حظ صاحبه من جميع الثمرات التي وقعت له في القسمة بحظه من الثمرات التي وقعت لشريكه واشترط الثمر وصفة القسم بالقرعة أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب إن كان في سهامها كسر إلى أن تصح السهام، ثم يقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها، ثم يعدل على أقل السهام بالقيمة، فربما عدل جزء من موضع ثلاثة أجزاء من موضع آخر على قيم الأرضين ومواضعها، فإذا قسمت على هذه الصفات وعدلت كتبت في بطائق أسماء الأشراك وأسماء الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، وقيل يرمي بالأسماء في الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، فإن كان أكثر من ذلك السهم ضوعف له حتى يتم حظه، فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب. والسهمة إنما جعلها الفقهاء في القسمة تطييبا لنفوس المتقاسمين، وهي موجودة في الشرع في مواضع: منها قوله تعالى {فساهم فكان من المدحضين} وقوله {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} ومن ذلك الأثر الثابت الذي جاء فيه " أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق ثلث ذلك الرقيق". وأما القسمة بالتراضي سواء كانت بعد تعديل وتقويم، أو بغير تقويم وتعديل، فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة لأنها بيع من البيوع، وإنما يحرم فيها ما يحرم في البيوع.

*4*الفصل الثاني في العروض.

@-وأما الحيوان والعروض، فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منهما للفساد الداخل في ذلك. واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما، ولم يتراضيا بالانتفاع بها على الشياع، وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال مالك وأصحابه: يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذه بالقيمة التي أعطى فيها أخذه، وقال أهل الظاهر: لا يجبر، لأن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع. وحجة مالك أن في ترك الإجبار ضررا، وهذا من باب القياس المرسل، وقد قلنا في غير ما موضع إنه ليس يقول به أحد من فقهاء الأمصار إلا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الأشياء. وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد، فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي؛ واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة، فأجازها مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنع من ذلك عبد العزيز ابن أبي سلمة وابن الماجشون. واختلف أصحاب مالك في تمييز الصنف الواحد الذي تجوز فيه السهمة من التي لا تجوز فاعتبره أشهب بما لا يجوز تسليم بعضه في بعض. وأما ابن القاسم فاضطرب، فمرة أجاز القسم بالسهمة فيما لا يجوز تسليم بعضه في بعض، فجعل القسمة أخف من السلم، ومرة منع القسمة فيما منع فيه السلم؛ وقد قيل إن مذهبه أن القسمة في ذلك أخف، وأن مسائله التي يظن من قبلها أن القسمة عنده أشد من السلم تقبل التأويل على أصله الثاني. وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين مثل الخز والحرير والقطن والكتان. وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة مع التراضي، وذلك ضعيف لأن الغرر لا يجوز بالتراضي.

*4*الفصل الثالث في معرفة أحكامها.

@-فأما المكيل والموزون فلا تجوز فيه القرعة باتفاق إلا ما حكى اللخمي، والمكيل أيضا لا يخلو أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا، فإن كان صنفا واحدا، فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفضيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي: أعني الذي لا يجوز فيه التفاضل، ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن. وأما إن كانت قسمته تحريا، فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون، ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا. وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيما يكال، وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنه إذا كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله على مذهب مالك، لأن أصل مذهبه أنه يحرم التفاضل في الصنفين إذا تقاربت منافعهما مثل القمح والشعير، وأما إن كان مما لا يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل البين المعروف بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة: أعني على جهة الجمع وإن كانا صنفين، وهذا الجواز كله في المذهب على جهة الرضا. وأما في واجب الحكم فلا تنقسم كل صبرة إلا على حدة وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المعلوم والمجهول، فهذا كله هو حكم القسمة التي تكون في الرقاب.

*4*القول في القسم الثاني وهو قسمة المنافع.

@-فأما قسمة المنافع، فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا يجبر عليها من أباها، ولا تكون القرعة على قسمة المنافع. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك إما بالأزمان وإما بالأعيان. وأما قسمة المنافع بالأزمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة متساوية لمدة انتفاع صاحبه. وأما قسم الأعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة. وفي المذهب في قسمة المنافع بالزمان اختلاف في تحديد المدة التي تجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الأرض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول، أو لا ينقل ولا يحول. فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثيرة ويجوز في المدة اليسيرة، وذلك في الاغتلال والانتفاع وأما فيما لا ينقل ولا يحول، فيجوز في المدة البعيدة والأجل البعيد، وذلك في الاغتلال والانتفاع واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال فقيل اليوم الواحد ونحوه، وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد. وأما الاستخدام فقيل يجوز في مثل الخمسة الأيام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا. وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان، وهذا دارا تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرضين، ولا يجوز ذلك في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالأزمان، وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجري القول فيه على الاختلاف في قسمتها بالزمان. فهذا هو القول في أنواع القسمة في الرقاب، وفي المنافع وفي الشروط المصححة والمفسدة. وبقي من هذا الكتاب القول في الأحكام.

*4*القول في الأحكام.

@-والقسمة من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ عليها. والطوارئ ثلاثة غبن؛ أو وجود عيب، أو استحقاق. فأما الغبن فلا يوجب الفسخ إلا في قسمة القرعة باتفاق في المذهب إلا على قياس من يرى له تأثير في البيع، فيلزم على مذهبه أن يؤثر في القسمة. وأما الرد بالعيب، فإنه لا يخلو عن مذهب ابن القاسم أن يجد العيب في جل نصيبه أو في أقله، فإن وجده في جل نصيبه، فإنه لا يخلو أن يكون النصيب الذي حصل لشريكه قد فات أو لم يفت، فإن كان قد فات رد الواجد للعيب نصيبه على الشركة وأخذ من شريكه نصف قيمة نصيبه يوم قبضه، وإن كان لم يفت انفسخت القسمة وعادت الشركة إلى أصلها، وإن كان العيب في أقل ذلك رد ذلك الأقل على أصل الشركة فقط، سواء فات نصيب صاحبه أو لم يفت، ورجع على شريكه بنصف قيمة الزيادة ولا يرجع في شيء مما في يده وإن كان قائما بالعيب. وقال أشهب: والذي يفيت الرد قد تقدم في كتاب البيوع. وقال عبد العزيز بن الماجشون: وجود العيب يفسخ القسمة التي بالقرعة ولا يفسخ التي بالتراضي، لأن التي بالتراضي هي بيع، وأما التي بالقرعة فهي تمييز حق، وإذا فسخت بالغبن وجب أن تفسخ بالرد بالعيب. وحكم الاستحقاق عند ابن القاسم حكم وجود العيب إن كان المستحق كثيرا وحظ الشريك لم يفت رجع معه شريكا فيما في يديه، وإن كان قد فات رجع عليه بنصف قيمة ما في يديه، وإن كان يسيرا رجع عليه بنصف قيمة ذلك الشيء. وقال محمد: إذا استحق ما في يد أحدهما بطلت القسمة في قسمة القرعة، لأنه قد تبين أن القسمة لم تقع على عدل كقول ابن الماجشون في العيب وأما إذا طرأ على المال حق فيه مثل طوارئ الدين على التركة بعد القسمة أو طرو الوصية أو طرو وارث، فإن أصحاب مالك اختلفوا في ذلك. فأما إن طرأ الدين قيل في المشهور في المذهب وهو قول ابن القاسم: إن القسمة تنتقض إلا أن يتفق الورثة على أن يعطوا الدين من عندهم، وسواء كانت حظوظهم باقية بأيديهم أو لم تكن، هلكت بأمر من السماء أو لم تهلك. وقد قيل إن القسمة أيضا إنما تنتقض بيد من بقي في يده حظه ولم تهلك بأمر من السماء، وأما من هلك حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو على الورثة بما بقي بأيديهم بعد أداء الدين؛ وقيل بل تنتقض القسمة ولا بد لحق الله تعالى لقوله {من بعد وصية يوصى بها أو دين} وقيل بل تنتقض إلا في حق من أعطى منه ما ينوي به من الدين، وهكذا الحكم في طرو الموصى له على الورثة. وأما طرو الوارث على الشركة بعد القسمة وقبل أن يفوت حظ كل واحد منهم فلا تنتقض القسمة وأخذ من كل واحد حظه إن كان ذلك مكيلا أو موزونا وإن كان حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة، وهل يضمن كل واحد منهم ما تلف في يده بغير سبب منه؟ فقيل يضمن، وقيل لا يضمن.

(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الرهون.

@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} والنظر في هذا الكتاب في الأركان وفي الشروط وفي الأحكام، والأركان هي النظر في الراهن والمرهون والمرتهن والشيء الذي فيه الرهن وصفة عقد الرهن.

@-(الركن الأول) فأما الراهن فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد، الوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ودعت إليه الضرورة عند مالك؛ وقال الشافعي: يرهن لمصلحة ظاهرة ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك. قال سحنون: فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز، وبه قال الشافعي. اتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه؛ وقال أبو حنيفة يجوز؛ واختلف قول مالك في الذي أحاط الدين بماله هل يجوز رهنه؟ أعني هل يلزم أم لا يلزم؟ فالمشهور عنه أنه يجوز: أعني قبل أن يفلس، والخلاف آيل إلى هل المفلس محجور عليه أم لا؟ وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا.

@-(الركن الثاني) وهو الرهن، وقالت الشافعية: يصح بثلاثة شروط: الأول أن يكون عينا، فإنه لا يجوز أن يرهن الدين. الثاني أن لا يمتنع إثبات يد الراهن المرتهن عليه كالمصحف؛ ومالك يجيز رهن المصحف ولا يقرأ فيه المرتهن، والخلاف مبني على البيع. الثالث أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل؛ ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر لم يبد صلاحه ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه وإن حل أجل الدين؛ وعند الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع؛ قال أبو حامد: والأصح جوازه؛ ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها، وليس من شرط الرهن أن يكون ملكا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعارا. واتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. واختلفوا إذا كان قبض المرتهن له بغصب ثم أقره المغصوب منه في يده رهنا، فقال مالك: يصح أن ينقل الشيء المغصوب من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنا في يد الغاصب قبل قبضه منه؛ وقال الشافعي: لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلا أن يقبضه. واختلفوا في رهن المشاع، فمنعه أبو حنيفة وأجازه مالك والشافعي. والسبب في الخلاف هل تمكن حيازة المشاع أم لا تمكن.

@-(الركن الثالث) وهو الشيء المرهون فيه، وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة، وذلك لأن الصرف من شركه التقابض، فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس مال السلم وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى. وقال قوم من أهل الظاهر: لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة: أعني في السلم فيه، وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات وهو السلم عندهم، فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن، لأنه قال في أول الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} ثم قال {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} فعلى مذهب مالك يجوز أخذ الرهن في السلم وفي القرض وفي الغصب وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة. وأما قتل العمد والجراح التي يقاد منها فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان: أحدهما أن ذلك يجوز، وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود. والقول الثاني أن ذلك لا يجوز، وذلك أيضا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية، ويجوز في قتل الخطأ أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة وذلك بعد الحول، ويجوز في العارية التي تضمن، ولا يجوز فيما لا يضمن، ويجوز أخذه في الإجارات، ويجوز في الجعل بعد العمل، ولا يجوز قبله، ويجوز الرهن في المهر، ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة. وقالت الشافعية: المرهون فيه له شرائط ثلاث: أحدها أن يكون دينا، فإنه لا يرهن في عين. والثاني أن يكون واجبا، فإنه لا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه بما يستقرضه، ويجوز ذلك عند مالك. والثالث أن لا يكون لزومه متوقعا أن يجب، وأن لا يجب كالرهن في الكتابة، وهذا المذهب قريب من مذهب مالك.

*3*القول في الشروط.

@-وأما شروط الرهن، فالشروط المنطوق بها في الشرع ضربان: شروط صحة، وشروط فساد. فأما شروط الصحة المنطوق بها في الرهن: أعني في كونه رهنا فشرطان: أحدهما متفق عليه بالجملة ومختلف في الجهة التي هو بها شرط وهو القبض. والثاني مختلف في اشتراطه، فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن لقوله تعالى {فرهان مقبوضة} واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة؟ وفائدة الفرق أن من قال شرط صحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن؛ ومن قال شرط تمام قال: يلزم بالعقد ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت، فذهب مالك إلى أنه من شروط التمام، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة. وعمدة مالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول. وعمدة الغير قوله تعالى {فرهان مقبوضة} وقال بعض أهل الظاهر: لا يجوز الرهن إلا أن يكون هنالك كاتب لقوله تعالى {ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} ولا يجوز أهل الظاهر أن يوضع الرهن على يدي عدل، وعند مالك أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عمم الشرط على ظاهره، فألزم من قوله تعالى {فرهان مقبوضة} وجود القبض واستدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد، فلا يحل ذلك إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترط في الصحة أن لا يشترط الاستدامة. واتفقوا على جوازه في السفر. واختلفوا في الحضر؛ فذهب الجمهور إلى جوازه؛ وقال أهل الظاهر ومجاهد: لا يجوز في الحضر لظاهر لقوله تعالى {وإن كنتم على سفر} الآية. وتمسك الجمهور بما ورد من "أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر" والقول في استنباط منع الرهن في الحضر من الآية هو من باب دليل الخطاب. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاء بحقه عند أجله وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله عليه الصلاة والسلام "لا يغلق الرهن".

*3*القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب، وهو القول في الأحكام.

@-وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه، وإلى معرفة ما للمرتهن في الرهن وما عليه، وإلى معرفة اختلافهما في ذلك، وذلك إما من نفس العقد، وإما لأمور طارئة على الرهن، ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار والاتفاق. أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان، فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع، وكذلك إن كان غائبا، وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز؛ وكرهه مالك إلا أن يرفع الأمر إلى السلطان. والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه، أعني أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه، فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه وقال قوم: بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق. وحجة الجمهور أنه محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت. وحجة الفريق الثاني أن جميعه محبوس بجميعه، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه، أصله الكفالة.

ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن: أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وممن قال بهذا القول الشافعي؛ وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري؛ وفرق مالك فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام. وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن محلوب ومركوب" قالوا: ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله "مركوب ومحلوب" أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كان يكون غير مقبوض، وذلك مناقض لكونه رهنا، فإن الراهن من شرطه القبض، قالوا: ولا يصح أيضا أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهرة لربه ونفقته عليه. واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" قالوا: ولأنه نماء زائد على مارضيه رهنا، فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد. وعمدة أبي حنيفة أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة. وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع: أي هو تابع لها، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط. والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن؛ وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه، وهو قول أحمد وإسحق، واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الرهن محلوب ومركوب" ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه؟ فقال قوم: الرهن أمانة وهو من الراهن، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه، وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث؛ وقال قوم: الرهن من المرتهن ومصيبته منه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وجمهور الكوفيين.

والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين: فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وجماعة. ومنهم من قال: هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وإنه إن فضل للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن، وبه قال علي ابن أبي طالب وعطاء وإسحق. وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى هلاكه، وبين ما يغاب عليه من العروض، فقالوا: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه، وممن قال بهذا القول مالك والأوزاعي وعثمان البتي، إلا أن مالكا يقول: إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط، فإنه لا يضمن وقال الأوزاعي وعثمان البتي: بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب. وعمدة من جعله أمانة غير مضمون حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه": أي له غلته وخراجه، وعليه افتكاكه مصيبته منه. قالوا: وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده. وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له: قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة، فوجب أن يكون كله كذلك. وقد قال أبو حنيفة: إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة فوجب أن يكون كله أمانة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله "وعليه غرمه" أي نفقته. قالوا: ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن مركوب ومحلوب" أي أجرة ظهره لربه، ونفقته عليه،

وأما أبو حنيفة وأصحابه فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام "له غنمه وعليه غرمه" أن غنمه ما فضل منه على الدين، وغرمه ما نقص. وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء فوجب أن يسقط بتلفه، أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن، وهذا متفق عليه من الجمهور، وإن كان عند مالك كالرهن؛ وربما احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا ارتهن فرسا من رجل، فنفق في يده، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن: ذهب حقك" وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه. وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا، فضعفه قوم وقالوا: إنه مثل استحسان أبي حنيفة، وحدوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل. ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل. والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ولا هبته، وأنه إن باعه فللمرتهن الإجارة أو الفسخ. قال مالك: وإن زعم أن إجارته ليتعجل حقه حلف على ذلك وكان له. وقال قوم: يجوز بيعه. وإن كان للرهن غلاما أو أمة فأعتقها الراهن فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه، وإن كان معسرا بيعت وقضي الحق من ثمنها وعند الشافعي ثلاثة أقوال: الرد، والإجازة، والثالث مثل قول مالك وأما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي وجب به الرهن، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك، فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار: القول في قدر الحق قول الراهن

وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه، والمرتهن مدع، فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة. وعمدة مالك ههنا أن المرتهن وإن كان مدعيا فله ههنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه، وهو كون الرهن شاهدا له، ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة، وهذا لا يلزم عند الجمهور، لأنه قد يرهن الراهن الشيء وقيمته أكثر من المرهون فيه. وأما إذا تلف الرهن واختلفوا في صفته، فالقول ههنا عند مالك قول المرتهن لأنه مدعى عليه، وهو مقر ببعض ما ادعى عليه وهذا على أصوله، فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه. وأما على أصول الشافعي، فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه. وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن، وليس يحتاج إلى صفة، لأن مالك يحلف على الصفة وتقويم تلك الصفة. وإذا اختلفوا في الأمرين جميعا، أعني في صفة الرهن وفي نقدار الرهن كان القول قول المرتهن في صفة الرهن، وفي الحق ما كنت قيمة الصفة التي حلف عليها شاهدة له، وفيه ضعف، وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق واختلفا في قيمة الرهن؟ في المذهب فيه قولان، والأقيس الشهادة، لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون. وفروع هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الحجر

@-والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أصناف المحجورين. الثاني: متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون. الثالث: في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة.

*3*الباب الأول في أصناف المحجورين.

@-أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم لقوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} الآية. واختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار إذا ظهر منهم تبذير لأموالهم، فذهب مالك والشافعي وأهل المدينة وكثير من أهل العراق إلى جواز ابتداء الحجر عليهم بحكم الحاكم، وذلك إذا ثبت عنده سفههم وأعذر إليهم فلم يكن عندهم مدفع، وهو رأي ابن عباس وابن الزبير. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق إلى أنه لا يبتدأ الحجر على الكبار، وهو قول ابراهيم وابن سيرين، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من قال: الحجر لا يجوز عليهم بعد البلوغ بحال وإن ظهر منهم التبذير. ومنهم من قال: إن استصحبوا التبذير من الصغر يستمر الحجر عليهم وإن ظهر منهم رشد بعد البلوغ ثم ظهر منهم سفه، فهؤلاء لا يبدأ بالحجر عليهم. وأبو حنيفة يحد في ارتفاع الحجر وإن ظهر سفهه خمسة وعشرين عاما. وعمدة من أوجب على الكبار ابتداء الحجر أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير الذي يوجد فيهم غالبا، فوجب أن يجب الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرا، قالوا: ولذلك اشترط في رفع الحجر عنهم مع ارتفاع الصغر إيناس الرشد، قال الله تعالى {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} فدل هذا على أن السبب المقتضي للحجر هو السفه. وعمدة الحنفية حديث حبان بن منقذ "إذ ذكر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا ولم يحجر عليه". وربما قالوا: الصغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال، بدليل تأثيره في إسقاط التكليف، وإنما اعتبر الصغر لأنه الذي يوجد فيه السفه غالبا، كما يوجد نقص العقل غالبا، ولذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد، إذ كانا يوجدان فيه غالبا، أعني العقل والرشد، وكما لم يعتبر النادر في التكليف، أعني أن يكون قبل البلوغ عاقلا فيكلف، كذلك لم يعتبر النادر في السفه، وهو أن يكون بعد البلوغ سفيها فيحجر عليه، كما لو يعتبر كونه قبل البلوغ رشيدا. قالوا: وقوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} الآية، ليس فيها أكثر من منعهم من أموالهم، وذلك لا يوجب فسخ بيوعها وإبطالها.

والمحجورون عند مالك ستة: الصغير ، والسفيه، والعبد، والمفلس، والمريض، والزوجة. وسيأتي ذكر كل واحد منهم في بابه.

*3*الباب الثاني. متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون؟

@-والنظر في هذا الباب في موضعين: في وقت خروج الصغار من الحجر، ووقت خروج السفهاء. فنقول: إن الصغار بالجملة صنفان: ذكور، وإناث، وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب، وإما ذو وصي، وإما مهمل، وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب. فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم، وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو، وذلك لقوله تعالى {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} واختلفوا في الإناث، فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور أعني بلوغ المحيض وإيناس الرشد؛ وقال مالك: هي في ولاية أبيها في المشهور عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها، وروى عنه مثل قول الجمهور؛ ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه قيل إنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سنة بعد دخول زوجها بها، وقيل حتى يمر بها عامان، وقيل حتى تمر سبعة أعوام. وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال. وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس؛ أما مخالفتها النص، فإنهم لم يشترطوا الرشد؛ وأما مخالفتها للقياس، فلأن الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة، وإذا قلنا على قول مالك لا على قول الجمهور إن الاعتبار في الذكور ذوي الآباء البلوغ وإيناس الرشد، فاختلف قول مالك إذا بلغ ولم يعلم سفهه من رشده وكان مجهول الحال فقيل عنه إنه محمول على السفه حتى يتبين رشده وهو المشهور؛ وقيل عنه إنه محمول على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما ذوو الأوصياء فلا يخرجون من الولاية في المشهور عن مالك إلا بإطلاق وصيه له من الحجر: أي يقول فيه إنه رشيد إن كان مقدما من قبل الأب بلا خلاف أو بإذن القاضي مع الوصي إن كان مقدما من غير الأب على اختلاف في ذلك. وقد قيل في وصي الأب أنه لا يقبل قوله في أنه رشيد إلا حتى يعلم رشده وقد قيل إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب يخرجه من الحجر إذا آنس منه الرشد وإن لم يخرجه وصيه بالإشهاد، وإن المجهول الحال في هذا حكمه حكم المجهول الحال ذي الأب. وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية غير معتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه، وهي رواية عن مالك، وذلك من قوله في اليتيم لا في البكر، والفرق بين المذهبين أن من يعتبر الولاية يقول أفعاله كلها مردودة وإن ظهر رشده حتى يخرج من الولاية، وهو قول ضعيف، فإن المؤثر هو الرشد لا حكم الحاكم. وأما اختلافهم في الرشد ما هو؟ فإن مالكا يرى أن الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط، والشافعي يشترط مع هذا صلاح الدين. وسبب اختلافهم هل ينطلق اسم الرشد على غير صالح الدين؟ ؟ وحال البكر مع الوصي كحال الذكر لا يخرج من الولاية إلا بالإخراج ما لم تعنس على اختلاف في ذلك، وقيل حالها مع الوصي كحالها مع الأب وهو قول ابن الماجشون. ولم يختلف قولهم إنه لا يعتبر فيها الرشد كاختلافهم في اليتيم. وأما المهمل من الذكور فإن المشهور أن أفعاله جائزة إذا بلغ الحلم كان سفيها متصل السفه أو غير متصل السفه، معلنا به أو غير معلن. وأما ابن القاسم فيعتبر نفس فعله إذا وقع، فإن كان رشدا جاز وإلا رده. فأما اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي فإن فيها في المذهب قولين: أحدهما أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض. والثاني أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو المشهور.

الباب الثالث في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة.

والنظر في هذا الباب في شيئين: أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال، وإذا فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة، وكذلك أفعال المهملين وهم الذين بلغوا الحلم من غير أب ولا وصي، وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم. فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي، فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي، فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك، وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد. واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الأمر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه، فالمشهور أن ذلك له، وقيل إن ذلك ليس له، ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه. واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه، ولا يلزمه بعد بلوغه رشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره. واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره، فالمشهور أنه لا يلزمه. وقال ابن كنانة: يلزمه ولا يلزمه فيما ادعى عليه يمين. واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه؟ فالمشهور أنه لا يحلف، وروي عن مالك والليث أنه يحلف. وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها. أما السفيه البالغ، فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها مضى طلاقه وخلعه، إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف، وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال: إنه ينفذ، وقال الجمهور: إنه لا ينفذ. وأما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولاشيء من المعروف إلا أن يعتق أم ولده، فيلزمه عتقها، وهذا كله في المذهب، وهل يتبعها مالها؟ فيه خلاف، قيل يتبع، وقيل لا يتبع، وقيل بالفرق بين القليل والكثير. وأما ما يفعله بعوض، فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي، فإن لم يكن له ولي قدم له ولي، فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشيء، وكذلك إن أتلف عين المبيع.

وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال: فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة، وإن كان فيها ما هو رشد. ومنهم ضد هذا، وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه. ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده. وعكس هذا أيضا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ، والبكر ذات الأب، والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس. واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين، والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه، فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه، ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك، خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية، والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون. وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده: فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب، وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها، وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك، وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة. وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه: فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس، أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد، وكذلك حال الإبن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى الروايتين، والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها. فهذه هي جمل ما في الكتاب والفروع كثيرة.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب التفليس.

@-والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين: أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه. والثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلا، وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما. فأما الحالة الأولى وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا، فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم، أم ليس له ذلك؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم، وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه، فأبى أن ينصف غرماءه، هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم، أم يحبسه حتى يعطيهم بيده ما عليه؟ فالجمهور يقولون: يبيع الحاكم ماله عليه، فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا، أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه، وبه قال مالك والشافعي، وبالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق. وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل "أنه كثر دينه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله، وحديث أبي سعيد الخدري" أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه: أما بعد، فإن الأسيفع "أسيفع جهينة" رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه ادان معرضا فأصبح قدرين عليه، فمن كان له عليه دين فليأتينا. وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته، فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء، وهذا القول هو الأظهر، لأنه أعدل والله أعلم. وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا، فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء، فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين، فلما طالبه الغرماء قال جابر "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا مني حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي قال: ولكن سأغدو عليك، قال: فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال: فجذذتها فقضيت منها حقوقهم، وبقي من ثمرها بقية" وبما روي أيضا أنه مات أسيد بن الحضير وعليه عشرة آلاف درهم، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه أربع سنين مما لهم عليه. قالوا: فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين قالوا: يدل على حبسه قوله صلى الله عليه وسلم "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته" قالوا: العقوبة هي حبسه. وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته، وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه، فالنظر في ماذا يحجر عليه، وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة؟ وكيف تكون؟. فأما المفلس فله حالان: حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه، وحال بعد الحجر. فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله، وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه، لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله، لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة، وكذلك تراعي العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة، ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه. واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه.

وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا: هو قبل الحكم كسائر الناس، وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه، وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال، لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة، ولا يجوزه للمحجور عليه. وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء، لا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد، قيل إلا أن يكون لواحد منهم بينة، وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض. واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب: بالجواز، والمنع، والثالث بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون، فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق. واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت، وذهب غيره إلى خلاف ذلك، وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت. قال ابن شهاب: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات. وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها، وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلا الذمتين قد خربت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت. وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه،

فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال: الأول أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة؛ وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. والقول الثاني ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه. والقول الثالث تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضى له بها: أعني للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. والقول الرابع أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة، وهذا اللفظ لمالك؛ فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول؛ ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فإما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك. وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا، والأصول يقينية مقطوع بها، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس: ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة. ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس، وهو رأى ابن سيرين وإبراهيم من التابعين.

وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل مات أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء" وهذا الحديث أولى لأنه موافق للأصول الثابتة. قالوا: وللجمع بين الحديثين وجه، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية، إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع، وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه، واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن، فقال مالك: إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته؛ وقال الشافعي: بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن؛ وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحق وأحمد: إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء. وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق، وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان، وهو قوله فيه "فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء" ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه. وحجة الشافعي أن كل سلعة أو بعضها في الحكم الواحد، ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته، إلا عطاء فإنه قال: إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء. واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا؟

فقال مالك: هو في الموت أسوة الغرماء، بخلاف الفلس؛ وقال الشافعي: الأمر في ذلك واحد. وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر وهو نص في ذلك وأيضا من جهة النظر إن فرقا بين الذمة في الفلس والموت، وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت. وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل مات أو فلس فصاحب المتاع أحق به" فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس. قال: وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب، لأن حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند، ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه، فأشبه مال المفلس؛ وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي، وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى، وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه: أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه، والموافق لحديث مالك قياس معنى، ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس، وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت، أعني أن من باع شيئا فليس يرجع إليه فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة، والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به. واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها، فقال مالك: العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب شريك الغرماء. وقال الشافعي: بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها، أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة، وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة.

وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا؟ وعمل لا يتعين. فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري، فهو أحق به في الموت والفلس، وهذا ما لا خلاف فيه، وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت، ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن وقال الشافعي: ليس لهم، وقال أشهب: لا يأخذونها إلا بالزيادة يحطونها عن المفلس؛ وقال ابن الماجشون: إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم؛ وقال ابن كنانة: بل يكون من أموالهم وأما العين فهوأحق بها في الموت أيضا، والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه، فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم، وقيل إنه لا سبيل له عليه، وهو أسوة الغرماء، وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين؛ وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس. وأما تعمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا، كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس، وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير، فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال، إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا، لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله، إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت، وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا، وكذلك مكتري السفينة،

(يتبع...)

@(تابع... 1): -والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن... ...

وهذا كله شبهه مالك بالرهن وبالجملة فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس، وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت، وعندما يشبه حال الأجير عند أصحاب مالك. وبالجملة البائع منفعة بالبائع الرقبة، فمرة يشبهون المنفعة التي عمل بالسلعة التي لم يقبضها المشتري فيقولون: هو أحق بها في الموت والفلس، ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون: هو أحق بها في الفلس دون الموت، ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه فيقولون: هو أسوة الغرماء ومثال ذلك اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط فسقاه حتى أثمر الحائط ثم أفلس المستأجر فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال. وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شيء - فيما أحسب - انفرد به مالك دون فقهاء الأمصار، وهو ضعيف لأن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف، ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص، ولكن انقدح هنالك قياس علة، فهو أقوى؛ ولعل المالكية تدعى وجود هذا المعنى في القياس، ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر. ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة هل يتبع بالدين في رقبته أم لا؟ فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته، ثم إن أعتق بما بقي عليه ورأى قوم أنه يباع، ورأى قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين، وبه قال شريح، وقالت طائفة: بل يلزم سيده ما عليه وإن لم يشترطه، فالذين لم يروا بيع رقبته قالوا: إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر، والذين رأوا بيعه شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني، وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه.

فسبب الخلاف هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة، ومن هذا المعنى إذا أفلس العبد والمولى معا بأي يبدأ، هل بدين العبد، أم بدين المولى؟ فالجمهور يقولون: بدين العبد، لأن الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال، والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد، ومن رأى البدء بالمولى قال: لأن مال العبد هو في الحقيقة للمولى. فسبب الخلاف تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي أو حكم مال السيد. وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب: يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام؛ وقال في الواضحة والعتبية: الشهر ونحوه، ويترك له كسوة مثله؛ وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض، وهو الانتفاع بها أو بغير عوض؛ وقال سحنون لا يترك له كسوة زوجته؛ وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه، وبه قال ابن كنانة. واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين: وهذا مبني على كراهية بيع الكتب الفقه أو لا كراهية ذلك.

وأما معرفة الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب مالك فإنها تنقسم أولا إلى قسمين: أحدهما أن تكون واجبة عن عوض. والثاني أن تكون واجبة من غير عوض. فأما الواجبة عن عوض، فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض، فأما ما كانت عن عوض مقبوض، وسواء كانت مالا أو أرش جناية، فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة. وأما ما كان عن عوض غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام: أحدها أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة، والثاني أن لا يمكنه دفع العوض، ولكن يمكنه دفع ما يستوفي فيه، مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد، أو يكون العرف فيه النقد، ففلس المكتري قبل أن يسكن أو بعد ما سكن بعض السكنى وقبل أن يدفع الكراء. والثالث أن يكون دفع العوض يمكنه وطرحه كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال. والرابع أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع. والخامس أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض، مثل أن يسلم الرجل إلى الرجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم. فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا فلس الزوج قبل الدخول. وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفي منه، مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء، فقيل للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء، وقيل ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره، وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره. وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه وهو إذا كان العوض عينا، فقيل يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ويدفعه، فقيل هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض. وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه فهو بالخيار بين المحاصة والإمساك، وذلك هو إذا كان العوض عينا. وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يحل أجل السلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاصص الغرماء برأس مال السلم فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء، فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال وفى العروض التي عليه إذا حلت لأنها من مال المفلس، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم. وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض فإن ما كان منها غير واجب بالشرع بل بالالتزام كالهبات والصدقات فلا محاصة فيها. وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء، ففيها قولان: أحدهما أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم. والثاني أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان، وهو قول أشهب. وأما النظر الخامس وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء، وسواء كان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شيء يجوز. واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ، وهو إذا هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء: ممن مصيبته؟ فقال أشهب: مصيبته من المفلس، وقال ابن الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان. وقال ابن القاسم: ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء مثل أن يكون المال عينا والدين عينا، كلهم روى قوله عن مالك. وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال: المصيبة في الموت من الغرماء، وفي الفلس من المفلس. فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه. وأما المفلس الذي لا مال له أصلا، فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في إسقاط الدين إلى وقت ميسرته، إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه، وقال به أحمد من فقهاء الأمصار، وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين، فإذا كان ذلك خلي سبيله. وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون، وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح، لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض، وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلا في تهمة، خرجه فيما أحسب أبو داود والمحجورون عند مالك: السفهاء والمفلسون والعبيد والمرضى والزوجة فيما فوق الثلث لأنه يرى أن للزوج حقا في المال، وخالفه في ذلك الأكثر. وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الصلح.

@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والصلح خير} وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعا وموقوفا على عمر "إمضاء الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" واتفق المسلمون على جوازه على الإقرار، واختلفوا في جوازه على الإنكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز على الإنكار؛ وقال الشافعي: لا يجوز على الإنكار لأنه من أكل المال بالباطل من غير عوض؛ والمالكية تقول فيه عوض، وهو سقوط الخصومة واندفاع اليمين عنه، ولا خلاف في مذهب مالك أن الصلح الذي يقع على الإقرار يراعي في صحته ما يراعي في البيوع، فيفسد بما تفسد به البيوع من أنواع الفساد الخاص بالبيوع ويصح بصحته، وهذا هو مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فيصالحه عليها بعد الإقرار بدنانير نسيئة، وما أشبه هذا من البيوع الفاسدة من قبل الربا والغرر. وأما الصلح على الإنكار فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه أنه يراعي فيه من الصحة ما يراعي في البيوع، مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فينكر ثم يصالحه عليها بدنانير مؤجلة، فهذا لا يجوز عند مالك وأصحابه؛ وقال أصبغ: هو جائز، لأن المكروه فيه من الطرف الواحد، وهو من جهة الطالب لأنه يعترف أنه أخذ دنانير نسيئة في دراهم حلت له. وأما الدافع فيقول: هي هبة مني. وأما إن ارتفع المكروه من الطرفين، مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فينكر كل واحد منهما صاحبه، ثم يصطلحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى أجل، فهذا عندهم هو مكروه، أما كراهيته فمخافة أن يكون كل واحد منهما صادقا، فيكون كل واحد منهما قد أنظر صاحبه لإنظار الآخر إياه فيدخله أسلفني وأسلفك. وأما وجه جوازه فلأن كل واحد منهما إنما يقول ما فعلت إنما هو تبرع مني، وما كان يجب علي شيء، وهذا النحو من البيوع قيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون يفسخ إذا وقع عليه أثر عقده، فإن طال مضى، فالصلح الذي يقع فيه مما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام: صلح يفسخ باتفاق، وصلح يفسخ باختلاف، وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال وإن لم يطل فيه اختلاف.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الكفالة.

@-واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها، وفي الحكم اللازم عنها، وفي شروطها، وفي صفة لزومها، وفي محلها. ولها أسماء: كفالة، وحمالة، وضمانة، وزعامة. فأما أنواعها فنوعان: حمالة بالنفس، وحمالة بالمال. أما الحمالة بالمال فثابتة بالسنة ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار. وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ. والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم". وأما الحمالة بالنفس وهي التي تعرف بضمان الوجه، فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال. وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز، وبه قال داود، وحجتهما قوله تعالى {معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} ولأنها كفالة بنفس فأشبهت الكفالة في الحدود. وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم" وتعلقوا بأن في ذلك مصلحة، وأنه مروي عن الصدر الأول وأما الحكم اللازم عنها، فجمهور القائلين بحمالة النفس متفقون على أن المتحمل عنه إذا مات لم يلزم الكفيل بالوجه شيء، وحكي عن بعضهم لزوم ذلك. وفرق ابن القاسم بين أن يموت الرجل حاضرا أو غائبا فقال: إن مات حاضرا لم يلزم الكفيل شيء، وإن مات غائبا نظر، فإن كانت المسافة التي بين البلدين مسافة يمكن الحميل فيها إحضاره في الأجل المضروب له في إحضاره، وذلك في نحو اليومين إلى الثلاثة ففرط غرم وإلا لم يغرم. واختلفوا إذا غاب المتحمل عنه ما حكم الحميل بالوجه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يلزمه أن يحضره أو يغرم، وهو قول مالك وأصحابه وأهل المدينة. والقول الثاني إنه يحبس الحميل إلى أن يأتي به أو يعلم موته، وهو قول أبي حنيفة وأهل العراق. والقول الثالث إنه ليس عليه إلا أن يأتي به إذا علم موضعه، ومعنى ذلك أن لا يكلف إحضاره إلا مع العلم بالقدرة على إحضاره، فإن ادعى الطالب معرفة موضعه على الحميل، وأنكر الحميل كلف الطالب بيان ذلك. قالوا: ولا يحبس الحميل إلا إذا كان المتحمل عنه معلوم الموضع، فيكلف حينئذ إحضاره، وهذا القول حكاه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتابه في الفقه عن جماعة من الناس واختاره.

وعمدة مالك أن المتحمل بالوجه غارم لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب، وربما احتج لهم بما روي عن ابن عباس "أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتحمل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدى المال إليه" قالوا: فهذا غرم في الحمالة المطلقة. وأما أهل العراق فقالوا: إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام "المؤمنون عند شروطهم" فإنما عليه أن يحضره أو يحبس فيه، فكما أنه إذا ضمن المال فإنما عليه أن يحضر المال أو يحبس فيه، كذلك الأمر في ضمان الوجه. وعمدة الفريق الثالث أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره. قالوا: ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا. فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك: إن المال لا يلزمه، ولا خلاف في هذا فيما أحسب، لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط، فهذا هو حكم ضمان الوجه. وأما حكم ضمان المال فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم. واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحق: للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل أو المكفول؛ وقال مالك في أحد قوليه: ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه. وله قول آخر مثل قول الجمهور. وقال أبو ثور: الحمالة والكفالة واحدة، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة. ومن الحجة لما رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن كان المضمون عنه غائبا أو حاضرا، غنيا أو عديما حديث قبيصة بن المخارقي قال "تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عنها، فقال: تخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها"

ووجه الدليل من هذا النبي صلى الله عليه وسلم أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه. وأما محل الكفالة فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "الزعيم غارم" أعني كفالة المال وكفالة الوجه، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال أو من قبل حدود مثل المال الواجب في قتل الخطأ أو الصلح في قتل العمد أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع وهي ما دون النصاب أو من غير ذلك. وروي عن أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود القصاص، أو في القصاص دون الحدود وهو قول عثمان البتي: أعني كفالة النفس. وأما وقت وجوب الكفالة بالمال أعني مطالبته بالكفيل، فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة. وأما وقت وجوب الكفالة بالوجه، فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا؟ فقال قوم: إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه، وهو قول شريح القاضي والشعبي، وبه قال سحنون من أصحاب مالك. وقال قوم: بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك؟، وإلى كم من المدة يلزم؟ فقال قوم: إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه وإلا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك، وقال أهل العراق: لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم، إلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون إنه أن أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة، وقالوا: لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها.

وسبب هذا الاختلاف تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة. وروي عن عراك بن مالك قال "أقبل نفر من الأعراب معهم ظهر فصحبهم رجلان فباتا معهم، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين: اذهب واطلب وحبس الآخر، فجاء بما ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الرجلين: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، قال: وأنت فعفر الله لك وقتلك في سبيله" خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه بالفقه قال: وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان من رسول الله حبسا قال: ولا يعجبني ذلك، لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى، وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذا كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم. فأما أصناف المضمونين فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في ضمان الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه، فأجازه مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعللق بمعلوم قطعا، وليس كذلك المفلس. واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه. والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب، ولا يصح عند أبي حنيفة. وأما شروط الكفالة فإن أبا حنيفة والشافعي يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه، ومالك لا يشترط ذلك، ولا تجوز عند الشافعي كفالة المجهول ولا الحق الذي لم يجب بعد، وكل ذلك لازم وجائز عند مالك وأصحابه. وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز، فإنها لا تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة وما لا يجوز فيه التأخير، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج، وما شاكلها.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الحوالة.

@-والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين، لقوله عليه الصلاة والسلام "مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على غني فليستحل" والنظر في شروطها وفي حكمها، فمن الشروط اختلافهم في اعتبار رضا المحال والمحال عليه، فمن الناس من اعتبر رضا المحال ولم يعتبر رضا المحال عليه، وهو مالك؛ ومن الناس من اعتبر رضاهما معا؛ من الناس من لم يعتبر رضا المحال واعتبر رضا المحال عليه، وهو نقيض مذهب مالك، وبه قال داود، فمن رأى أنها معاملة اعتبر رضا الصنفين، ومن أنزل المحال عليه من المحال منزلته من المحيل لم يعتبر رضاه معه كما لا يعتبره مع المحيل إذا طلب منه حقه ولم يحل عليه أحدا. وأما داود فحجته ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع" والأمر على الوجوب، وبقي المحال عليه من الأصل، وهو اشتراط اعتبار رضاه. ومن الشروط التي اتفق عليها في الجملة كون ما على المحال عليه مجانسا لما على المحيل قدرا ووصفا، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من باب بيع الطعام قبل أن يستوفي، لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه بالطعام الذي كان عليه، وذلك قبل أن يستوفيه من غريمه؛ وأجاز ذلك مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالا. وأما إن كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز إلا أن يكون الدينان حالين؛ وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالا؛ ولم يفرق بين ذلك الشافعي، لأنه كالبيع في ضمان المستقرض وإنما رخص مالك في القرض لأنه يجوز عنده بيع القرض قبل أن يستوفي. وأما أبو حنيفة فأجاز الحوالة بالطعام وشبهها بالدراهم وجعلها خارجة عن الأصول كخروج الحوالة بالدراهم، والمسألة مبنية على أن ما شذ عن الأصول هل يقاس عليه أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: أحدها أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان دينا بدين. والثاني أن يكون الدين الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعا ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج من باب البيع دخله الدين بالدين. والشرط الثالث أن لا يكون الدين طعاما من سلم أو أحدهما ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعا من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي كما قلنا، لكن أشهب يقول إن استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة وكانت تولية؛ وابن القاسم لا يقول ذلك كالحال إذا اختلفت ويتنزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحاله به، وذلك فيما يريد أن يأخذ بذله منه أو يبيعه له من غيره، أعني أنه لا يجوز له من ذلك إلا ما يجوز له مع الذي أحاله وما يجوز للذي أحال مع الذي أحاله عليه، ومثال ذلك إن احتال بطعام كان له من قرض في طعام من سلم أو بطعام من سلم في طعام من قرض لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل قبضه منه، لأنه إن كان احتال بطعام كان من قرض في طعام من سلم نزل منزلة المحيل في أنه لا يجوز له بيع ما على غريمه قبل أن يستوفيه لكونه طعاما من بيع، وإن كان احتال بطعام من سلم في طعام من قرض نزل من المحتال عليه منزلته مع من أحاله، أعني أنه ما كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي كان على غريمه المحيل له قبل أن يستوفيه، كذلك لا يجوز أن يبيع الطعام الذي أحيل عليه وإن كان من قرض، وهذا كله مذهب مالك، وأدلة هذه الفروق ضعيفة. وأما أحكامها فإن جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة، في أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء؛ قال مالك وأصحابه: إلا أن يكون المحيل غره فأحاله على عديم؛ وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحوالة وإن لم تكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة. وسبب اختلافهم مشابهة الحوالة للحمالة.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الوكالة

@-وفيها ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل. والثاني في أحكام الوكالة. والثالث: في مخالفة الموكل للوكيل.

*3*الباب الأول في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكِل، وفي الموَكل.

@-(الركن الأول: في الموكل) واتفقوا على وكالة الغائب والمريض والمرأة المالكين لأمور أنفسهم، واختلفوا في وكالة الحاضر الذكر الصحيح، فقال مالك: تجوز وكالة الحاضر الصحيح الذكر، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز وكالة الصحيح الحاضر ولا المرأة إلا أن تكون برزة. فمن رأى أن الأصل لا ينوب فعل الغير عن فعل الغير إلا ما دعت إليه الضرورة وانعقد الإجماع عليه قال: لا تجوز نيابة من اختلف في نيابته؛ ومن رأى أن الأصل هو الجواز قال: الوكالة في كل شيء جائزة إلا فيما أجمع على أنه لا تصح فيه من العبادات وما جرى مجراها.

@-(الركن الثاني: في الوكيل) وشروط الوكيل أن لا يكون ممنوعا بالشرع من تصرفه في الشيء الذي وكل فيه، فلا يصح توكيل الصبي ولا المجنون ولا المرأة عند مالك والشافعي على عقد النكاح. أما عند الشافعي فلا بمباشرة ولا بواسطة: أي بأن توكل هي من يلي عقد النكاح، ويجوز عند مالك بالواسطة الذكر.

@-(الركن الثالث: فيما فيه التوكيل) وشرط محل التوكيل أن يكون قابلا للنيابة مثل البيع والحوالة والضمان وسائر العقود والفسوخ والشركة والوكالة والمصارفة والمجاعلة والمساقاة والطلاق والنكاح والخلع والصلح. ولا تجوز في العبادات البدنية، وتجوز في المالية كالصدقة والزكاة والحج، وتجوز عند مالك في الخصومة على الإقرار والإنكار؛ وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تجوز على الإقرار، وشبه ذلك بالشهادة والإيمان، وتجوز الوكالة على استيفاء العقوبات عند مالك وعند الشافعي مع الحضور قولان: والذين قالوا إن الوكالة تجوز على الإقرار اختلفوا في مطلق الوكالة على الخصومة هل يتضمن الإقرار أم لا؟ فقال مالك: لا يتضمن، وقال أبو حنيفة: يتضمن.

@-(الركن الرابع) وأما الوكالة فهي عقد يلزم بالإيجاب والقبول كسائر العقود، وليست هي من العقود اللازمة بل الجائزة على ما نقوله في أحكام هذا العقد، وهي ضربان عند مالك عامة وخاصة، فالعامة هي التي تقع عنده بالتوكيل العام الذي لا يسمى فيه شيء دون شيء وذلك أنه إن سمي عنده لم ينتفع بالتعميم والتفويض؛ وقال الشافعي: لا تجوز الوكالة بالتعميم وهي غرر، وإنما يجوز منها ما سمي وحدد ونص عليه، وهو الأقيس إذ كان الأصل فيها المنع، إلا ما وقع عليه الإجماع.

*3*الباب الثاني في الأحكام.

@-وأما الأحكام: فمنها أحكام العقد، ومنها أحكام فعل الوكيل. فأما هذا العقد فهو كما قلنا عقد غير لازم للوكيل أن يدع الوكالة متى شاء عند الجميع، لكن أبو حنيفة يشترط في ذلك حضور الموكل، وللموكل أن يعزله متى شاء قالوا: إلا أن تكون وكالة في خصومة. وقال أصبغ: له ذلك ما لم يشرف على تمام الحكم، وليس للوكيل أن يعزل نفسه في الموضع الذي لا يجوز أن يعزله الموكل، وليس من شروط انعقاد هذا العقد حضور الخصم عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ذلك من شروطه. وكذلك ليس من شرط إثباتها عند الحاكم حضوره عند مالك. وقال الشافعي: من شرطه. واختلف أصحاب مالك هل تنفسخ الوكالة بموت الموكل على قولين، فإذا قلنا تنفسخ بالموت كما تنفسخ بالعزل فمتى يكون الوكيل معزولا، والوكالة منفسخة في حق من عامله في المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول أنها تنفسخ في حق الجميع بالموت والعزل. والثاني أنها تنفسخ في حق كل واحد منهم بالعلم، فمن علم انفسخت في حقه ومن لم يعلم لم تنفسخ في حقه. والثالث أنها تنفسخ في حق من عامل الوكيل بعلم الوكيل وإن لم يعلم هو، ولا تنفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئا بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه ليس بوكيل.

وأما أحكام الوكيل ففيها مسائل مشهورة: أحدها إذا وكل على بيع شيء هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟ فقال مالك: يجوز، وقد قيل عنه: لا يجوز؛ وقال الشافعي: لا يجوز، وكذلك عند مالك الأب والوصي. ومنها إذا وكله في البيع وكالة مطلقة لم يجز له عند مالك أن يبيع إلا بثمن مثله نقدا بنقد البلد، ولا يجوز إن باع نسيئة، أو بغير نقد البلد، أو بغير ثمن المثل، وكذلك الأمر عنده في الشراء؛ وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء لمعين فقال: يجوز في البيع أن يبيع بغير ثمن المثل، وأن يبيع نسيئة، ولم يجز إذا وكله في شراء عبد بعينه أن يشتريه إلا بثمن المثل نقدا، ويشبه أن يكون أبو حنيفة إنما فرق بين الوكالة على شراء شيء بعينه، لأن من حجته أنه كما أن الرجل قد يبيع الشيء بأقل من ثمن مثله ونساء لمصلحة يراها في ذلك كله، كذلك حكم الوكيل إذ قد أنزله منزلته، وقول الجمهور أبين، وكل ما يعتدي فيه الوكيل ضمن عند من يرى أنه تعدى، وإذا اشترى الوكيل شيئا وأعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل؛ وقال أبو حنيفة: إلى الوكيل أولا ثم إلى الموكل، وإذا دفع الوكيل دينا عن الموكل ولم يشهد فأنكر الذي له الدين القبض ضمن الوكيل.

*3*الباب الثالث في مخالفة الموكل للوكيل.

@-وأما اختلاف الوكيل مع الموكل، فقد يكون في ضياع المال الذي استقر عند الوكيل، وقد يكون في دفعه إلى الموكل، وقد يكون في مقدار الثمن الذي باع به أو اشترى إذا أمره بثمن محدود، وقد يكون في المثمون، وقد يكون في تعيين من أمره بالدفع إليه، وقد يكون في دعوى التعدي. فإذا اختلفا في ضياع المال فقال الوكيل ضاع مني، وقال الموكل لم يضع، فالقول قول الوكيل إن كان لم يقبضه ببينة، فإن كان المال قد قبضه الوكيل من غريم الموكل لم يشهد الغريم على الدفع لم يبرأ الغريم بإقرار الوكيل عند مالك وغرم ثانية، وهل يرجع الغريم على الوكيل؟ فيه خلاف، وإن كان قد قبضه ببينة برئ ولم يلزم الوكيل شيء. وأما إذا اختلفا في الدفع فقال الوكيل دفعته إليك، وقال الموكل: لا، فقيل القول قول الوكيل. وقيل القول قول الموكل. وقيل إن تباعد ذلك فالقول قول الوكيل. وأمر اختلافهم في مقدار الثمن الذي به أمره بالشراء؛ فقال ابن القاسم: إن لم تفت السلعة فالقول قول المشتري، وإن فاتت فالقول قول الوكيل، وقيل يتحالفان وينفسخ البيع ويتراجعان وإن فاتت بالقيمة وإن كان اختلافهم في مقدار الثمن الذي أمره به في البيع، فعند ابن القاسم أن القول فيه قول الموكل، لأنه جعل دفع الثمن بمنزلة فوات السلعة في الشراء. وأما إذا اختلفا فيمن أمره بالدفع ففي المذهب فيه قولان: المشهور أن القول قول المأمور، وقيل القول قول الآمر. وأما إذا فعل الوكيل فعلا هو تعد وزعم أن الموكل أمره، فالمشهور أن القول قول الموكل، وقد قيل إن القول قول الوكيل إنه أمره قد ائتمنه على الفعل.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب اللقطة

@-والنظر في اللقطة في جملتين: الجملة الأولى: في أركانها. والثانية: في أحكامها.

*3*(الجملة الأولى) والأركان ثلاثة: الالتقاط، والملتقط، واللقطة. فأما الالتقاط فاختلف العلماء هل هو فضل أم الترك؟ فقال أبو حنيفة: الأفضل الالتقاط، لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، وبه قال الشافعي؛ وقال مالك وجماعة بكراهية الالتقاط، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال أحمد، وذلك لأمرين: أحدهما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال "ضالة المؤمن حرق النار" ولما يخاف أيضا من التقصير في القيام بما يجب لها من التعريف وترك التعدي عليها، وتأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث وقالوا: أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف؛ وقال قوم: بل لقطها واجب. وقد قيل إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام عادل. قالوا: وإن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عادل فواجب التقاطها. وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر فالأفضل أن لا يلتقطها. وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين، وهذا كله ما عدا لقطة الحاج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقطة مكة أيضا لا يجوز التقاطها إلا لمنشد لورود النص في ذلك، والمروي في ذلك لفظان: أحدهما أنه لا ترفع لقطتها إلا لمنشد. الثاني لا يرفع لقطتها إلا منشد، فالمعنى الواحد أنها لا ترفع إلا لمن ينشدها، والمعنى الثاني لا يلتقطها إلا لمن ينشدها ليعرف الناس. وقال مالك: تعرف هاتان اللقتطان أبدا، فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية، واختلف عن الشافعي في جواز التقاط الكافر. قال أبو حامد: والأصح جواز ذلك في دار الإسلام. قال: وفي أهلية العبد والفاسق له قولان: فوجه المنع عدم أهلية الولاية، ووجه الجواز عموم أحاديث اللقطة. وأما اللقطة بالجملة فإنها كل مال لمسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها، والجماد والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل باتفاق. والأصل في اللقطة حديث يزيد بن خالد الجهني، وهو متفق على صحته أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل، قال: مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" وهذا الحديث يتضمن معرفة ما يلتقط مما لا يلتقط، ومعرفة حكم ما يلتقط كيف يكون في العام وبعده وبماذا يستحقها مدعيها. فأما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط، واتفقوا على الغنم أنها تلتقط، وترددوا في البقر، والنص عن الشافعي أنها كالإبل، وعن مالك أنها كالغنم، وعنه خلاف.

*3*(الجملة الثانية)

@-وأما حكم التعريف، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم. واختلفوا في حكمها بعد السنة، فاتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا، أو يتصدق بها إن كان غنيا، فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها. واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول؟ فقال مالك والشافعي: له ذلك؛ وقال أبو حنيفة: ليس له أن يأكلها أو يتصدق بها؛ وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين؛ وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال؛ وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة. وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر. واستدل مالك والشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام "فشأنك بها" ولم يفرق بين غني وفقير. ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال "لقيت أويس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" وخرج الترمذي وأبو داود "فاستنفقها". فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث، وهو قوله بعد التعريف "فشأنك بها" قال: لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة؛ ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه قال: تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها، ومن توسط قال: يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان. وأما حكم دفع اللقطة لمن ادعاها، فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء،

واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا؟ فقال مالك: يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يستحق إلا ببينة. وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا الحديث؛ فمن غلب الأصل قال: لا بد من البينة؛ ومن غلب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة في ذلك الشافعي وأبو حنيفة لأن قوله عليه الصلاة والسلام "اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها، ويحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصح الزيادة التي نذكرها بعد؛ وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد، قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث ولفظه "فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه" قالوا: ولكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء، وكذلك إن زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين، وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء. وأما إذا غلط فيها فلا شيء له. وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء، وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ، وإن غلط لم تدفع إليه. واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين؟ فقال ابن القاسم بغير يمين: وقال أشهب: بيمين. وأما ضالة الغنم، فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة "هي لك أو لأخيك أو للذئب"

واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا؟ فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها؛ وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه: إنه لا يضمن. وسبب الخلاف معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا؛ وعنه رواية أخرى أنه يضمن، وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه. وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام: قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن تركه، كالعين والعروض. وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن ترك كالشاة في القفر، والطعام الذي يسرع إليه الفساد. وقسم لا يخشى عليه من التلف. فأما القسم الأول، وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف فإنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده. والأصل في ذلك ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" ولم يذكر فيها تعريفا، وهذا مثل العصا والسوط، وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك. والثاني أن يكون يسيرا إلا أن له قدر ومنفعة، فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه. واختلفوا في قدر ما يعرف، فقيل سنة، وقيل أياما. وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر، فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا. وأما القسم الثاني وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف، فإن هذا يأكله كان غنيا أو فقيرا، وهل يضمن؟ فيه روايتان كما قلنا الأشهر أن لا ضمان. واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة فقيل لا ضمان عليه، وقيل عليه الضمان، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن، أو يأكله فيضمن.

وأما القسم الثالث فهو كالإبل، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك، فإن أخذها وجب تعريفها، والاختيار تركها؛ وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة؛ وقيل إنما هو في زمان العدل، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها. وأما ضمانها في الذي تعرف فيه، فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن، واختلفوا إذا لم يشهد، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد؛ وقال أبو حنيفة وزفر: يضمنها إن هلكت ولم يشهد. استدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان، قالوا: وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك. واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه: أحدها أن يأخذها على جهة الاغتيال لها. والثاني أن يأخذها على جهة الالتقاط. والثالث أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال، فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن التقطها فقال ابن القاسم: يضمن؛ وقال أشهب: لا يضمن إذا ردها في موضعها، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم. وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله. وأما الوجه الثالث فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرد حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك. وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها، وهو العبد يستهلك اللقطة، فقال مالك: إنها في رقبته إما أن يسلمه سيده فيها، وإما أن يفديه بقيمتها، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ولم تكن في رقبته؛ وقال الشافعي: إن علم بذلك السيد فهو الضامن، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد. واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا؟ فقال الجمهور: ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة. وقال الكوفيون: لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب.

*3*باب في اللقيط.

@-والنظر في أحكام الالتقاط وفي الملتقط واللقيط وفي أحكامه.

وقال الشافعي كل شيء ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات، وفي وجوب الإشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف، والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة. واللقيط: هو الصبي الصغير غير البالغ، وإن كان مميزا، ففيه في مذهب الشافعي تردد، والملتقط: هو كل حر عدل رشيد، وليس العبد والمكاتب بملتقط، والكافر يلتقط الكافر دون المسلم، لأنه لا ولاية له عليه، ويلتقط المسلم الكافر، وينزع من يد الفاسق والمبذر، وليس من شرط الملتقط الغنى، ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه، وإن أنفق لم يرجع عليه بشيء. وأما أحكامه فإنه يحكم له بحكم الإسلام إن التقطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالإسلام بحكم أبيه عند مالك. وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وقد اختلف في اللقيط فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه للمسلمين، وهو مذهب مالك. والذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ترث المرأة ثلاثة: لقيطها وعتيقها وولدها الذي لا عنت عليه.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الوديعة.

@-وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة: فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، إلا ما حكي عن عمر ابن الخطاب. قال المالكيون: والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد، فوجب أن يصدق في المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع، قالوا: إلا أن يدفعها إليه ببينة فإنه لا يكون القول قوله، قالوا: لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها، هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه؛ وقد قيل عن ابن القاسم إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو القياس، لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد، ويبعد أن تنتقد الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه. وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند مالك وإلا ضمن، يريد قول الله عز وجل {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة، وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك، وسواء عند مالك أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها أو لم يأمر؛ وقال أبو حنيفة: إن كان ادعى دفعها إلى من أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه، فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة، أعني إذا كان غير المودع وادعى التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة وهو وكيل المستودع أو إلى ذمة، فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فقال مرة: يبرأ الدافع بتصديق القابض، وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض، ومرة قال: لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال. وأما إن دفع إلى ذمة، مثل أن يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا أو تسلفا في سلعة أو ما أشبه ذلك، فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف، وإن كانت الذمة خربة فقولان.

والسبب في هذا اختلافهم كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه؛ فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه، أعني الوكيل بأمانة المودع عنده قال: يكون القول قوله في دعواه التلف كدعوى المستودع عنده؛ ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف قال: لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف؛ ومن رأى المأمور بمنزلة الآمر قال: القول قول الدافع للمأمور كما كان القول قوله مع الآمر، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أنه أضعف منه قال: الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال، وإذا أودعها بشرط الضمان فالجمهور على أنه لا يضمن، وقال الغير: يضمن. وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد؟ فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لنفقته ثم ردها، فقال مالك: يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها؛ وقال أبو حنيفة: إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن، وإن رد مثلها ضمن؛ وقال عبد الملك والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا؛ فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها؛ ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها. ومنها اختلافهم في السفر بها، فقال مالك ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر؛ وقال أبو حنيفة: له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة. ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر، فإن فعل ضمن؛ وقال أبو حنيفة: إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن، لأنه شبهه بأهل بيته.

وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو من أشبههم. وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه، مثل اختلافهم في المذهب فيمن جعل وديعة في جيبه فذهبت، والأشهر أنه يضمن. وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه، ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان، مثل أن ينساها في موضع أو أن ينسى من دفعها إليه، أو يدعيها رجلان، فقيل يحلفان وتقسم بينهما، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما، وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر. واختلف في ذلك أصحاب الشافعي، فمنهم من يقول: إن أودعها لغير الحاكم ضمن. وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده، ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور، وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه، هل ذلك الربح حلال له أم لا؟ فقال مالك والليث وأبو يوسف وجماعة: إذا رد المال طاب له الربح وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده؛ وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن: يؤدي الأصل ويتصدق بالربح؛ وقال قوم: لرب الوديعة الأصل والربح؛ وقال قوم: هو مخير بين الأصل والربح؛ وقال قوم: البيع الواقع في تلك التجارة فاسد، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات. فمن اعتبر التصرف قال: الربح للمتصرف؛ ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال. ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما أبو موسى الأشعري من بيت المال، فتجروا فيه فربحا، قيل له: لو جعلته قراضا، فأجاب إلى ذلك، لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء، وأن ذلك عدل.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب العارية.

@-والنظر في العارية في أركانها وأحكامها. وأركانها خمسة: الإعارة، والمعير، والمستعير، والمعار، والصيغة. أما الإعارة فهي فعل محير ومندوب إليه، وقد شدد فيها قوم من السلف الأول. روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود أنهما قالا في قوله تعالى {ويمنعون الماعون} أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك. وأما المعير فلا يعتبر فيه إلا لكونه مالكا للعارية إما لرقبتها وإما لمنفعتها، والأظهر أنها لا تصح من المستعير أعني أن يعيرها. وأما العارية فتكون في الدور والأرضين والحيوان، وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال، ولذلك لا تجوز إباحة الجوار للاستمتاع. ويكره للاستخدام إلا أن تكون ذا محرم. وأما صيغة الإعارة، فهي كل لفظ يدل على الإذن، وهي عقد جائز عند الشافعي وأبي حنيفة: أي للمعير أن يسترد عاريته إذا شاء؛ وقال مالك في المشهور: ليس له استرجاعها قبل الانتفاع، وإن شرط مدة ما لزمته تلك المدة، وإن لم يشترط مدة لزمته من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية. وسبب الخلاف ما يوجد فيها من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة. وأما الأحكام فكثيرة، وأشهرها هل هي مضمونة أو أمانة؟ فمنهم من قال: إنها مضمونة وإن قامت البينة على تلفها، وهو قول أشهب والشافعي، وأحد قولي مالك؛ ومنهم من قال نقيض هذا، وهو أنها ليست مضمونة أصلا، وهو قول أبي حنيفة؛ ومنهم من قال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه، وهو مذهب مالك المشهور وابن القاسم وأكثر أصحابه. وسبب الخلاف تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في الحديث الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام لصفوان بن أمية "بل عارية مضمونة مؤداة" وفي بعضها "بل عارية مؤداة" وروي عنه أنه قال "ليس على المستعير ضمان" فمن رجح وأخذ بهذا أسقط الضمان عنه، ومن أخذ بحديث صفوان ابن أمية ألزمه الضمان؛ ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، فحمل هذا الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه، إلا أن الحديث الذي فيه ليس على المستعير ضمان، غير مشهور، وحديث صفوان صحيح، ومن لم ير الضمان شبهها بالوديعة؛ ومن فرق قال: الوديعة مقبوضة لمنفعة الدافع، والعارية لمنفعة القابض.

واتفقوا في الإجارة على أنها غير مضمونة: أعني الشافعي وأبا حنيفة ومالكا، ويلزم الشافعي إذا سلم أنه لا ضمان عليه في الإجارة أن لا يكون ضمان في العارية إن سلم أن سبب الضمان هو الانتفاع، لأنه إذا لم يضمن حيث قبض لمنفعتهما فأحرى أن لا يضمن حيث قبض لمنفعته إذا كانت منفعة الدافع مؤثرة في إسقاط الضمان. واختلفوا إذا شرط الضمان، فقال قوم: يضمن؛ وقال قوم: لا يضمن، والشرط باطل؛ ويجئ على قول مالك إذا اشترط الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه عليه الضمان أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية إلى باب الإجارة الفاسدة إذا كان صاحبها لم يرض أن يعيرها إلا بأن يخرجها في ضمانه، فهو عوض مجهول فيجب أن يرد إلى معلوم. واختلف عن مالك والشافعي إذا غرس المستعير وبنى ثم انقضت المدة التي استعار إليها، فقال مالك: المالك بالخيار إن شاء أخذ المستعير بقلع غراسته وبنائه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع، وسواء عند مالك انقضت المدة المحدودة بالشرط أو بالعرف أو العادة؛ وقال الشافعي: إذا لم يشترط عليه القلع فليس له مطالبته بالقلع، بل يخير المعير بأن يبقيه بأجر يعطاه، أو ينقض بأرش، أو يتملك ببدل، فأيهما أراد المعير أجبر عليه المستعير، فإن أبى كلف تفريغ الملك. وفي جواز بيعته للنقض عنده خلاف، لأنه معرض للنقض، فرأى الشافعي أن آخذه المستعير بالقلع دون أرش هو ظلم؛ ورأى مالك أن عليه إخلاء المحل، وأن العرف في ذلك يتنزل منزلة الشروط، وعند مالك أنه إن استعمل العارية استعمالا ينقصها عن الاستعمال المأذون فيه ضمن ما نقصها بالاستعمال. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يسأل جاره أن يعيره جداره ليغرز فيه خشبة لمنفعة ولا تضر صاحب الجدار وبالجملة في كل ما ينتفع به المستعير ولا ضرر على المعير فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي عليه به إذ العارية لا يقضى بها، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة أهل الحديث: يقضى بذلك، وحجتهم ما خرجه مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبي هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم.

واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك بن قيس ساق خليجا له من العريض، فأرادوا أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة، تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وكذلك حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط، فمنعه صاحب الحائط، فكلم عمر بن الخطاب، فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله وقد عذل الشافعي مالكا لإدخاله هذه الأحاديث في موطئه، وتركه الأخذ بها. وعمدة مالك وأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" وعند الغير أن عموم هذا مخصص بهذه الأحاديث، وبخاصة حديث أبي هريرة. وعند مالك أنها محمولة على الندب، وأنه إذا أمكن أن تكون مختصة وأن تكون على الندب فحملها على الندب أولى، لأن بناء العام على الخاص إنما يجب إذا لم يمكن بينهما جمع ووقع التعارض. وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج، ويؤخذ بقضائه لعبد الرحمن بن عوف في تحويل الربيع، وذلك أنه رأى أن تحويل الربيع أيسر من أن يمر عليه بطريق لم يكن قبل، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا.

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

*2*كتاب الغصب

@-وفيه بابان: الأول: في الضمان، وفيه ثلاثة أركان: الأول: الموجب للضمان. والثاني: ما فيه الضمان. والثالث: الواجب. وأما الباب الثاني: فهو في الطوارئ على المغصوب.

*3*الباب الأول في الضمان.

@-(الركن الأول) وأما الموجب للضمان، فهو إما المباشرة لأخذ المال المغصوب أو إتلافه، وإما المباشرة للسبب المتلف، وإما إثبات اليد عليه. واختلفوا في السبب الذي يحصل بمباشرته الضمان إذا تناول التلف بواسطة سبب آخر، هل يحصل به ضمان أم لا؟ وذلك مثل أن يفتح قفصا فيه طائر فيطير بعد الفتح، فقال مالك: يضمنه هاجه على الطيران أو لم يهجه. وقال أبو حنيفة لا يضمن على حال؛ وفرق الشافعي بين أن يهيجه على الطيران أو لا يهيجه، فقال: يضمن إن هاجه، ولا يضمن إن لم يهيجه؛ ومن هذا من حفر بئرا فسقط فيه شيء فهلك؛ فمالك والشافعي يقولان: إن حفره بحيث أن يكون حفره تعديا ضمن ما تلف فيه وإلا لم يضمن، ويجيء على أصل أبي حنيفة أنه لا يضمن في مسألة الطائر، وهل يشترط في المباشرة العمد أو لا يشترط؟ فالأشهر أن الأموال تضمن عمدا وخطأ، وإن كانوا قد اختلفوا في مسائل جزئية من هذا الباب، وهل يشترط فيه أن يكون مختارا؟ فالمعلوم عن الشافعي أنه يشترط أن يكون مختارا، ولذلك رأى على المكره الضمان: أعني المكره على الإتلاف.

@-(الركن الثاني) وأما ما يجب فيه الضمان فهو كل مال أتلفت عينه أو تلفت عند الغاصب عينه بأمر من السماء أو سلطت اليد عليه وتملك، وذلك فيما ينقل ويحول باتفاق. واختلفوا فيما لا ينقل ولا يحول مثل العقار، فقال الجمهور: إنها تضمن بالغصب، أعني أنها إن انهدمت للدار ضمن قيمتها؛ وقال أبو حنيفة: لا يضمن. وسبب اختلافهم هل كون يد الغاصب على العقار مثل كون يده على ما ينقل ويحول؟ فمن جعل حكم ذلك واحدا قال بالضمان؛ ومن لم يجعل حكم ذلك واحدا قال: لا ضمان.

@-(الركن الثالث) وهو الواجب في الغصب، والواجب على الغاصب إن كان المال قائما عنده بعينه لم تدخله زيادة ولا نقصان أن يرده بعينه، وهذا لا خلاف فيه، فإذا ذهبت عينه فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان مكيلا أو موزونا أن على الغاصب المثل، أعني مثل ما استهلك صفة ووزنا واختلفوا في العروض فقال مالك: لا يقضى في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وداود: الواجب في ذلك مثل ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. وعمدة مالك حديث أبي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه الباقي قيمة العدل" الحديث. ووجه الدليل منه أنه لم يلزمه المثل وألزمه القيمة. وعمدة الطائفة الثانية قوله تعالى {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ولأن منفعة الشيء قد تكون هي المقصودة عند المتعدى عليه. ومن الحجة لهم ما خرجه أبو داود من حديث أنس وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين جارية بقصعة لها فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل فيها جميع الطعام ويقول: غارت أمكم كلوا كلوا، حتى جاءت قصعتها التي في بيتها، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا، فدفع الصحفة الصحيحة إلى الرسول، وحبس المكسورة في بيته" وفي حديث آخر "أن عائشة كانت هي التي غارت وكسرت الإناء، وأنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام".

*3*الباب الثاني في الطوارئ.

@-والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل المخلوق، وإما من قبل الخالق. فأما النقصان الذي يكون بأمر من السماء فإنه ليس له إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب؛ وقيل إن له أن يأخذ ويضمن الغاصب قيمة العيب. وأما إن كان النقص بجناية الغاصب فالمغصوب مخير في المذهب بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه، وما نقصته الجناية يوم الجناية عند ابن القاسم وعند سحنون ما نقصته الجناية يوم الغصب؛ وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذه ناقصا، ولا شيء له في الجناية كالذي يصاب بأمر من السماء، وإليه ذهب ابن المواز. والسبب في هذا الاختلاف أن من جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بالقيمة يوم الغصب جعل ما حدث فيه من نماء أو نقصان، كأنه حدث في ملك صحيح، فأوجب له الغلة ولم يوجب عليه في النقصان شيئا سواء كان من سببه أو من عند الله، وهو قياس قول أبي حنيفة. وبالجملة فقياس قول من يضمنه قيمته يوم الغصب فقط. ومن جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بقيمته في كل أوان كانت يده عليه آخذة بأرفع القيم، وأوجب عليه رد الغلة وضمان النقصان، سواء كان من فعله أو من عند الله، وهو قول الشافعي أو قياس قوله. ومن فرق بين الجناية التي تكون من الغاصب، وبين الجناية التي تكون بأمر من السماء، وهو مشهور مذهب مالك؛ وابن القاسم فعمدته قياس الشبه، لأنه رأى أن جناية الغاصب على الشيء الذي غصبه هو غصب ثان متكرر منه، كما لو جنى عليه وهو في ملك صاحبه، فهذا هو نكتة الاختلاف في هذا الباب فقف عليه.

وأما إن كانت الجناية عند الغاصب من غير فعل الغاصب، فالمغصوب مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يترك الغاصب ويتبع الجاني بحكم الجنايات، فهذا حكم الجنايات على العين في يد الغاصب. وأما الجناية على العين من غير أن يغصبها غاصب، فإنها تنقسم عند مالك إلى قسمين: جناية تبطل يسيرا من المنفعة، والمقصود من الشيء باق، فهذا يجب فيه ما نقص يوم الجناية، وذلك بأن يقوم صحيحا ويقوم بالجناية، فيعطي ما بين القيمتين. وأما إن كانت الجناية مما تبطل الغرض المقصود، فإن صاحبه يكون مخيرا إن شاء أسلمه للجاني وأخذ قيمته، وإن شاء أخذ قيمة الجناية؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس له إلا قيمة الجناية. وسبب الاختلاف الالتفات إلى الحمل على الغاصب، وتشبيه إتلاف أكثر المنفعة بإتلاف العين. وأما النماء فإنه على قسمين: أحدهما أن يكون بفعل الله كالصغير يكبر والمهزول يسمن والعيب يذهب. والثاني أن يكون مما أحدثه الغاصب. فأما الأول فإنه ليس بفوت. وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب فإنه ينقسم فيما رواه ابن القاسم عن مالك إلى قسمين: أحدهما أن يكون قد جعل فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ في الثوب والنقش في البناء وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يكون قد جعل فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها توابيت. فأما الوجه الأول، وهو أن يجعل فيه من ماله ما له عين قائمة، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون ذلك الشيء مما يمكنه إعادته على حاله كالبقعة يبنيها وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يقدر على إعادته كالثوب يصبغه والسويق يلته فأما الوجه الأول فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ماله فيها مما جعله من نقض أو غيره، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ماله فيها من النقض مقلوعا بعد حط أجر القلع، وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بغيره، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل إنه لا يحط من ذلك أجر القلع، هذا إن كانت له قيمة، وأما إن لم تكن له قيمة لم يكن للغاصب على المغصوب فيه شيء، لأن من حق المغصوب أن يعيد له الغاصب ما غصب منه على هيئته، فإن لم يطالبه بذلك لم يكن له مقال.

وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ ثوبه وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته في السمن وما أشبه ذلك من الطعام، فلا يخير فيه لما يدخله من الربا ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل، أو القيمة فيما لا مثل له. وأما الوجه الثاني من التقسيم الأول، وهو أن لا يكون أحدث الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل، فإن ذلك أيضا ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه بمنزلة الخياطة في الثوب أو الرفولة (1) والثاني أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه كالخشبة يعمل منها تابوتا والقمح يطحنه والغزل ينسجه والفضة يصوغها حليا أو دراهم فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب، ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا، وأما الوجه الثاني فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه أو مثله فيما له مثل هذا تفصيل مذهب ابن القاسم في هذا المعنى؛ وأشهب يجعل ذلك كله للمغصوب، أصله مسألة البنيان فيقول: إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحين.

وقد روي عن ابن عباس أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب فيه القيمة يوم الغصب، وقد قيل إنهما يكونان شريكين، هذا بقيمة الصبغ، وهذا بقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وإن أبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب، وهذا القول أنكره ابن القاسم في المدونة في كتاب اللقطة وقال: إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة جلية. وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول: إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب، ويضمن للمغصوب مقدار النقصان، وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل ماله الغاصب من أجل غصبه، وسواء كان منفعة أو عينا، إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" لكن هذا مجمل، ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه، أعني ماله المتعلق بالمغصوب، فهذا هو حكم الواجب في عين المغصوب تغير أو لم يتغير. وأما حكم غلته، فاختلف في ذلك في المذهب على قولين: أحدهما أن حكم الغلة حكم الشيء المغصوب، والثاني أن حكمهما بخلاف الشيء المغصوب؛ فمن ذهب إلى أن حكمهما حكم الشيء المغصوب وبه قال أشهب من أصحاب مالك يقول: إنما تلزمه الغلة يوم قبضها أو أكثر مما انتهت إليه بقيمتها على قول من يرى أن الغاصب يلزمه أرفع القيم من يوم غصبها لا قيمة الشيء المغصوب يوم الغصب.

----------

(1) ["الرفولة": الأصل غير واضح، فليتنبه. دار الحديث.]

----------

وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة بخلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب، وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه. وتحصيل مذهب هؤلاء في حكم الغلة هو أن الغلال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها غلة متولدة عن الشيء المغصوب على نوعه وخلقته وهو الولد، وغلة متولدة عن الشيء لا على صورته، وهو مثل الثمر ولبن الماشية وجبنها وصوفها، وغلال غير متولدة بل هي منافع، وهي الأكرية والخراجات وما أشبه ذلك. فأما ما كان على خلقته وصورته فلا خلاف أعلمه أن الغاصب يرده كالولد مع الأم المغصوبة وإن كان ولد الغاصب. وإنما اختلفوا في ذلك إذا ماتت الأم، فقال مالك: هو مخير بين الولد وقيمة الأم؛ وقال الشافعي: بل يرد الولد وقيمة الأم وهو القياس. وأما إن كان متولدا على غير خلقة الأصل وصورته ففيه قولان: أحدهما أن للغاصب ذلك المتولد. والثاني أنه يلزمه رده مع الشيء المغصوب إن كان قائما أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا من قوله، فإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه بقيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذه بالغلة ولا شيء له من القيمة. وأما ما كان غير متولد، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. والثاني أنه يلزمه رده من غير تفصيل أيضا. والثالث أنه يلزمه الرد إن أكرى، ولا يلزمه الرد إن انتفع أو عطل. والرابع يلزمه إن أكرى أو انتفع. ولا يلزمه إن عطل.

والخامس الفرق بين الحيوان والأصول، أعني أنه يرد قيمة منافع الأصول، ولا يرد قيمة منافع الحيوان، وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع عينها وقيامها. وأما من ما اغتل منها بتصريفها وتحويل عينها كالدنانير فيغتصبها فيتجر بها فيربح، فالغلة قولا واحدا في المذهب؛ وقال قوم: الربح للمغصوب وهذا أيضا إذا قصد غصب الأصل. وأما إذا قصد غصب الغلة دون الأصل فهو ضامن للغلة بإطلاق، ولا خلاف في ذلك سواء عطل أو انتفع أو أكرى، كان مما يزال به أو بما لا يزال به؛ وقال أبو حنيفة: إنه من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه، وهذا قوله في كل ما ينقل ويحول، فإنه لما رأى أنه قد ضمنه بالتعدي وصار في ذمته جازت له المنفعة كما تقول المالكية فيما تجر به من المال المغصوب، وإن كان الفرق بينهما أن الذي تجر به تحولت عينه، وهذا لم تتحول عينه. وسبب اختلافهم في هل يرد الغاصب الغلة أو لا يردها اختلافهم في تعميم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا خرج على سبب، وهو في غلام قيم فيه بعيب، فأراد الذي صرف عليه أن يرد المشتري غلته، وإذا خرج العام على سبب هل يقصر على سببه أم يحمل على عمومه؟ فيه خلاف بين فقهاء الأمصار مشهور، فمن قصر ههنا هذا الحكم على سببه قال: إنما تجب الغلة من قبل الضمان فيما صار إلى الإنسان بشبهة، مثل أن يشتري شيئا فيستغله فيستحق منه. وأما ما صار إليه بغير وجه شبهة فلا تجوز له الغلة لأنه ظالم، وليس لعرق ظالم حق، فعمم هذا الحديث في الأصل والغلة: أعني عموم هذا الحديث وخصص الثاني. وأما من عكس الأمر فعمم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" على أكثر من السبب الذي خرج عليه، وخصص قوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" بأن جعل ذلك في الرقبة دون الغلة قال: لا يرد الغلة الغاصب.

وأما من المعنى كما تقدم من قولنا فالقياس أن تجري المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدا، وأن يعتبر التضمن أو لا يعتبر. وأما سائر الأقاويل التي بين هذين فهي استحسان. وأجمع العلماء على أن من اغترس نخلا أو ثمرا بالجملة ونباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع لما ثبت من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" والعرق الظالم عندهم هو ما اغترس في أرض الغير. وروى أبو داود في هذا الحديث زيادة عن عروة: ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخلة منها" قال: فلقد رأيتها وإنما لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها، إلا ما روي في المشهور عن مالك "أن من زرع زرعا في أرض غيره وفات أوان زراعته لم يكن لصاحب الأرض أن يقلع زرعه، وكان على الزراع كراء الأرض. وقد روي عنه ما يشبه قياس قول الجمهور، وعلى قوله: إن كل ما لا ينتفع الغاصب به إذا قلعه وأزاله أنه للمغصوب يكون الزرع على هذا للزارع. وفرق قوم بين الزرع والثمار فقالوا: الزارع في أرض غيره له نفقته وزريعته، وهو قول كثير من أهل المدينة، وبه قال أبو عبيد وروي عن رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء". واختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال: أحدها أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته. والثاني أن لا ضمان عليه. والثالث أن الضمان على أرباب البهائم بالليل، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار.

والرابع وجوب الضمان في غير المنفلت ولا ضمان في المنفلت، وممن قال: يضمن بالليل ولا يضمن بالنهار مالك والشافعي؛ وبأن لا ضمان عليهم أصلا قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وبالضمان بإطلاق قال الليث، إلا أن الليث قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، والقول الرابع مروي عن عمر رضي الله عنه. فعمدة مالك والشافعي في هذا الباب شيئان: أحدهما قوله تعالى {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا بالليل، وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا. والثاني مرسله عن ابن شهاب "أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط بالنهار حفظها، وإن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها" أي مضمون. وعمدة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام "العجماء جرحها جبار" وقال الطحاوي: وتحقيق مذهب أبي حنيفة أنه لا يضمن إذا أرسلها محفوظة، فأما إذا لم يرسلها محفوظة فيضمن؛ والمالكية تقول: من شرط قولنا أن تكون الغنم في المسرح وأما إذا كانت في أرض مزرعة لا مسرح فيها فهم يضمنون ليلا ونهارا وعمدة من رأى الضمان فيما أفسدت ليلا ونهارا شهادة الأصول له، وذلك أنه تعد من المرسل، والأصول على أن على المتعدي الضمان، ووجه من فرق بين المنفلت وغير المنفلت بين، فإن المنفلت لا يملك. فسبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسمع، ومعارضة السماع بعضه لبعض، أعني أن الأصل يعارض "جرح العجماء جبار" ويعارض أيضا التفرقة التي في حديث البراء، وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض أيضا قوله "جرح العجماء جبار".

(يتبع...)

@(تابع... 1): -والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل... ...

ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في حكم ما يصاب من أعضاء الحيوان، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها، وكتب إلى شريح فأمره بذلك، وبه قال الكوفيون، وقضى به عمر بن عبد العزيز؛ وقال الشافعي ومالك: يلزم فيما أصيب من البهيمة ما نقص في ثمنها قياسا على التعدي في الأموال؛ والكوفيون اعتمدوا في ذلك على قول عمر رضي الله عنه وقالوا: إذا قال الصاحب قولا ولا مخالف له من الصحابة وقوله مع هذا مخالف للقياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه إنما صار إلى القول به من جهة التوقيف، فسبب الخلاف إذا معارضة القياس لقول الصاحب. ومن هذا الباب اختلافهم في الجمل الصئول وما أشبهه يخاف الرجل على نفسه فيقتله، هل يجب عليه غرمه أم لا؟ فقال مالك والشافعي: لا غرم عليه إذا بان أنه خافه على نفسه؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يضمن قيمته على كل حال. وعمدة من لم ير الضمان القياس على من قصد رجلا فأراد قتله، فدافع المقصود عن نفسه فقتل في المدافعة القاصد المتعدي أنه ليس عليه قود، وإذا كان ذلك في النفس كان في المال أحرى، لأن النفس أعظم حرمة من المال، وقياسا أيضا على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال وتمسك به حذاق أصحاب الشافعي. وعمدة أبي حنيفة أن الأموال تضمن بالضرورة إليها، أصله المضطر إلى طعام الغير ولا حرمة للبعير من جهة ما هو ذو نفس. ومن هذا الباب اختلافهم في المكرهة على الزنى، هل على مكرهها مع الحد صداق أم لا؟ فقال مالك والشافعي والليث: عليه الصداق والحد جميعا؛ وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الحد ولا صداق عليه، وهو قول ابن شبرمة. وعمدة مالك أنه وجب عليه حقان: حق لله وحق للآدمي، فلم يسقط أحدهما الآخر، أصله السرقة التي يجب بها عندهم غرم المال والقطع. وأما من لم يوجب الصداق، فتعلق في ذلك بمعنيين: أحدهما أنه إذا اجتمع حقان: حق لله وحق للمخلوق سقط حق المخلوق لحق الله، وهذا على رأي الكوفيين في أنه لا يجمع على السارق غرم وقطع. والمعنى الثاني أن الصداق ليس مقابل البضع، وإنما هو عبادة إذ كان النكاح شرعيا، وإذا كان ذلك كذلك فلا صداق في النكاح الذي على غير الشرع. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب من غصب أسطوانة فبنى عليها بناء يساوي قائما أضعاف قيمة الأسطوانة، فقال مالك والشافعي: يحكم على الغاصب بالهدم ويأخذ المغصوب منه أسطونته؛ وقال أبو حنيفة: تفوت بالقيمة كقول مالك فيمن غير المغصوب بصناعة لها قيمة كثيرة؛ وعند الشافعي لا يفوت المغصوب بشيء من الزيادة. وهنا انقضى هذا الكتاب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الاستحقاق.

@-وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق، وتحصيل أصول هذا الكتاب أن الشيء المستحق من يد إنسان بما تثبت به الإشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الإنسان الذي استحق من يده الشيء المستحق بشراء أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشيء أقله أو كله أو جله، ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير، ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون. فأما إن كان استحق منه أقله، فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجميع. وأما إن كان استحق كله أو جله، فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه إن كان اشتراه بثمن، وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير، فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء، وإن كان المال المستحق قد بيع، فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه، فهذا هو حكم المستحق والمستحق من يده ما لم يتغير الشيء المستحق، فإن تغير الشيء المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان. فأما إن كان تغير بزيادة فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشيء، أو بزيادة من ذات الشيء. فأما الزيادة من ذات الشيء فيأخذها المستحق، مثل أن تسمن الجارية أو يكبر الغلام. وأما الزيادة من قبل المستحق منه، فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده، فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين، هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب. وأما إن كانت الزيادة ولادة من قبل المستحق منه، مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة، فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد، واختلفوا في أخذ قيمتهم. وأما الأم فقيل يأخذها بعينها، وقيل يأخذ قيمتها. وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره، وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره، لأن الغرر لم يتعلق بالولد. وأما غلة الشيء المستحق، فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه، وأعني بالضمان أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده. وأما إذا كان غير ضامن، مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده فإنه يرد الغلة. وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية، فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان: أنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع، ويضمن إذا وجد على من يرجع. وأما من أي وقت تصح الغلة للمستحق؟ فقيل يوم الحكم، وقيل من يوم ثبوت الحق، وقيل من يوم توقيفه. وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده، فقيل إنها للمستحق ما لم تقطف، وقيل ما لم تيبس، وقيل ما لم يطب ويرجع عليه بما سقى وعالج المستحق من يديه، وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الإبار. وأما إن كان اشتراها بعد الإبار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج؛ وقال أشهب: هي للمستحق ما لم تجذ. والأرض إذا استحقت، فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض. وأما إذا خرج الإبان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه. وأما إن كان بغير نقصان، فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شيء على المستحق من يديه. وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر، فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض. قال القاضي: ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه، وهي أصولهم في هذا الباب، ولكن يجيء على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشتري بعرض، وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته، وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل؛ وكذلك يجيء على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير، لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض. كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الهبات

@-والنظر في الهبة: في أركانها، وفي شروطها، وفي أنواعها، وفي أحكامها. ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة.

@-فنقول: أما الأركان فهي ثلاثة: الواهب والموهوب له، والهبة. وأما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك، وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد. واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس. أما المريض فقال الجمهور: إنها في ثلثه تشبيها بالوصية، أعني الهبة التامة بشروطها. وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر: أن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات، ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة. وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام "في الذي أعتق ستة أعبد عند موته، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق ثلثهم وأرق الباقي" وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال: أعني حال الإجماع، وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة، والحديث عندهم محمول على الوصية، والأمراض التي يحجز فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة، وكذلك عند مالك الحالات المخوفة، مثل الكون بين الصفين، وقرب الحامل من الوضع، وراكب البحر المرتج، وفيه اختلاف. وأما الأرض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير، وقد تقدم هذا في كتاب الحجر. وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية. وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه. واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي.

واختلفوا في تفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة، أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون البعض، فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له، ولكن إذا وقع عندهم جاز؛ وقال أهل الظاهر: لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله؛ وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض. ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير، وهو حديث متفق على صحته، وإن كان قد اختلف في ألفاظه، والحديث أنه قال "إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارتجعه" واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ، قالوا: والارتجاع يقتضي بطلان الهبة. وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام "هذا جور". وعمدة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى. واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ وعشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هواليوم مال وارث. قالوا: وذلك الحديث المراد به الندب، والدليل على ذلك أن في بعض رواياته: "ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري".

وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب، فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله. فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد، وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم، كما يقتضي الأمر الوجوب؛ فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب، أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك، ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس، وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية. وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا: بتحريم التفضيل في الهبة. واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: تصح؛ وقال أبو حنيفة: لا تصح. وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع. وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن، ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر؛ وقال الشافعي: ما جاز بيعه جازت هبته كالدين، وما لم يجز بيعه لم تجز هبته، وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعي لا تصح هبته كالدين والرهن، وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع. ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه. وأما الشروط فأشهرها القبض، أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب؛ وقال مالك: ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة، وله إذا باع تفصيل إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب.

فمالك: القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها أصلا، لا من شرط تمام ولا من شرط صحة، وهو قول أهل الظاهر. وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون. فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع، وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض. وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم، وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة. وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحدا، وإن مات قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها للمنحول له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة، وهو قول علي، قالوا: وهو إجماع من الصحابة، لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف. وأما مالك فاعتمد الأمرين جميعا: أعني القياس وما روي عن الصحابة، وجمع بينهما، فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض، ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام، ومن حق الموهوب له، وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه. وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يجوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهم، وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والإعلان بذلك، وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين.

والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال: من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها؛ وقال مالك وأصحابه: لابد من الحيازة في المسكون والملبوس، فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها، وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة، وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء، أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده. وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عن مالك، فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره، وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود. ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب. واختلفوا في الأم؛ فقال ابن القاسم: لا تقوم مقام الأب، ورواه عن مالك؛ وقال غيره من أصحابه: تقوم، وبه قال أبو حنيفة؛ وقال الشافعي: الجد بمنزلة الأب، والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم، والأم عنده تقوم مقام الأب.

*3*القول في أنواع الهبات.

@-والهبة منها ما هي هبة عين، ومنها ما هي هبة منفعة. وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب، ومنها ما لا يقصد بها الثواب. والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد بها وجه الله، ومنها ما يقصد به وجه المخلوق. فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها، وإنما اختلفوا في أحكامها. وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها؛ فأجازها مالك وأبو حنيفة؛ ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور. وسبب الخلاف هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن؟ فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من نوع بيوع الغرر التي لا تجوز، ومن لم ير أنها بيع مجهول قال: يجوز وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر على ما سيأتي بعد، فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد، والأول هو المشهور عن مالك. وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك، وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. وأما هبات المنافع فمنها ما هي مؤجلة، وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك، ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له، وهذه تسمى العمري، مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار حياته، وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها هبة مبتوتة: أي هبة للرقبة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة. والقول الثاني أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت الرقبة للمعمِر أو إلى ورثته، وبه قال مالك وأصحابه، وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذا انقطع العقب إلى المعمِر أو إلى ورثته. والقول الثالث أنه إذا قال: هي عمري لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا للمعمر، فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمِر أو لورثته، وبه قال داود وأبو ثور وسبب الخلاف في هذا الباب اختلاف الآثار ومعارضة الشرط والعمل للأثر. أما الأثر ففي ذلك حديثان: أحدهما متفق على صحته، وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا" لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. والحديث الثاني حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته" وقد روي عن جابر بلفظ آخر "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته" فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر. وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة، وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية، فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر، وحديث مالك عن جابر ومن غلب الشرط قال بقول مالك؛ وأما من قال إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب، ولا تعود إن ذكر، فإنه أخذ بظاهر الحديث. وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه، أعني رواية أبي الزبير عن جابر. وأما إذا أتى بلفظ الإسكان فقال: أسكنتك هذه الدار حياتك، فالجمهور على إن الإسكان عندهم أو الإخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب، فسوى مالك بين التعمير والإسكان. وكان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمري. والحق أن الإسكان والتعمير معنى المفهوم منهما واحد، وأنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفا له إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر.

*3*القول في الأحكام.

@-ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة، وهو الرجوع فيها. فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق الغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر؛ وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذي رحم محرمة عليه. وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لأحد الرجوع فيها. وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض الآثار؛ فمن لم ير الاعتصار أصلا احتج بعموم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد" وقاس الأم على الوالد؛ وقال الشافعي: لو اتصل حديث طاوس لقلت به؛ وقال غيره: قد اتصل من طريق حسين المعلم، وهو ثقة. وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوي الرحم المحرمة، فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها. وقالوا أيضا فإن الأصل أن من وهب شيئا عن غير عوض أنه لا يقضي عليه به كما لو وعد، إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة. وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها. وفي مرسلات مالك أن رجلا أنصاريا من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل، فسأل عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "قد أجرت في صدقتك وخذها بميراثك" وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت "كنت قد تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت لي تلك الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث" وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاعتصار لأحد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لعمر "لا تشتره في الفرس الذي تصدق به، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" والحديث متفق على صحته. قال القاضي: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق. وهذا القدر كاف في هذا الباب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الوصايا

@-والنظر فيها أولا ينقسم قسمين القسم الأول: النظر في الأركان. والثاني: في الأحكام. ونحن فإنما نتكلم من هذه فيما وقع فيها من المسائل المشهورة.

*3*القول في الأركان.

@-والأركان أربعة: الموصي والموصى له، والموصى به، والوصية. أما الموصي فاتفقوا على أنه كل مالك صحيح الملك، ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب؛ وقال أبو حنيفة لا تجوز وصية الصبي الذي لم يبلغ، وعن الشافعي القولان وكذلك وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم. وأما الموصى له فإنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" واختلفوا هل تجوز لغير القرابة؟ فقال جمهور العلماء: إنها تجوز لغير الأقربين مع الكراهية، وقال الحسن وطاوس: ترد الوصية على القرابة، وبه قال إسحق، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى {الوصية للوالدين والأقربين} والألف واللام تقتضي الحصر. واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المشهور وهو "أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه عند موته لامال له غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة" والعبيد غير القرابة. وأجمعوا - كما قلنا - أنها لا تجوز لوارث إذا لم يجزها الورثة. واختلفوا - كما قلنا - إذا أجازتها الورثة، فقال الجمهور: تجوز، وقال أهل الظاهر والمزني: لا تجوز. وسبب الخلاف هل المنع لعلة الورثة أو عبادة؟ فمن قال عبادة قال: لا تجوز وإن أجازها الورثة؛ ومن قال بالمنع لحق الورثة أجازها الورثة؛ وتردد هذا الخلاف راجع إلى تردد المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" هل هو معقول المعنى أم ليس بمعقول؟ واختلفوا في الوصية للميت، فقال قوم: تبطل بموت الموصى له، وهم الجمهور؛ وقال قوم: لا تبطل وفي الوصية للقاتل خطأ وعمدا وفي هذا الباب فرع مشهور، وهو إذا أذن الورثة للميت هل لهم أن يرجعوا في ذلك بعد موته؟ فقيل لهم، وقيل ليس لهم، وقيل بالفرق بين أن يكون الورثة في عيال الميت أو لا يكونوا، أعني إنهم إن كانوا في عياله كان لهم الرجوع، والثلاثة الأقوال في المذهب.

*3*القول في الموصى به والنظر في جنسه وقدره.

@-أما جنسه فإنهم اتفقوا على جواز الوصية في الرقاب، واختلفوا في المنافع فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز؛ وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة. وعمدة الجمهور أن المنافع في معنى الأموال. وعمدة الطائفة الثانية أن المنافع متنقلة إلى ملك الوارث، لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر. وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة وفي القدر المستحب منها، هل هو الثلث أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له وارث بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم "أنه عاد سعد بن أبي وقاص فقال له يا رسول الله: قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ، فقال له سعد: فالشطر؟ قال: لا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فصار الناس لمكان هذا الحديث إلى أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، واختلفوا في المستحب من ذلك، فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث "والثلث كثير" وقال بهذا كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس، وأوصى عمر بالربع، والخمس أحب إلي. وأما من ذهب إلى أن المستحب هو الثلث فإنهم اعتمدوا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث. وثبت عن ابن عباس أنه قال: لوغض الناس في الوصية من الثلث إلى الربع لكان أحب إلي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الثلث والثلث كثير". وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكا لا يجيز ذلك والأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحق، وهو قول ابن مسعود. وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص، وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس. كما قال عليه الصلاة والسلام "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فمن جعل هذا السبب خاصا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة؛ ومن جعل الحكم عبادة وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث.

*3*القول في المعنى الذي يدل عليه لفظ الوصية.

@-والوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو لأشخاص بعد موته أو عتق غلامه سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد عندهم هو من العقود الجائزة باتفاق، أعني أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به، إلا المدبر فإنهم اختلفوا فيه على ما سيأتي في كتاب التدبير، وأجمعوا على أنه لا يجب للموصى له إلا بعد موت الموصي. واختلفوا في قبول الموصى له هل هو شرط في صحتها أم لا؟ فقال مالك: قبول الموصى له إياها شرط في صحة الوصية؛ وروي عن الشافعي أنه ليس القبول شرطا في صحتها، ومالك شبهها بالهبة.

*3*القول في الأحكام.

@-وهذه الأحكام منها لفظية، ومنها حسابية، ومنها حكمية. فمن مسائلهم المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث، فقال الورثة: ذلك الذي عين أكثر من الثلث، فقال مالك: الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت؛ وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود. وعمدتهم أن للوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق، فكيف ينقل عن ملكه ما وجب له بغير طيب نفس منه وتغير الوصية. وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعوه، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وذلك أنه قال: إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشيء الموصى به وكان شريكا للورثة، وإن كان الثلث فأقل جبروا على إخراجه، وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشيء الموصى به هو فرق الثلث، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما وصى له به، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت، إما في ذلك الشيء بعينه، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث. وسبب الخلاف أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شيء بعينه، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا، وهذا هو الأولى إذا قلنا إن التعدي هو في التعيين لكونه أكثر من الثلث، أعني أن الواجب أن يسقط التعيين. وإما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها وإذا وصى بها فهل هي من الثلث، أو من رأس المال؟ فقال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزمه الورثة إخراجها، وقال الشافعي: يلزم الورثة إخراجها من رأس المال، وإذا وصى بها، فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عنده من الثلث، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق أن يقضى" وكذلك الكفارات الواجبة والحج الواجب عنده، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق، وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة، أعني في توصيته بإخراجها، قال: ولو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره إذا دنا من الموت وصى بها فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها؛ وقال أبو حنيفة: هي وسائر الوصايا سواء، يريد في المحاصة. واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم. واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم. ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد للورثة الزائد، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا؛ وقال أبو حنيفة: بل يقتسمان الثلث بالسوية. وسبب الخلاف هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة؟ فمن قال يبطل في نفسه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذا كان مشاعا قال: يقتسمون المال أخماسا؛ ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال: يقتسمون الباقي على السواء. ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم، وعند الشافعي تكون في المالين. وسبب الخلاف هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم، أو ما علم فقط؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم. وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للإمام أن يوصي بها.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الفرائض.

@-والنظر في هذا الكتاب، فيمن يرث، وفيمن لا يرث. ومن يرث هل يرث دائما، أو مع وارث دون وارث؛ وإذا ورث مع غيره فكم يرث وكذلك إذا ورث وحده كم يرث؟ وإذا ورث مع وارث، فهل يختلف ذلك بحسب وارث وارث أو لا يختلف؟. والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض، والسبيل الحاضرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس وحكمه مع سائر الأجناس الباقية، مثال ذلك أن ينظر إلى الولد إذا انفرد كم ميراثه، ثم ينظر حاله مع سائر الأجناس الباقية من الوارثين. فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة: ذو نسب وأصهار، وموالي. فأما ذوو النسب، فمنها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي الفروع: أعني الأولاد، والأصول: أعني الآباء والأجداد ذكورا كانوا أو إناثا، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى: أعني الإخوة ذكورا أو إناثا، أو المشاركة الأدنى أو الأبعد في أصل واحد وهم الأعمام وبنو الأعمام، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ومن النساء سبعة؛ أما الرجال: فالابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ من أي جهة كان: أعني للأم والأب أو لأحدهما وابن الأخ وإن سفل والعم وابن العم وإن سفل والزوج ومولى النعمة. وأما النساء: فالابنة وابنة الابن وإن سفلت والأم والجدة وإن علت والأخت والزوجة والمولاة. وأما المختلف فيهم فهم ذوو الأرحام، وهم من لا فرض لهم في كتاب الله ولا هم عصبة، وهم بالجملة بنو البنات وبنات الإخوة وبنو الأخوات وبنات الأعمام والعم أخو الأب للأم فقط وبنو الأخوة للأم والعمات والخالات والأخوال؛ فذهب مالك والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار وزيد بن ثابت من الصحابة إلى أنه لا ميراث لهم؛ وذهب سائر الصحابة وفقهاء العراق والكوفة والبصرة وجماعة العلماء من سائر الآفاق إلى توريثهم. والذين قالوا بتوريثهم اختلفوا في صفة توريثهم؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى توريثهم على ترتيب العصبات، وذهب سائر من ورثهم إلى التنزيل، وهو أن ينزل كل من أدلى منهم بذي سهم أو عصبة بمنزلة السبب الذي أدلى به. وعمدة مالك ومن قال بقوله أن الفرائض لما كانت لا مجال للقياس فيها كان الأصل أن لا يثبت فيها شيء إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وجميع ذلك معدوم في هذه المسألة. وأما الفرقة الثانية، فزعموا أن دليلهم على ذلك من الكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} وقوله تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} واسم القرابة ينطلق على ذوي الأحارم، ويرى المخالف أن هذه مخصوصة بآيات المواريث. وأما السنة فاحتجوا بما خرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له". وأما من طريق المعنى فإن القدماء من أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن ذوي الأرحام أولى من المسلمين لأنهم قد اجتمع لهم سببان: القرابة والإسلام، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب، أعني أن من اجتمع له سببان أولى ممن له سبب واحد. وأما أبو زيد ومتأخرو أصحابه فشبهوا الإرث بالولاية وقالوا: لما كانت ولاية التجهيز والصلاة والدفن للميت عند فقد أصحاب الفروض والعصبات لذوي الأرحام وجب أن يكون لهم ولاية الإرث، وللفريق الأول اعتراضات في هذه المقاييس فيها ضعف. وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في ذكر جنس جنس من أجناس الوارثين، ونذكر من ذلك ما يجري مجرى الأصول من المسائل المشهورة المتفق عليها والمختلف فيها.

@-(ميراث الصلب) وأجمع المسلمون على أن ميراث الولد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورا وإناثا معا هو أن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الابن الواحد إذا انفرد فله جميع المال، وأن البنات إذا انفردن فكانت واحدة أن لها النصف، وإن كن ثلاثا فما فوق ذلك فلهن الثلثان. واختلفوا في الاثنتين فذهب الجمهور إلى أن لهما الثلثين، وروي عن ابن عباس أنه قال: للبنتين النصف. والسبب في اختلافهم تردد المفهوم في قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} هل حكم الاثنتين المسكوت عنه يلحق بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة؟ والأظهر من باب دليل الخطاب أنهما لاحقان بحكم الواحدة؛ وقد قيل إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور وقد روي عن ابن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حاتم بن عبد الله وعن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين الثلثين" قال فيما أحسب أبو عمر ابن عبد البر وعبد الله بن عقيل: قد قبل جماعة من أهل العلم حديثه وخالفهم آخرون. وسبب الاتفاق في هذه الجملة قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} إلى قوله {وإن كانت واحدة فلها النصف} وأجمعوا من هذا الباب على أن بني البنين يقومون مقام البنين عند فقد البنين يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون، إلا شيء روي عن مجاهد أنه قال: ولد الابن لا يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كما يحجب الولد نفسه ولا الزوجة من الربع إلى الثمن، ولا الأم من الثلث إلى السدس. وأجمعوا على أنه ليس لبنات الابن ميراث مع بنات الصلب إذا استكمل بنات المتوفي الثلثين. واختلفوا إذا كان مع بنات الابن ذكر ابن ابن في مرتبتهن أو أبعد منهن، فقال جمهور فقهاء الأمصار: إنه يعصب بنات الابن فيما فضل عن بنات الصلب فيقسمون المال للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت من الصحابة. وذهب أبو ثور وداود أنه إذا استكمل البنات الثلثين أن الباقي لابن الابن دون بنات الابن كن في مرتبة واحدة مع الذكر أو فوقه أو دونه. وكان ابن مسعود يقول في هذه {للذكر مثل حظ الانثيين} إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس فلا تعطي إلا السدس. وعمدة الجمهور عموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين} وأن ولد الولد ولد من طريق المعنى، وأيضا لما كان ابن الابن يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصب في الفاضل من المال. وعمدة داود وأبي ثور حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" ومن طريق المعنى أيضا أن بنت الابن لما لم ترث مفردة من الفاضل عن الثلثين كان أحرى أن لا ترث مع غيرها، وسبب اختلافهم تعارض القياس والنظر في الترجيح. وأما قول ابن مسعود فمبني على أصله في أن بنات الابن لما كن لا يرثن مع عدم الابن أكثر من السدس لم يجب لهن مع الغير أكثر مما وجب لهن مع الانفراد، وهي حجة قريبة من حجة داود، والجمهور على أن ذكر ولد الابن يعصبهن كان في درجتهن أو أطرف منهن. وشذ بعض المتأخرين فقال: لا يعصبهن إلا إذا كان في مرتبتهن. وجمهور العلماء على أنه إذا ترك المتوفي بنتا لصلب وبنت ابن أو بنات ابن ليس معهن ذكر أن لبنات الابن السدس تكملة الثلثين، وخالفت الشيعة في ذلك فقالت: لا ترث بنت الابن مع البنت شيئا كالحال في ابن الابن مع الابن، فالاختلاف في بنات الابن في موضعين: مع بني الابن، ومع البنات فيما دون الثلثين وفوق النصف. فالمتحصل فيهن إذا كن مع بني الابن أنه قيل يرثن، وقيل لا يرثن؛ وإذا قيل يرثن فقيل يرثن تعصيبا مطلقا، وقيل يرثن تعصيبا إلا أن يكون أكثر من السدس؛ وإذا قيل يرثن فقيل أيضا إذا كان ابن الابن في درجتهن وقيل كيفما كان، والمتحصل في وراثتهن مع عدم ابن الابن فيما فضل عن النصف إلى تكملة الثلثين قيل يرثن، وقيل لا يرثن.

@-(ميراث الزوجات) وأجمع العلماء على أن ميراث الرجل من امرأته إذا لم تترك ولدا ولا ولد ابن النصف ذكرا كان الولد أو أنثى، إلا ما ذكرنا عن مجاهد، وأنها إن تركت ولدا فله الربع، وأن ميراث المرأة من زوجها إذا لم يترك الزوج ولد ولا ولد ابن الربع، فإن ترك ولدا أو ولد ابن فالثمن، وأنه ليس يحجبهن أحد عن الميراث ولا ينقصهن إلا الولد، وهذا لورود النص في قوله تعالى {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} الآية.

@-(ميراث الأب والأم) وأجمع العلماء على أن الأب إذا انفرد كان له جميع المال، وأنه إذا انفرد الأبوان كان للأم الثلث وللأب الباقي لقوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} وأجمعوا على أن فرض الأبوين من ميراث ابنهما إذا كان للابن ولد أو ولد ابن السدسان، أعني أن لكل واحد منهما السدس لقوله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} والجمهور على أن الولد هو الذكر دون الأنثى وخالفهم في ذلك من شذ؛ وأجمعوا على أن الأب لا ينقص مع ذوي الفرائض من السدس وله ما زاد؛ وأجمعوا من هذا الباب على أن الأم يحجبها الإخوة من الثلث إلى السدس لقوله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} . واختلفوا في أقل ما يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الأخوة، فذهب علي رضي الله عنه وابن مسعود إلى أن الأخوة الحاجبين هما اثنان فصاعدا، وبه قال مالك وذهب ابن عباس إلى أنهم ثلاثة فصاعدا، وأن الاثنين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والخلاف آيل إلى أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع؛ فمن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع ثلاثة قال: الإخوة الحاجبون ثلاثة فما فوق؛ ومن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان قال: الإخوة الحاجبون هما اثنان أعني في قوله تعالى {فإن كان له أخوة} ولا خلاف أن الذكر والأنثى يدخلان تحت اسم الإخوة في الآية وذلك عند الجمهور. وقال بعض المتأخرين لا أنقل الأم من الثلث إلى السدس بالأخوات المنفردات، لأنه زعم أنه ليس ينطلق عليهن اسم الإخوة إلا أن يكون معهن أخ لموضع تغليب المذكر على المؤنث، إذ اسم الإخوة هو جمع أخ، والأخ مذكر. واختلفوا من هذا الباب فيمن يرث السدس الذي تحجب عنه الأم بالإخوة، وذلك إذا ترك المتوفي أبوين وأخوة، فقال الجمهور: ذلك السدس للأب مع الأربعة الأسداس. وروي عن ابن عباس أن ذلك السدس للأخوة الذين حجبوا، وللأب الثلثان لأنه ليس في الأصول من يحجب ولا يأخذ ما حجب إلا الأخوة مع الآباء، وضعف قوم الإسناد بذلك عن ابن عباس، وقول ابن عباس هو القياس. واختلفوا من هذا الباب في التي تعرف بالغراوين، وهي فيمن ترك زوجة وأبوين، أو زوجا وأبوين؛ فقال الجمهور: في الأولى للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي وهو النصف، وقالوا في الثانية: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال، وللأب ما بقي وهو السدسان، وهو قول زيد والمشهور من قول علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس في الأولى: للزوجة الربع من رأس المال، وللأم الثلث منه أيضا لأنها ذات فرض، وللأب ما بقي لأنه عاصب؛ وقال أيضا في الثانية: للزوج النصف، وللأم الثلث لأنها ذات فرض مسمى، وللأب ما بقي، وبه قال شريح القاضي وداود وابن سيرين وجماعة. وعمدة الجمهور أن الأب والأم لما كانا إذا انفردا بالمال كان للأم الثلث وللأب الباقي، وجب أن يكون الحال كذلك فيما بقي من المال، كأنهم رأوا أن يكون ميراث الأم أكثر من ميراث الأب خروجا عن الأصول. وعمدة الفريق الآخر أن الأم ذات فرض مسمى والأب عاصب، والعاصب ليس له فرض محدود مع ذي الفروض، بل يقل ويكثر، وما عليه الجمهور من طريق التعليل أظهر، وما عليه الفريق الثاني مع عدم التعليل أظهر، وأعني بالتعليل ههنا أن يكون أحق سببي الإنسان أولى بالإيثار: أعني الأب من الأم.

@-(ميراث الإخوة للأم) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأم إذا انفرد الواحد منهم أن له السدس ذكرا كان أو أنثى وأنهم إن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث على السوية، للذكر منهم مثل حظ الأنثى سواء. وأجمعوا على أنهم لا يرثون مع أربعة: وهم الأب والجد أبو الأب وإن علا، والبنون ذكرانهم وإناثهم، وبنو البنين وإن سفلوا ذكرانهم وإناثهم، وهذا كله لقوله تعالى {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت} الآية، وذلك أن الإجماع انعقد على أن المقصود بهذه الآية هم الإخوة للأم فقط. وقد قرئ "وله أخ أو أخت من أمه" وكذلك أجمعوا فيما أحسب ههنا على أن الكلالة هي فقد الأصناف الأربعة التي ذكرناها من النسب: أعني الآباء والأجداد والبنين وبني البنين.

@-(ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأب والأم أو للأب فقط يرثون في الكلالة أيضا. أما الأخت إذا انفردت فإن لها النصف وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، كالحال في البنات، وإنهم إن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كحال البنين مع البنات، وهذا لقوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} إلا أنهم اختلفوا في معنى الكلالة ههنا في أشياء واتفقوا منها في أشياء يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا من هذا الباب على أن الإخوة للأب والأم ذكرانا كانوا أو إناثا أنهم لا يرثون مع الولد الذكر شيئا، ولا مع ولد الولد ولا مع الأب شيئا. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فمنها أنها اختلفوا في ميراث الإخوة للأب والأم مع البنت أو البنات، فذهب الجمهور إلى أنهن عصبة يعطون ما فضل عن البنات؛ وذهب داود بن علي الظاهري وطائفة إلى أن الأخت لا ترث مع البنت شيئا. وعمدة الجمهور في هذا الحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ابنة وابنة ابن وأخت "إن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكميلة الثلثين وما بقي فللأخت". وأيضا من جهة النظر لما أجمعوا على توريث الإخوة مع البنات، فكذلك الأخوات. وعمدة الفريق الآخر ظاهر قوله تعالى {إن امرو هلك ليس له ولد وله أخت} فلم يجعل للأخت شيئا إلا مع عدم الولد، والجمهور حملوا اسم الولد ههنا على الذكور دون الإناث. وأجمع العلماء من هذا الباب على أن الأخوة للأب والأم يحجبون الإخوة للأب عن الميراث قياسا على بني الأبناء مع بني الصلب. قال أبو عمر: وقد روي ذلك في حديث حسن من رواية الآحاد العدول. عن علي رضي الله عنه قال "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" وأجمع العلماء على أن الأخوات للأب والأم إذا استكملن الثلثين فإنه ليس للأخوات للأب معهن شيء كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب، وأنه إن كانت الأخت للأب والأم واحدة فللأخوات للأب ما كن بقية الثلثين وهو السدس. واختلفوا إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فقال الجمهور: يعصبهن ويقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب؛ واشترط مالك أن يكون في درجتهن؛ وقال ابن مسعود: إذا استكمل الأخوات الشقائق الثلثين فالباقي للذكور من الإخوة للأب دون الإناث، وبه قال أبو ثور؛ وخالفه داود في هذه المسألة، مع موافقته له في مسألة بنات الصلب وبني البنين، فإن لم يستكملن الثلثين، فللذكر عنده من بني الأب مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس كالحال في بنت الصلب مع بني الابن. وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي تلك الأدلة بأعيانها. وأجمعوا على أن الإخوة للأب يقومون مقام الإخوة للأب والأم عند فقدهم، كالحال في بني البنين مع البنين، وأنه إذا كان معهن ذكر عصبهن، بأن يبدأ بمن له فرض مسمى، ثم يرثون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين كالحال في البنين إلا في موضع واحد وهي الفريضة التي تعرف بالمشركة، فإن العلماء اختلفوا فيها، وهي امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة للأم الثلث، فيستغرقون المال فيبقى الإخوة للأب والأم بلا شيء، فكانوا يشركون الإخوة للأب والأم في الثلث مع الإخوة للأم يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وبالتشريك قال من فقهاء الأمصار مالك والشافعي والثوري. وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون إخوة الأب والأم في الثلث مع إخوة الأم في هذه الفريضة، ولا يوجبون لهم شيئا فيها، وقال به من فقهاء الأمصار: أبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة. وحجة الفريق الأول أن الأخوة للأب والأم يشاركون الإخوة للأم في السبب الذي به يستوجبون الإرث وهي الأم فوجب أن لا ينفردوا به دونهم، لأنه إذا اشتركوا في السبب الذي به يورثون وجب أن يشتركوا في الميراث. وحجة الفريق الثاني أن الإخوة الشقائق عصبة، فلاشيء لهم إذا أحاطت فرائض ذوي السهام بالميراث. وعمدتهم باتفاق الجميع على أن من ترك زوجا وأما وأخا واحدا لأم وإخوة شقائق عشرة أو أكثر أن الأخ للأم يستحق ههنا السدس كاملا، والسدس الباقي بين الباقين مع أنهم مشاركون له في الأم. فسبب الاختلاف في أكثر مسائل الفرائض هو تعارض المقاييس واشتراك الألفاظ فيما فيه نص.

@-(ميراث الجد) وأجمع العلماء على أن الأب يحجب الجد وأنه يقوم مقام الأب عند عدم الأب مع البنين وأنه عاصب مع ذوي الفرائض. واختلفوا هل يقوم مقام الأب في حجب الإخوة الشقائق، أو حجب الإخوة للأب؟ فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله عنهما وجماعة إلى أنه يحجبهم، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور والمزني وابن سريج من أصحاب الشافعي وداود وجماعة. واتفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن مسعود على توريث الإخوة مع الجد، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك على ما أقوله بعد. وعمدة من جعل الجد بمنزلة الأب اتفاقهما في المعنى، أعني من قبل أن كليهما أب للميت، ومن اتفاقهما في كثير من الأحكام التي أجمعوا على اتفاقهما فيها حتى إنه قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أما يتقي الله زيد ابن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا. وقد أجمعوا على أنه مثله في أحكام أخر سوى الفروض، منها أن شهادته لحفيده كشهادة الأب وأن الجد يعتق على حفيده كما يعتق الأب على الابن، وأنه لا يقتص له من جد كما لا يقتص له من أب. وعمدة من ورث الأخ مع الجد أن الأخ أقرب إلى الميت من الجد، لأن الجد أبو أبي الميت، والأخ ابن أبي الميت، والابن أقرب من الأب. وأيضا فما أجمعوا عليه من أن ابن الأخ يقدم على العم، وهو يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد.

فسبب الخلاف تعارض القياس في هذا الباب. فإن قيل: فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة، كما أن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن، والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك له في الأصل، والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل، والجد ليس هو أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله، والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل الميت، فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله، ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه، والجد أبو الميت، والبنوة إنما هي أقوى في الميراث من الأبوة في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث. وأما البنوة التي تكون لأب موروث، فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث، لأن الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث: أعني بعيدة، وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للموروث لا قريبة ولا بعيدة، فمن قال الأخ أحق من الجد، لأن الأخ يدلي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل، لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما. وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت، وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه، والسبب أملك للشيء من لاحقه. واختلف الذين ورثوا الجد مع الإخوة في كيفية ذلك. فتحصيل مذهب زيد في ذلك أنه لا يخلو أن يكون معه سوى الإخوة ذو فرض مسمى أو لا يكون، فإن لم يكن معه ذو فرض مسمى أعطى الأفضل له من اثنين، إما ثلث المال، وإما أن يكون كواحد من الإخوة الذكور، وسواء كان الإخوة ذكرانا أو إناثا أو الأمرين جميعا فهو مع الأخ الواحد يقاسمه المال، وكذلك مع الاثنين ومع الثلاثة والأربعة يأخذ الثلث، وهو مع الأخت الواحدة إلى الأربع يقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع الخمس أخوات له الثلث، لأنه أفضل له من المقاسمة، فهذه هي حاله مع الإخوة فقط دون غيرهم.

وأما إن كان معهم ذو فرض مسمى فإنه يبدأ بأهل الفروض فيأخذون فروضهم، فما بقي أعطى الأفضل له من ثلاث: إما ثلث ما بقي بعد حظوظ ذوي الفرائض، وإما أن يكون بمنزلة ذكر من الإخوة، وإما أن يعطي السدس من رأس المال لا ينقص منه، ثم ما بقي يكون للإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين في الأكدرية على ما سنذكر مذهبه فيها مع سائر مذاهب العلماء. وأما علي رضي الله عنه فكان يعطي الجد الأحظى له من السدس أو المقاسمة، وسواء كان مع الجد والإخوة غيرهم من ذوي الفرائض أو لم يكن، وإنما لم ينقصه من السدس شيئا، لأنهم لما أجمعوا أن الأبناء لا ينقصونه منه شيئا كان أحرى أن لا ينقصه الإخوة. وعمدة قول زيد أنه لما كان يحجب الإخوة للأم فلم يحجب عما يجب لهم وهو الثلث، وبقول زيد قال مالك والشافعي والثوري وجماعة، وبقول علي رضي الله عنه قال أبو حنيفة. وأما الفريضة التي تعرف بالأكدرية وهي امرأة توفيت وتركت زوجا وأما وأختا شقيقة وجدا فإن العلماء اختلفوا فيها، فكان عمر رضي الله عنه وابن مسعود يعطيان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت النصف وللجد السدس، وذلك على جهة العول. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد يقولان للزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس فريضة، إلا أن زيدا يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد،

وضعف الجميع التشريك الذي قال به زيد في هذه الفريضة، وبقول زيد قال مالك؛ وقيل إنما سميت الأكدرية لتكدر قول زيد فيها، وهذا كله على مذهب من يرى العول، وبالعول قال جمهور الصحابة وفقهاء الأمصار، إلا ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال: أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، وقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن موجبها إلا إلى فريضة أخرى فهي ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالأول مثل الزوجة والأم، والمتأخر مثل الأخوات والبنات، قال: فإذا اجتمع الصنفان بدئ من قدم الله، فإن بقي شيء فلمن أخر الله، وإلا فلا شيء له، وقيل له: فهلا قلت هذا القول لعمر: قال: هبته. وذهب زيد إلى أنه إذا كان مع الجد والإخوة الشقائق إخوة لأب، أن الإخوة الشقائق يعادون الجد بالإخوة للأب، فيمنعونه بهم كثرة الميراث، ولا يرثون مع الإخوة الشقائق شيئا إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فإنها تعادي الجد بأخوتها للأب ما بينهما (هكذا هذه العبارة بالأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه).

وبين أن تستكمل فريضتها وهي النصف، وإن كان فيما يحاز لها ولإخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله، فهو لإخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شيء على النصف فلا ميراث لهم، فأما علي رضي الله عنه فكان لا يلتفت هنا للأخوة للأب للإجماع، على أن الإخوة الشقائق يحجبونهم، ولأن هذا الفعل أيضا مخالف للأصول، أعني أن يحتسب بمن لا يرث، واختلف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الباب في الفريضة التي تدعى الخرقاء، وهي أم وأخت وجد على خمسة أقوال. فذهب أبو بكر رضي الله عنه وابن عباس إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وحجبوا به الأخت، وهذا على رأيهم في إقامة الجد مقام الأب. وذهب علي رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث وللأخت النصف وما بقي للجد. وذهب عثمان إلى أن للأم الثلث وللأخت الثلث وللجد الثلث، وذهب ابن مسعود إلى أن للأخت النصف وللجد الثلث وللأم السدس، وكان يقول معاذ الله أن أفضل أما على جد. وذهب زيد إلى أن للأم الثلث وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.

@-(ميراث الجدات) وأجمعوا على أن للجدة أم الأم السدس مع عدم الأم، وأن للجدة أيضا أم الأب عند فقد الأب السدس، فإن اجتمعا كان السدس بينهما. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فذهب زيد وأهل المدينة إلى أن الجدة أم الأم يفرض لها السدس فريضة، فإذا اجتمعت الجدتان كان السدس بينهما إذا كان قعددهما سواء، أو كانت أم الأب أقعد، فإن كانت أم الأم أقعد: أي أقرب إلى الميت كان لها السدس، ولم يكن للجدة أم الأب شيء، وقد روي عنه أيهما أقعد كان لها السدس، وبه قال علي رضي الله عنه، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة والثوري وأبو ثور، وهؤلاء ليس يورثون إلا هاتين الجدتين المجتمع على توريثهما، وكان الأوزاعي وأحمد يورثان ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتان من قبل الأب أم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد، وكان ابن مسعود يورث أربع جدات: أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد وأم أبي الأم: أعني الجد، وبه قال الحسن وابن سيرين. وكان ابن مسعود يشرك بين الجدات في السدس دنياهن وقصواهن ما لم تكن تحجبها بنتها أو بنت بنتها. وقد روي عنه أنه كان يسقط القصوى بالدنيا إذا كانتا من جهة واحدة. وروي عن ابن عباس أن الجدة كالأم إذا لم تكن أم، وهو شاذ عند الجمهور، ولكن له حظ من القياس. فعمدة زيد وأهل المدينة والشافعي، ومن قال بمذهب زيد ما رواه مالك أنه قال "جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر ابن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله عز وجل شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها" وروى مالك أيضا أنه أتت الجدتان إلى أبي بكر، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما. قالوا: فواجب أن لا يتعدى في هذا هذه السنة وإجماع الصحابة. وأما عمدة من ورث الثلاث جدات فحديث ابن عيينة عن منصور عن إبراهيم " أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث ثلاث جدات: اثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم" وأما ابن مسعود فعمدته القياس في تشبيهها بالجدة للأب لكن الحديث يعارضه. واختلفوا هل يحجب الجدة للأب ابنها وهو الأب؛ فذهب زيد إلى أنه يحجب، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود؛ وقال آخرون: ترث الجدة مع ابنها، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة، وبه قال شريح وعطاء وابن سيرين وأحمد، وهو قول الفقهاء المصريين. وعمدة من حجب الجدة بابنها أن الجد لما كان محجوبا بالأب وجب أن تكون الجدة أولى بذلك. وأيضا فلما كانت أم الأم لا ترث بإجماع مع الأم شيئا كان كذلك أم الأب مع الأب. وعمدة الفريق الثاني ما روى الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: أول جدة أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا جدة مع ابنها وابنها حي قالوا: ومن طريق النظر لما كانت الأم وأم الأم لا يحجبن بالذكور كان كذلك حكم جميع الجدات، وينبغي أن يعلم أن مالكا لا يخالف زيدا إلا في فريضة واحدة، وهي امرأة هلكت وتركت زوجا وأما وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وجدا، فقال مالك: للزوج النصف، وللأم السدس وللجد ما بقي وهو الثلث، وليس للإخوة الشقائق شيء؛ وقال زيد: للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، وما بقي للإخوة الشقائق، فخالف مالك في هذه المسألة أصله من أن الجد لا يحجب الإخوة الشقائق ولا الإخوات للأب. وحجته أنه لما حجب الإخوة للأم عن الثلث الذي كانوا يستحقونه دون الشقائق كان هو أولى به. وأما زيد فعلى أصله في أنه لا يحجبهم.

*3*باب في الحجب.

@-وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب بني الأخ الشقيق، وأن بني الأخ الشقيق يحجبون أبناء الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب أولى من العم أخي الأب، وإبن العم أخي الأب الشقيق أولى من ابن العم أخي الأب للأب، وكل واحد من هؤلاء يحجبون بنيهم، ومن حجب منهم صنفا فهو يحجب من يحجبه ذلك الصنف. وبالجملة، أما الإخوة فالأقرب منهم يحجب الأبعد، فإذا استووا حجب منهم من أدلى بسببين أم وأب من أدلى بسبب واحد وهو الأب فقط؛ وكذلك الأعمام الأقرب منه يحجب الأبعد، فإن استووا حجب منهم من يدلي منهم إلى الميت بسببين من يدلي بسبب واحد، أعني أنه يحجب العم أخو الأب لأب وابن العم الذي هو أخو الأب لأب فقط. وأجمعوا على أن الإخوة الشقائق والإخوة للأب يحجبون الأعمام، لأن الإخوة بنو أب المتوفي، والأعمام بنو جده، والأبناء يحجبون بنيهم، والآباء أجدادهم، والبنون وبنوهم يحجبون الإخوة، والجد يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع، والأب يحجب الإخوة ويحجب من تحجبه الإخوة، والجد يحجب الأعمام بإجماع والإخوة للأم، ويحجب بنو الإخوة الشقائق وبني الإخوة للأب، والبنات وبنات البنين يحجبن الإخوة للأم. واختلف العلماء فيمن ترك ابني عم أحدهما أخ للأم، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري: للأخ للأم السدس من جهة ما هو أخ لأم وهو في باقي المال مع ابن العم الآخر عصبة يقتسمونه بينهم على السواء، وهو قول علي رضي الله عنه وزيد وابن عباس؛ وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالأخوة وبقيته بالتعصيب، لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود وأبو ثور والطبري، وهو قول الحسن وعطاء.

واختلف العلماء في رد ما بقي من مال الورثة على ذوي الفرائض إذا بقيت من المال فضلة لم تستوفها الفرائض ولم يكن هناك من يعصب، فكان زيد لا يقول بالرد ويجعل الفاضل في بيت المال، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال جل الصحابة بالرد على ذوي الفرائض ما عدا الزوج والزوجة وإن كانوا اختلفوا في كيفية ذلك، وبه قال فقهاء العراق من الكوفيين والبصريين. وأجمع هؤلاء الفقهاء على أن الرد يكون لهم بقدر سهامهم، فمن كان له نصف أخذ النصف مما بقي، وهكذا في جزء جزء. وعمدتهم أن قرابة الدين والنسب أولى من قرابة الدين فقط: أي أن هؤلاء اجتمع لهم سببان وللمسلمين سبب واحد. وهناك مسائل مشهورة الخلاف بين أهل العلم فيها تعلق بأسباب المواريث يجب أن نذكرها هنا، فمنها أنه أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد، فذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنه لا يرث المسلم الكافر بهذا الأثر الثابت؛ وذهب معاذ بن جبل ومعاوية من الصحابة وسعيد ابن المسيب ومسروق من التابعين وجماعة إلى أن المسلم يرث الكافر، وشبهوا ذلك بنسائهم، فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ولا يجوز لنا أن ننكحهم نساءنا كذلك الإرث، ورووا في ذلك حديثا مسندا، قال أبو عمر: وليس بالقوى عند الجمهور، وشبهوه أيضا بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ. وأما مال المرتد إذا قتل أو مات، فقال جمهور فقهاء الحجاز هو لجماعة المسلمين ولا يرثه قرابته، وبه قال مالك والشافعي وهو قول زيد من الصحابة.

وقال أبو حنيفة والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين يرثه ورثته من المسلمين وهو قول ابن مسعود من الصحابة وعلي رضي الله عنهما. وعمدة الفريق الأول عموم الحديث، وعمدة الحنفية تخصيص العموم بالقياس، وقياسهم في ذلك هو أن قرابته أولى من المسلمين لأنهم يدلون بسببين: بالإسلام والقرابة، والمسلمون بسبب واحد، وهو الإسلام، وربما أكدوا بما يبقى لما له من حكم الإسلام بدليل أنه لا يؤخذ في الحال حتى يموت فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه، وذلك لا يكون إلا بأن يكون لماله حرمة إسلامية، ولذلك لم يجز أن يقر على الارتداد، بخلاف الكافر، وقال الشافعي وغيره يؤخذ بقضاء الصلاة إذا تاب من الردة في أيام الردة، والطائفة الأخرى تقول: يوقف ماله لأن له حرمة إسلامية، وإنما وقف رجاء أن يعود إلى الإسلام، وأن استيجاب المسلمين لماله ليس على طريق الإرث وشذت طائفة فقالت: ماله للمسلمين عندما يرتد، وأظن أن أشهب ممن يقول بذلك. وأجمعوا على توريث أهل الملة الواحدة بعضهم بعضا. واختلفوا في توريث الملل المختلفة، فذهب مالك وجماعة إلى أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى، وبه قال أحمد وجماعة؛

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والثوري وداود وغيرهم: الكفار كلهم يتوارثون، وكان شريح وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة. وقد روي عن ابن أبي ليلى مثل قول مالك. وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يتوارث أهل ملتين". وعمدة الشافعية والحنفية قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وذلك أن المفهوم من هذا بدليل الخطاب أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر. والقول بدليل الخطاب فيه ضعف وخاصة هنا. واختلفوا في توريث الحملاء، والحملاء هم الذين يتحملون بأولادهم من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أعني أنهم يولدون في بلاد الشرك ثم يخرجون إلى بلاد الإسلام وهم يدعون تلك الولادة الموجبة للنسب، وذلك على ثلاثة أقوال: قول إنهم يتوارثون بما يدعون من النسب، وهو قول جماعة من التابعين وإليه ذهب إسحاق. وقول إنهم لا يتوارثون إلا ببينة تشهد على أنسابهم، وبه قال شريح والحسن وجماعة. وقول إنهم لا يتوارثون أصلا وروي عن عمر الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه أنه كان لا يورث إلا من ولد في بلاد العرب وهو قول عثمان وعمر بن عبد العزيز. وأما مالك وأصحابه فاختلف في ذلك قولهم، فمنهم من رأى أن لا يورثون إلا ببينة، وهو قول ابن القاسم: ومنهم من رأى أن لا يورثون أصلا ولا بالبينة العادلة؛ وممن قال بهذا القول من أصحاب مالك عبد الملك بن الماجشون، وروى ابن القاسم عن مالك في أهل حصن نزلوا على حكم الإسلام، فشهد بعضهم لبعض أنهم يتوارثون، وهذا يتخرج منه أنهم يتوارثون بلا بينة، لأن مالكا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض قال: فأما إن سبوا فلا يقبل قولهم في ذلك وبنحو هذا التفصيل قال الكوفيون والشافعي وأحمد وأبو ثور، وذلك أنهم قالوا: إن خرجوا إلى بلاد الإسلام وليس لأحد عليهم يد قبلت دعواهم في أنسابهم، وأما إن أدركهم السبي والرق فلا يقبل قولهم إلا ببينة. ففي المسألة أربعة أقوال: اثنان طرفان، واثنان مفرقان.

وجمهور العلماء من فقهاء الأمصار ومن الصحابة علي وزيد وعمر أن من لا يرث لا يحجب مثل الكافر والمملوك والقاتل عمدا، وكان ابن مسعود يحجب بهؤلاء الثلاثة دون أن يورثهم أعني بأهل الكتاب وبالعبيد وبالقاتلين عمدا، وبه قال داود وأبو ثور. وعمدة الجمهور أن الحجب في معنى الإرث وأنهما متلازمان. وحجة الطائفة الثانية أن الحجب لا يرتفع إلا بالموت. واختلف العلماء في الذين يفقدون في حرب أو غرق أو هدم ولا يدري من مات منهم قبل صاحبه كيف يتوارثون إذا كانوا أهل ميراث؟ فذهب مالك وأهل المدينة إلى أنهم لا يورث بعضهم من بعض، وأن ميراثهم جميعا لمن بقي من قرابتهم الوارثين أو لبيت المال إن لم تكن لهم قرابة ترث، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فيما حكى عنه الطحاوي. وذهب علي وعمر رضي الله عنهما وأهل الكوفة وأبو حنيفة فيما ذكر غير الطحاوي عنه وجمهور البصريين إلى أنهم يتوارثون، وصفة تواريثهم عندهم أنهم يورثون كل واحد من صاحبه في أصل ماله دون ما ورث بعضهم من بعض، أعني أنه لا يضم إلى مال المورث ما ورث من غيره، فيتوارثون الكل على أنه مال واحد كالحال في الذين يعلم من تقدم بعضهم على بعض، مثال ذلك زوج وزوجة توفيا في حرب أو غرق أو هدم ولكل واحد منهما ألف درهم، فيورث الزوج من المرأة خمسمائة درهم، وتورث المرأة من الألف التي كانت بيد الزوج دون الخمسمائة التي ورث منها ربعها وذلك مائتان وخمسون. ومن مسائل هذا الباب اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنى. فذهب أهل المدينة وزيد بن ثابت إلى أن ولد الملاعنة كما يورث غير ولد الملاعنة، وأنه ليس لأمه إلا الثلث والباقي لبيت المال، إلا أن يكون له إخوة لأم، فيكون لهم الثلث أو تكون أمه مولاة فيكون باقي مالها لمواليها، وإلا فالباقي لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة على مذهبه يجعل ذوي الأرحام أولى من جماعة المسلمين. وأيضا على قياس من يقول بالرد يرد على الأم بقية المال؛ وذهب علي وعمر وابن مسعود إلى أن عصبته عصبة أمه أعني الذي يرثونها. وروي عن علي وابن مسعود أنهم لا يجعلونه عصبته عصبة أمه إلا مع فقد الأم وكانوا ينزلون الأم بمنزلة الأب وبه قال الحسن وابن سيرين والثوري وابن حنبل وجماعة.

وعمدة الفريق الأول عموم قوله تعالى {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فقالوا: هذه أم وكل أم لها الثلث، فهذه لها الثلث. وعمدة الفريق الثاني ما روي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ألحق ولد الملاعنة بأمه" وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثته" وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "المرأة تحوز ثلاثة أموال: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه" وحديث مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره. قال القاضي: هذه الآثار المصير إليها واجب لأنها قد خصصت عموم الكتاب. والجمهور على أن السنة يخصص بها الكتاب، ولعل الفريق الأول لم تبلغهم هذه الأحاديث أو لم تصح عندهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان، وهو مشهور في الصدر الأول، واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الآثار، فإن هذا ليس يستنبط بالقياس، والله أعلم.

ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث اختلافهم فيمن ترك ابنين وأقر أحدهم بأخ ثالث وأنكر الثاني؛ فقال مالك وأبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه حقه من الميراث يعنون المقر، ولا يثبت بقوله نسبه، وقال الشافعي: لا يثبت النسب ولا يجب على المقر أن يعطيه من الميراث شيئا. واختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يجب على الأخ المقر، فقال مالك يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقر الأخ الثاني وثبت النسب؛ وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك وأبي حنيفة فيمن ترك ابنا واحدا فأقر بأخ له آخر، أعني أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث؛ وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولان: أحدهما أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث. والثاني يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطبلولية ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره وإن كان واحدا أخا أو غير ذلك. وعمدة الشافعية في المسألة الأولى؛ وفي أحد قوليه في هذه المسألة، أعني القول الغير المشهور أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث، لأن النسب أصل والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع. وعمدة مالك وأبي حنيفة أن ثبوت النسب حق متعد إلى الأخ المنكر، فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين، وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل لأنه حق أقر به على نفسه. والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه. وأما عمدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يحوز له الميراث فالسماع والقياس.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب... ...

أما السماع فحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المتفق على صحته قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي على فراشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة بأخيه وأثبت نسبه بإقراره إذا لم يكن هنالك وارث منازع له" وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث لخروجه عندهم عن الأصل المجمع عليه في إثبات النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل أن لا يثبت نسب إلا بشاهدي عدل، ولذلك تأول الناس في ذلك تأويلات، فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه، لأنه يمكن أن يكون قد علم تلك الأمة كان يطؤها زمعة بن قيس، وأنها كانت فراشا له، قالوا: ومما يؤكد ذلك أنه كان صهره، وسودة بنت زمعة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن لا يخفى عليه أمرها، وهذا على القول بأن للقاضي أن يقضي بعلمه، ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الآخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب. والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها؛ وقالت طائفة: أمره بالاحتجاب لسودة دليل على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش.

وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام "هو لك" فقالت طائفة: إنما أراد هو عبدك إذا كان ابن أمة أبيك، وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه في ذلك بقوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وقال الطحاوي: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام "هو لك يا عبد بن زمعة" أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة، وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب، فهو أن إقرار من يحوز الميراث هو إقرار خلافة: أي إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الإقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه. واتفق الجمهور على أن أولاد الزنى لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب على اختلاف في ذلك بين الصحابة؛ وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنى في الإسلام، أعني الذي كان عن زنى في الإسلام. واتفقوا على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة أشهر، إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى أقصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها. واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد، فقال مالك: خمس سنين؛ وقال بعض أصحابه: سبع؛ وقال الشافعي: أربع سنين؛ وقال الكوفيون: سنتان: وقال محمد بن الحكم: سنة؛ وقال داود: ستة أشهر، وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة. وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلا.

وذهب مالك والشافعي إلى أن من تزوج امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها بعد الوقت وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لا من وقت الدخول أنه لا يلحق به إلا إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من ذلك من وقت الدخول. وقال أبو حنيفة: هي فراش له ويلحقه الولد. وعمدة مالك أنها ليست بفراش إلا بإمكان الوطء وهو مع الدخول. وعمدة أبي حنيفة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وكأنه يرى أن هذا تعبد بمنزلة تغليب الوطء الحلال على الوطء الحرام في إلحاق الولد بالوطء الحلال. واختلفوا من هذا الباب في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا الحكم بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة. والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبي الحكم بالقافة، الكوفيون وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد؛ وعند الجمهور من القائلين بهذا القول أنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط؛ وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه، وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول. وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم: أي بمن ادعاهم في الإسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا فنظر إليه فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبرني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ونظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها فأهريقت عليه دما، ثم خلف هذا عليها: تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع.

وهذا الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبي حتى يبلغ، ويقال له: وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما إذا زعم القائف أنهما اشتركا فيه؛ وعند مالك أنه ليس يكون ابنا للاثنين لقوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} واحتج القائلون بالقافة أيضا بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قالوا: وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الكوفيون فقالوا: الأصل أن لا يحكم لأحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" فإذا عدم الفراش أو اشتركا الفراش كان ذلك بينهما، وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال: إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع. وروي مثل قولهم عن عمر، ورواه عبد الرزاق عن علي؛ وقال الشافعي: لا يقبل في القافة إلا رجلان. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أنه يقبل قول قائف واحد. والقافة في المشهور عن مالك إنما يقضي بها في ملك اليمين فقط لا في النكاح؛ وروى ابن وهب عنه مثل قول الشافعي؛ وقال أبو عمر بن عبد البر: في هذا حديث حسن مسند أخذ به جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر، رواه الثوري عن صالح بن حي عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال "كان علي باليمن فأتى بامرأة وطئها ثلاثة أناس في طهر واحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد فأبى، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه "وفي هذا القول إنفاذ الحكم بالقافة وإلحاق الولد بالقرعة".

واختلفوا في ميراث القاتل على أربعة أقوال: فقال قوم: لا يرث القاتل أصلا من قتله. وقال آخرون: يرث القاتل وهم الأقل. وفرق قوم بين الخطأ والعمد فقالوا: لا يرث في العمد شيئا ويرث في الخطأ إلا من الدية، وهو قول مالك وأصحابه. وفرق قوم بين أن يكون في العمد قتل بأمر واجب أو بغير واجب، مثل أن يكون من له إقامة الحدود، وبالجملة بين أن يكون ممن يتهم أو لا يتهم. وسبب الخلاف معارضة أصل الشرع في هذا المعنى للنظر المصلحي، وذلك أن النظر المصلحي يقتضي أن لا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل واتباع الظاهر، والتعبد يوجب أن لا يلتفت إلى ذلك، فإنه لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه الشارع {وما كان ربك نسيا} كما تقول الظاهرية. واختلفوا في الوارث الذي ليس بمسلم يسلم بعد موت مورثه السلم وقبل قسم الميراث، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام، فقال الجمهور: إنما يعتبر في ذلك وقت الموت، فإن كان اليوم الذي مات فيه المسلم وارثه ليس بمسلم لم يرثه أصلا سواء أسلم قبل الميراث أو بعده، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام وكان الوارث يوم مات غير مسلم ورثه ضرورة سواء كان إسلامه قبل القسم أو بعده. وقالت طائفة منهم الحسن وقتادة وجماعة: المعتبر في ذلك يوم القسم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وعمدة كلا الفريقين قوله صلى الله عليه وسلم "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام" فمن اعتبر وقت القسمة حكم للمقسوم في ذلك الوقت بحكم الإسلام، ومن اعتبر وجوب القسمة حكم في وقت الموت للمقسوم بحكم الإسلام. وروي من حديث عطاء "أن رجلا أسلم على ميراث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه، وكذلك الحكم عندهم فيمن أعتق من الورثة بعد الموت وقبل القسم. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بهذا الكتاب. قال القاضي: ولما كان الميراث إنما يكون بأحد ثلاثة أسباب: إما بنسب، أو صهر، أو ولاء، وكان قد قيل في الذي يكون بالنسب والصهر، فيجب أن نذكر ههنا الولاء، ولمن يجب، ومن يجب فيه ممن لا يجب، وما أحكامه؟.

*3*باب في الولاء.

@-فأما من يجب له الولاء، ففيه مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لهذا الباب.

@-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن من أعتق عبده عن نفسه فإن ولاءه له وأنه يرثه إذا لم يكن له وارث، وأنه عصبة له إذا كان هنالك ورثة لا يحيطون بالمال. فأما كون الولاء للمعتق عن نفسه، فلما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة "إنما الولاء لمن أعتق" واختلفوا إذا أعتق عبد عن غيره؛ فقال مالك الولاء للمعتق عنه لا الذي باشر العتق، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أعتقه عن علم المعتق عنه، فالولاء للمعتق عنه، وإن أعتقه عن غير علمه، فالولاء للمباشر للعتق. وعمدة الحنفية والشافعية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لمن أعتق" وقوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لحمة كلحمة النسب" قالوا: فلما لم يجز أن يلحق نسب بالحر بغير إذنه، فكذلك الولاء، ومن طريق المعنى فلأن عتقه حرية وقعت في ملك المعتق، فوجب أن يكون الولاء له، أصله إذا أعتقه من نفسه. وعمدة مالك أنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه، فأشبه الوكيل؛ ولذلك اتفقوا على أنه إذا أذن له المعتق عنه كان ولاءه له لا للمباشر. وعند مالك أنه من قال لعبده: أنت حر لوجه الله وللمسلمين أن الولاء يكون للمسلمين، وعندهم يكون للمعتق.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاءه له؟ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وجماعة: لا ولاء له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: له ولاءه إذا والاه، وذلك أن مذهبهم أن للرجل أن يوالي رجلا آخر فيرثه ويعقل عنه، وأن له أن ينصرف من ولاءه إلى ولاء غيره ما لم يعقل عنه؛ وقال غيره: بنفس الإسلام على يديه يكون له ولاءه. فعمدة الطائفة الأولى قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الولاء لمن أعتق" وإنما هذه هي التي يسمونها الحاصرة، وكذلك الألف واللام هي عندهم للحصر، ومعنى الحصر هو أن يكون الحكم خاصا بالمحكوم عليه لا يشاركه فيه غيره: أعني أن لا يكون ولاء بحسب مفهوم هذا القول إلا للمعتق فقط المباشر. وعمدة الحنفية في إثبات الولاء بالموالاة قوله تعالى {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} وقوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} . وحجة من قال: الولاء يكون بنفس الإسلام فقط حديث تميم الداري قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشرك يسلم على يد مسلم؟ فقال هو أحق الناس وأولاهم بحياته ومماته" وقضى به عمر بن عبد العزيز. وعمدة الفريق الأول أن قوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم} منسوخة بآية المواريث، وأن ذلك كان في صدر الإسلام، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته لثبوت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك إلا ولاء السائبة.

@-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء إذا قال السيد لعبده أنت سائبة، فقال مالك: ولاءه وعقله للمسلمين وجعله بمنزلة من أعتق عن المسلمين إلا أن يريد به معنى العتق فقط، فيكون ولاءه له؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ولاءه للمعتق على كل حال، وبه قال أحمد وداود وأبو ثور؛ وقالت طائفة: له أن يجعل ولاءه حيث شاء، وإن لم يوال أحدا كان ولاءه للمسلمين، وبه قال الليث والأوزاعي؛ وكان إبراهيم والشعبي يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، وحجته هؤلاء هي الحجج المتقدمة في المسألة التي قبلها. وأما من أجاز بيعه فلا أعرف له حجة في هذا الوقت.

@-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في ولاء العبد المسلم إذا أعتقه النصراني قبل أن يباع لمن يكون؟ فقال مالك وأصحابه: ولاؤه للمسلمين، فإن أسلم مولاه بعد ذلك لم يعد إليه ولاؤه ولا ميراثه؛ وقال الجمهور: ولاؤه لسيده، فإن أسلم كان له ميراثه. وعمدة الجمهور أن الولاء كالنسب، وأنه إذا أسلم الأب بعد إسلام الابن أنه يرثه، فكذلك العبد. وأما عمدة مالك فعموم قوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} فهو يقول: أنه لما لم يجب له الولاء يوم العتق لم يجب له فيما بعد. وأما إذا وجب له يوم العتق ثم طرأ عليه مانع من وجوبه فلم يختلفوا أنه إذا ارتفع ذلك المانع أنه يعود الولاء له. ولذلك اتفقوا أنه إذا أعتق النصراني الذمي عبده النصراني قبل أن يسلم أحدهما ثم أسلم العبد أن الولاء يرتفع، فإن أسلم المولى عاد إليه. وإن كانوا اختلفوا في الحربي يعتق عبده وهو على دينه، ثم يخرجان إلينا مسلمين، فقال مالك: هو مولاه يرثه؛ وقال أبو حنيفة: لا ولاء بينهما، وللعبد أن يوالي من شاء على مذهبه في الولاء والتحالف؛ وخالف أشهب مالكا فقال: إذا أسلم العبد قبل المولى لم يعد إلى المولى ولاءه أبدا؛ وقال ابن القاسم: يعود، وهو معنى قول مالك، لأن مالكا يعتبر وقت العتق، وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد، فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا، ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم.

@-(المسألة الخامسة) أجمع جمهور العلماء على أن النساء ليس لهن مدخل في رواثة الولاء إلا من باشرن عتقه بأنفسهن أو ما جر إليهن من باشرن عتقه، إما بولاء أو بنسب، مثل معتق معتقها أو ابن معتقها، وأنهن لا يرثن معتق من يرثنه إلا ما حكي عن شريح. وعمدته أنه لما كان لها ولاء ما أعتقت بنفسها كان لها ولاء ما أعتقه مورثها قياسا على الرجل، وهذا هو الذي يعرفونه بقياس المعنى، وهو أرفع مراتب القياس، وإنما الذي يوهنه الشذوذ. وعمدة الجمهور أن الولاء إنما وجب للنعمة التي كانت للمعتَق على المعتِق، وهذه النعمة إنما توجد فيمن باشر العتق، أو كان من سبب قوي من أسبابه، وهم العصبة. قال القاضي: وإذ قد تقرر من له ولاء ممن ليس له ولاء، فبقي النظر في ترتيب أهل الولاء في الولاء. فمن أشهر مسائلهم في هذا الباب المسألة التي يعرفونها بالولاء للكبر، مثال ذلك: رجل أعتق عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين، ثم مات أحد الأخوين وترك ابنا، أو أحد الابنين، فقال الجمهور: في هذه المسألة أن حظ الأخ الميت من الولاء لا يرثه عنه ابنه، وهو راجع إلى أخيه لأنه أحق به من ابنه بخلاف الميراث، لأن الحجب في الميراث يعتبر بالقرب من الميت، وهنا بالقرب من المباشر العتق، وهو مروي عن عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت من الصحابة. وقال شريح وطائفة من أهل البصرة: حق الأخ الميت في هذه المسألة لبنيه. وعمدة هؤلاء تشبيه الولاء بالميراث. وعمدة الفريق الأول أن الولاء نسب مبدؤه من المباشر. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب المسألة التي تعرف بجر الولاء، وصورتها أن يكون عبد له بنون من أمة، فأعتقت الأمة ثم أعتق العبد بعد ذلك، فإن العلماء اختلفوا لمن يكون ولاء البنين إذا أعتق الأب، وذلك أنهم اتفقوا على أن ولاءهم بعد عتق الأم إذا لم يمس المولود الرق في بطن أمه، وذلك يكون إذا تزوجها العبد بعد العتق وقبل عتق الأب هو لموالي الأم. واختلفوا إذا أعتق الأب هل يجر ولاءه بنيه لمواليه أم لا يجر؟ فذهب الجمهور ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجر، وبه قال علي رضي الله عنه وابن مسعود والزبير وعثمان ابن عفان. وقال عطاء وعكرمة وابن شهاب وجماعة: لا يجر ولاءه. وروي عن عمر، وقضى به عبد الملك بن مروان لما حدثه به قبيضة بن ذؤيب عن عمر بن الخطاب، وإن كان قد روي عن عمر مثل قول الجمهور. وعمدة الجمهور أن الولاء مشبه بالنسب، والنسب للأب دون الأم. وعمدة الفريق الثاني أن البنين لما كانوا في الحرية تابعين لأمهم كانوا في موجب الحرية تابعين لها، وهو الولاء، وذهب مالك إلى أن الجد يجر ولاء حفدته إذا كان أبوهم عبدا، إلا أن يعتق الأب، وبه قال الشافعي وخالفه في ذلك الكوفيون واعتمدوا في ذلك على أن ولاء الجد إنما يثبت لمعتق الجد على البنين من جهة الأب، وإذا لم يكن للأب ولاء فأحرى أن لا يكون للجد. وعمدة الفريق الثاني أن عبودية الأب هي كموته فوجب أن ينتقل الولاء إلى أبي الأب، ولا خلاف بين من يقول بأن الولاء للعصبة فيما أعلم أن الأبناء أحق من الآباء، وأنه لا ينتقل إلى العمود الأعلى إلا إذا فقد العمود الأسفل بخلاف الميراث، لأن البنوة عندهم أقوى تعصيبا من الأبوة، والأب أضعف تعصيبا، والإخوة وبنوهم أقعد عند مالك من الجد، وعند الشافعي وأبي حنيفة الجد أقعد منهم. وسبب الخلاف من أقرب نسبا وأقوى تعصيبا وليس يورث بالولاء جزء مفروض وإنما يورث تعصيبا، فإذا مات المولى الأسفل ولم يكن له ورثة أصلا، أو كان له ورثة لا يحيطون بالميراث كان عاصبه المولى الأعلى، وكذلك يعصب المولى الأعلى كل من للمولى الأعلى عليه ولادة نسب: أعني بناته وبنيه وبني بنيه. وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي: إذا ماتت امرأة ولها ولاء وولد وعصبة لمن ينتقل الولاء؟ فقالت طائفة: لعصبتها لأنهم الذين يعقلون عنها، والولاء للعصبة، وهو قول علي ابن أبي طالب؛ وقال قوم: لابنها، وهو قول عمر بن الخطاب، وعليه فقهاء الأمصار، وهو مخالف لأهل هذا السلف، لأن ابن المرأة ليس من عصبتها.

تم كتاب الفرائض والولاء والحمد لله حق حمده.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب العتق.

@-والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا يلزمه: أعني بالشرع، وفي ألفاظ العتق، وفي الإيمان به، وفي أحكامه وفي الشروط الواقعة فيه. ونحن فإنما نذكر من هذه الأبواب ما فيها من المسائل المشهورة التي يتعلق أكثرها بالمسموع. فأما من يصح عتقه، فإنهم أجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد القوي الجسم الغني غير العديم. واختلفوا في عتق من أحاط الدين بماله وفي عتق المريض وحكمه. فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة: مالك وغيره: لا يجوز ذلك، وبه قال الأوزاعي والليث؛ وقال فقهاء العراق: وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم، وذلك عند من يرى التحجير منهم، وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز، وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم. وعمدة من منع عتقه أن ماله في تلك الحال مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه شيئا بغير عوض، وهي العلة التي بها يحجر الحاكم عليه التصرف والأحكام يجب أن توجد مع وجود عللها، وتحجير الحاكم ليس بعلة وإنما هو حكم واجب من موجبات العلة فلا اعتبار بوقوعه. وعمدة الفريق الثاني أنه قد انعقد بالإجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيئا مما أنفقه من ماله على نفسه وعياله حتى يضرب الحاكم على يديه فوجب أن يكون حكم تصرفاته هذا الحكم، وهذا هو قول الشافعي ولا خلاف عند الجميع أنه لا يجوز أن يعتق غير المحتلم ما لم تكن وصية منه، وكذلك المحجور؛ ولا يجوز عند العلماء عتقه لشيء من مماليكه إلا مالكا وأكثر أصحابه، فإنهم أجازوا عتقه لأم ولده. وأما المريض فالجمهور على أن عتقه إن صح وقع وإن مات كان من الثلث؛ وقال أهل الظاهر: هو مثل عتق الصحيح. وعمدة الجمهور حديث عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة أعبد له، الحديث على ما تقدم. وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة من بعض العتق، وهذا متفق عليه في أحد قسميه واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مثل بعبده.

فأما من بعض العتق فإنه ينقسم قسمين: أحدهما من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق. والثاني أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه. فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل: إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شيء وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول، وبه قال الأوزاعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وجماعة الكوفيين، إلا أن ابن شبرمة وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر. وأما شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق؛ وقال أبو حنيفة: لشريك الموسر ثلاث خيارات: أحدها أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما، وهذا لا خلاف فيه بينهم. والخيار الثاني أن تقوم عليه حصته. والثالث أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما وللسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق. وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق شقصا له في عبده فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم وغيرهما، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به، فمما وهنت فيه الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة، وهو قوله "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فهل هو من قوله عليه الصلاة والسلام، أم من قول نافع "وإن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا. ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية. وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر الذي أدخله على شريكه والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شيء. وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد،

وربما أتوا بقياس شبهي وقالوا: لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان: نوع يقع بالاختيار، وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله. ونوع يقع بغير اختبار، وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك. فالذي بالاختيار منه هو الكتابة. والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي. واختلف مالك والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية؟ أعني أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق؟ فقالت الشافعية: يعتق بالسراية؛ وقالت المالكية بالحكم؛ واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر.

واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قوم عليه قيمة العدل" فقالوا: ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الإتلاف، وإن لم يحكم عليه بذلك حاكم، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه، لأنه قد نفذ العتق وهذا بين. وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين، وقد روي فيها خلاف شاذ، فقيل عن ابن سيرين إنه جعل حصة الشريك في بيت المال؛ وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد أن العتق باطل؛ وقال قوم: لا يقوم على المعسر الكل، وينفذ العتق فيما أعتق؛ وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر، وهذا كله خلاف الأحاديث، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث. واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر، فقيل يقوم، وقيل لا يقوم. واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد: أنه يعتق عليه الباقي إن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه، وهو أن يملكه بميراث - فقال قوم: يعتق عليه في حال اليسر - وقال قوم: لا يعتق عليه؛ وقال قوم: في حال اليسر بالسعاية؛ وقال قوم: لا. وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه؛ فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولون: يعتق عليه كله، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي، وهو قول طاوس وحماد. وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبتت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه.

وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر. فسبب الخلاف من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق، أعني أنه لا يقع فيه تبعيض، أو مضرة الشريك؟. واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقه. ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه "أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي عليه الصلاة والسلام عتقه وقال: ليس لله شريك" وعلى هذا فقد نص على العلة التي تمسك بها الجمهور، وصارت علتهم أولى، لأن العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس. وأما الإعتاق الذي يكون بالمثلة، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والليث والأوزاعي: من مثل بعبده أعتق عليه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعتق عليه؛ وشذ الأوزاعي فقال: من مثل بعبد غيره أعتق عليه والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد، فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن زنباعا وجد غلاما له مع جارية، فقطع ذكره وجدع أنفه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: فعل كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فأنت حر. وعمدة الفريق الثاني قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه" قالوا: فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه. ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل. وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة.

وأما هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته، وإن عتق فمن يعتق؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة إلا داود وأصحابه، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى، والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفافهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده؛ فقال مالك: يعتق على الرجل ثلاثة: أحدها أصوله: وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات وآباؤهم وأمهاتهم، وبالجملة كل من كان له على الإنسان ولادة. والثاني فروعه، وهم: الأبناء والبنات وولدهم ما سفلوا، وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط، ذكر أو أنثى. والثالث الفروع المشاركة له في أصله القريب وهم الإخوة، وسواء كانوا لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط؛ واقتصر من هذا العمود على القريب فقط، فلم يوجب عتق بني الإخوة. وأما الشافعي فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل، وخالفه في الإخوة فلم يوجب عتقهم. وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ، ومن أشبههم ممن هو من الإنسان ذو محرم. وسبب اختلاف أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم، فقال الجمهور: يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه، وأنه ليس يجب عليه شراؤه. وقالت الظاهرية: المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه، قالوا: لأن إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له، ولو كان ما قالوا صوابا، لكان اللفظ إلا أن يشتريه فيعتق عليه. وعمدة الحنفية ما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي؛ وقاس مالك الإخوة على الأبناء والآباء، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط، وقاس الأبناء على الآباء.

وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية، وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها، فإن هذه العبودية معقولة وبنوة معقولة. والعبودية التي بين المخلوقين والمولايية هي عبودية بالشرع لا بالطبع أعني بالوضع لا مجال للعقل كما يقولون فيها عندهم، وهو احتجاج ضعيف. وإنما أراد الله تعالى أن البنوة تساوي الأبوة في جنس الوجود أو في نوعه، أعني أن الموجودين اللذين أحدهما أب والآخر ابن هما متقاربان جدا، حتى أنهما إما أن يكونا من نوع واحد أو جنس واحد، وما دون الله من الموجودات فليس يجتمع معه سبحانه في جنس قريب ولا بعيد، بل التفاوت بينهما غاية التفاوت، فلم يصح أن يكون في الموجودات التي ههنا شيء نسبته إليه نسبة الأب إلى الابن، بل إن كان نسبة الموجودات إليه نسبة العبد إلى السيد كان أقرب إلى حقيقة الأمر من نسبة الابن إلى الأب لأن التباعد الذي بين السيد والعبد في المرتبة أشد من التباعد الذي بين الأب والابن، وعلى الحقيقة فلا شبه بين النسبتين؛ لكن لما لم يكن في الموجودات نسبة أشد تباعدا من هذه النسبة، أعني تباعد طرفيهما في الشرف والخسة ضرب المثال بها، أعني نسبة العبد للسيد، ومن لحظ المحبة التي بين الأب والابن والرحمة والرأفة الشفقة أجاز أن يقول في الناس إنهم أبناء الله على ظاهر شريعة عيسى. فهذه جملة المسائل المشهورة التي تتعلق بالعتق الذي يدخل على الإنسان بغير اختياره.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا... ...

وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع، وذلك أن الفقهاء اختلفوا فيمن أعتق عبيدا له في مرضه أو بعد موته ولا مال له غيرهم، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وجماعة: إذا أعتق في مرضه ولا مال له سواهم قسموا ثلاثة أجزاء وعتق منهم جزء بالقرعة بعد موته، وكذلك الحكم في الوصية بعتقهم. وخالف أشهب وأصبغ مالكا في العتق المبتل في المرض فقالا جميعا إنما القرعة في الوصية. وأما حكم العتق المبتل فهو كحكم المدبر. ولا خلاف في مذهب مالك أن المدبرين في كلمة واحدة إذا ضاق عنهم الثلث أنه يعتق من كل واحد منهم بقدر حظه من الثلث. وقال أبو حنيفة وأصحابه في العتق المبتل: إذا ضاق عنه الثلث أنه يعتق من كل واحد منه ثلثه. وقال الغير: بل يعتق من الجميع ثلثه. فقوم من هؤلاء اعتبروا في ثلث الجميع القيمة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ وقوم اعتبروا العدد. فعند مالك إذا كانوا ستة أعبد: مثلا عتق منهم الثلث بالقيمة كان الحاصل في ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذلك أيضا بالقرعة بعد أن يجبروا على القسمة أثلاثا؛ وقال قوم: بل المعتبر العدد، فإن كانوا ستة عتق منهم اثنان وإن كانوا مثلا سبعة عتق منهم اثنان وثلث. فعمدة أهل الحجاز ما رواه أهل البصرة عن عمران بن الحصين "أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" خرجه البخاري ومسلم مسندا، وأرسله مالك.

وعمدة الحنفية ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطرق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر. وعمدتهم أنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تاما، فلو كان له مال لنفد بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعلى السيد فيه، وهذا الأصل ليس بيننا من قواعد الشرع في هذا الموضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مبعض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن ههنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس. واختلفوا في مال العبد إذا أعتق لمن يكون، فقالت طائفة: المال للسيد؛ وقالت طائفة: ماله تبع له، وبالأول قال ابن مسعود من الصحابة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق، وبالثاني قال ابن عمر وعائشة والحسن وعطاء ومالك وأهل المدينة. والحجة لهم حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أعتق عبدا فماله له إلا أن يشترط السيد ماله" وأما ألفاظ العتق، فإن منها صريحا ومنها كناية عند أكثر فقهاء الأمصار. أما الألفاظ الصريحة، فهو أن يقول: أنت حر، أو أنت عتيق وما تصرف من هذه، فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع من العلماء. وأما الكناية فهي مثل قول السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، أو لا ملك لي عليك، فهذه ينوي فيها سيد العبد، هل أراد به العتق أم لا؟ عند الجمهور. ومما اختلفوا فيه في هذا الباب إذا قال السيد لعبده: يا بني، أو لأمته يا بنتي، أو قال: يا أبي، أو يا أمي، فقال قوم وهم الجمهور: لا عتق يلزمه؛ وقال أبو حنيفة: يعتق عليه؛ وشذ زفر فقال: لو قال السيد لعبده: هذا ابني، عتق عليه وإن كان العبد له عشرون سنة وللسيد ثلاثون سنة. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن قال لعبده: ما أنت إلا حر، فقال قوم: هو ثناء عليه وهم الأكثر؛ وقال قوم: هو حر، وهو قول الحسن البصري. ومن هذا الباب من نادى عبدا من عبيده باسمه، فاستجاب له عبد آخر، فقال له: أنت حر، وقال: إنما أردت الأول، فقيل يعتقان عليه جميعا، وقيل ينوي. واتفق على أن من أعتق ما في بطن أمته فهو حر دون الأم.

واختلفوا فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، فقالت طائفة: له استثناؤه؛ وقالت طائفة: هما حران. واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة، فقالت طائفة: لا استثناء فيه كالطلاق، وبه قال مالك؛ وقال قوم: يؤثر فيه الاستثناء كقولهم في الطلاق، أعني قول القائل لعبده: أنت حر إن شاء الله. وكذلك اختلفوا في وقوع العتق بشرط الملك، فقال مالك: يقع؛ وقال الشافعي وغيره: لا يقع، وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" وحجة الفرقة الثانية تشبيههم إياه باليمين. وألفاظ هذا الباب شبيهة بألفاظ الطلاق، وشروطه كشروطه، وكذلك الأيمان فيه شبيهة بأيمان الطلاق. وأما أحكامه فكثيرة: منها أن الجمهور على أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، وشذ قوم فقالوا: إلا أن يكون الأب عربيا. ومنها اختلافهم في العتق إلى أجل؛ فقال قوم: ليس له أن يطأها إن كانت جارية ولا يبيع ولا يهب، وبه قال مالك؛ وقال قوم: له جميع ذلك، وبه قال الأوزاعي والشافعي واتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق. واختلفوا فيمن قال لعبده: إن بعتك فأنت حر؛ فقال قوم: لا يقع عليه العتق لأنه إذا باعه لم يملك عتقه، وقال: إن باعه يعتق عليه، أعني من مال البائع إذا باعه، وبه قال مالك والشافعي، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وفروع هذا الباب كثيرة، وفي هذا كفاية.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الكتابة

@-والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها. أما الأركان فثلاثة: العقد وشروطه وصفته، والعاقد، والمقعود عليه وصفاتهما ونحن نذكر المسائل المشهورة لأهل الأمصار في جنس جنس من هذه الأجناس.

القول في مسائل العقد.

@-فمن مسائل هذا الجنس المشهورة اختلافهم في عقد الكتابة: هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فقال فقهاء الأمصار: إنه مندوب؛ وقال أهل الظاهر: هو واجب، واحتجوا بظاهر قوله تعالى {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} والأمر على الوجوب. وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل هو أن لا يجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب لئلا تكون معارضة لهذا الأصل، وأيضا فإنه لما لم يكن للعبد أن يحكم له على سيده بالبيع له وهو خروج رقبته عن ملكه بعوض، فأحرى أن لا يحكم له عليه بخروجه عن غير عوض هو مالكه، وذلك أن كسب العبد هو للسيد، وهذه المسألة هي أقرب أن تكون من أحكام العقد من أن تكون من أركانه، وهذا العقد بالجملة هو أن يشتري العبد نفسه وماله من سيده بمال يكتسبه العبد. فأركان هذا العقد الثمن والمثمون والأجل والألفاظ الدالة على هذا العقد. فأما الثمن، فإنهم اتفقوا على أنه يجوز إذا كان معلوما بالعلم الذي يشترط في البيوع. واختلفوا إذا كان في لفظه إبهام ما، فقال أبو حنيفة ومالك: يجوز أن يكاتب عبده على جارية أو عبد من غير أن يصفهما ويكون له الوسط من العبيد؛ وقال الشافعي: لا يجوز حتى يصفه؛ فمن اعتبر في هذا طلب المعاينة شبهه بالبيوع؛ ومن رأى أن هذا العقد مقصوده المكارمة وعدم التشاح جوز فيه الغرر اليسير كحال اختلافهم في الصداق؛ ومالك يجيز بين العبد وسيده من جنس الربا ما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي من مثل بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين، وضع وتعجل؛ ومنع ذلك الشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة القولان جميعا. وعمدة من أجازه أنه ليس بين السيد وعبده ربا، لأنه وماله له، وإنما الكتابة سنة على حدتها. وأما الأجل فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة، واختلفوا في هل تجوز حالة، وذلك أيضا بعد اتفاقهم على أنها تجوز حالة على مال موجود عند العبد، وهي التي يسمونها قطاعه لا كتابة. وأما الكتابة فهي التي يشتري العبد فيها ماله ونفسه من سيده بمال يكتسبه. فموضع الخلاف إنما هو هل يجوز أن يشتري نفسه من سيده بمال حال ليس هو بيده؟ فقال الشافعي: هذا الكلام لغو، وليس يلزم السيد شيء منه؛ وقال متأخروا أصحاب مالك: قد لزمت الكتابة للسيد ويرفعه العبد إلى الحاكم فينجم عليه المال بحسب حال العبد. وعمدة المالكية أن السيد قد أوجب لعبده الكتابة، إلا أنه اشترط فيها شرطا يتعذر غالبا، فصح العقد وبطل الشرط. وعمدة الشافعية أن الشرط الفاسد يعود ببطلان أصل العقد كمن باع جاريته واشترط أن لا يطأها، وذلك أنه إذا لم يكن له مال حاضر أدى إلى عجزه، وذلك ضد مقصود الكتابة. وحاصل قول المالكية يرجع إلى أن الكتابة من أركانها أن تكون منجمة، وأنه إذا اشترط فيها ضد هذا الركن بطل الشرط وصح العقد. واتفقوا على أنه إذا قال السيد لعبده: لقد كاتبتك على ألف درهم فإذا أديتها فأنت حر أنه إذا أداها حر.

واختلفوا إذا قال له: قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له: فإذا أديتها فأنت حر؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو حر، لأن اسم الكتابة لفظ شرعي، فهو يتضمن جميع أحكامه؛ وقال قوم: لا يكون حرا حتى يصرح بلفظ الأداء. واختلف في ذلك قول الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك؛ فقال مالك: يلزمه وهو حر؛ وقال ابن القاسم: هو حر ولا يلزمه. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك فقال مالك: هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء؛ وقيل العبد بالخيار، فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا؛ وقيل إن قبل كانت كتابة يعتق إذا أدى، والقولان لابن القاسم؛ وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود، وتجوز عنده الكتابة المطلقة، ويرد إلى أن كتابة مثله كالحال في النكاح، وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد، أعني كتابة مثله في الزمان والثمن، ومن هنا قيل إنه تجوز عنده الكتابة الحالة. واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وذلك أن بعضهم رأى أن السادة هم المخاطبون بهذه الآية؛ ورأى بعضهم أنهم جماعة المسلمين ندبوا لعون المكاتبين، والذين رأوا ذلك اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ والذين قالوا بذلك اختلفوا في القدر الواجب، فقال بعضهم: ما ينطلق عليه اسم شيء، وبعضهم حده. وأما المكاتب ففيه مسائل: إحداها هل تجوز كتابة المراهق؟ وهل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ وهل تجوز كتابة من يملك في العبد بعضه بغير إذن شريكه؟ وهل تجوز كتابة من لا يقدر على السعي؟ وهل تجوز كتابة من فيه بقية رق؟.

فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم، فأجازها أبو حنيفة، ومنعها الشافعي إلا للبالغ، وعن مالك القولان جميعا. فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود. وعمدة من لم يشترطه أنه لا يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي، وذلك موجود في غير البالغ. وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم؟ فيه أيضا خلاف. فأما هل يجوز الجمع؟ فإن الجمهور على جواز ذلك، ومنعه قوم، وهو أحد قولي الشافعي. وأما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة، أعني حمالة بعضهم عن بعض، وبه قال مالك وسفيان؛ وقال آخرون: لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته. فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر، لأن قدر ما يلزم واحدا واحدا من ذلك مجهول. وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة، لأنه بين السيد وعبده، والعبد وماله لسيده. وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد. وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين؛ فمن رأى أن حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال: لا تجوز في هذا الموضع. وإنما منعوا حمالة الكتابة لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شيء يرجع عليه، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لأن يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه، فهو غرر خاص بالكتابة، إلا أن يقال أيضا إن الجمع يكون سببا لأنه يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي.

وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة فألزمها بالشرط ولم يلزمها بغير شرط، وهو مع هذا أيضا لا يجير حمالة الكتابة. وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن صاحبه، فقال بعضهم: ليس له ذلك والكتابة مفسوخة، وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم؛ وقالت طائفة: لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه؛ وفرقت فرقة فقالت: يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه، وبالقول الأول قال مالك، وبالثاني قال ابن أبي ليلى وأحمد، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر مثل قول مالك. وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق؛ ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا، فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم. وأما اشتراط الإذن فضعيف، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه، وهذا فيه بعد عن الأصول. وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن شرط المكاتب أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى {إن علمتم فيهم خيرا} وقد اختلف العلماء ما الخير الذي اشترطه الله في المكاتبين في قوله {إن علمتم فيهم خيرا} فقال الشافعي: الاكتساب والأمانة؛ وقال بعضهم: المال والأمانة؛ وقال آخرون: الصلاح والدين. وأنكر بعض العلماء أن يكاتب من لا حرفة له مخافة السؤال، وأجاز ذلك بعضهم لحديث بريرة "أنها كوتبت أن تسأل الناس" وكره أن تكاتب الأمة التي لا اكتساب لها بصناعة مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى الزنا؛ وأجاز مالك كتابة المدبرة وكل من فيه بقية رق إلا أم الولد إذ ليس له عند مالك أن يستخدمها.

*3*القول في المكاتب.

@-وأما المكاتب فاتفقوا على أن من شرطه أن يكون مالكا صحيح الملك غير محجور عليه صحيح الجسم. واختلفوا هل للمكاتب أن يكاتب عنده أم لا؟ وسيأتي هذا فيما يجوز من أفعال المكاتب مما لا يجوز؛ ولم يجز مالك أن يكاتب العبد المأذون له في التجارة، لأن الكتابة عتق ولا يجوز له أن يعتق؛ وكذلك لا يجوز كتابة من أحاط الدين بماله، إلا أن يجيز الغرماء ذلك إذا كان في ثمن كتابته إن بيعت (هكذا ببعض النسخ، وفي بعضها إسقاط لفظ: إن بيعت. ا هـ مصححه). مثل ثمن رقبته. وأما كتابة المريض، فإنها عنده في الثلث توقف حتى يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق سواء، وقد قيل: إن حابى كان ذلك وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض عتق، وتجوز عنده كتابة النصراني المسلم، ويباع عليه كما يباع عليه العبد المسلم عنده فهذه هي مشهورات المسائل التي تتعلق بالأركان، أعني المكاتب والمكاتب والكتابة. وأما الأحكام فكثيرة، وكذلك الشروط التي تجوز فيها من التي لا تجوز. ويشبه أن تكون أجناس الأحكام الأولى في هذا العقد هو أن يقال متى يعتق المكاتب ومتى يعجز فيرق، وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه. فلنبدأ بذكر مسائل الأحكام المشهورة التي في جنس من هذه الأجناس الخمسة.

@-الجنس الأول.

فأما متى يخرج من الرق؟ فإنهم اتفقوا على أنه يخرج من الرق إذا أدى جميع الكتابة، واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شيء، وإنه يرق إذا عجز عن البعض. وروي عن السلف المتقدم سوى هذا القول الذي عليه الجمهور أقوال أربعة: أحدها أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة. والثاني أنه يعتق منه بقدر ما أدى. والثالث أنه يعتق إن أدى النصف فأكثر. والرابع إن أدى الثلث وإلا فهو عبد. وعمدة الجمهور ما خرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة فهو عبد". وعمدة من رأى أنه يعتق بنفس عقد الكتابة تشبيهه إياه بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده، فإن عجز لم يكن له إلا أن يتبعه بالمال، كما لو أفلس من اشتراه منه إلى أجل وقد مات. وعمدة من رأى أنه يعتق منه بقدر ما أدى ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد" خرجه النسائي، والخلاف فيه من قبل عكرمة، كما أن الخلاف في أحاديث عمرو بن شعيب من قبل أنه روى من صحيفة، وبهذا القول قال علي، أعني بحديث ابن عباس. وروي عن عمر بن الخطاب أنه إذا أدى الشطر عتق. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى الثلث. وأقوال الصحابة وإن لم تكن حجة، فالظاهر أن التقدير إذا صدر منهم أنه محمول على أن في ذلك سنة بلغتهم. وفي المسألة قول خامس: إذا أدى الثلاثة الأرباع عتق، وبقي عديما في باقي المال. وقد قيل إن أدى القيمة فهو غريم، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت. والأشهر عن عمر وأم سلمة هو مثل قول الجمهور، وقول هؤلاء هو الذي اعتمده فقهاء الأمصار، وذلك أنه صحت الرواية في ذلك عنهم صحة لا شك فيها، روى ذلك مالك في موطئه. وأيضا فهو أحوط لأموال السادات، ولأن في المبيعات يرجع في عين المبيع له إذا أفلس المشتري.

@-الجنس الثاني.

وأما متى يرق، فإنهم اتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز إما عن البعض وإما عن الكل بحسب ما قدمنا اختلافهم. واختلفوا هل للعبد أن يعجز نفسه إذا شاء من غير سبب، أم ليس له ذلك إلا بسبب؟ فقال الشافعي: الكتابة عقد لازم في حق العبد وهي في حق السيد غير لازمة؛ وقال مالك وأبو حنيفة: الكتابة عقد لازم من الطرفين: أي بين العبد والسيد. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن العبد والسيد لا يخلو أن يتفقا على التعجيز أو يختلفا، ثم إذا اختلفا فإما أن يريد السيد التعجيز ويأباه العبد، أو بالعكس، أعني أن يريد به السيد البقاء على الكتابة، ويريد العبد التعجيز. فأما إذا اتفقا على التعجيز فلا يخلو الأمر من قسمين: أحدهما أن يكون دخل في الكتابة ولد أو لا يكون، فإن كان دخل ولد في الكتابة فلا خلاف عنده أنه لا يجوز التعجيز. وإن لم يكن له ولد ففي ذلك روايتان: إحداهما أنه لا يجوز إذا كان له مال، وبه قال أبو حنيفة؛ والأخرى أنه يجوز له ذلك. فأما إن طلب العبد التعجيز وأبى السيد لم يكن ذلك للعبد إن كان معه مال أو كانت له قوة على السعي. وأما إن أراد السيد التعجيز وأباه العبد، فإنه لا يعجزه عنده إلا بحكم حاكم، وذلك بعد أن يثبت السيد عند الحاكم أنه لا مال له ولا قدرة على الأداء.

ونرجع إلى عمدة أدلتهم في أصل الخلاف في المسألة، فعمدة الشافعي ما روي أن بريرة جاءت إلى عائشة تقول لها: "إني أريد أن تشتريني تعتقيني فقالت لها: إن أراد أهلك، فجاءت أهلها فباعوها وهي مكاتبة" خرجه البخاري. وعمدة المالكية تشبيههم الكتابة بالعقود اللازمة، ولأن حكم العبد في هذا المعنى يجب أن يكون كحكم السيد وذلك أن العقود من شأنها أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا في الطرفين، وأما أن يكون لازما من طرف وغير لازم من الطرف الثاني فخارج عن الأصول، وعللوا حديث بريرة بأن الذي باع أهلها كانت كتابتها لا رقبتها. والحنفية تقول: لما كان المغلب في الكتابة حق العبد، وجب أن يكون العقد لازما في حق الآخر المغلب عليه وهو السيد أصله النكاح، لأنه غير لازم في حق الزوج لمكان الطلاق الذي بيده وهو لازم في حق الزوجة، والمالكية تعترض هذا بأن تقول إنه عقد لازم فيما وقع به العوض، إذ كان ليس له أن يسترجع الصداق.

@-الجنس الثالث.

وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق. واختلفوا إذا مات عن ولد فقال مالك: حكم ولده كحكمه، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا، وأنه إن فضل عن الكتابة شيء من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة. وقال أبو حنيفة: إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته. وقال الشافعي: لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة، وماله لسيده وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها، وتسقط حصة الأب عنهم، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين. والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم: تعتبر القيمة، وهو قول الشافعي؛ وقيل بالثمن؛ وقيل حصته على مقدار الرءوس. وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة، لأن من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم. وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي. وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن. وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين. وسبب اختلافهم ماذا يموت عليه المكاتب؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا؛ وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا؛ وعند الشافعي أنه يموت عبدا. وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه. فعمدة الشافعية أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد، لأن حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت. وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه، لأنه ليس له أن يرق نفسه، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد. وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار، والمسألة في حد الاجتهاد. ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي وأرادت الأم أن تسعى عليهم، فقال مالك: لها ذلك؛ وقال الشافعي والكوفيون: ليس لها ذلك. وعمدتهم أن أم الولد إذا مات المكاتب مال من مال السيد؛ وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها. ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدي منها باقي الكتابة. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي. واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته، هل تعتق أم ولده أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت؛ وقال أشهب: تعتق على كل حال؛ وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته كانوا معه في عقد الكتابة، أو كانوا ولدوا في الكتابة، وإنما عليهم السعي؛ وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولابد؛ ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان.

@-الجنس الرابع.

وهو النظر فيمن يدخل معه في عقد الكتابة ومن لا يدخل. واتفقوا من هذا الباب على أن ولد المكاتب لا يدخل في كتابة المكاتب إلا بالشرط، لأنه عبد آخر لسيده. وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة فيها. واختلفوا في أم الولد على ما تقدم. وكذلك اختلفوا في دخول ماله أيضا بمطلق العقد، فقال مالك: يدخل ماله في الكتابة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يدخل؛ وقال الأوزاعي: يدخل بالشرط، أعني إذا اشترطه المكاتب، وهذه المسألة مبنية على: هل يملك العبد أم لا يملك، وعلى هل يتبعه ماله في العتق أم لا؟ وقد تقدم ذلك.

@-الجنس الخامس.

وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر، وما بقي من أحكام العبد فيه.

فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها، أعني أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض. واختلفوا من هذا الباب في فروع منها أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته، فقال مالك وجماعة من العلماء إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم. وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا. وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد. وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق؛ ومن قال من شرط لزومه قال يجوز إذا عتق لأنه وقع عقدا صحيحا، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد، فقال قوم: ذلك جائز؛ وقال قوم: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وبالجواز قال مالك؛ وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا. والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون، فقال مالك: إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده، وإن مات وقد عتق المكاتب كان له ولاؤه له؛ وقال قوم من هؤلاء: بل ولاؤه على كل حال لسيده. وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الولاء لمن أعتق" ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه. وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده؛ ومن فرق بين ذلك فهو استحسان. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده؟ فقال جمهورهم: ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده؛ وأباح بعضهم النكاح له. وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم، وبه قال مالك وأباحه سحنون من أصحاب مالك، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب. والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه. والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته. وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والقول الثاني إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده، وبه قال مالك. والثالث أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وللشافعي قولان: أحدهما إثبات الكتابة، والآخر إبطالها. وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء. وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب، لأنه ليس بحر. واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء. واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة، فصار الجمهور إلى منع ذلك؛ وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين ذلك جائز إذا اشترطه عليها. وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل. وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة. وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها. واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا؟ فقال جمهورهم: لا حد عليه لأنه وطء بشبهة؛ وقال بعضهم: عليه الحد. واختلفوا في إيجاب الصداق لها، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد. ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه؛ فقال الجمهور: لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه؛ وقال بعضهم: بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته، لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا؛ وقال بعضهم: إذا رضي المكاتب بالبيع جاز، وهو قول الشافعي، لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة. وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب، ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر؛ وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين، وفي ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أعني في الشفعة في الدين؛ ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين. وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري. ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا؟.

وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة. ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد، ومنها شروط جائزة غير لازمة، ومنها شروط لازمة، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع، وليس كتابنا هذا كتاب فروع، وإنما هو كتاب أصول. والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد. والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة، ولذلك جعل مالكا جنسا ثالثا من الشروط، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد، وإن لم يتمسك بها جاز، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية. فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا؟ فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال؛ وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم. فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب.

وههنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب. فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه، ثم مات السيد وورثته البنت، فقال مالك والشافعي: ينفسخ النكاح لأنها ملكت جزءا منه، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع؛ وقال أبو حنيفة: يصح النكاح، لأن الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح. ومن هذا الباب اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء؛ وقال شريح وابن أبي ليلى وجماعة: يضرب السيد مع الغرماء. وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يغترق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته؛ وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة؛ فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب؛ وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين، وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب:

[بداية المجتهد وكفاية المقتصد]

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب التدبير

@-والنظر في التدبير: في أركانه، وفي أحكامه. أما الأركان فهي أربعة: المعنى، واللفظ، والمدبِر، والمدبَر. وأما الأحكام فصنفان: أحكام العقد، وأحكام المدبر.

@-(الركن الأول) فنقول: أجمع المسلمون على جواز التدبير، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت حر عن دبر مني، أو يطلق فيقول: أنت مدبر، وهذان هما عندهم لفظا التدبير باتفاق. والناس في التدبير والوصية على صنفين: منهم من لم يفرق بينهما، ومنهم من فرق بين التدبير والوصية بأن جعل التدبير لازما والوصية غير لازمة. والذين فرقوا بينهما اختلفوا في مطلق لفظ الحرية بعد الموت هل يتضمن معنى الوصية؟ أو حكم التدبير؟ أعني إذا قال: أنت حر بعد موتي، فقال مالك: إذا قال وهو صحيح: أنت حر بعد موتي فالظاهر أنه وصية، والقول قوله في ذلك؛ ويجوز رجوعه فيها إلا أن يريد التدبير. وقال أبو حنيفة: الظاهر من هذا القول التدبير وليس له أن يرجع فيه، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول أبي حنيفة قال أشهب قال: إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على الوصية، مثل أن يكون على سفر أو يكون مريضا، وما أشبه ذلك من الأحوال التي جرت العادة أن يكتب الناس فيها وصاياهم، فعلى قول من لا يفرق بين الوصية والتدبير، وهو قول الشافعي ومن قال بقوله هذا اللفظ هو من ألفاظ صريح التدبير. وأما على مذهب من يفرق فهو إما من كنايات التدبير، وإما ليس من كناياته ولا من صريحه، وذلك أن ما يحمله على الوصية فليس هو عنده من كناياته ولا من صريحه، ومن يحمله على التدبير وينويه في الوصية فهو عنده من كناياته. وأما المدبر فإنهم اتفقوا على أن الذي يقبل هذا العقد هو كل عبد صحيح العبودية ليس يعتق على سيده سواء ملك كله أو بعضه. واختلفوا في حكم من ملك بعضا فدبره، فقال مالك: يجوز ذلك، وللذي لم يدبر حظه خياران: أحدهما أن يتقاوماه، فإن اشتراه الذي دبره كان مدبرا كله، وإن لم يشتره انتقض التدبير والخيار الثاني أن يقومه عليه الشريك؛ وقال أبو حنيفة: للشريك الذي لم يدبر ثلاث خيارات: إن شاء استمسك بحصته، وإن شاء استسعى العبد في قيمة الحصة التي له فيه وإن شاء قومها على شريكه إن كان موسرا، وإن كان معسرا استسعى العبد؛ وقال الشافعي: يجوز التدبير ولا يلزم شيء من هذا كله، ويبقى العبد المدبر نصفه أو ثلثه على ما هو عليه، فإذا مات مدبره عتق منه ذلك الجزء ولم يقوم الجزء الباقي منه على السيد على ما يفعل في سنة العتق، لأن المال قد صار لغيره وهم الورثة، وهذه المسألة هي من الأحكام لا من الأركان، أعني أحكام المدبر فلتثبت في الأحكام. وأما المدبر فاتفقوا على أن من شروطه أن يكون مالكا تام الملك غير محجور عليه سواء كان صحيحا أو مريضا، وإن من شرطه أن لا يكون ممن أحاط الدين بماله، لأنهم اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير. واختلفوا في تدبير السفيه. فهذه هي أركان هذا الباب. وأما أحكامه فأصولها راجعة إلى أجناس خمسة: أحدها: مما يخرج المدبر، هل من رأس المال أو الثلث؟. والثاني: ما يبقى فيه من أحكام الرق مما ليس يبقى فيه، أعني ما دام مدبرا. والثالث: ما يتبعه في الحرية مما ليس يتبعه. والرابع: مبطلات التدبير الطارئة عليه. والخامس: في أحكام تبعيض التدبير.

@-الجنس الأول.

فأما مماذا يخرج المدبر إذا مات المدبر، فإن العلماء اختلفوا في ذلك؟ فذهب الجمهور إلى أنه يخرج من الثلث؛ وقالت طائفة: هو من رأس المال معظمهم أهل الظاهر؛ فمن رأى أنه من الثلث شبهه بالوصية، لأنه حكم يقع بعد الموت. وقد روي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "المدبر من الثلث" إلا أنه أثر ضعيف عند أهل الحديث، لأنه رواه علي بن طيبان عن نافع عن عبد الله بن عمر، وعلي بن طيبان متروك الحديث عند أهل الحديث. ومن رآه من رأس المال شبهه بالشيء يخرجه الإنسان من ماله في حياته فأشبه الهبة. واختلف القائلون بأنه من الثلث في فروع، وهو إذا دبر الرجل غلاما له في صحته، وأعتق في مرضه الذي مات عنه غلاما آخر فضاق الثلث عن الجمع بينهما؛ فقال مالك: يقدم المدبر لأنه كان في الصحة؛ وقال الشافعي: يقدم المعتق المبتل، لأنه لا يجوز له رده، ومن أصله أنه يجوز عنده رد التدبير، وهذه المسألة هي أحق بكتاب الوصايا.

@-وأما الجنس الثاني.

فأشهر مسألة فيه هي هل للمدبر أن يبيع المدبر أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة: ليس للسيد أن يبيع مدبره؛ وقال الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور: له أن يرجع فيبيع مدبره؛ وقال الأوزاعي: لا يباع إلا من رجل يريد عتقه. واختلف أبو حنيفة ومالك من هذه المسألة في فروع وهو إذا بيع فأعتقه المشتري، فقال مالك: ينفذ العتق؛ وقال أبو حنيفة والكوفيون البيع مفسوخ سواء أعتقه المشتري أو لم يعتقه وهو أقيس من جهة أنه ممنوع عبادة. فعمدة من أجاز بيعه ما ثبت من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا" وربما شبهوه بالوصية. وأما عمدة المالكية فعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} لأنه عتق إلى أجل فأشبه أم الولد أو أشبه العتق المطلق. فكان سبب الاختلاف ههنا معارضة القياس للنص، أو العموم للخصوص. ولا خلاف بينهم أن المدبر أحكامه في حدوده وطلاقه وشهادته وسائر أحكامه أحكام العبيد. واختلفوا من هذا الباب في جواز وطء المدبرة، فجمهور العلماء على جواز وطئها؛ وروي عن ابن شهاب منع ذلك؛ وعن الأوزاعي كراهية ذلك إذا لم يكن وطئها قبل التدبير. وعمدة الجمهور تشبيهها بأم الولد؛ ومن لم يجز ذلك شبهها بالمعتقة إلى أجل؛ ومنع وطء المعتقة إلى أجل شبهها بالمنكوحة إلى أجل، وهي المتعة. واتفقوا على أن السيد في المدبر الخدمة، ولسيده أن ينتزع ماله منه متى شاء كالحال في العبد؛ قال مالك: إلا أن يمرض مرضا مخوفا فيكره له ذلك.

@-الجنس الثالث.

فأما ما يتبعه في التدبير مما لا يتبعه، فإن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في ولد المدبرة الذين تلدهم بعد تدبير سيدها من نكاح أو زنى، فقال الجمهور: ولدها بعد تدبيرها بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها: وقال الشافعي في قوله المختار عند أصحابه إنهم لا يعتقون بعتقها. وأجمعوا على أنه إذا أعتقها سيدها في حياته أنهم يعتقون بعتقها. وعمدة الشافعية أنهم إذا لم يعتقوا في العتق المنجز فأحرى أن لا يعتقوا في العتق المؤجل بالشرط. واحتج أيضا بإجماعهم على أن الموصي لها بالعتق لا يدخل فيه بنوها؛ والجمهور رأوا أن التدبير حرمة ما، فأوجبوا اتباع الولد تشبيها بالكتابة، وقول الجمهور مروي عن عثمان وابن مسعود وابن عمر، وقول الشافعي مروي عن عمر ابن عبد العزيز وعطاء بن أبي رباح ومكحول. وتحصيل مذهب مالك في هذا أن كل امرأة فولدها تبع لها، إن كانت حرة فحرة، وإن كانت مكاتبة فمكاتب وإن كانت مدبرة فمدبر، أو معتقة إلى أجل فمعتق إلى أجل، وكذلك أم الولد ولدها بمنزلتها، وخالف في ذلك أهل الظاهر، وكذلك المعتق بعضه عند مالك. وأجمع العلماء على أن كل ولد من تزويج فهو تابع لأمه في الرق والحرية وما بينهما من العقود المفضية إلى الحرية إلا ما اختلفوا فيه من التدبير ومن أمة زوجها عربي. وأجمعوا على أن كل ولد من ملك يمين أنه تابع لأبيه، إن حرا فحرا، وإن عبدا فعبدا، وإن مكاتبا فمكاتبا. واختلفوا في المدبر إذا تسرى فولد له فقال مالك: حكمه حكم الأب: يعني أنه المدبر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس يتبعه ولده في التدبير. وعمدة مالك الإجماع على أن الولد من ملك اليمين تابع للأب ما عدا المدبر، وهو من باب قياس موضع الخلاف على موضع الإجماع. وعمدة الشافعية أن ولد المدبر مال من ماله، ومال المدبر للسيد انتزاعه منه وليس يسلم له أنه مال من ماله، ويتبعه في الحرية ماله عند مالك.

@-الجنس الرابع.

وأما النظر في تبعيض التدبير فقد قلنا فيمن دبر له حظا في عبده دون أن يدبر شريكه ونقله إلى هذا الموضع أولا، فلينقل إليه. وأما من دبر جزءا من عبد هو له كله، فإنه يقضي عليه بتدبير الكل، قياسا على من بعض العتق عند مالك.

@-وأما الجنس الخامس وهو مبطلات التدبير.

فمن هذا الباب اختلافهم في إبطال الدين للتدبير؛ فقال مالك والشافعي: الدين يبطله؛ وقال أبو حنيفة: ليس يبطله ويسعى في الدين، وسواء كان الدين مستغرقا للقيمة أو لبعضها. ومن هذا الباب اختلافهم في النصراني يدبر عبدا له نصرانيا، فيسلم العبد قبل موت سيده، فقال الشافعي: يباع عليه ساعة يسلم ويبطل تدبيره؛ وقال مالك: يحال بينه وبين سيده ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يبين أمر سيده، فإن مات عتق المدبر ما لم يكن عليه دين يحيط بماله؛ وقال الكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوِّم وسعى العبد في قيمته، ومدبر الصحة يقدم عند مالك على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب أمهات الأولاد

@-وأصول هذا الكتاب النظر في هل تباع أم الولد أم لا؟ وإن كانت لا تباع فمتى تكون أم ولد، وبماذا تكون أم ولد، وما يبقى فيها لسيدها من أحكام العبودية، ومتى تكون حرة؟.

@-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا فيها سلفهم وخلفهم، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي مثل ذلك عن عثمان، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار، وكان أبو بكر الصديق وعلي رضوان الله عليهما وابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري يجيزون بيع أم الولد، وبه قالت الظاهرية من فقهاء الأمصار. وقال جابر وأبو سعيد: "كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي عليه الصلاة والسلام فينا لا يرى بذلك بأسا" واحتجوا بما روي عن جابر أنه قال "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر عن بيعهن" ومما اعتمد عليه أهل الظاهر في هذه المسألة النوع من الاستدلال الذي يعرف باستصحاب حال الإجماع، وذلك أنهم قالوا: لما انعقد الإجماع على أنها مملوكة قبل الولادة، وجب أن تكون كذلك بعد الولادة إلى أن يدل الدليل على غير ذلك، وقد تبين في كتب الأصول قوة هذا الاستدلال، وأنه لا يصح عند من يقول بالقياس، وإنما يكون ذلك دليلا بحسب رأي من ينكر القياس، وربما احتج الجمهور عليهم بمثل احتجاجهم، وهو الذي يعرفونه بمقابلة الدعوى بالدعوى، وذلك أنهم يقولون: أليس تعرفون أن الإجماع قد انعقد على منع بيعها في حال حملها، فإذا كان ذلك وجب أن يستصحب حال هذا الإجماع بعد وضع الحمل، إلا أن المتأخرين من أهل الظاهر أحدثوا في هذا الأصل نقضا، وذلك أنهم لا يسلمون منع بيعها حاملا. ومما اعتمده الجمهور في هذا الباب من الأثر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في مارية سريته لما ولدت إبراهيم "أعتقها ولدها" ومن ذلك حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أيما امرأة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات" وكلا الحديثين لا يثبت عند أهل الحديث، حكى ذلك أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله، وهو من أهل هذا الشأن، وربما قالوا أيضا من طريق المعنى أنها قد وجبت لها حرمة وهو اتصال الولد بها وكونه بعضا منها، وحكو هذا التعليل عن عمر رضي الله عنه حين رأى أن لا يبعن فقال: خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماؤهن. وأما متى تكون أم ولد، فإنهم اتفقوا على أنها تكون أم ولد إذا ملكها قبل حملها منه. واختلفوا إذا ملكها وهي حامل منه أو بعد أن ولدت منه، فقال مالك: لا تكون أم ولد إذا ولدت منه قبل أن يملكها ثم ملكها وولدها؛ وقال أبو حنيفة: تكون أم ولد. واختلف قول مالك إذا ملكها وهي حامل، والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال إذ كان ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده، وقد قال عليه الصلاة والسلام "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأما بماذا تكون أم ولد؟ فإن مالكا قال: كل ما وضعت مما يعلم أنه ولد كانت مضغة أو علقة؛ وقال الشافعي: لابد أن يؤثر في ذلك شيء مثل الخلقة والتخطيط. واختلافهم راجع إلى ما ينطلق عليه اسم الولادة أو ما يتحقق أنه مولود. وأما ما يبقى فيها من أحكام العبودية، فإنهم اتفقوا على أنها في شهادتها وحدودها وديتها وأرش جراحها كالأمة. وجمهور من منع بيعها ليس يرون ههنا سببا طارئا عليها يوجب بيعها إلا ما روي عن عمر بن الخطاب أنها إذا زنت رقت. واختلف قول مالك والشافعي هل لسيدها استخدامها طول حياته واغتلاله إياها؟ فقال مالك: ليس له ذلك، وإنما له فيها الوطء فقط؛ وقال الشافعي: له ذلك وعمدة مالك أنه لما لم يملك رقبتها بالبيع لم يملك إجارتها، إلا أنه يرى أن إجارة بنيها من غيره جائزة، لأن حرمتهم عنده أضعف. وعمدة الشافعي انعقاد الإجماع على أنه يجوز له وطؤها. فسبب الخلاف تردد إجارتها بين أصلين: أحدهما وطؤها. والثاني بيعها. فيجب أن يرجح أقوى الأصلين شبها. وأما متى تكون حرة، فإنه لا خلاف بينهم أن آن ذلك الوقت هو إذا مات السيد، ولا أعلم الآن أحدا قال تعتق من الثلث، وقياسها على المدبر ضعيف على قول من يقول: إن المدبر يعتق من الثلث.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الجنايات.

@-والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا، وجنايات على الفروج وهو المسمى زنى وسفاحا، وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمى حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمى بغيا مأخوذا على وجه المغافصة [قال في القاموس: غافَصَهُ: فاجأَهُ، وأخَذَهُ على غِرَّة. وقال (في باب "هزؤ"): ... غافص الرجل مغافصة وغفاصا: أخذه على غرة بمساءة. دار الحديث] من حرز يسمى سرقة، وما كان منها بعلو مرتبة وقوة سلطان سمى غصبا؛ وجنايات على الأعراض، وهو المسمى قذفا؛ وجنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله عليه، فلنبتدئ منها بالحدود التي في الدماء فنقول: إن الواجب في إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال، وهو الذي يسمى الدية، فإذا النظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: النظر في القصاص، والنظر في الدية. والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس، وإلى القصاص في الجوارح. والنظر أيضا في الديات ينقسم إلى النظر في ديات النفوس، وإلى النظر في ديات قطع الجوارح والجراح. فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين: أولهما يرسم عليه كتاب القصاص. والثاني يرسم عليه كتاب الديات.

*2*كتاب القصاص

@-وهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: الأول: النظر في القصاص في النفوس. والثاني: النظر في القصاص في الجوارح، فلنبدأ من القصاص في النفوس.

*3*كتاب القصاص في النفوس.

@-والنظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: إلى النظر في الموجب، أعني الموجب للقصاص. وإلى النظر في الواجب، أعني القصاص وفي إبداله إن كان له بدل. فلنبدأ أولا بالنظر في الموجب، والنظر في الموجب يرجع إلى النظر في صفة القتل والقاتل التي يجب بمجموعها والمقتول القصاص، فإنه ليس أي قاتل اتفق يقتص منه، ولا بأي قتل اتفق، ولا من أي مقتول اتفق، بل من قاتل محدود بقتل محدود ومقتول محدود، فإذ كان المطلوب في هذا الباب إنما هو العدل. فلنبدأ من النظر في القاتل، ثم في القتل، ثم في المقتول.

*4*القول في شروط القاتل.

@-فنقول: إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره واختلفوا في المكرَه والمكرِه، وبالجملة الآمر والمباشر، فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر؛ وقالت طائفة: يقتلان جميعا، وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور. وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور، أعني المباشر، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال داود وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي. وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر وهو أحد قولي الشافعي وقال قوم: يقتلان جميعا، وبه قال مالك. فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع، لكون المكره يشبه من لا اختيار له. ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار، وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار، ويشبه من جهة المضطر المغلوب، مثل الذي يسقط من علو، والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع. ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالإكراه ولا الآمر بعدم المباشرة. ومن رأى قتل الآمر فقط شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق. ومن رأى الحد على غير المباشر اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة. وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله. وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل، فقد يكون القتل عمدا وخطأ، وقد يكون القاتل مكلفا وغير مكلف، وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد. وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف وغير مكلف، مثل عامد وصبي أو مجنون، أو حر وعبد في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: على العامد القصاص، وعلى المخطئ والصبي نصف الدية؛ إلا أن مالكا يجعله على العاقلة؛ والشافعي في ماله على ما يأتي، وكذلك قالا في الحر والعبد يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل، وعلى الحر نصف القيمة، وكذلك الحال في المسلم والذمي يقتلان جميعا. وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب القصاص عليه مع من لا يجب عليه القصاص، فلا قصاص على واحد منهما وعليهما الدية، وعمدة الحنفية أن هذه شبهة، فإن القتل لا يتبعض وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص عليه كإمكان ذلك ممن عليه القصاص، وقد قال عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" وإذا لم يكن الدم وجب بدله، وهو الدية. وعمدة الفريق الثاني النظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ لحوطة الدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه، وفيه ضعف في القياس. وأما صفة الذي يجب به القصاص، فاتفقوا على أنه العمد، وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان: عمد، وخطأ. واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، فقال به جمهور فقهاء الأمصار. والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه؛ وقد قيل أنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى، وبإثباته قال عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة؛ والذين قالوا به فرقوا فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد، وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل، وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب؛ فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من القضب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله؛ وقال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل: أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل فتولد عنه القتل. والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا. والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا، وهو حسن. فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني بين أن يقصد القتل أو لا يقصده. وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر. فمن قصد ضرب آخر بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه كحكم الغالب، أعني حكم من قصد القتل فقتل بلا خلاف. ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ هذا في حقنا لا في حق الآمر نفسه عند الله تعالى. أما شبهة العمد فمن جهة ما قصد ضربه. وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا يقصد به القتل. وقد روي حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ألا إن قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الإسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر، وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه، فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به القصاص، وعند من أثبته تجب به الدية، ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب والنائرة يجب به القصاص.

واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب، أو على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب. وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول، فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل. والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير. واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص. واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع. أما الحر إذا قتل العبد عمدا، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور: لا يقتل الحر بالعبد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه؛ وقال قوم: يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل أو عبد غير القاتل، وبه قال النخعي؛ فمن قال لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} ومن قال يقتل الحر بالعبد احتج بقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب، ومن فرق فضعيف. ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر، وكذلك الأنقص بالأعلى.

ومن الحجة أيضا لمن قال: يقتل الحر بالعبد ما رواه عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من قتل عبده قتلناه به" ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتله محرما كقتل الحر، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر، وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: لا يقتل مؤمن بكافر، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة. وقال قوم: يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى. وقال مالك والليث: لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة، وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله. فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا لم يعهده إلى الناس قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" خرجه أبو داود. وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يقتل مؤمن بكافر" واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن.

وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني قال "قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال: أنا أحق من وفى بعهده" ورووا ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما رووا من ذلك عن عمر. وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه، فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس. وأما قتل الجماعة بالواحد، فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، سواء كثرت الجماعة أو قلت، وبه قال عمر حتى روي أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وقال داود وأهل الظاهر لا تقتل الجماعة بالواحد، وهو قول ابن الزبير، وبه قال الزهري، وروي عن جابر. وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد، أعني إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد؛ وفرقت الحنفية بين الأنفس والأطراف فقالوا: تقتل الأنفس بالنفس، ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد، وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء. فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، لكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد، فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس.

وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} وأما قتل الذكر بالأنثى، فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع، إلا ما حكي عن علي من الصحابة، وعن عثمان البتي أنه إذا قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري، أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في معالم السنن، وهو شاذ، ولكن دليله قوي لقوله تعالى {والأنثى بالأنثى} وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا للعموم الذي في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا، وهي مسألة مختلف فيها، أعني هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة. واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن، فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه، فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد، وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد". وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين.

وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر ابن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول، فقال: ها أنا ذا، قال: خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس لقاتل شيء" فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب. وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد. وأما مالك فرأى ما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد، ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة، إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي، لقوة المحبة التي بين الأب والابن. والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن، والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد، فهذا هو القول في الموجب.

*4*وأما القول في الموجب.

@-فاتفقوا على أن لولي الدم أحد شيئين: القصاص، أو العفو إما على الدية وإما على غير الدية. واختلفوا هل الانتقال من القصاص إلى العفو على أخذ الدية هو حق واجب لولي الدم دون أن يكون في ذلك خيار للمقتص منه، أم لا تثبت الدية إلا بتراضي الفريقين، أعني الولي والقاتل، وأنه إذا لم يرد المقتص منه أن يؤدي الدية لم يكن لولي الدم إلا القصاص مطلقا أو العفو، فقال مالك: لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية للقاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة؛ وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره: ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك، إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى. فعمدة مالك في الرواية المشهورة حديث أنس ابن مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "كتاب الله القصاص" فعلم بدليل الخطاب أنه ليس له إلا القصاص. وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ الدية وبين أن يعفو" هما حديثان متفق على صحتهما، لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له إلا القصاص. والثاني نص في أن له الخيار والجمع بينهما يمكن إذا رفع دليل الخطاب من ذلك، فإن كان الجمع واجبا وممكنا فالمصير إلى الحديث الثاني واجب؛ والجمهور على أن الجمع واجب إذا أمكن وأنه أولى من الترجيح، وأيضا فإن الله عز وجل يقول {ولا تقتلوا أنفسكم} وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب عليه أن يفديها، أصله إذا وجد الطعام في مخمصة بقيمة مثله وعنده ما يشتريه، أعني أنه يقضى عليه بشرائه فكيف بشراء نفسه؟ ويلزم على هذه الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار فيكون لهم الخيار، ولا سيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار مثل البنين مع الإخوة. وقال القاضي: وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي رحمه الله، فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة، وهو أن لا ينتظر الصغير، فأفتى هو رحمه الله بانتظاره على القياس، فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس،

والنظر في هذا الباب هو في قسمين: في العفو والقصاص. والنظر في العفو في شيئين: أحدهما فيمن له العفو ممن ليس له، وترتيب أهل الدم في ذلك، وهل يكون له العفو على الدية أم لا؟ وقد تكلمنا في: هل له العفو على الدية. وأما من لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك وعند غيره: كل من يرث، وذلك أنهم أجمعوا على أن المقتول عمدا إذا كان له بنون بالغون فعفا أحدهم أن القصاص قد بطل ووجبت الدية. واختلفوا في اختلاف البنات مع البنين في العفو أو في القصاص. وكذلك الزوجة أو الزوج والأخوات، فقال مالك: ليس للبنات ولا الأخوات قول مع البنين والإخوة في القصاص أو ضده، ولا يعتبر قولهن مع الرجال، وكذلك الأمر في الزوجة والزوج؛ وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد والشافعي كل وارث يعتبر قوله في إسقاط القصاص وفي إسقاط حظه من الدية، وفي الأخذ به قال الشافعي الغائب منهم والحاضر والصغير والكبير سواء. وعمدة هؤلاء اعتبارهم الدم بالدية. وعمدة الفريق الأول أن الولاية إنما هي للذكران دون الإناث. واختلف العلماء في المقتول عمدا إذا عفا عن دمه قبل أن يموت هل ذلك جائز على الأولياء؟ وكذلك في المقتول خطأ إذا عفا عن الدية، فقال قوم: إذا عفا المقتول عن دمه في العمد مضى ذلك، وممن قال بذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، وهذا أحد قولي الشافعي؛ وقالت طائفة أخرى: لا يلزم عفوه، وللأولياء القصاص أو العفو، وممن قال به أبو ثور وداود، وهو قول الشافعي بالعراق. وعمدة هذه الطائفة أن الله خير الولي في ثلاث: إما العفو، وإما القصاص، وإما الدية. وذلك عام في كل مقتول سواء عفا عن دمه قبل الموت أو لم يعف. وعمدة الجمهور أن الشيء الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول، فناب فيه منابه وأقيم مقامه، فكان المقتول أحق بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته. وقد أجمع العلماء على أن قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} أن المراد بالمتصدق ههنا هو المقتول يتصدق بدمه. وإنما اختلفوا على من يعود الضمير في قوله {فهو كفارة له} فقيل على القاتل لمن رأى له توبة، وقيل على المقتول من ذنوبه وخطاياه.

وأما اختلافهم في عفو المقتول خطأ عن الدية فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور فقهاء الأمصار: إن عفوه من ذلك في ثلثه إلا أن يجيزه الورثة؛ وقال قوم: يجوز في جميع ماله، وممن قال به طاوس والحسن. وعمدة الجمهور أنه واهب مالا له بعد موته فلم يجز إلا في الثلث، أصله الوصية. وعمدة الفرقة الثانية أنه إذا كان له أن يعفو عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، وهذه المسألة هي أخص بكتاب الديات.

واختلف العلماء إذا عفا المجروح عن الجراحات، فمات منها هل للأولياء أن يطالبوا بدمه أم لا؟ فقال مالك: لهم ذلك إلا أن يقول عفوت عن الجراحات وعما تئول إليه؛ وقال أبو يوسف ومحمد إذا عفا عن الجراحة ومات فلا حق لهم، والعفو عن الجراحات عفو عن الدم؛ وقال قوم: بل تلزمهم الدية إذا عفا عن الجراحات مطلقا، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: تلزم الجارح الدية كلها، واختاره المزني من أقوال الشافعي؛ ومنهم من قال: يلزم من الدية ما بقي منها بعد إسقاط دية الجرح الذي عفا عنه، وهو قول الثوري. وأما من يرى أنه لا يعفو عن الدم فليس يتصور معه خلاف في أنه لا يسقط ذلك طلب الولي الدية، لأنه إذا كان عفوه عن الدم لا يسقط حق الولي، فأحرى أن لا يسقط عفوه عن الجرح. واختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه، هل يبقى للسلطان فيه حق أم لا؟ فقال مالك والليث: إنه يجلد مائة ويسجن سنة، وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر؛ وقالت طائفة: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجب عليه ذلك؛ وقال أبو ثور: إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى. ولا عمدة للطائفة الأولى إلا أثر ضعيف. وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد في ذلك لا يكون إلا بتوقيف، ولا توقيف ثابت في ذلك.

*4*القول في القصاص.

@-والنظر في القصاص هو في صفة القصاص، وممن يكون؟ ومتى يكون؟ فأما صفة القصاص في النفس، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، فمن قتل تغريقا قتل تغريقا، ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك، وبه قال مالك والشافعي، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرق آخر، هل يحرق مع موافقتهم لمالك في احتذاء صورة القتل؟ وكذلك فيمن قتل بالسهم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. وعمدتهم ما روى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لاقود إلا بحديدة". وعمدة الفريق الأول حديث أنس "أن يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بحجر، أو قال: بين حجرين" وقوله {كتب عليكم القصاص في القتلى} والقصاص يقتضي المماثلة وأما ممن يكون القصاص فالظاهر أنه من ولي الدم، وقد قيل إنه لا يمكن منه لمكان العداوة مخافة أن يجور فيه. وأما متى يكون القصاص فبعد ثبوت موجباته، والإعذار إلى القاتل في ذلك إن لم يكن مقرا. واختلفوا هل من شرط القصاص أن لا يكون الموضع الحرم. وأجمعوا على أن الحامل إذا قَتَلت عمدا أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها. واختلفوا في القاتل بالسيف والجمهور على وجوب القصاص؛ وقال بعض أهل الظاهر: لا يقتص منه من أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه، فلم يتعرض لمن سمه.

كمل كتاب القصاص في النفس.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*3*كتاب الجراح.

@-والجراح صنفان: منها ما فيه القصاص أو الدية أو العفو. ومنها ما فيه الدية أو العفو. ولنبدأ بما فيه القصاص، والنظر أيضا ها هنا في شروط الجارح والجرح الذي به يحق القصاص والمجروح، وفي الحكم الواجب الذي هو القصاص، وفي بدله إن كان له بدل.

*4*القول في الجارح.

@-ويشترط في الجارح أن يكون مكلفا كما يشترط ذلك في القاتل، وهو أن يكون بالغا عاقلا، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، وإن كان الخلاف في مقداره، فأقصاه ثمانية عشر سنة، وأقله خمسة عشر سنة، وبه قال الشافعي، ولا خلاف أن الواحد إذا قطع عضو إنسان واحد اقتص منه إذا كان مما فيه القصاص. واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوا واحدا، فقال أهل الظاهر: لا تقطع يدان في يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد الواحدة، كما تقتل عندهم الأنفس بالنفس الواحدة؛ وفرقت الحنفية بين النفس والأطراف، فقالوا: لا تقطع أعضاء بعضو، وتقتل أنفس بنفس، وعندهم أن الأطراف تتبعض، وإزهاق النفس لا يتبعض. واختلف في الإنبات، فقال الشافعي: هو بلوغ بإطلاق. واختلف المذهب فيه في الحدود، هل هو بلوغ فيها أم لا؟ والأصل في هذا كله حديث بني قريظة "أنه صلى الله عليه وسلم قتل منهم من أنبت وجرت عليه المواسي" كما أن الأصل في السن حديث ابن عمر أنه عرضه يوم الخندق وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبله وقبله يوم أحد وهو ابن خمس عشرة سنة.

*4*القول في المجروح.

@-وأما المجروح فإنه يشترط فيه أن يكون دمه مكافئا لدم الجارح والذي يؤثر في التكافؤ العبودية والكفر. أما العبد والحر فإنهم اختلفوا في وقوع القصاص بينهما في الجرح كاختلافهم في النفس؛ فمنهم من رأى أنه لا يقتص من الحر للعبد، ويقتص للحر من العبد كالحال في النفس؛ ومنهم من رأى أنه يقتص لكل واحد منهما من كل واحد، ولم يفرق بين الجرح والنفس؛ ومنهم من فرق فقال: يقتص من الأعلى للأدنى في النفس والجرح؛ ومنهم من قال: يقتص من النفس دون الجرح، وعن مالك الروايتان. والصواب كما يقتص من النفس أن يقتص من الجرح، فهذه هي حال العبيد مع الأحرار. وأما حال العبيد بعضهم مع بعض، فإن للعلماء فيهم ثلاثة أقوال: أحدها أن القصاص بينهم في النفس وما دونها، وهو قول الشافعي وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك. والقول الثاني أنه لا قصاص بينهم لا في النفس ولا في الجرح وأنهم كالبهائم، وهو قول الحسن وابن شبرمة وجماعة. والثالث أن القصاص بينهم في النفس دون ما دونها، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعمدة الفريق الأول قوله تعالى {والعبد بالعبد} . وعمدة الحنفية ما روي عن عمران بن الحصين "أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتص منه" فهذا هو حكم النفس.

*4*القول في الجرح.

@-وأما الجرح فإنه يشترط فيه أن يكون على وجه العمد، أعني الجرح الذي يجب فيه القصاص، والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح المجروح أو لا يتلف، فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن يقصد ضربه على وجه الغضب بما يجرح غالبا. وأما إن جرحه على وجه اللعب أو اللعب بما لا يجرح به غالبا أو على وجه الأدب، فيشبه أن يكون فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا، فإن أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول إن القاتل بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه، أعني بالخلاف هل فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه الدية. وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح المجروح، فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا خلاف، وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف. أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة تقطع العضو غالبا، أو ضربه على وجه النائرة فلا خلاف أن فيه القصاص. وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه، فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله وهي رواية العراقيين عن مالك، والمشهور في المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا في الأب مع ابنه؛ وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح. وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه قولان: أحدهما وجوب القصاص، والثاني نفيه. وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قبل الدية مغلظة، وقيل دية الخطأ، أعني فيما فيه دية، وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف. وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على الشروط التي ذكرناها فهو القصاص لقوله تعالى {والجروح قصاص} وذلك فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة" فرأى مالك ومن قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف، مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك. وقد اختلف قول مالك في المنقلة، فمرة قال بالقصاص، ومرة قال بالدية؛ وكذلك الأمر عند مالك فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع، ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل مثل أن يفقأ أعمى عين بصير. واختلفوا من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا، فقال الجمهور: إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله القود، واختلفوا إذا عفا عن القود، فقال قوم: إن أحب فله الدية كاملة ألف دينار، وهو مذهب مالك، وقيل ليس له إلا نصف الدية، وبه قال الشافعي، وهو أيضا منقول عن مالك، ويقول الشافعي قال ابن القاسم، وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحا عليه؛ وقد قيل لا يستقيد من الأعور وعليه الدية كاملة، روي هذا عن ابن المسيب وعن عثمان. وعمدة صاحب هذا القول أن عين الأعور بمنزلة عينين، فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين في واحدة، وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك القود أنه له دية كاملة، ويلزم حامل هذا القول أن لا يستقيد ضرورة؛ ومن قال بالقود وجعل الدية نصف الدية فهو أحرز لأصله، فتأمله فإنه بين بنفسه والله أعلم. وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية، أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على أخذ الدية ففيه القولان عن مالك مثل القولين في القتل، وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح: أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة على الاختلاف في ذلك.

وأما متى يستقاد من الجرح؟ فعند مالك أنه لا يستقاد من جرح إلا بعد اندماله، وعند الشافعي على الفور؛ فالشافعي تمسك بالظاهر، ومالك رأى أن يعتبر ما يئول إليه أمر الجرح مخافة أن يفضي إلى إتلاف النفس. واختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت المقتص من ذلك الجرح، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد لا شيء على المقتص، وروي عن علي وعمر مثل ذلك، وبه قال أحمد وأبو ثور وداود؛ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة: إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية؛ وقال بعضهم: هي في ماله. وقال عثمان البتي: يسقط عنه من الدية قدر الجراحة التي اقتص منها، وهو قول ابن مسعود. فعمدة الفريق الأول إجماعهم على أن السارق إذا مات من قطع يده أنه لا شيء على الذي قطع يده. وعمدة أبي حنيفة أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية؛ ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد الشديد، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه؛ وقد قيل إن المكان شرط في جواز القصاص وهو غير الحرم، فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي الجنايات على أعضاء البدن، وينبغي أن نصير إلى حكم الخطأ في ذلك، ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس.

*2*كتاب الديات في النفوس.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء. وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية، وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها إما الفريقان، وإما من له القود على ما تقدم من الاختلاف. والنظر في الدية هو في موجبها، أعني في أي قتل تجب، ثم في نوعها وفي قدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب. فأما في أي قتل تجب، فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي، وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر والعبد ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ. ومنه ما اختلفوا فيه، وقد تقدم صدر من ذلك، وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد.

وأما قدرها ونوعها، فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل، وهي في مذهب مالك ثلاث ديات: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية شبه العمد. وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه. وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط: مخففة ومغلظة. فالمخففة دية الخطأ، والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد. وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا: دية الخطأ، ودية شبه العمد، وليس عنده دية في العمد، وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل، وهو معنى قول مالك المشهور، لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فههنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه، ودية العمد عنده أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول ابن شهاب وربيعة، والدية المغلظة عنده أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة وهي الحوامل، ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه؛ وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا أيضا، وروى ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت؛ وقال أبو ثور: الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ. واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ، فقال مالك والشافعي: هي أخماس: عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، أعني التخميس، إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا، وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا؛ وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا، أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ولا حديث في ذلك مسند، فدل على الإباحة - والله أعلم - كما قال أبو عمر بن عبد البر. وخرج البخاري والترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة"

واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روى عن حنيف ابن مالك عن ابن مسعود وهو مجهول قال: وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي، لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود. وخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكر" قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، وإن كانوا اختلفوا في الأصناف؛ وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وهؤلاء جعلوها: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنات لبون، وخمسا وعشرين بنات مخاض، كما روي عن علي وخرجه أبو داود، وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر، وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض لأنها لم تذكر في أسنان فيها، وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا. النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث كما قد روي ذلك الشافعي، ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه. فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل. وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم؛ فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم؛ وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم؛ وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك. وعمدة مالك تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار، وعلى أهل الورق باثني عشر ألف درهم. وعمدة الحنفية ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم، وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة.

وأما الشافعي فيقول: إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير، وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، لأن ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه، والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال كانت الديات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا. واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو لو كان تقويم عمر بدلا لكان دينا بدين، لإجماعهم أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين؛

ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون: يوضع على أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة، وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وما أسنده أبو بكر بن أبي شبية عن عطاء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة" وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير. قال: فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق، فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعد لها من الشاة ألف شاة. ولأن أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا. وعمدة الفريق الأول أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام، وبالخيل على أهل الخيل، وهذا لا يقول به أحد. والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها، وفي مقدارها، وعلى من تجب، وفيما تجب، ومتى تجب؟. أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين. وأما على من تجب؟ فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومن قوله عليه الصلاة والسلام لأبي زمنة لولده "لا يجني عليك ولا تجني عليه". وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس ولا مخالف له من الصحابة أنه قال: لا تحمل العاقلة عمدا ولا إعترافا ولا صلحا في عمد، وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ؛ وشذ الأوزاعي فقال: من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية، وكذلك عندهم في قطع الأعضاء. وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ، فقضى له عمر بديتها على عاقلته. واختلفوا في دية شبه العمد، وفي الدية المغلظة على قولين: واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة إنه كله يحمل على العاقلة؛ وقال الشافعي عمد الصبي في ماله.

وسبب اختلافهم تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ؛ فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله؛ ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة، وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي، والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي الدية اختلفوا على من تكون؟ فقال الشافعي: على أصله في مال الصبي؛ وقال مالك: على العاقلة؛ وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما. وأما متى تجب؟ فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين، وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل. وأما من هم العاقلة، فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي بالقرابة من قبل الأب، وهم العصبة دون أهل الديوان، وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة، إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة، وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك؛ وقال الشافعي: على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار، وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالأقرب من بني أبيه، ثم من بني جده، ثم من بني أبية؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان. وعمدة أهل الحجاز أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان؛ وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب. واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا قوة". وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء.

واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي وهم السائبة إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا؟، وإن كان فعلى من يكون؟ فقال من لم يجعل لهم موالي: ليس على السائبة عقل، وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي، وهو داود وأصحابه. وقال: من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله، وقال: من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال، ومن قال إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه، وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف. والديات تختلف بحسب اختلاف المودى فيه، والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية. أما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على النصف من دية الرجل في النفس فقط. واختلفوا فيما دون النفس من الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء. وأما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين، ونساؤهم على النصف من نسائهم، وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين. والقول الثاني أن ديتهم ثلث دية المسلم، وبه قال الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان، وقال به جماعة من التابعين. والقول الثالث: أن ديتهم مثل دية المسلمين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود، وقد روي عن عمر وعثمان، وقال به جماعة من التابعين. فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "دية الكافر على النصف من دية المسلم" وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} .ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم. قال: وكانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى أهل المقتول نصفها، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية ألغى الذي جعله معاوية في بيت المال، قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة.

(يتبع...)

@(تابع... 1): -والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة... ...

وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه، فقال قوم: عليه قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر، وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وهو قول سعيد ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يتجاوز بقيمة العبد الدية؛ وقالت طائفة من فقهاء الكوفة: فيه الدية، ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا. وعمدة الحنفية أن الرق حال نقص، فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر. وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه مكلف ناقص، فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنى والقذف والخمر والطلاق، ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه: أعني في دية الخطأ، لكن لم يقل به أحد. وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة، أصله سائر الأموال. واختلف في الواجب في العبد على من يجب؟ فقال أبو حنيفة: هو على عاقلة القاتل، وهو الأشهر عن الشافعي؛ وقال مالك: هو على القاتل نفسه. وعمدة مالك تشبيه العبد بالعروض. وعمدة الشافعي قياسه على الحر. ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين، وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه. والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب، وعلى من تجب، ولمن يجب، وفي شروط الوجوب. فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها" فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة" واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة وهو مذهب الجمهور هي نصف عشر دية أمه؛ إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة آلاف درهم قال: دية الجنين خمسمائة درهم؛ ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال: ستمائة درهم؛

والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا إخراج قيمتها عنها قالوا: الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغة ما بلغت؛ وقال داود وأهل الظاهر: كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ، ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب. واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية؛ فذهب مالك والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه؛ وفرق قوم بين الذكر والأنثى، فقال قوم: إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه، وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا، وبه قال أبو حنيفة، ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته؛ وقال أبو يوسف: في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص من قيمة أمه. وأما جنين الذمية، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي دية المسلم، والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم، ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم. وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب. واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا، فقال مالك والشافعي: لا شيء فيه؛ وقال أشهب: فيه الغرة، وبه قال الليث وربيعة والزهري. واختلفوا من هذا الباب في فروع، وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا أو ميتا. فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء: كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي، وهو الأظهر. واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة، فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة، وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة. والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه.

وأما على من تجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري: هي في مال الجاني؛ وقال آخرون: هي على العاقلة، وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة. وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على العاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها". وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا. وأما لمن تجب؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هي لورثة الجنين، وحكمها حكم الدية في أنها موروثة؛ وقال ربيعة والليث: هي للأم خاصة، وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها، ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة، فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة واستحسنها مالك ولم يوجبها. فأما الشافعي فإنه أوجبها لأن الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ. وأما أبو حنيفة فإنه غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب عنده في العمد. وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ، وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها. ومن أنواع الخطأ المختلف فيه، اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد؛ فقال الجمهور: هم ضامنون لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء عمر على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر بالعقل. وقال أهل الظاهر: لا ضمان على أحد في جرح العجماء، واعتمدوا الأثر الثابت فيه عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" فحمل الجمهور الحديث على أنه لم يكن بالدابة راكب ولا سائق ولا قائد، لأنهم رأوا أنه إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق، فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب ولكن خطأ.

واختلف الجمهور فيما أصابت الدابة برجلها، فقال مالك: لا شيء فيه إن لم يفعل صاحب الدابة بالدابة شيئا يبعثها به على أن ترمح برجلها؛ وقال الشافعي: يضمن الراكب ما أصابت بيدها أو برجلها، وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه استثنى الرمحة بالرجل أو بالذنب، وربما احتج من لم يضمن رجل الدابة بما روي عنه صلى الله عليه وسلم "الرجل جبار" ولم يصح هذا الحديث عند الشافعي ورده. وأقاويل العلماء فيمن حفر بئرا فوقع فيه إنسان متقاربة؛ قال مالك: إن حفر في موضع جرت العادة الحفر في مثله لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن؛ وقال الليث: إن حفر في أرض يملكها لم يضمن وإن حفر فيما لا يملك ضمن، فمن ضمن عنده فهو من نوع الخطأ. وكذلك اختلفوا في الدابة الموقوفة، فقال بعضهم: إن أوقفها بحيث يجب له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يفعل ضمن، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: يضمن على كل حال، وليس يبرئه أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه، كما لا يبرئه ركوبها من ضمان ما أصابته وإن كان الركوب مباحا. واختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما؛ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل واحد منهما دية الآخر وذلك على العاقلة؛ وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية، مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذلك، لأنه في معنى الجاني خطأ؛ وعن مالك رواية: أنه ليس عليه شيء، وذلك عنده إذا كان من أهل الطب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد، وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن" والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة، ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب.

ولا خلاف بينهم أن الكفارة التي نص الله عليها في قتل الحر خطأ واجبة. واختلفوا في قتل العمد هل فيه كفارة؟ وفي قتل العبد خطأ، فأوجبها مالك في قتل الحر فقط في الخطأ دون العمد وأوجبها الشافعي في العمد من طريق الأولى والأحرى؛ وعند مالك أن العمد في هذا حكمه حكم الخطأ. واختلفوا في تغليظ الدية في الشهر الحرام وفي البلد الحرام؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا تغلظ الدية فيهما؛ وقال الشافعي: تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح. وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها، وروي ذلك عن عمر، وكذلك عن الشافعي من قتل ذا رحم محرم. وعمدة مالك وأبي حنيفة عموم الظاهر في توقيت الديات، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل مع أنهم قد أجمعوا على أنه لا تغلظ الكفارة فيمن قتل فيهما. وعمدة الشافعي أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وابن عباس، وإذا روي عن الصحابة شيء مخالف للقياس وجب حمله على التوقيف، ووجه مخالفته للقياس أن التغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصوال الشرع، وللفريق الثاني أن يقول إنه قد ينقدح في ذلك قياس لما ثبت في الشرع من تعظيم الحرم واختصاصه بضمان الصيود فيه.

*2*كتاب الديات فيما دون النفس.

@-والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء، فلنبدأ بالقول في الشجاج، والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وقدره الواجب، وعلى من تجب؟ ومتى تجب؟ ولمن تجب؟ فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء، والشجاج عشرة في اللغة والفقه: أولها الدامية وهي التي تدمي الجلد، ثم الخارصة وهي التي تشق الجلد، ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم: أي تشقه، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم، ثم السمحاق وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ويقال لها: الملطاء بالمد والقصر، ثم الموضحة وهي التي توضح العظم: أي تكشفه، ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة وهي التي يطير العظم منها، ثم المأمومة وهي التي تصل أم الدماغ، ثم الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف، وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن، واسم الجرح يختص بما وقع في البدن، فهذه أسماء هذه الشجاج. فأما أحكامها أعني الواجب فيها، فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ. واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل، وإنما فيها حكومة، قال بعضهم: أجرة الطبيب، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة، وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة، والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا؛ وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا؛ ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ فهذه هي أحكام ما دون الموضحة. فأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل، وثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "في الموضحة خمس" يعني من الإبل. واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا، أعني على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها، فقال مالك: لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحى الأعلى، ولا تكون في اللحى الأسفل لأنه في حكم العنق ولا في الأنف؛ وأما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس؛ والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة: تكون في الجنب؛ وقال الأوزاعي: إذا كانت في الجسد كانت من دينها في الوجه والرأس. وروي عن عمر أنه قال: في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو. وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين، فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها، وروى ذلك مالك عن سليمان بن يسار، واضطرب قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول سليمان بن يسار، ومرة قال: لا يزاد فيها على عقلها شيء، وبه قال الجمهور؛ وقد قيل عن مالك إنه قال: إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف، ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عمدا. وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة ؛وقال بعض العلماء: الهاشمة هي المنقلة وشذ. وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ، فأما إذا كانت عمدا، فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف. وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة. وأما الهاشمة في العمد. فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود. ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة. وأما المأمومة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير. وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن. واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه، فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء - أي عضو كان - ثلث دية ذلك العضو. وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ؛ وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد. وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد فليس في الخطأ منها إلا الحكومة.

*3*القول في ديات الأعضاء.

@-والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود، وهو الذي يسمى دية، وكذلك من الجراحات والنفوس حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول "إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا استوعب جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل أصبع مما هناك عشر من الإبل، وفي السن والموضحة خمس" وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام، فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره، ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر ههنا قياسا على ما نذكر فنقول: إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية؛ وروي عن قوم من التابعين أن في السفلى ثلثي الدية لأنها تحبس الطعام والشراب، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا، وهو مذهب زيد بن ثابت. وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوي متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل. واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث: إذا اصطلمتا كان فيهما الدية، ولم يشترطوا إذهاب السمع، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة. وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما، فإن لم يذهب ففيه حكومة. وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال: إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة. وروي عن عمر وعلي وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية. وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية. وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة؛ وقال أبو حنيفة: فيهما الدية، وكذلك في أشفار العين؛ وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة. وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال: في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة. وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف، فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة، وأيضا فإن الحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين، أعني ضروريا في الخلقة. وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية، وبه قال الشافعي والكوفي، لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان. وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان. وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية، وقال جميعهم: إن في كل واحدة منهما نصف الدية، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية،

فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة. وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية، وذلك مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة. واختلفوا في القصاص فيه عمدا؛ فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية، وهم مالك والشافعي والكوفي، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني، والكوفي ومالك على العاقلة؛ وقال الليث وغيره: في اللسان عمدا القصاص. وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جدعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة. وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة. واختلفوا في ذكر العنين والخصي، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء؛ فمنهم من جعل فيها الدية؛ ومنهم من جعل فيها حكومة؛ ومنهم من قال: في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية؛ والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة. وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة؛ ثم في باقي الذكر حكومة وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة، وبه قال الليث، وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: فيها نصف الدية كما في عين الصحيح وهو مروي عن جماعة من التابعين. وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور. وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو ابن حزم: أعني عموم قوله "وفي العين نصف الدية، وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية. فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس، ومعارضة القياس للقياس

ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي رضي الله عنه أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا، ثم علم ما بين الخطين من المسافة، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة، فأعطاه قدر ذلك من الدية. ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع مختلفة، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق.

واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيها حكومة؛ وقال زيد بن ثابت: فيها عشر الدية مائة دينار؛ وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا تقويتا. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منهما ثلث الدية. وقال مالك: تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية. واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا؛ فقال الجمهور: فله القود، وإن عفا فله الدية، وقال قوم: كاملة؛ وقال قوم: نصفها، وبه قال الشافعي وابن القاسم، وبكلا القولين قال مالك، وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه. وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم. ومذهب عمر وعثمان وابن عمر أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار، لأنها في حقه في معنى العينين كليتهما إلا العين الواحدة، فإذا تركها له وجبت عليه ديتها. وعمدة أولئك البقاء على الأصل؛ أعني أن في العين الواحدة نصف الدية. وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح.

وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم: إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ماله من الأصابع أنملتان كالإبهام؛ ففي أنملته خمس من الإبل، وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأصابع بعشر العشر" وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق، فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها. وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية، وفي الوسطى بعشر فرائض، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست. وروي عن مجاهد أنه قال في الإبهام خمسة عشر من الإبل، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي الخنصر سبع وأما الترقوة والضلع، ففيهما عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة، وروي عن بعض السلف فيها توقيت. وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل، والضلع بجمل، وفي الترقوة بجمل. وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران. وقال قتادة: أربعة أبعرة. وعمدة فقهاء الأمصار أن ما لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيت فليس فيه إلا حكومة. وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل، وبه قال ابن عباس. وروى مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم. وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل. وقال سعيد بن المسيب: في الأضراس بعيران. وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال: أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس؟ فقال ابن عباس: لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء،

وعمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "في السن خمس" وذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها. وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف، وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع.

واختلفوا في كسر ما كسر منها مثل الساق والذراع هل فيه قود أم لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب، وقال الشافعي والليث: لا قصاص في عظم من العظام يكسر، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن. وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم، وكذلك عن عمر. قال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد في السن المكسورة من حديث أنس قال: وقد روي من حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقدر من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي. وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ. واتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. واختلفوا في ديات الشجاج وأعضائها؛ فقال جمهور فقهاء المدينة: تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل، أعني دية أعضائها من أعضائه، مثال ذلك أن في كل أصبع من أصابعها عشرا من الإبل، وفي اثنين منها عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون، وبه قال مالك وأصحابه والليث بن سعد، ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، وهو قول زيد بن ثابت ومذهب عمر بن عبد العزيز؛ وقالت طائفة: بل دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة، ثم تكون ديتها على النصف من دية الرجل وهو الأشهر من قولي ابن مسعود، وهو مروي عن عثمان، وبه قال شريح وجماعة؛ وقال قوم: بل دية المرأة في جراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل في قليل ذلك وكثيره، وهو قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن مسعود، إلا أن الأشهر عنه ما ذكرناه أولا، وبهذا القول قال أبو حنيفة والشافعي والثوري. وعمدة قائل هذا القول أن الأصل هو أن دية المرأة نصف دية الرجل فواجب التمسك بهذا الأصل حتى يأتي دليل من السماع الثابت، إذ القياس في الديات لا يجوز وبخاصة لكون القول بالفرق بين القليل والكثير مخالفا للقياس ولذلك قال ربيعة لسعيد ما يأتي ذكره عنه، ولا اعتماد للطائفة الأولى إلا مراسيل، وما روي عن سعيد بن المسيب حين سأله ربيعة بن أبي عبد الرحمن كم في أربع من أصابعها؟ قال عشرون، قلت حين عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها، قال: أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السنة.

وروي أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام من مرسل عمرو ابن شعيب عن أبيه وعكرمة. وقد رأى قوم أن قول الصحابي إذا خالف القياس وجب العمل به، لأنه يعلم أنه لم يترك القول به إلا عن توقيف، لكن في هذا ضعف إذ كان يمكن أن يترك القول به إما لأنه لا يرى القياس، وإما لأنه عارضه في ذلك قياس ثان أو قلد في ذلك غيره. فهذه حال ديات جراح الأحرار والجنايات على أعضائها الذكور منها والإناث. وأما جراح العبيد وقطع أعضائهم، فإن العلماء اختلفوا فيها على قولين: فمنهم من رأى أن في جراحهم وقطع أعضائهم ما نقص من ثمن العبد؛ ومنهم من رأى أن الواجب في ذلك من قيمته قدر ما في ذلك الجراح من ديته، فيكون في موضحته نصف عشر قيمته، وفي عينه نصف قيمته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عمر وعلي؛ وقال مالك: يعتبر في ذلك كله ما نقص من ثمنه إلا موضحته ومنقلته ومأمومته، ففيها من ثمنه قدر ما فيها في الحر من ديته. وعمدة الفريق الأول تشبيهه بالعروض. وعمدة الفريق الثاني تشبيهه بالحر إذ هو مسلم ومكلف ولا خلاف بينهم أن دية الخطأ من هذه إذا جاوزت الثلث على العاقلة. واختلف فيما دون ذلك، فقال مالك وفقهاء المدينة السبعة وجماعة: إن العاقلة لا تحمل من ذلك إلا الثلث فما زاد؛ وقال أبو حنيفة: تحمل من ذلك العشر فما فوقه من الدية الكاملة؛ وقال الثوري وابن شبرمة: الموضحة فما زاد على العاقلة وقال الشافعي وعثمان البتي: تحمل العاقلة القليل والكثير من دية الخطأ. وعمدة الشافعي هي أن الأصل هو أن العاقلة هي التي تحمل دية الخطأ فمن خصص من ذلك شيئا فعليه الدليل، ولا عمدة للفريق المتقدم إلا أن ذلك معمول به ومشهور، وهنا انقضى هذا الكتاب والحمد لله حق حمده.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب القسامة.

@-اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب: المسألة الأولى: هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟. الثانية؛ إذا قلنا بوجوبها هل يجب بها الدم أو الفدية أو دفع مجرد الدعوى. المسألة الثالثة: هل يبدأ بالأيمان فيها المدعون أو المدعى عليهم، وكم عدد الحالفين من الأولياء؟ المسألة الرابعة: فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالأيمان.

@-(المسألة الأولى) أما وجوب الحكم بها على الجملة فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار؛ وقالت طائفة من العلماء سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علية: لا يجوز الحكم بها. عمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حويصة ومحيصة وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه على ما سيأتي بعد. وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فمنها أن الأصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر، ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم وقالوا: نقول أن القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء، وقال ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. قالوا: ومنها أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول "أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينا: أعني لولاة الدم وهم الأنصار؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السنة. قال: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى. وأما القائلون بها وبخاصة مالك فرأى أن سنة القسامة سنة منفردة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر وكان يقل قيام الشهادة عليه لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق والسراق، ذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق، فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين مع مخالفة ذلك للأصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم والله أعلم.

@-(المسألة الثانية) اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فقال مالك وأحمد يستحق بها الدم في العمد والدية في الخطأ؛ وقال الشافعي والثوري وجماعة: تستحق بها الدية فقط؛ وقال بعض الكوفيين: لا يستحق بها إلا دفع الدعوى على الأصل في أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه؛ وقال بعضهم: بل يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا إنما يستحق منها دفع القود فقط، فيكون فيها يستحق المقسمون أربعة أقوال. فعمدة مالك ومن قال بقوله ما رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة وفيه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكذلك ما رواه من مرسل بشير بن بشار وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم". وأما عمدة من أوجب بها الدية فقط، فهو أن الأيمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال أعني في الشرع مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل ما يجب المال بنكول المدعى عليه أو بالنكول وقلبها على المدعي عند من يقول بقلب اليمين مع النكول مع أن حديث مالك عن ابن أبي ليلى ضعيف لأنه رجل مجهول لم يروا عنه غير مالك. وقيل فيه أيضا أنه لم يسمع من سهل. وحديث بشير ابن بشار قد اختلف في إسناده، فأرسله مالك وأسنده غيره. قال القاضي: يشبه أن تكون هذه العلة هي السبب في أن لم يخرج البخاري هذيين الحديثين، واعتضد عندهم القياس في ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قود بالقسامة، ولكن يستحق بها الدية. وأما الذين قالوا إنما يستحق بها دفع الدعوى فقط، فعمدتهم أن الأصل هو أن الأيمان على المدعى عليه، والأحاديث التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله.

@-(المسألة الثالثة) واختلف القائلون بالقسامة، أعني الذين قالوا إنها يستوجب بها مال أو دم فيمن يبدأ بالأيمان الخمسين على ما ورد في الآثار؛ فقال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون؛ وقال فقهاء الكوفة والبصرة وكثير من أهل المدينة: بل يبدأ المدعى عليهم بالأيمان وعمدة من بدأ بالمدعين حديث مالك عن ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة ومرسله عن بشير بن يسار. وعمدة من رأى التبدئة بالمدعى عليهم ما خرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن حثمة وفيه "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأتون بالبينة على من قتله" قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فواداه بمائة بعير من إبل الصدقة" قال القاضي: وهذا نص في أنه لا يستوجب بالأيمان الخمسين إلا دفع الدعوى فقط. واحتجوا أيضا بما خرجه أبو داود أيضا عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من كبراء الأنصار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم: أيحلف منكم خمسون رجلا خمسين يمينا؟ فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود" لأنه وجد بين أظهرهم، وبهذا تمسك من جعل اليمين في حق المدعى عليه وألزمهم الغرم مع ذلك، وهو حديث صحيح الإسناد، لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة، وروى الكوفيون ذلك عن عمر، أعني أنه قضى على المدعى عليهم باليمين والدية. وخرج مثله أيضا من تبدئة اليهود بالأيمان عن رافع بن خديج، واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد وكان أجرى فرسه فوطئ على أصبع الجهني فترى فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا، فأبوا فقضى عليهم بشطر الدية. قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي روي فيها تبدئة المدعين بالأيمان، لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه. قال أبو عمر: والأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة.

@-(المسألة الرابعة) وهي موجب القسامة عند القائلين بها، أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة. واختلفوا في الشبهة ما هي؟ فقال الشافعي: إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم، وبين أولئك القوم، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم، ووجد فيها القتيل من الأنصار، قال: وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه الشبه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة؛ وقال مالك بنحو من هذا، أعني إن القسامة لا تجب إلا بلوث والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه، واختلفوا إذا لم يكن عدلا. وكذلك وافق الشافعي في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل متشحطا بدمه وبقربه إنسان بيده حديدة مدماة، إلا أن مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وبين أهل المحلة، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق ههنا شيء يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها، ولذلك لم يقل بها قوم؛ وقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة؛ ومن أهل العلم من أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط الشافعي، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه أبو حنيفة، وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين وهو مذهب ابن حزم قال: القسامة تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا، وعند مالك رجلان فصاعدا من أولئك. وقال داود: لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة، وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين بالأيمان من رأى ذلك منهم، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه، وكأنه شبه ذلك اليمين مع الشاهد في الأموال. وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله عليه الصلاة والسلام "لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" وهو حديث ثابت من حديث ابن عباس، وخرجه مسلم في صحيحه، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف، لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة. واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد، وبه قال أحمد بن حنبل؛ وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء، وهو ضعيف؛ وقال المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل؛ وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب إنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف. واختلفوا في القسامة في العبد، فبعض أثبتها، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة، وبها قال مالك، والدية عندهم فيها في مال القاتل، ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ، وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل، أعني حظه منها. وقال الزهري: إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع، وفروع هذا الباب كثيرة. قال القاضي: والقول في القسامة هو داخل فيما ثبتت به الدماء، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس. وأما القضاء الذي يعم أكثر من واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب في أحكام الزنى

@-والنظر في أصول هذا الكتاب في حد الزنا، وفي أصناف الزناة، وفي العقوبات لكل صنف صنف منهم، وفيما تثبت به هذه الفاحشة.

*3*الباب الأول في حد الزنى.

@-فأما الزنى فهو كل وطء وقع على غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحدود مما ليس بشبهة دارئة، وفي ذلك مسائل نذكر منها أشهرها، فمنها الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك، فقال مالك: يدرأ عنه الحد وإن ولدت ألحق الولد به وقومت عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم يعزر؛ وقال أبو ثور: عليه الحد كاملا إذا علم الحرمة. وحجة الجماعة قوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" والذين درءوا الحدود اختلفوا هل يلزمه من صداق المثل بقدر نصيبه أم لا يلزم. وسبب الخلاف: هل ذلك الذي يغلب منها حكمه على الجزء الذي لا يملك أم حكم الذي لا يملك يغلب على حكم الذي يملك؟ فإن حكم ما ملك الحلية، وحكم ما لم يملك الحرمية. ومنها اختلافهم في الرجل المجاهد يطأ جارية من المغنم، فقال قوم: عليه الحد؛ ودرأ قوم عنه الحد وهو أشبه. والسبب في هذه وفي التي قبلها واحد، والله أعلم. ومنها أن يحل رجل لرجل وطء خادمه، فقال مالك: يدرأ عنه الحد؛ وقال غيره: يعزر؛ وقال بعض الناس: بل هي هبة مقبوضة والرقبة تابعة للفرج. ومنها الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته، فقال الجمهور: لا حد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل خاطبه: "أنت ومالك لأبيك" ولقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقاد الوالد بالولد" ولإجماعهم على أنه لا يقطع فيما سرق من مال ولده، ولذلك قالوا: تقوم عليه حملت أم لم تحمل لأنها قد حرمت على ابنه فكأنه استهلكها. ومن الحجة لهم أيضا إجماعهم على أن الأب لو قتل ابن ابنه لم يكن للابن أن يقتص من أبيه، وكذلك كل من كان الابن له وليا. ومنها الرجل يطأ جارية زوجته، اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال، فقال مالك والجمهور: عليه الحد كاملا؛ وقالت طائفة ليس عليه الحد وتقوم عليه فيغرمها لزوجته إن كانت طاوعته، وإن كانت استكرهها قومت عليه وهي حرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، والأول قول عمر، ورواه مالك في الموطأ عنه. وقال قوم: عليه مائة جلدة فقط سواء كان محصنا أم ثيبا: وقال قوم: عليه التعزير. فعمدة من أوجب عليه الحد أنه وطئ دون ملك تام ولا شركة ملك ولا نكاح فوجب الحد. وعمدة من درأ الحد ما ثبت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى في رجل وطئ جارية امرأته أنه إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها، وأيضا فإن له شبهة في مالها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تنكح المرأة لثلاث، فذكر مالها" ويقوى هذا المعنى على أصل من يرى أن المرأة محجور عليها من زوجها فيما فوق الثلث، أو في الثلث فما فوقه، وهو مذهب مالك. ومنها ما يراه أبو حنيفة من درء الحد عن واطئ المستأجرة، والجمهور على خلاف ذلك، وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه، وكأنه رأى أن هذه المنفعة أشبهت سائر المنافع التي استأجرها عليها، فدخلت الشبهة وأشبه نكاح المتعة. ومنها درء الحد عمن امتنع اختلف فيه أيضا. وبالجملة فالأنكحة الفاسدة داخلة في هذا الباب، وأكثرها عند مالك تدرأ بالحد إلا ما انعقد منها على شخص مؤبد التحريم بالقرابة مثل الأم وما أشبه ذلك، مما لا يعذر فيه بالجهل.

*3*الباب الثاني في أصناف الزناة وعقوباتهم.

@-والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف: محصنون ثيب وأبكار وأحرار وعبيد وذكور وإناث. والحدود الإسلامية ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب. فأما الثيب الأحرار المحصنون، فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الأهواء فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة أعني قوله تعالى {الزانية والزاني} الآية. واختلفوا في موضعين: أحدهما هل يجلدون مع الرجم أم لا؟ والموضع الثاني في شروط الإحصان.

@-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم قبل الرجم أم لا؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم؛ وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد وداود: الزاني المحصن يجلد ثم يرجم. عمدة الجمهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، ورجم امرأة من جهينة، ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يروا أنه جلد واحدا منهم. ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك أن الحد إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وعمدة الفريق الثاني عموم قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فلم يخص محصن من غير محصن. واحتجوا أيضا بحديث علي رضي الله عنه، خرجه مسلم وغيره أن عليا رضي الله عنه جلد شراحة الهمذاني يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسوله. وحديث عبادة بن الصامت، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة" وأما الإحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم. واختلفوا في شروطه فقال مالك: البلوغ والإسلام والحرية والوطء في عقد صحيح، وحالة جائز فيها الوطء، والوطء المحظور عنده هو الوطء في الحيض أو في الصيام، فإذا زنى بعد الوطء الذي بهذه الصفة وهو بهذه الصفات فحده عنده الرجم، ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطء المحظور؛ واشترط في الحرية أن تكون من الطرفين، أعني أن يكون الزاني والزانية حرين، ولم يشترط الإسلام الشافعي. وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو حديث متفق عليه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية واليهودي اللذين زنيا" إذ رفع إليه أمرهما اليهود، والله تعالى يقول {وإن حكمت فاحكم بينهما بالقسط} . وعمدة مالك من طريق المعنى أن الإحصان عنده فضيلة ولا فضيلة مع عدم الإسلام، وهذا مبناه على أن الوطء في نكاح صحيح هو مندوب إليه، فهذا هو حكم الثيب. وأما الأبكار فإن المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنى الجلد مائة لقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}

واختلفوا في التغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلا؛ وقال الشافعي: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا؛ وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي؛ ولا تغريب عند مالك على العبيد. فعمدة من أوجب التغريب على الإطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا "إن رجلا من الأعراب أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فرجمت". ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب، وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد. ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب. وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا. وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة، فإن العبيد صنفان: ذكور، وإناث أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} واختلفوا إذا لم تتزوج، فقال جمهور فقهاء الأمصار: حدها خمسون جلدة؛ وقالت طائفة: لا حد عليها، وإنما عليها تعزير فقط، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ وقال قوم: لاحد على الأمة أصلا، والسبب في اختلافهم الاشتراك الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى {فإذا أحصن} فمن فهم من الإحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال: لا تجلد غير المتزوجة؛ ومن فهم من الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها.

واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير".

وأما الذكر من العبيد، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة؛ وقال أهل الظاهر: بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ولم يخصص حرا من عبد. ومن الناس من درأ عنه قياسا على الأمة وهو شاذ. وروي عن ابن عباس. فهذا هو القول في أصناف الحدود وأصناف المحدودين والشرائط الموجبة للحد في واحد واحد منهم، ويتعلق بهذا القول في كيفية الحدود، وفي وقتها. فأما كيفيتها فمن مشهور المسائل الواقعة في هذا الجنس اختلافهم في الحفر للمرجوم، فقالت طائفة: يحفر له، وروي ذلك عن علي في شراحة الهمدانية حين أمر برجمها، وبه قال أبو ثور، وفيه "فلما كان يوم الجمعة أخرجها فحفر لها حفيرة فأدخلت فيها وأحدق الناس بها يرمونها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فما كان منه إقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس؛ وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الإمام ثم الناس. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحفر للمرجوم، وخير في ذلك الشافعي؛ وقيل عنه: يحفر للمرأة فقط.

وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر، قال جابر: فرجمناه بالمصلى، فلما أذْلَقَتْهُ الحجارة فر، فأدركناه بالحرة فرضخناه. وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفر. وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أن لا حفر؛ وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقى الفرج والوجه؛ وزاد أبو حنيفة الرأس؛ ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد؛ ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما لمن قال: إنه يقام لظاهر الآية، ويستحب عند الجميع أن يحضر الإمام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة، فقال مالك: أربعة، وقيل ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل سبعة، وقيل ما فوقها. أما الوقت، فإن الجمهور على أنه لا يقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض؛ وقال قوم: يقام، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتجا بحديث عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض. وسبب الخلاف معارضة أهل الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أن يقام حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود؛ فمن نظر إلى الأمر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال: يحد المريض؛ ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال: لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الأمر في شدة الحر والبرد.

*3*الباب الثالث وهو معرفة ما تثبت به هذه الفاحشة.

@-وأجمع العلماء على أن الزنى يثبت بالإقرار وبالشهادة. واختلفوا في ثبوته بظهور الحمل في النساء الغير المتزوجات إذا ادعين الاستكراه. وكذلك اختلفوا في شروط الإقرار وشروط الشهادة. فأما الإقرار فإنهم اختلفوا فيه في موضعين: أحدهما عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد. والموضع الثاني هل من شرطه أن لا يرجع عن الإقرار حتى يقام عليه الحد؟ أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكا والشافعي يقولان: يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة، وبه قال أبو داود وأبو ثور والطبري وجماعة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدة مالك والشافعي ما جاء في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد من قوله عليه الصلاة والسلام "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" ولم يذكر عددا. وعمدة الكوفيين ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه" وفي غيره من الأحاديث قالوا: وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ.

@-(وأما المسلة الثانية) وهي من اعترف بالزنى ثم رجع، فقال جمهور العلماء يقبل رجوعه، إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي؛ وفصل مالك فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه. وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان: إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة. والثانية لا يقبل رجوعه، وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار لما ثبت من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولذلك لا يجب على من أوجب سقوط الحد بالرجوع أن يكون التمادي على الإقرار شرطا من شروط الحد. وقد روي من طريق "أن ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه، فقال لهم: ردوني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقتلوه رجما وذكروا ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" ومن هنا تعلق الشافعي بأن التوبة تسقط الحدود، والجمهور على خلافه، وعلى هذا يكون عدم التوبة شرطا ثالثا في وجوب الحد. وأما ثبوت الزنى بالشهود فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنى بالشهود، وأن العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق لقوله تعالى {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وأن من صفتهم أن يكونوا عدولا، وأن من شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها، وأنها تكون بالتصريح لا بالكناية، وجمهورهم على أن من شرط هذه الشهادة أن لا تختلف لا في زمان ولا في مكان إلا ما حكي عن أبي حنيفة من مسألة الزوايا المشهورة، وهو أن يشهد كل واحد من الأربعة أنه رآها في ركن من البيت يطؤها غير الركن الذي رآه فيه الآخر. وسبب الخلاف هل تلفق الشهادة المختلفة بالمكان أم لا تلفق كالشهادة المختلفة بالزمان؟ فإنهم أجمعوا على أنها لا تلفق، والمكان أشبه شيء بالزمان. والظاهر من الشرع قصده إلى التوثق في ثبوت هذا الحد أكثر منه في سائر الحدود. وأما اختلافهم في إقامة الحدود بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه، فإن طائفة أوجبت فيه الحد على ما ذكره مالك في الموطأ من حديث عمر، وبه قال مالك، إلا أن تكون جاءت بأمارة على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمى، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه، وكذلك عنده الأمر إذا ادعت الزوجية إلا أن تقيم البينة على ذلك، ما عدا الطارئة، فإن ابن القاسم قال: إذا ادعت الزوجية وكانت طارئة قبل قولها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقام عليها الحد بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه وكذلك مع دعوى الزوجية، وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة، ولا في دعوى الزوجية ببينة لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه. ومن الحجة لهم ما جاء في حديث شراحة أن عليا رضي الله عنه قال لها: استكرهت؟ قالت: لا. قال: فلعل رجلا أتاك في نومك. قالوا: وروى الأثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة دعت أنها ثقيلة النوم وإن رجلا طرقها فمضى عنها ولم تدر من هو بعد. ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المستكرهة لا حد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها. وسبب الخلاف هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة؟ فمن قال عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والحرمية؛ ومن قال إنه نحلة خص الله به الأزواج لم يوجبه. وهذا الأصل كاف في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب القذف.

@-والنظر في هذا الكتاب: في القذف، والقاذف، والمقذوف، وفي العقوبة الواجبة فيه، وبماذا تثبت. والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الآية. فأما القاذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين: وهما البلوغ والعقل، وسواء كان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو غير مسلم. وأما المقذوف فاتفقوا على أن من شرطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، ويحتمل أن يدخل في ذلك خلاف، ومالك يعتبر في سن المرأة أن تطيق الوطء. وأما القذف الذي يجب به الحد، فاتفقوا على وجهين: أحدهما أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى، والثاني أن ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة. واختلفوا إن كانت كافرة أو أمة، فقال مالك: سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة أو كافرة يجب الحد. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة. واتفقوا أن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا إن كان بتعريض، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: لا حد في التعريض، إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير، وممن قال بقولهم من الصحابة ابن مسعود؛ وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهي مسألة وقعت في زمان عمر، فشاور عمر فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد. وعمدة مالك أن الكناية قد تقوم بعرف العادة، والاستعمال مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه أعني مقولا بالاستعارة. وعمدة الجمهور أن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص، وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها والذي يندرئ به الحد عن القاذف أن يثبت زنى المقذوف بأربعة شهود باجماع، والشهود عند مالك إذا كانوا أقل من أربعة قذفة وعند غيره ليسوا بقذفة، وإنما اختلف المذهب في الشهود الذين يشهدون على شهود الأصل. والسبب في اختلافهم هل يشترط في نقل شهادة كل واحد منهم عدد شهود الأصل أم يكفي في ذلك اثنان على الأصل المعتبر فيما سوى القذف إذ كانوا ممن لا يستقل بهم نقل الشهادة من قبل العدد.

وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه أما جنسه، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى {ثمانين جلدة} . واختلفوا في العبد يقذف الحر: كم حده؟ فقال الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر، وذلك أربعون جلدة، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة، وعن ابن عباس: وقالت طائفة: حده حد الحر، وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار: أبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر. فعمدة الجمهور قياس حده في القذف على حده في الزنى. وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون، فكان العبد أحرى بذلك. وأما التوقيت فإنهم اتفقوا على أنه إذا قذف شخصا واحدا مرار كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد بواحد منها، وأنه إذ قذف فحد ثم قذفه ثانية حد حدا ثانيا واختلفوا إذا قذف جماعة، فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة وقال قوم: بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة حتى روي عن الحسن بن حيى أنه قال: إن قال إنسان: من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها؛ وقالت طائفة إن جمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم يا زناة فحد واحد، وإن قال لكل واحد منهم يا زاني فعليه لكل إنسان منهم حد. فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما ولم يحده لشريك، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل. وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد. وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات أو في مجلس واحد أو في مجالس، فلأنه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد، وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو القاذف، فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصح العفو: أي لا يسقط الحد؛ وقال الشافعي: يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الإمام أو لم يبلغ؛ وقال قوم: إن بلغ الإمام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو. واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي، ومرة قال: يجوز إذا لم يبلغ الإمام، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه، وهو المشهور عنه.

والسبب في اختلافهم هل هو حق لله؟ أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنى؛ ومن قال حق للآدميين أجاز العفو؛ ومن قال لكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد فلا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واختلفوا إذا تاب؛ فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور، وذلك في قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} فمن قال يعود إلى أقرب مذكور قال: التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته؛ ومن رأى أن الاستثناء يتناول الأمرين جميعا قال: التوبة ترفع الفسق ورد الشهادة. وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع: أي خارج عن الأصول، لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد. وأما بماذا يثبت؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين. واختلف في مذهب مالك: هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تنبني عليه فروعه. قال القاضي: وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة، التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك، لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه.

*3*باب في شرب الخمر.

@-والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرها واختلفوا في المسكرات من غيرها؛ فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد على من شربها قليلا كان أو كثيرا أو لم يسكر؛ وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد. وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر. واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب؛ فقال الجمهور: الحد في ذلك ثمانون؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون، هذا في حد الحر. وأما حد العبد فاختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو على النصف من حد الحر؛ وقال أهل الظاهر: حد الحر والعبد سواء، وهو أربعون؛ وعند الشافعي عشرون؛ وعند من قال ثمانون أربعون. فعمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه كما قيل عنه رضي الله عنه "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى" وعمدة الفريق الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدود، وأن أبا بكر رضي الله عنه شاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بلغ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشُراب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين" فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر أربعين" وروي هذا عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق أثبت، وبه قال الشافعي وأما من يقيم هذا الحد فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم، فقال مالك: يقيم السيد على عبده حد الزنى وحد القذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يفعل ذلك بعلم نفسه، ولا يقطع في السرقة إلا الإمام، وبه قال الليث، وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد إلا الإمام؛ وقال الشافعي: يقيم السيد على عبده جميع الحدود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. فعمدة مالك الحديث المشهور "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها". وأما الشافعي فاعتمد مع هذه الأحاديث ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عنه أنه قال "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" ولأنه أيضا مروي عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس. وعمدة أبي حنيفة الإجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان. وروي عن الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم أنهم قالوا: الجمعة والزكاة والفئ والحكم إلى السلطان.

@-(فصل) وأما بماذا يثبت هذا الحد، فاتفق العلماء على أنه يثبت بالإقرار وبشهادة عدلين. واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان؛ وخالفه في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من أهل الحجاز وجمهور علماء البصرة فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة. فعمدة من أجاز الشهادة على الرائحة تشبيهها بالشهادة على الصوت والخط. وعمدة من لم يثبتها اشتباه الروائح، والحد يدرأ بالشبهة.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب السرقة.

@-والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية. فأما السرقة، فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه، وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية، فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهور "أنها كانت تستعير الحلى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعها لموضع جحودها" وبه قال أحمد وإسحاق والحديث حديث عائشة قالت "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها، فأتى أسامة أهلها فكلموه، فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال: "وإنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها" ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون وأنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي الحديث حذف، وهو أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه" قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده، فقال فيه: إن المخزومية سرقت، قالوا: وهذا يدل على أنها فعلت الأمرين جميعا الجحد والسرقة. وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل، فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب. وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا، وسواء كان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، أو مسلما، أو ذميا، إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق، وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر ابن عبد العزيز، ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم؛ فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية، ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع، ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره، أعني الحدود التي تتشطر في حق العبيد، وهو تشبيه ضعيف.

وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها؛ فمن أشهرها اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره، لعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما} الآية. وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" وبه قالت الخوارج وطائفة من المتكلمين. والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع وهم الجمهور اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة، وهو قولان: أحدهما قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم. والثاني قول فقهاء العراق. وأما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة، وربع دينار من الذهب. واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة، فقال مالك في المشهور: تقوم بالدراهم لا بالربع دينار، أعني إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا؛ وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار، وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار. وأما مالك فالدنانير والدراهم عند كل واحد منهما معتبر بنفسه وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار، وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود، وبقول مالك المشهور قال أحمد: أعني بالتقويم بالدراهم. وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه. وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم، وقد قيل في أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: في درهمين. فعمدة فقهاء الحجاز ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم "وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" وأما عمدة فقهاء العراق فحديث ابن عمر المذكور، قالوا: ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم وروي ذلك في أحاديث.

وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره. وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. قالوا: وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار. وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشرة درهما (هكذا هذه العبارة بجميع الأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه) والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة بالقطع. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع، أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك أن يخرجوا النصاب من الحرز معا، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب؛ فقال مالك: يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا؛ فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق: أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال؛ ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة.

واختلفوا متى يقدر المسروق؛ فقال مالك: يوم السرقة؛ وقال أبو حنيفة: يوم الحكم عليه بالقطع. وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز. والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الإغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد؛ وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم؛ وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث: القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز. فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" ومرسل مالك أيضا عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب. وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} الآية. قالوا: فوجب أن تحمل الآية على عمومها، إلا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك، وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه. وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عمر بن عبد البر: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات. وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء، مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز، واختلافهم في الأوعية. ومثل اتفاقهم على أن من سرق من دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز: تقطع يده إذا أخرج من البيت؛ وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار. ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة: هو حرز، وعلى النباش القطع، وبه قال عمر بن عبد العزيز؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، وكذلك قال سفيان الثوري، وروي ذلك عن زيد بن ثابت. والحرز عند مالك بالجملة هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه، فمرابط الدواب عنده أحراز، وكذلك الأوعية، وما على الإنسان من اللباس، فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده.

وإذا توسد النائم شيئا فهو حرز له على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس. ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه؛ ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده، وكذلك من المساجد؛ وقد قيل في المذهب إنه أن سرق منها ليلا قطع. وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز. واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه. وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف المذهب إذا كان سارقان: أحدهما داخل البيت، والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له؛ وقيل: لا قطع على واحد منهما؛ وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب. والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لانطلاقه. فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج؛ وقال ابن القاسم: يقطع.

@-(فصل) وأما جنس المسروق، فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض منه، فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة، والأشياء التي أصلها مباحة فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متموَّل يجوز بيعه وأخذ العوض فيه؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش. فعمدة الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب. وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع في ثمر ولا كُثْر" وذلك أن هذا الحديث روي هكذا مطلقا من غير زيادة. وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التي فيه لكل مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك. واختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحد مما ليس بشبهة، وهذا هو أيضا أحد الشروط المشترطة في المسروق هو في ثلاثة مواضع: في جنسه، وقدره، وشروطه، وستأتي هذه المسألة فيما بعد. واختلفوا من هذا الباب أعني من النظر في جنس المسروق في المصحف فقال مالك والشافعي: يقطع سارقه؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع، ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه، أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال. واختلفوا من هذا الباب فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام، فقال الجمهور: يقطع. وأما إن كان كبيرا يفقه فقال مالك: يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع. واختلفوا في الحر الصغير، فعند مالك أن سارقه يقطع؛ ولا يقطع عند أبي حنيفة، وهو قول ابن الماجشون من أصحاب مالك. واتفقوا كما قلنا أن شبهة الملك القوية تدرأ هذا الحد. واختلفوا فيما هو شبهة يدرأ من ذلك مما لا يدرأ منها، فمنها العبد يسرق مال سيده؛ فإن الجمهور من العلماء على أنه لا يقطع؛ وقال أبو ثور: يقطع ولم يشترط شرطا؛ وقال أهل الظاهر: يقطع إلا أن يأتمنه سيده. واشترط مالك في الخادم الذي يجب أن يدرأ عنه الحد أن يكون يلي الخدمة لسيده بنفسه؛ والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه. وبدرء الحد قال عمر رضي الله عنه وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة. ومنها أحد الزوجين يسرق من مال الآخر، فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه؛ وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال، وقد روي عنه مثل قول مالك، واختاره المزني. ومنها القرابات، فمذهب مالك فيها أن لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط لقوله عليه الصلاة والسلام "أنت ومالك لأبيك" ويقطع كل ما سواهم من القرابات؛ وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل: يعني الأب والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذو الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الإجماع. ومنها اختلافهم فيمن سرق من الغنم أو من بيت المال؛ فقال مالك: يقطع؛ وقال عبد الملك من أصحابه: لا يقطع. فهذا هو القول في الأشياء التي يجب بها ما يجب في هذا الجناية.

*3*القول في الواجب.

@-وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا، أعني الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع؟ فقال قوم: عليه الغرم مع القطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة؛ وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة؛ وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم. فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع، قال: وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي. والكوفيون يقولون: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم، ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه. وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس. وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل. أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع، وهو الذي عليه الجمهور؛ وقال قوم: الأصابع فقط. فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق: تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى؛ وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، ولا يقطع منه غير ذلك. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى، هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا؟ فقال سفيان وأبو حنيفة: يقف القطع في الرجل، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط؛ وقال مالك والشافعي: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر، أعني قول مالك وأبي حنيفة. فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط. وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعبد سرق فقطع يده اليمنى، ثم الثانية فقطع رجله، ثم أتى به في الثالثة فقطع يده اليسرى، ثم أتى به في الرابعة فقطع رجله" وروي هذا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه "ثم أخذه الخامسة فقتله" إلا أنه منكر عند أهل الحديث، ويرده قوله عليه الصلاة والسلام "هن فواحش وفيهن عقوبة" ولم يذكر قتلا. وحديث ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع الرجل بعد اليد" وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة، فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة بأن كانت اليد شلاء، فقيل في المذهب ينتقل القطع إلى اليد اليسرى، وقيل إلى الرجل. واختلف في موضع القطع من القدم، فقيل يقطع من المفصل الذي في أصل الساق، وقيل يدخل الكعبان في القطع، وقيل لا يدخلان، وقيل إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم. واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الإمام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقوله عليه الصلاة والسلام "لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد" وقوله لصفوان "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟". واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع؛ فقال مالك والشافعي: عليه الحد، لأنه قد رفع إلى الإمام وقال أبو حنيفة وطائفة: لا حد عليه. فعمدة الجمهور حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له "إن من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به".

*3*القول فيما تثبت به السرقة.

@-واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وعلى أنها تثبت بإقرار الحر. واختلفوا في إقرار العبد؛ فقال جمهور فقهاء الأمصار: إقراره على نفسه موجب لحده، وليس يوجب عليه غرما؛ وقال زفر: لا يجب إقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة، وإن رجع عن الإقرار إلى شبهة قبل رجوعه. وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان، هكذا حكى البغداديون عن المذهب، وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض، وإنما هو لائق بتفريع المذهب.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الحرابة.

@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية. وذلك أن هذه الآية عند الجمهور هي في المحاربين. وقال بعض الناس: إنها نزلت في النفر الذين ارتدوا في زمان النبي عليه الصلاة والسلام واستاقوا الإبل، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، والصحيح أنها في المحاربين لقوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وليس عدم القدرة عليهم مشترطة في توبة الكفار فبقي أنها في المحاربين. والنظر في أصول هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: أحدها: النظر في الحرابة. والثاني: النظر في المحارب. والثالث: فيما يجب على المحارب. والرابع: في مسقط الواجب عنه وهي التوبة. والخامس: بماذا تثبت هذه الجناية.

*3*الباب الأول في النظر في الحرابة.

@-فأما الحرابة، فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر، فقال مالك: داخل المصر وخارجه سواء؛ واشترط الشافعي الشوكة، وإن كان لم يشترط العدد، وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة، ولذلك يشترط فيها البعد عن العمران، لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران؛ وكذلك يقول الشافعي: أنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة، وأما غير ذلك فهو عنده اختلاس؛ وقال أبو حنيفة: لا تكون المحاربة في المصر.

*3*الباب الثاني في النظر في المحارب.

@-فأما المحارب: فهو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة، وهو المسلم والذمي.

*3*الباب الثالث فيما يجب على المحارب.

@-وأما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين واتفقوا على أن حق الله هو القتل والصلب وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف، والنفي على ما نص الله تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب؛ فقال مالك: إن قتل فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه، لأن القطع لا يرفع ضرره. وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة هي مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها عليه، فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفي إلا من لم يأخذ المال ولا قتل؛ وقال قوم: بل الإمام مخير فيهم على الإطلاق، وسواء قتل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه. وسبب الخلاف هل حرف "أو" في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم؟ ومالك حمل البعض من المحاربين على التفصيل والبعض على التخيير. واختلفوا في معنى قوله {أو يصلبوا} فقال قوم: إنه يصلب حتى يموت جوعا؛ وقال قوم: بل معنى ذلك أنه يقتل ويصلب معا، وهؤلاء منهم من قال: يقتل أولا ثم يصلب، وهو قول أشهب، وقيل إنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون؛ ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب؛ ومن رأى أنه يقتل في الخشبة فقال بعضهم: لا يصلى عليه تنكيلا له، وقيل يقف خلف الخشبة ويصلى عليه؛ وقال سحنون: إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلى عليه. وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة؟ فيه قولان عنه؛ وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام. وأما قوله {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. واختلف إذا لم تكن له اليمنى؛ فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى. واختلف أيضا في قوله أو ينفوا من الأرض، فقيل إن النفي هو السجن، وقيل إن النفي هو أن ينفى من بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وهو قول ابن القاسم عن مالك، ويكون بين البلدين أقل ما تقصر فيه الصلاة، والقولان عن مالك، وبالأول قال أبو حنيفة؛ وقال ابن الماجشون: معنى النفي هو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا؛ وقال الشافعي: أما النفي فغير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالاتباع، وقيل هي عقوبة مقصودة، فقيل على هذا ينفى ويسجن دائما، وكلها عن الشافعي؛ وقيل معنى أو ينفوا: أي من أرض الإسلام إلى أرض الحرب. والذي يظهر هو أن النفي تغريبهم عن وطنهم لقوله تعالى {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} الآية. فسوى بين النفي والقتل، وهي عقوبة معروفة بالعادة من العقوبات كالضرب والقتل، وكل ما يقال فيه سوى هذا فليس معروفا لا بالعادة ولا بالعرف.

*3*الباب الرابع في مسقط الواجب عنه من التوبة.

@-وأما ما يسقط الحق الواجب عليه، فإن الأصل فيه قوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} واختلف من ذلك في أربعة مواضع: أحدها: هل تقبل توبته؟. والثاني: إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل توبته؟ فإن لأهل العلم في ذلك قولين: قول إنه تقبل توبته وهو أشهر لقوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وقول: إنه لا تقبل توبته، قال ذلك من قال إن الآية لم تنزل في المحاربين. وأما صفة التوبة التي تسقط الحكم فإنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أن توبته تكون بوجهين: أحدهما أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام؛ والثاني أن يلقي سلاحه ويأتي الإمام طائعا، وهو مذهب ابن القاسم. والقول الثاني أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه، وإن أتى الإمام قبل أن تظهر توبته أقام عليه الحد، وهذا هو قول ابن الماجشون. والقول الثالث إن توبته إنما تكون بالمجئ إلى الإمام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام، وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل إنها تكون بأن يأتي الإمام قبل أن يقدر عليه، وقيل إنها إنما تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط، وقيل تكون بالأمرين جميعا. وأما صفة المحارب الذي تقبل توبته، فإنهم اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال: أحدها أن يلحق بدار الحرب. والثاني أن تكون له فئة. والثالث كيفما كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق. واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل له الأمان ويسقط عنه حد الحرابة، وقيل: لا أمان له لأنه إنما يؤمن المشرك. وأما ما تسقط عنه التوبة، فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني إن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنى والشراب والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس من الأموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء وفي الأموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم. والقول الرابع إن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده.

*3*الباب الخامس بماذا تثبت هذه الجناية.

@-وأما بماذا يثبت هذا الحد فبالإقرار والشهادة، ومالك يقبل شهادة المسلوبين على الذين سلبوهم؛ وقال الشافعي: تجوز شهادة أهل الرفقة عليهم إذا لم يدعوا لأنفسهم ولا لرفقائهم مالا أخذوه، وتثبت عند مالك الحرابة بشهادة السماع.

*4*فصل في حكم المحاربين على التأويل.

@-وأما حكم المحاربين على التأويل، فإن محاربهم الإمام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة، فإن مالكا قال: إن للإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين. وأما إذا أسر بعد انقضاء الحرب، فإن حكمه حكم البدعي الذي لا يدعو إلى بدعته، وقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقيل يستتاب فإن لم يتب يؤدب ولا يقتل، وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل. واختلف قول مالك في التكفير بالمآل ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهو لا يعتقدون ذلك اللزوم. وأما ما يلزم هؤلاء من الحقوق إذا ظفر بهم، فحكمهم إذا تابوا أن لا يقام عليهم حد الحرابة، ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بيده فيرد إلى ربه. وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصا بمن قتل؟ فقيل يقتل وهو قول عطاء وأصبغ؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل، وبه قال الجمهور، لأن كل من قاتل على التأويل فليس بكافر بتة، أصله قتال الصحابة، وكذلك الكافر بالحقيقة هو المكذب لا المتأول.

*3*باب في حكم المرتد.

@-والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب، فاتفقوا على أن يقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل؟ فقال الجمهور: تقتل المرأة؛ وقال أبو حنيفة: لا تقتل وشبهها بالكافرة الأصلية، والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك؛ وشذ قوم فقالوا: تقتل وإن راجعت الإسلام وأما الاستتابة فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما راوه عن عمر؛ وقال قوم: لا تقبل توبته، وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلا أن يسلم. وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ، فإنه يختلف في حكمه، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لاتباعه عليه في شيء مما فعل في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في دار الإسلام، فإنه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة، وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم؛ وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال: حكمه حكم المرتد من اعتبر يوم الجناية؛ وقال: حكمه حكم المسلم من اعتبر يوم الحكم. وقد اختلف في هذا الباب في حكم الساحر؛ فقال مالك: يقتل كفرا؛ وقال قوم: لا يقتل، والأصل أن لا يقتل إلا مع الكفر.

(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

*2*كتاب الأقضية

@-وأصول هذا الكتاب تنحصر في ستة أبواب: أحدها: في معرفة من يجوز قضاؤه. والثاني: في معرفة ما يقضي به. والثالث في معرفة ما يقضي فيه. والرابع: في معرفة من يقضي عليه أو له. والخامس: في كيفية القضاء. والسادس: في وقت القضاء.

*3*الباب الأول في معرفة من يجوز قضاؤه.

@-والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل. فأما الصفات المشترطة في الجواز: فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا. وقد قيل في المذهب إن الفسق يوجب العزل ويمضي ما حكم به. واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد؛ فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب؛ وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي. قال القاضي: وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة. وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة؛ فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال؛ قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء؛ قال عبد الوهاب: ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية؛ فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها؛ ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال؛ ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال: إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى. وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته وليس شرطا في جواز ولايته، وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز، فهذا إذا ولى القضاء عزل ونفذ ما حكم به إلا أن يكون جورا. ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات. ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدا. والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع، قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده. وأما فضائل القضاء فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم. وقد اختلفوا في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا؟ والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا؛ وقال قوم: لا يجوز؛ وعن الشافعي القولان جميعا، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز، ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه لا خلاف أعرف فيه. واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام، فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي: في أحد قوليه لا يجوز؛ وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.

*3*الباب الثاني في معرفة ما يقضي به.

@-وأما فيما يحكم، فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء، وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف، وكذلك هل يستخلف فيه خلاف في المرض والسفر إلا أن يؤذن له، وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم. ومن فروع هذا الباب هل ما يحكم فيه الحاكم تحلة للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالا، وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وذلك في الأموال خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار". واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق وليس بحق، إذ لا تحل حرام، ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك هل يحل ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا، وذلك مثل أن يشهد شاهدا زورا في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة؛ فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم؛ وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له. فعمدة الجمهور عموم الحديث المتقدم، وشبهة أبو حنيفة أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة، ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة، لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء؛ والجمهور أن الفرقة ها هنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.

*3*الباب الثالث فيما يكون به القضاء.

@-والقضاء يكون بأربع: بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه ففي هذا الباب أربعة فصول.

*4*الفصل الأول في الشهادة.

@-والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء: في الصفة، والجنس، والعدد. فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة: العدالة، والبلوغ، والإسلام، والحرية، ونفي التهمة. وهذه منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما العدالة، فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} ولقوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} واختلفوا فيما هي العدالة؛ فقال الجمهور: هي صفة زائدة على الإسلام، وهو أن يكون ملتزما لواجبات الشرع ومستحباته، مجنبا للمحرمات والمكروهات؛ وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الإسلام، وأن لا تعلم منه جرحة. وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية. ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته، إلا من كان فسقه من قبل القذف. فإن أبا حنيفة يقول: لا تقبل شهادته وإن تاب. والجمهور يقولون: تقبل. وسبب الخلاف هل يعود الاستثناء في قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك} إلى أقرب مذكور إليه، أو على الجملة إلا ما خصصه الإجماع، وهو أن التوبة لا تسقط عنه الحد، وقد تقدم هذا. وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يشترط حيث تشترط العدالة. واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل، فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الإجماع على أن من شرط الشهادة العدالة، ومن شرط العدالة البلوغ، ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند مالك، وإنما هي قرينة حال، ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا. واختلف أصحاب مالك هل تجوز إذا كان بينهم كبير أم لا؟ ولم يختلفوا أنه يشترط فيها العدة المشترطة في الشهادة، واختلفوا هل يشترط فيها الذكورة أم لا؟ واختلفوا أيضا هل تجوز في القتل الواقع بينهم؟ ولا عمدة لمالك في هذا إلا أنه مروي عن ابن الزبير. قال الشافعي: فإذا احتج محتج بهذا قيل له: إن ابن عباس قد ردها، والقرآن يدل على بطلانها؛ وقال بقول مالك ابن أبي ليلى وقوم من التابعين، وإجازة مالك لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة.

وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول، وأنه لا تجوز شهادة الكافر، إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} الآية. فقال أبو حنيفة: يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله؛ وقال مالك والشافعي: لا يجوز ذلك، ورأوا أن الآية منسوخة. وأما الحرية فإن جمهور فقهاء الأمصار على اشتراطها في قبول الشهادة؛ وقال أهل الظاهر: تجوز شهادة العبد، لأن الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد، إلا أن يثبت ذلك من كتاب الله أو سنة أو إجماع، وكأن الجمهور رأوا أن العبودية أثر من أثر الكفر فوجب أن يكون لها تأثير في رد الشهادة. وأما التهمة التي سببها المحبة، فإن العلماء أجمعوا على أنها مؤثرة في إسقاط الشهادة. واختلفوا في رد شهادة العدل بالتهمة لموضع المحبة أو البغضة التي سببها العداوة الدنيوية، فقال بردها فقهاء الأمصار، إلا أنهم اتفقوا في مواضع على أعمال التهمة، وفي مواضع على إسقاطها، وفي مواضع اختلفوا فيها فأعملها بعضهم وأسقطها بعضهم. فمما اتفقوا عليه رد شهادة الأب لابنه والابن لأبيه، وكذلك الأم لابنها وابنها لها. ومما اختلفوا في تأثير التهمة في شهادتهم شهادة الزوجين أحدهما للآخر، فإن مالكا ردها وأبا حنيفة، وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن؛ وقال ابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجه ولا تقبل شهادتها له، وبه قال النخعي. ومما اتفقوا عليه على إسقاط التهمة فيه شهادة الأخ لأخيه مالم يدفع بذلك عن نفسه عارا على ما قال مالك، ومالم يكن منقطعا إلى أخيه يناله بره وصلته، ما عدا الأوزاعي فإنه قال: لا تجوز. ومن هذا الباب اختلافهم في قبول شهادة العدو على عدوه؛ فقال مالك والشافعي: لا تقبل؛ وقال أبو حنيفة: تقبل. فعمدة الجمهور في رد الشهادة بالتهمة ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" وما خرجه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام "لا تقبل شهادة بدوي على حضري" لقلة شهود البدوي ما يقع في المصر، فهذه هي عمدتهم من طريق السماع. وأما من طريق المعنى فلموضع التهمة، وقد أجمع الجمهور على أن تأثيرها في الأحكام الشرعية مثل اجتماعهم على أنه لا يرث القاتل المقتول، وعلى وريث المبتوتة في المرض وإن كان فيه خلاف.

وأما الطائفة الثانية وهم شريح وأبو ثور وداود فإنهم قالوا: تقبل شهادة الأب لابنه فضلا عمن سواه إذا كان الأب عدلا: وعمدتهم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} والأمر بالشيء يقتضي إجزاء المأمور به إلا ما خصصه الإجماع من شهادة المرء لنفسه. وأما من طريق النظر، فإن لهم أن يقولوا رد الشهادة بالجملة إنما هو لموضع اتهام الكذب، وهذه التهمة إنما اعتملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل، فلا تجتمع العدالة مع التهمة. وأما النظر في العدد والجنس، فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنى بأقل من أربعة عدول ذكور، واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنى بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا الحسن البصري، فإنه قال: لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا ضعيف لقوله سبحانه {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} وكل متفق أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: لا بد من يمينه. واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} واختلفوا في قبولهما في الحدود، فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات؛ وقال أهل الظاهر: تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية؛ وقال أبو حنيفة: تقبل في الأموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق؛ ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن: واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط؛ فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يقبل فيه شاهد وامرأتان؛ وقال أشهب وابن الماجشون: لا يقبل فيه إلا رجلان.

وأما شهادة النساء مفردات، أعني النساء دون الرجال فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء. ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع، فإن أبا حنيفة قال: لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء. والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن؛ فقال مالك: يكفي في ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الأمر، وقيل إن لم ينتشر؛ وقال الشافعي: ليس يكفي في ذلك أقل من أربع، لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشترط الاثنينية؛ وقال قوم: لا يكتفي بذلك أقل من ثلاث وهو قول لا معنى له؛ وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر. وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع "كيف وقد أرضعتكما" وهذا ظاهره الإنكار، ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه.

*4*الفصل الثاني.

@-وأما الأيمان، فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى عن المدعي عليه إذا لم تكن للمدعي بينة. واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي؛ فقال مالك: يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعي عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه؛ وقال غيره لا تثبت للمدعي باليمين دعوى سواء كانت في إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه. وسبب اختلافهم ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع، أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين، لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعى عليه بخلافه؟ فمن قال هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا قال: لا يثبت باليمين حق، ولا يسقط به حق ثبت؛ ومن قال إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة قال: إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله، واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه، مثل دعوى التلف في الوديعة وغير ذلك إن وجد شيء بهذه الصفة، ولأولئك أن يقولوا: الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق، وكلهم مجتمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله، الذي لا إله إلا هو، وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة؛ وهي عند مالك: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليها، ويزيد الشافعي الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وأما هل تغلظ بالمكان؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان وذلك في قدر مخصوص، وكذلك الشافعي. واختلفوا في القدر، فقال مالك: إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد ففي ذلك روايتان: إحداهما حيث اتفق من المسجد، والأخرى عند المنبر. وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع ولم يحدد؛ وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر، والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا؛ وقال داود: يحلف على المنبر في القليل والكثير؛ وقال أبو حنيفة: لا تغلظ اليمين بالمكان.

وسبب الخلاف هل التغليظ الوارد في الحلف على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا؟ فمن قال إنه يفهم منه ذلك قال: لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى؛ ومن قال للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال: لا يجب الحلف على المنبر. والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار" واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا: هو عمل الخلفاء، قال الشافعي: لم يزل عليه العمل بالمدينة وبمكة. قالوا: ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع. قالوا: وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجردا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يفهم منه وجوب القضاء باليمين، وكذلك التغليظ الوارد في المكان. وقال الفريق الآخر: لا يفهم من التغليظ باليمين وجوب الحكم باليمين، وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة، والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت؛ وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان، وكذلك بالزمان لأنه قال في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر، وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وداود وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة: يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجمهور أهل العراق: لا يقضى باليمين مع الشاهد في شيء، وبه قال الليث من أصحاب مالك.

وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض السماع. أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك بآثار كثيرة، منها حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث زيد ابن ثابت، وحديث جابر، إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس، ولفظه "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" خرجه مسلم ولم يخرجه البخاري. وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" لأن العمل عنده بالمراسيل واجب.

وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} قالوا: وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ، ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة، وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد. وأما من السنة فما خرجه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال "كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: "شاهداك أو يمينه" فقلت: إذا يحلف ولا يبالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم" من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" قالوا: فهذا منه عليه الصلاة والسلام حصر للحكم ونقض لحجة كل واحد من الخصمين، ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي. والذين قالوا باليمين مع الشاهد هم على أصلهم في أن اليمين هي حجة أقوى المتداعيين شبهة، وقد قويت ههنا حجة المدعي بالشاهد كما قويت في القسامة. وهؤلاء اختلفوا في القضاء باليمين مع المرأتين، فقال مالك: يجوز لأن المرأتين قد أقيمتا مقام الواحد؛ وقال الشافعي: لا يجوز له، لأنه إنما أقيمت مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره، وهل يقتضي باليمين في الحدود التي هي حق للناس مثل القذف والجراح؟ فيه قولان في المذهب.

*4*الفصل الثالث.

@-وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله، فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين: إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شيء بنفس النكول، إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين: يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين؛ وقال ابن أبي ليلى: أردها في غير التهمة ولا أردها في التهمة. وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا؟ قولان. فعمدة من رأى أن تنقلب اليمين ما رواه مالك من "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد في القسامة اليمين على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار" ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين: إما بيمين وشاهد، وإما بنكول وشاهد، وإما بنكول ويمين، أصل ذلك عنده اشتراط الاثنينية في الشهادة؛ وليس يقتضي عند الشافعي بشاهد ونكول. وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى، واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى. قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص، لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه، فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي. ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه، لكن هذا عند الجمهور مع اقتران الشهادة به، أعني إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده، أعني المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني، فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه، وأنه أشهدهم بثبوته، وقد قيل إنه يكتفي فيه بخط القاضي، وأنه كان به العمل الأول. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه عليهم؛ فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ولا تصح الشهادة.

واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة، أم لا بد في ذلك من شهادة؟ فقال مالك: يقضي بذلك؛ وقال الشافعي: لا بد من الشاهدين، وكذلك قال أبو حنيفة؛ وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث، وقول الغير أجرى على الأصول. ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح، وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره، إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره، وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف. واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف، فقال قوم: لا يرد حكمه إذا لم يخرق الإجماع؛ وقال قوم إذا كان شاذا؛ وقال قوم: يرد إذا كان حكما بقياس، وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس وهو الأعدل، إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول والكتاب محتمل والسنة غير متواترة، وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق، وإلى مالك باختلاف. واختلفوا هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار، أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار، وبه قال أحمد وشريح؛ وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة: للقاضي أن يقضي بعلمه، ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعين، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر. أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك، فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فأعطاهم الأرش، ثم قال عليه الصلاة والسلام "إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فخطب الناس وذكر القصة، وقال: أرضيتم؟ قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم صعد المنبر فخطب، ثم قال: أرضيتم؟ قالوا: نعم، قال: فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه صلى الله عليه وسلم. وأما من جهة المعنى فللتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي.

وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع: منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله. ومنها ردهم شهادة الأب لابنه، وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء. وأما عمدة من أجاز ذلك، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة ابن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" دون أن يسمع قول خصمها.

وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين. وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا: لا يقضي بعلمه في الحدود ويقضي في غير ذلك؛ وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال: يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء. وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم. وقال بعض أصحاب مالك: يقضي بعلمه في المجلس أعني بما يسمع وإن لم يشهد عنده بذلك، وهو قول الجمهور كما قلنا، وقول المغيرة هو أجرى على الأصول، لأن الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين.

*4*الفصل الرابع في الإقرار.

@-وأما الإقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز، وإذا كان الإقرار محتملا رفع الخلاف. أما من يجوز إقراره ممن لا يجوز فقد تقدم. وأما عدد الإقرارات الموجبة فقد تقدم في باب الحدود، ولا خلاف بينهم أن الإقرار مرة واحدة عامل في المال. وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهو من قبل احتمال اللفظ، وأنت إن أحببت أن تقف عليه فمن كتاب الفروع.

*3*الباب الرابع. [على من يقضي، ولمن يقضي]

@-وأما على من يقضي؟ ولمن يقضي؟ فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه؛ فقال مالك: لا يجوز قضاؤه على من لا تجوز عليه شهادته؛ وقال قوم: يجوز لأن القضاء يكون بأسباب معلومة وليس كذلك الشهادة. وأما على من يقضي؟ فإنهم اتفقوا على أنه يقضي على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب فأما القضاء على الغائب، فإن مالكا والشافعي قالا: يقضي على الغائب البعيد الغيبة؛ وقال أبو حنيفة: لا يقضي على الغائب أصلا، وبه قال ابن الماجشون؛ وقد قيل عن مالك لا يقضي في الرباع المستحقة. فعمدة من رأى القضاء حديث هند المتقدم ولا حجة فيه، لأنه لم يكن غائبا عن المصر. وعمدة من لم ير القضاء قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما أقضي له بحسب ما أسمع" وما رواه أبو داود وغيره عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن "لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر" وأما الحكم على الذمي، فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة؛ والثاني أنه مخير، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان؛ والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه. فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم} وبهذا تمسك من رأى الخيار، ومن أوجبه اعتمد قوله تعالى {وأن احكم بينهم} ورأى أن هذا ناسخ لآية التخيير. وأما من رأى وجوب الحكم عليهم وإن لم يترافعوا، فإنه احتج بإجماعهم على أن الذمي إذا سرق قطعت يده.

*3*الباب الخامس. [كيف يقضي القاضي]

@-وأما كيف يقضي القاضي، فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه. وإن لم يكن له بينة فإن كان في مال وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى؛ وقال مالك: لا تجب إلا مع شاهد؛ وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أو لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة؟ اختلفوا في ذلك، فقال جمهور فقهاء الأمصار: اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وقال مالك: لا تجب اليمين إلا بالمخالطة؛ وقال بها السبعة من فقهاء المدينة. وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوي إلى تعنيت بعضهم بعضا، وإذاية بعضهم بعضا، ومن هنا لم ير مالك إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد، وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه، والدعوى لا تخلو أن تكون في شيء في الذمة أو في شيء بعينه، فإن كانت الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق. وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع في عين مثل بيع أو غير ذلك. وأما إن كانت الدعوى في عين وهو الذي يسمى استحقاقا، فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه؟ فقال أبو حنيفة: لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر؛ وقال غيره: لا تسمع في شيء؛ وقال مالك والشافعي: تسمع أعني في أن يشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك. فعمدة من قال لا تسمع أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه، فوجب أن لا ينقلب الأمر، وكان ذلك عندهما عبادة. وسبب الخلاف: هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده، أم ليست تفيد ذلك؟ فمن قال: لا تفيد معنى زائدا قال: لا معنى لها؛ ومن قال تفيد: اعتبرها. فإذا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمرا زائدا مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك؛ فالحكم عند مالك أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر؛ وقال أبو حنيفة: بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة كما لا تترحج عند مالك بالعدد، وقال الأوزاعي: تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند مالك كلا بينة يحلف المدعى عليه، فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق، لأن يد المدعي عليه شاهدة له، ولذلك جعل دليله أضعف الدليلين: أعني اليمين. وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه. وأما إذا كان مالا في الذمة، فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند مالك حتى يتبين عدمه، إما بطول السجن والبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلي سبيله لقوله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} وقال قوم: يؤاجره، وبه قال أحمد. وروي عن عمر بن عبد العزيز، وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، ولا خلاف أن البينة إذا جرحها المدعى عليه أن الحكم يسقط إذا كان التجريح قبل الحكم، وإن كان بعد الحكم لم ينتقض عند مالك؛ وقال الشافعي: ينتقض وأما إن رجعت البينة عن الشهادة، فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الحكم أو بعده، فإن كان قبل الحكم فالأكثر أن الحكم لا يثبت؛ وقال بعض الناس: يثبت. وإن كان بعد الحكم فقال مالك: يثبت الحكم؛ وقال غيره: لا يثبت الحكم، وعند مالك أن الشهداء يضمنون ما أتلفوا بشهادتهم، فإن كان مالا ضمنوه على كل حال؛ قال عبد الملك: لا يضمنون في الغلط؛ وقال الشافعي: لا يضمنون في المال. وإن كان دما فإن ادعوا الغلط ضمنوا الدية، وإن أقروا أقيد منهم على قول أشهب، ولم يقتص منهم على قول ابن القاسم.

*3*الباب السادس. [متي يقضي]

@-وأما متى يقضي؟ فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه، ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله، ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان عينا. فأما متى يقضي القاضي؟ فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم، لكن إذا قضى في حال من هذه الأحوال بالصواب، فاتفقوا فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه، ويحتمل أن يقال: لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه. وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الأجل والإعذار إليه، ومعنى نفوذ هذا، هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم؟ فيه اختلاف من قول مالك، والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الإحباس والعتق ولا يسمع في غير ذلك. وقيل لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز قيل لا يسمع منهما جميعا، وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه، وهو ما إذا أقر بالعجز. وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الإعذار، وهو إذا لم يرد الذي استحق الشيء من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع، وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره، أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشيء من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق؛ وقال الشافعي: يشتريه منه، فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له، وإن عطب في أثناء الحكم: ممن ضمانه؟ اختلف في ذلك، فقيل إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق وقيل إنما يضمن المستحق بعد الحكم؛ وأما بعد الثبات وقبل الحكم فهو من المستحق منه. قال القاضي رضي الله عنه: وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم، وقسم لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه. وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع. ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى. وما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية. ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح. ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور. فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل. ومنها السنن الواردة في الأعراض. ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل. والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات. ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين. ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن، وهو الذي يسمى: النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهي المحبة والبغضة: أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة.

وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل.

كمل كتاب الأقضية، وبكماله كمل جميع الديوان، والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله.

ترجمة المؤلف منقولة من الديباج.

هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد (الشهير بالحفيد) من أهل قرطبة وقاضي الجماعة بها، يكنى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري.

وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريؤل، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام. ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكى أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة. حكي عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي وحبيب. وله تآليف جليلة الفائدة، منها كتاب "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" في الفقه (هو هذا الكتاب الذي أبان عن مقدار معرفة الرجل بالشريعة، فإنه ذكر فيه أقوال فقهاء الأمة من الصحابة فمن بعدهم، مع بيان مستند كل من الكتاب والسنة، والقياس مع الترجيح، وبيان الصحيح، فخاض في بحر عجاج ملتطم الأمواج، واهتدى فيه للسلوك، ونظم جواهره في صحائف تلك السلوك، فرحمه الله رحمة واسعة) ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل وجهه، فأفاد وأمتع به، ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه في العربيه الذي وسمه بالضروري، وغير ذلك تنيف على ستين تأليفا، وحمدت سيرته في القضاء بقرطبة، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، ولم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس. وحدث وسمع منه أبو بكر بن جهور وأبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن بن سهل ابن مالك وغيرهم. وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة القاضي جده أبي الوليد بن رشد بشهر.

تقريظ

وعند تمام طبعته الأولى قرظه حضرة الأديب الأستاذ الشيخ محمد أحمد عرفة بهذه الكلمة، فأحببنا إثباتها حرصا على محاسنها ونشرا لعلو مكانتها، وهي:

إلى الحكيم الراقد في جدته، الهانئ بمضجعه، تحفه مسحة من النور الإلهي، وعليه حارس من المهابة وسياج من الإجلال، أهدي غاديات من الدعوات واستمطر له وابلا من صيب الرحمات. لله أنت أيتها الروح الخالدة العائدة إلى محلها الأرفع، فقد هبطت علينا من عالمك العالي، وطلعت علينا طلوع القمر على خابط ليل ضل السبيل وخانه الدليل، طلعت والهدى، فكنت كالغيث أصاب أرضا قابلة فأنبتت الكلأ والعشب وأصاب منها الكثير أقمت فينا ما شاء الله لك أن تقومي، وخلفت لك آثارا جعلت لك مقعد صدق في كل نفس، ثم عدت سيرتك الأولى. بسم الله مجراك ومرساك وطلوعتك ومأواك وتأويبك ومسراك، أي جو حواك، وأي آمال وسعتك، وأي جسم تحمل ما ترومين.

وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مرادها الأجسام

بينا نراك بين يدي فيثاغورس وأرسطو قد حنت عليك الحكمة، وأرضعتك أفاويقها، وأعلتك درها، وأنهلتك خيرها، فلا يظن أنك تعلمين غيرها، إذا أنت وقد وضعتك الشريعة بين الحشا والفؤاد، وسهلت لك حنونها، ووردت منهلا عذبا زاخرا عبابه، وسائغا شرابه. وهذا كتابك قد خالط أجزاء النفس وهش إليه الحس، فهو الحق إلا أنه حكم قد ضمن الدر إلا أنه كلم.

أنزه في رياض العلم نفسي * وأغدو في مسارحها وأمسي

أمتع ناظري فيما حوته * وأقطف زهرة من كل غرس

وأحسن من كئوس الراح عندي * ومن خد الظبا خدود طرس

وقد ردت الرياض فشمت روضا * به قد غبت عن نفسي وحسي

كأن خلال أسطره بحارا * تدفق بالمعارف بعد رمسي

كتاب حاكه فكر (ابن رشد) * وأخرج آية في كل درس

ومزق من ظلام الشك ثوبا * كما طرد الدجنة ضوء شمس.